في الادب السرياني وخصائصه العامة / البطريرك مار أفرام الأول برصوم

Posted by on Aug 13, 2012 in Library, دراسات سريانية | Comments Off on في الادب السرياني وخصائصه العامة / البطريرك مار أفرام الأول برصوم

 

اعلم أنّه كانت للسريان الآراميين في أول أمرهم لغة مهذّبة تزدان بأدب من نثر ونظم وكانت لهم بالعلم عناية . ولكن لم يصل إلينا من ذلك سوى كتاب أحيقار وزير سنحاريب ملك آثور ( 681 ق. م ) وهو كتاب ينطوي على نصائح وحكم ، ثمّ زيدت فيه حكايات عدّة ويُظنّ وضعه نحو هذا الزمان أو نحو القرن الخامس ق. م الذي فيه كتب سفر طوبيا . وأبيات قليلة لشاعر وفيلسوف آرامي يقال له ” وفا ” كان قبل العصر المسيحي بدهر طويل ، وأساطير يسيرة منقوشة على بعض أضرحة الملوك الأباطرة في ولاية الرها . أضف إلى هذا رسالة لطيفة لفيلسوف اسمه مارا بن سرافيون كتبها لتثقيف ابنه في أواسط القرن الثاني للميلاد . ولكنّ هذا اليسير لا يروي غليلاً ولا يغني فتيلاً ليبنى عليه حكم

 

ويعتبر الأدب السرياني المعروف عندنا أدباً مسيحي النشأة كنسي المصدر ، لأنّ ما وصل إلينا هو نتاج عقول علماء وأدباء مسيحيين إكليريكيين . وكان جدودنا حين اعتناقهم الدين المسيحي المبين وتذوّقهم حلاوته قد ضحّوا في سبيله بأغلى ما عندهم ، فأحرقوا الكتب والآثار المدنية والعلمية خشية أن توقع معالمها الوثنية أحفادهم في شرك الوثن

 

ولمّا تنصّر أكثر أبنائهم في المئتين الأولى والثانية وبقيّتهم في منسلخ المئة الرابعة وصدر الخامسة ، نسجوا على غرارهم محبّة العمل وحذقوا في صناعة الأدب. ففاضت قرائحهم المتوقّدة بالروائع ، وبذل العلماء مجهودهم لترجمة كتاب الله العزيز وضبطه وتفسيره ، وصرفوا همّتهم إلى علوم اللغة من صرف ونحو وبيان وخطابة وشعر ، ومضوا في تطلّب علوم المنطق والفلسفة والطبيعي والرياضي والفلك والمساحة والطب ، وتبحّروا في اللاهوت النظري والفقه الكنسي والمدني وعلم الأخلاق وتبسّطوا في التاريخ الديني والمدني ، وخاضوا عباب الموسيقى الكنسية وأخذوا بطرف من الجغرافية وفنّ القصص ، وبالجملة سائر المعارف البشرية بدون استثناء ، وظهر منهم علماء وأدباء كثيرون حملوا مصابيح العلوم إلى أطراف العالم الشرقي وفاقوا أغلبية الأمم المسيحية عدداً وتصنيفاً وذاعت أسماء أسا طينهم في الدنيا شرقاً وغرباً ، وهذا ما ستقف عليه في الصفحات التالية . واعلم أنّ الآداب اليونانية على بساطتها وفضلها وأوليّتها وكونها قدوة للآداب السـريانية واللاتينية لم تتفوّق على الأدب السرياني باعتبار مجموعه ، وأمّا الآداب القبطية والأرمنية والعربية المسيحية والكرجية والحبشية على ما فيها من تفاوت ، فالعلماء المدقّقون عارفون بحصرها وضيق دائرتها . وإذا اعتبرت ثقافة اليونان حكيمة وثقافة العرب بيانية فإنّ ثقافة السريان تعدّ دينية

 

وخصائص الأدب السرياني كتابية وطقسية وجدلية ولاهوتية وتاريخية ونقلية . فإنّ ما اهتموا به من نقل الأسفار الإلهية وشروحها بما ألحق بها من الكتب الموضوعة ينطق بفضلهم في خدمة أسفار الوحي ونشرها . وكتب الفروض والأدعية التي دبّجتها يراعاتهم طوال أزمنة مديدة تشهد لهم بحسن الذوق وعلو الهمّة والسبق والحوار المذهبي الذي طال عهده بين الفرق المسيحية ، وغوصهم على أسرار الدين المسيحي أثمرا مصنّفات لاهوتية وجدلية شتّى برزت فيها مقدرتهم وتجلّى أدبهم . وأحاطت تواريخهم بأحداث النصرانية وأمعنت في سير القديسين والشهداء وقصصهم كما شملت على أدقّ الإسناد لتاريخ آسيا في أيام الرومانيين والفرس والبيزنطيين والعرب والمغول والترك . وحينما زخر القرن الرابع بمصنّفات أئّمة النصرانية الذين كتبوا باللغة اليونانية ، لم تألُ مدرسة الرها جهداً في نقل غررها إلى لغتها وطفقت تدرس اليونانية ، وسارت أشهر مدارسنا على آثارها حتى أواخر المائة الثانية عشرة . وبذل علماء السريان ما في وسعهم في نقل الكتب الفلسفية والعلمية إلى السريانية ومنها إلى العربية فعلّموا العرب ، ودار الزمان دورته فعادت الفلسفة اليونانية من الشرق إلى أوروبا بواسطة الكتب العربية العلمية التي بدأ أثرها في العصور الوسطى عن طريق الأندلس

 

“ اللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم والآداب السريانية “