اللغة الآرامية السريانية

Posted by on Aug 14, 2012 in Library, دراسات سريانية | Comments Off on اللغة الآرامية السريانية

 

إذا كان لابدَّ من تعيين لغة أصليَّة لأبناء سوريَّا ولبنان فاللغة الآراميَّة – وبنوع أَخصّ السريانيَّة – هي تلك اللغة الأصليَّة . فإنّ الأهلين على سبيل الإجمال تكلَّموها منذ نحو القرن السادس قبل المسيح إلى بداية القرن التاسع بعد المسيح . وبلاد ” آرام ” هو الاسم الذي عُرفت به سوريا الشماليَّة إلى أن أطلق عليها اليونان اسم ” سوريا ” . وفي كتابات العهد القديم إشارات جمَّة إلى ” آرام دمشق ” و ” آرام النهرين ” ممّا يدلٌّ على أنَّ لفظة آرام كانت تشمل سوريا الشماليّة والمجوَّفة مع بلاد ما بين النهرين.

وقد كان للآراميين في القرن التاسع قبل المسيح ملكٌ ضخمٌ مستقلّ بزعامة دمشق وحماة ناوأَ الآشوريين ووقف سداً في سبيل تقدمهم نحو الغرب . ومن أشهر ملوكهم حّزَائيل وابنه بَنْهَدَد.

وليس بين اللغات الساميَّة لغة تضاهي الآراميَّة من حيث الغنى اللَّفطي وسعة الإنتشار وشدة النفوذ سوى شقيقتها العربيّة التي خَلَفَتها واحتلّت محلّها في سوريا . أمَّا من حيث القِدَم فالأولى هي السابقة.

 

إنتشار الآراميّة

 اللغة الآراميَّة اليوم تكاد تكون ميّتة لولا شراذم قليلة لم تزل تتكلم بها في طور عابدين ( جبال ما بين النهرين ) ، وفي بقاع شمالي الموصل وشرقيها ، وفي جبال كردستان ، وقرب بحيرة أُرومية** ، وفي معلولا من اعمال الشام . أمّا في سالف الاحقاب فإنها كانت اللغة اليوميّة لسائر أبناء الجزيرة وسوريا وفلسطين وبعض آسيا الصغرى وبلاد فارس ومصر . وهي الغة التي نطق بها السيد المسيح واليهود في سوريا ومصر ، وكان هؤلاء يكتبون بالأحرف العبرانيّة . ومن المقرَّر أنَّ الآراميَّة كانت لغة العامّة في عهد المملكة الآشوريَّة ، وكانت الآشوريَّة اللغة الرسميّة . ويظهر من وصف كتبة العهد القديم لغزوة سنحاريب في بلاد يهوذا أنَّ الموظَّفين الآشوريين كان يُنتظر منهم أن يجيدوا الكلام بالآراميَّة . ونجد في “التاريخ القديم” للاستاذ برستد صورة نقش يرجع عهده للقرن الثامن قبل المسيح يمثِّل قائداًً آشورياً يلقِّن كاتبيه مغانم إحدى غزواته ، وفي يد أحد الكاتبين لوح خزفيّ يكتب عليه بالأحرف المسمارية ، أمَّا الكاتب الآخر ففي يده قلم حـبر وهو يكتب بهِ بالآراميَّة على ورق من البُردي . وفي النصوص من يثبت أنَّ في العهد البيزنطي كان الموظفون القادمون إلى سوريا يعتمدون على التراجمة للتفاهم مع الأهلين المتكلمين بالآراميَّة.

ولمّا انقضى العصر البابلي الآشوري احتلَّت اللغة الآراميَّة محلَّ البابليَّة في السياسة والتجارة وأصبحت اللغة الرسميَّة لملوك فارس وآرام وتدمر وبَطرا ( سمّاها العرب الرقيم وهي في وادي موسى للشمال الغربي من معّان ) . فالآثار والنقوش تدلّ على أنَّ اللغة الرسميَّة التي كانت تتداول بها الأمم الحيَّة في القرون الأولى قبل الميلاد ، من فارس شرقاً إلى سوريا غرباً ، ومن آشور شمالاً ألى فلسطين ومصر جنوباً ، إنّما هي اللغة الآراميَّة . والآراميَّة لم تزل للآن لغة الطقوس الكنسيَّة لمعظم مسيحيّي الشرق الأدنى من نساطرة وسريان أرثوذكس وسريان كاثوليك وموارنة وسريان هنود في مَلَبار من اعمال الهند . وفي المكتبة الشرقيَّة للآباء اليسوعيين في بيروت مجلَّدات وكراريس دينيَّة في اللغة الآراميَّة كانت مستعملة قديماً في الكنيسة الأنطاكية . وفي خزائن اوربا من هذه الكتب الطقسيَّة للملكيين مئات . وهي تثبت شيوع الآراميَّة السريانيَّة قبل اليونانيَّة في الكنيسة الأرثوذكسيَّة السـوريَّة . وإننا نشكّ بصحة من روته ” الموسوعة الكاثوليكيَّة ” في أنَّ اللغة اليونانيَّة كانت اللغة السائدة في دير مار مارون [ على العاصي ] حتى القرن التاسع.

قُبيل سنة 000,1 ق.م اقتبس الآراميون أحرف الهجاء من أنسبائهم الفينيقيين ، والحبر والورق من المصريين ، ونشروها بواسطة تجارهم من الهند شرقاً إلى أطراف آسيا غرباً . فالآراميَّة هي أول لغة محكيَّة كتبت بأحرف هجاء ، وعنها لا عن الفينيقيَّة رأساً نقل الهنود والفرس والعرب وغيرهم حروفهم . وأقدم كتابة آراميَّة وُجِدَت للآن هي لملك من ملوك حماة اسمهُ زاكر ، كتبها في القرن الثامن قبل المسيح ، وكتابات غيرها وجدت في سنجرلي على أطراف سوريا الشماليَّة يرتقي عهدها للقرن الثامن أيضاً.

ولمّا صار الأمر للفرس بعد الآشوريين والبابليين بقيت السيطرة للغة الآراميَّة في ولايات آسيا الصغرى ، وكان حكام تلك الولايات ينقشون على نقودهم باللغة الآراميَّة . ولقد وُجد في مصر كتابات بالآراميَّة على إحداها تاريخ هو السنة الرابعة من ملك زركسيس ( 482 ق. م ) ، وغيرها كثير مما كتبهُ المستعمرون اليهود في الأطراف الجنوبية من بلاد الصعيد . فملوك مادي وفارس كانوا يحررون رسائلهم بالآراميَّة ، وهو الأمر الذي جرى عليه الملوك الساسانيون بعدهم.

ومن أسفار العهد القديم جزء من دانيال وعزرا ونحميا مكتوب بالأصل باللغة الآراميَّة.

ومع أنَّ الأنباط والتدمريين كانوا من سلالة عربيَّة وكانت اللغة العامة بينهم العربيَّة فإنَّ نقرشهم وكتاباتهم جاءت بأسرها بالآراميَّة ، وما النبطيَّة والتدمريَّة سوى لهجتين من لهجات الآراميَّة . ونقوش تدمر يرجع معظمها للقرون الثلاثة الاولى بعد المسيح ، أمّا نقوش النبطيين الذين بسطوا سلطتهم من أقاصي جزيرة سيناء إلى ضواحي دمشق فإنّها كتبت بالأكثر في القرن الاول بعد المسيح ، وذلك لأنَّ الإمبراطور طراجان أخضع بلادهم سنة 105 ب.م وبذلك سقطت دولتهم . ومما يؤكد أنَّ العربيَّة كانت اللغة المحكيَّة وجود كلمات عربية مدسـوسة بين الألفاظ الآراميَّة كلفظة ” غي ر” ، على ما يظهر ، لم يعرف الكاتب النبطي ما يرادفها بالآراميَّة فأبقاها على أصلها العربي.

والعرب الذين كانوا يخالطون العالم المتمدّن بالسياسة والتجارة اضطرّوا إلى معرفة لغة رجال الدول وأهل الوجاهة فتعلَّموا اللغة الآراميَّة وكتبوها بالقلم الآرامي لسهولته . وفي قرون النصرانيّة الاولى امتدَّت اللغة الآراميَّة إلى شمالي جزيرة العرب كما تشهد بذلك الكتابات المتفرقة التي وُجدت في تلك الأنحاء . حتى أنَّ المسعودي يصرِّح بعد ذكره أقسام بلاد العرب ” أنَّ هذه الجزيرة كلها . . . لسانها واحد سرياني ” . وكان يعقوب السروجي ( 452 – 522 ب.م ) يكاتب عرب نجران المسيحيين في شرق بلاد العرب باللغة السريانيَّة.

ولقد عثر أحدهم في سيان فُو من أعمال الصين على حجر ضخم منقوش عليه بالآراميَّة أسماء سبعة وسبعين مبشّراً نسطورياً ذهبوا إلى الصين في أواخر القرن التاسع ودُونت اسماؤهم في ذلك العهد.

ومجمل القول أنَّ الآثار الكتابية للغة الآراميَّة هي منتشرة من أقاصي الصين شرقاً إلى ضفاف الدردنيل غرباً ومن شواطئ البحر الأسود شمالاً إلى أطراف الهند وجنادل النيل جنوباً ، وهو شأن لم تبلغه لغة أخرى من اللغات القديمة ، وربما لم يكن بين اللغات الحديثة ما يضاهيها به سوى اللغة الإنكليزيَّة . ولا نبالغ إذا قلنا أنَّ اللغة الآراميَّة تسلّطت على الفكر السامي مدة تزيد على ألف سنة ، ابتداؤها من قبل المسيح بخمسة قرون ، وأنَّ العقل السامي وجد في الآراميَّة أثناء تلك المدة أفضل واسطة للتعبير عن شواعره وفواعله.

 

وساطة الآراميَّة بين اليونانية والعربية

 على أنَّ الإرساليَّة التاريخيَّة التي قامت بها اللغة الآراميَّة هي أنّها جاءت حَلقة الاتصال بين العقل اليوناني والعقل السامي ، والجسر الذي اجتازته الفلسفة والعلوم اليونانيَّة قبل دخولها إلى حظيرة العربيَّة والعبرانيَّة . فارسطوطاليس مثلاً أبو الفلاسفة وأوحدهم تُرجمت مؤلفاته أولاً إلى السريانيَّة ومنها ( في أيام المأمون ) إلى العربيَّة ، وبواسطة ابن رُشد القُرْطبي ( المتوفى سنة 1198 ) وجد ارسطوطاليس في الأجيال الوسطى إلى جامعات أوربا سبيلاً . وأصبح شرح ابن رُشد لهُ الشرح المعوَّل عليه في العالم الغربي . وذلك كان نصيب غير ارسطوطاليس من الجغرافيين والرياضيين والأطباء اليونان.

ولمّا أقبل العرب على العلوم وارادوا الإشتغال بها في خلال نهضة القرن الثامن والتاسع كان علماء السريان هم الذين أعانوهم على ذلك ، واستخرجوا لهم المصنفات اليونانيَّة والسريانيَّة وساعدوهم على ترجمتها إلى العربيَّة . فالسريان إذن ( وبلفظة أخرى ” السوريون ” الأقدمون ) هم الذين نقلوا مصباح العلم والتمدّن من أيدٍ يونانية إلى أيدٍ عربيَّة ، والعرب هم الذين أناروا عقول بني أوربا يوم كانت أوربا في ظلام مدلهم.

وأقدم أثر سرياني ذي شأن هو ترجمة التوراة المعروفة ” بالبسيطة ” في القرن الثاني بعد المسيح في مدينة أَدَسَّا ( التي يسميها العرب الرُّها والأتراك اورفا ) وهي أول ترجمة للتوراة عن لغاتها الأصليَّة.

ومن المترجمين من اليونانيَّة إلى السريانيَّة سرجيس الراشعيني ( المنسوب إلى رشعين – رأس العين في سوريا ) الذي ترجم بعض كتب جالينوس وكان حُنين بن اسحق شيخ المترجمين يصحّح نقلهُ . ثم نَقَلَ هذه الكتب في الإسلام موسى بن خالد . ومنهم جورجيس بن بختيشوع السرياني رئيس أطباء مدرسة ومارستان جنديسابور ، وطبيب الخليفة المنصور ، الذي نقل من اليونانيَّة إلى العربيَّة كتباً طبيَّة وألَّف في الطب بالسريانيَّة . فالكتب التي اعتمد عليها الرازي ( المتوفى سنة 930 ) في كتابه الطبي المسمّى “الكتاب الملوكي” وابن سينا ( المتوفى نحو سنة 1037 ) في تأليفه ” القانون ” كانت بالأصل كتباً يونانية لأبقراط وجالينوس ، ولكنها كانت قد ترجمت قبلاً إلى السريانية.

ومن أشهر نَقَلة العلم في العصر العباسي آل حنين من نصارى الحيرة وأهمهم حنين بن اسحق ، وآل بختيشوع ، وقسطا بن لوقا البعلبكي . وكان قسطا طبيباً متقناً اللغات اليونانية والسريانية والعربية.

ومما يستحق الاعتبار انَّ الألفاظ الإصطلاحيَّة العلميَّة التي دخلت من اليونانيَّة إلى العربيَّة ” كجفرافيا ” و ” دوسنطريا ” و ” إقليم ” و ” أثير ” إنّما دخلت عن السريانيَّة لا عن اليونانيَّة رأساً . ومتكلموا العربيَّة لم يزالوا للآن يلفظونها كما يلفظها السريان لا اليونان . ومن الأسماء المعرَّبة التي يلفظها العرب كما يلفظها السريان لا اليونان إفلاطون ، بدلاً من بلاتون ، وسقراطيس ، بدلاً من سكراتيس ، ويوحنا بدلاً من يونيس.

 

السريانية

 بعد أن اعتنق الآراميون الديانة المسيحيَّة مالوا إلى التلبس بإسم ” السريان ” ، وهو الاسم الذي أطلقه عليهم اليونانيون ، واستنكفوا من استعمال لفظة ” آراميون ” لِما علق في الأذهان من رائحة الوثنيّة القديمة في تلك اللفظة . وفي أواخر القرن الخامس انتشرت بين السريان المسيحيين تعاليم نسطور وكانت يومئذ تتقاسمهم سلطتان ، السلطة الرومانيَّة والسلطة الفارسيَّة ، فأعتنق معظم السريان الشرقيين الخاضعين لدولة فارس العقيدة النسطوريَّة ، وانضم السريان الغربيون الخاضعون للقسطنطينية إلى مذهب اليعاقبة “السريان الأرثوذكس” القائلين بالطبيعة الواحدة . وفي سنة 489 سدَّت مدرسة أَدسّا أبوابها في وجه النساطرة فأسّسوا مدرسة خاصَّة لهم في نصيبين . وبذلك انشطر الآراميون إلى شطرين وأخذت نصيبين بمنافسة جارتها أَدسَّا التي كانت لذلك العهد المركز العلمي الأدبي الأول في العالم السامي . وبعد أن كان الفرق بين الفريقين دينيّاً فقط اصبح بتوالي الأعوام لغويّاً أيضا ، فأُطلق اسم ” السريانيَّة ” على لهجة أَدسّا وسوريا و ” الكلدانيَّة ” على الفرع الشرقي النسطوري . على أنَّ الفرق بين اللهجتين سطحي لا جوهري ، وهو مقتصر على كيفية لفظ بعض الأحرف والحركات وعلى شكل الخط . فالكلدانيَّة هي لغة النساطرة والفرع الشرقي من الآراميَّة ، والسريانيَّة هي لغة اليعاقبة ” السريان الأرثوذكس ” والفرع الغربي منها . غير أننا جربنا في مقالنا هذا على استعمال السريانيَّة والآراميّة مترادفَين.

وفي القرن السابع للمسيح-وهو القرن الذي شرع العرب فيه بفتوحاتهم – تنعَّمت الآراميَّة السريانيَّة بعصرها الذهبي وزَهَت فيها العلوم والفنون . كان ذلك بفضل الذين نبغوا في هاتين المدرستين – مدرسة أَدسَّا ومدرسة نصيبين – ومن أشهرهم المؤرِّخ الفيلسوف يعقوب الرهاوي واضع علم النحو السرياني .

والحقيقة أنَّ اللغة الآراميَّة السريانيَّة لدى الفتح الإسلامي هي التي كانت سائدة متغلِّبة على السنة أبناء العراق وسوريا وفلسطين ، لا ينازعها في ذلك منازع ، ولا يعارضها معارض ، وكانت قد سبقت فتغلَّبت على اللهجات السامية السالفة كالعبرانيَّة والفينيقيَّة والاموريَّة ، وهي اللغة التي نازعتها اللغة العربية نزاعاً شديداً إلى أن اقتلعتها وتأصَّلت مكانها ، وذلك بعد حرب عوان دامت اجيالاُ وقروناً.