في الوقت الذي كانت سلطة السريان المونوفيزيين (الأرثوذكس) تتضاءل وعُملاء “جستنيان” يصطادون رجال الدين منهم ، ظهرت شخصيّة “يعقوب البرادعي” الخالدة الذكر منقذة الكنيسة من الانهيار . وتعـود نجاة تلك الكنيسة في الواقع إلى سببين رئيسيين :
الأول : تعـاون الإمبراطورة “تيودورا” سرّياً وتعاطفها القويّ مع الكنائس الشرقية الأرثوذكسية ، وقد قيل إنّها كانت ابنة قسّيس سـرياني .
والثاني : جهود يعقوب البرادعي المتواصلة ومجازفاته المستمرّة في سبيل الكنيسة ، تلك المجازفات التي أصبحت كأسطورة يتداولها الناس. فحين صمّم “جستنيان” على تحقيق كنيسة جامـعة في إمبراطوريته المتحدة ، اتّبع سياسة قمع المونوفيزيين وسحقهم ونفي قادتهم ومنهم ، على سبيل المثال، “ثيودوسيوس” بطـريرك الاسكندرية الذي سُجن مع ثلاثمائة من رجال الدين في حصن “ديركوس” قرب القسطنطينية لسنوات عديدة .
ويقول يوحنّا الأفسسي : إنّ الإمبراطـورة “تيودورا” وضعت قصر “هورميسداس” تحت تصرّف ما يقارب الخمسمائة من المونوفيزيين من عدّة مناطق من العالم المسيحي الشرقي . لقد تركّزت المقاومة الأرثوذكسية في مراكز الرهبـانيات في بادية الأسقيط في مصر ، وعلى حافّة شبه الجزيرة العربية التي كانت تحت سـيطرة الأمراء الغساسنة ، وأمكنة أخـرى متعدّدة في شمـال سورية وأوسروهين وبلاد ما بين النهرين.
ونظراً إلى استخدام الأرثوذكس اللغة القبطية في مصر والسريانية في آسيا تعذّرت على المسؤولين اليونانيين ملاحقة المعارضين لعدم معرفتهم بتلك اللغات . أمّا الموعد الحاسم في إحياء الأرثوذكسية السريانية فكان في العام 542 ، حين لجأ البطريرك القبطي العجوز، بمبادرة من الإمبراطورة “تيودورا” ، وبطلب غير أكيد من قِبل الملك العربي الحارث بن جبلة، إلى رسـامة مطرانين على مناطق آسيا : يعقوب البرادعي الذي أصبح مطراناً على الرها، و”ثيودور” الذي أصبح مطراناً على بصرى .
وُلد يعقوب البرادعي في العام 500 في قرية “جاماوا” ( تلّ موزل – المترجم ) شمال “تيللا” على ضفّة الفرات العليا ، ورُسم كاهناً في دير “فاسيلثا” على جبل “ايزالا”. تلقّى علومه الدينية في كلّية نصيبين حيث استقرّ هناك ما يقارب الخمس عشرة سنة ، من العام 527 إلى أن رسم مطراناً ، وقَدِم إلى القسطنطينية في رفقة راهب آخر اسمه “سرجيوس” ، الذي رسمه يعقوب في ما بعد بطريركاً على أنطاكية خلفاً “لسويريوس” في العام 543 على الأرجح . ومع أنّ المصادر التي تتعلّق بحياة هذا القدّيس غنيّة بالتفاصيل التي يُشكّ في صحّة بعضها ، إلاّ أنّ تاريخ حياته الشخصية وعمله قد جُمع ونُضّد عن طريق مختلف الكتّاب والمؤّلفين .
بدأت سيرته الحقيقية بعد رسامته في العام 542، إذ قيل إنّه هرب خارج العاصمة البيزنطية بمساعدة الملك العربي الحارث ، في الوقت الذي كان عملاء الإمبراطور يطاردون رجال الدين الأرثوذكس، ويفرّقون تجمّعاتهم، ويلقون بهم في السجون باعتبارهم أعداء للدولة.كان هذا العمل منسجماً مع أوامر “جسـتنيان” الصارمة ، كتدابير أساسية لإستئصال كلّ ما يعيق الوحدة والانسجام في مملكته . لقد قيل إنّه لم يبقَ في ظلّ هذه الظـروف القاسية إلاّ مطرانان سريانيان فقط تمتّعا بحـرية مضطربة، أمّا أبرشيات السريان فقد تُركت بدون رعاة في معظم الأقاليم . ولكنّ الكنيسة التي كانت تعاني من خطر الانقراض وجدت من يُعيد ترميمها في شخص يعقوب البرادعي . كان البرادعي يرتدي ثياباً رثّة مصنوعة من بَرْدعَة حصان عتيقة ، لا للتقشّف وحسب ، بل كتدبير للتنكّر والاختفاء عن أنظار ملاحقيه.
لم يكن ليعقوب مركز رئيسي يقيم فيه ، إذ كانت رحلاته المتعدّدة كلّها سيراً على الأقدام من بلدٍ إلى آخر في غرب آسيا وفي مصر لا تُصدّق . لقد قيل إنّه تنقّل في سورية كلّها ، وأرمينيا، وكبدوكيا ، وكيليـكيا ، وأسوريا ، وبامفيليا ، وليكونيا ، وليسيا ، وفريجيا ، وفارس ، وآسيا و”جزر البحر” وهي قبرص ، ورودس ، وشيوس ، وميتيلين أو ليسبوس ، بالإضافة إلى القسطنطينية المدينة الملـكية . وجميع بلاد ما بين النهرين ، والعُـربة ، وسيناء ، ومصر . ويذكّرنا في ترحاله هذا برحلات بولس الرسول في العهد الرسولي.
لقد دافع يعقوب عن المذهب الأرثوذكسي المضّطهد أينما حلّ ، وقوّى من عزيمة المؤمنين ، وعيّن مطارنة وقساوسة جدداً في كلّ مكان بدلاً من هؤلاء الذين ماتوا دون خلفاء لهم ، والذين لاقوا حتفهم في السجون . ربّما ليس ثمّة أسـقف في التاريخ استطاع أن يُعيّن العدد الضخم الذي عينّه يعقوب البرادعي من رجال الدين . ومع الصعوبة في تصـديق العدد 102000 قسّيس الذي ورد في سيرته المبالغ فيها ، غير أنّ الذين رسمهم يعدّون بالآلاف . وورد في سيرته الذاتية تلك أنّه رسم 87 أو 89 مطراناً، ولكنّ السجلات الرسمية تعتبر أنّ العدد 27 مطراناً هو أقرب إلى الواقع من العددين السابقين .
إنّ يعقوب الذي أصبح فعلاً قائد كنيسته الروحي لم يُرفع قطّ إلى الكرسي البطريركي ولكنّه هو ذاته رسم بطريركين : الأول كان “سرجيوس الأنطاكي” (542 -562) ، رفيقه القديم في الأسر حين كـان سجيناً في القسطنطينية . والآخـر كان “بولس الأسود” (564-581) ، وهو مصري الأصل وُلد في مدينة الإسكندرية وقضى معظم حياته الرهبانية في بعض الأديرة السريانية . كانت مهمّة يعقوب في أنطاكية محفوفة بالمصاعب إلاّ أنّه ، كجميع بطاركـة أنطاكية منذ مجيء “جستنيان” إلى الحكم لم يتمكّن من الحفاظ على تلك المدينة ضمن عقيدته الأرثوذكسية .
لقد لاحقه رجال الامبراطور فالتجأ مرّة إلى قصور ملوك الغساسنة الحارث بن جبلة وخليفته المنذر ، ومرّة أخرى إلى صحراء “ماريوتس” جنوب غربي الإسكندرية . وفي فتـرة من الزمن قيل إنّه تظاهر بإعتناق المذهب الخلقيدوني وإنّه رحّب به في بلاط الإمبراطور البيزنطي في القسطنطينية ، حيث قضى هناك عدّة سنوات ومات بعد عهد اتّصف بالتقلّبات المتواصلة والإنشقاق في كنيسته . ولقد وُصِم يعقوب البرادعي أيضاً بوصمة التثليث (الإيمان بثلاثة آلهة) التي اتُهِم بها سرجيوس .
اتّسم الدور الأخير من حياة يعقوب بالغموض. فقد استدعاه الإمبراطور في العام 570 مع “ثيودور” أسقف العرب للمثول أمام مجمع في القسطنطينية. ذهب “تيودور”، ولكنّ الرهبان في سورية أجبروا يعقوب على أن يبقى في الشرق ، ما أغضب الإمبراطور . ترأّس يعقوب المجمع الشرقي في العام 575 حيث قبل “بولس الأسود” عضواً فيه بغية إنهاء انشقاق محلّي ولكّن خطر الخلاف بين “بطرس الإسكندري” و”بولس الأنطاكي” كان قد أخذ ينذر بانشقاق أكبر بين الكنيستين الشقيقتين ، في مصر وسورية . وفي محاولة من يعقوب لتلافي الانشقاق الجديد قبل عزل بولس من قِبل بطرس ، حيث تقاعد بولس ليموت بعدها في بيزنطيا . عندها، قرّر يعقوب زيارة الإسكندرية مع وفد يضمّ ثمانية أشخاص، بينهم مطارنة ، لتعزيز وحدة التقاليد بين الكنيستين الأرثوذكسيتين العظيمتين ، ولكنّه ، وثلاثة أعضاء آخرين ، مات في ظروف غامضة في نهاية تموز من العام 578 في دير القدّيس “رومانوس” على جبل “قسيون” قرب الحدود المصرية الشرقية . وأرسل البطريرك “دميانوس” ، خليفة بطرس ، رسالة تعزية إلى رجال الدين في الشرق على هذه الخسارة التي لا تعوّض . بعدها، نُقِلت بقايا يعقوب في العام 622 إلى ديره في “فاسيلثا” جوار “تيللا”.
إنّ الجهود الهائلة التي بذلها هذا القديس العظيم الذي منح الكنيسة اليعقوبية اسمه كانت كفيلة خلال 35 عاماً أن تؤدّي إلى تماسك البنيان المتداعي . وما يثير الانتباه أيضاً تأثيره في فارس ، فلقد زار ديوان كسرى الأول (العـربي المشهور كسرى أنو شروان) في سلوقية سنة 559 في محاولة لإقناعه بإنصـاف اليعاقبة المسيحيين . ولمّا كان في فارس رفع مطران “بيت عرباي” ، واسمه “أحودامة” إلى منـزلة “مطران الشرق” ، وبذلك وضع قاعدة للمفريانية الأرثوذكسية في فارس . كان المطران الجديد نشيطاً في نشر الإنجيل وفقاً للقانون المسيحي الأرثوذكسي وعقيدته ، إلى أن نال إكليل الشهادة مقتولاً على يد “كوسروس” في العام 575 لأنّـه هدى أحد أفراد العائلة المالكة إلى المسيحية . ومع هذا، تعايش اليعاقبة والنساطرة جنباً إلى جنب في فارس حتى قدوم العرب حيث أحرزت الكنيسة في ظلّ حكمهم صفة قانونية لم تتمتّع بها في بيزنطية قطّ.
بدأت حياة يعقوب كالشعلة المنيرة وانتهت في ظلمة من الانشقاق والاضطهاد . كان إنساناً قديساً ومبشّراً عظيماً ، كان متواضعاً تقيّاً مخلصاً . عاش فقيراً بعيداً عن المباهاة ولكنّ الشهرة كانت تلاحـقه رغم إرادته . عند موته ، حصلت الكنيسة الأرثوذكسية في سورية على ضمانات لبقاء وجودها ، والفضل في ذلك يعـود إلى يعقوب البرادعي وإلى الجهود الكبيرة التي قام بها . كان يتمتّع أيضاً بمعرفة لاهـوتية وكتابية هائلة . كما كان قادراً على أن يدافع عن تعاليم كنيسته في اللغات اليـونانية والسريانية والعربية التي تكلّمها وأتقنها بسهولة وبراعة . يعتبر يعقوب البرادعي ، في الحقيقة ، من أعظم الشخصيات في عهده.