1
يُثير مصطلح موارنة مشكلة تتعلق بالهوية . فبالرغم من حقيقة إطلاق اسم (موارنة) اليوم في لبنان وأجزاء أخرى من العالم على طائفة مسيحية كبيرة تابعة لكنيسة روما ، فقد سعت هذه الطائفة الدينية ، منذ القرن الخامس عشر للبحث عن اصل شرعي ككيان منفصل عن بقية الكنائس الشرقية . هناك عدة أسئلة تدخل في عملية البحث عن الهوية المارونية وهي : هل كانت هناك كنيسة بهذا الاسم منذ القديم؛ وهل كان اسمها مستمداً من فردٍ أو دير؛ ومتى التحقت هذه الطائفة بكنيسة روما ، وكيف حدث ذلك ؟ قدَّم الكتّاب الموارنة الاقدمون والمعاصرون عدة اجوبة لهذه الأسئلة ، لكنها تبدو على الأغلب متضاربة.
يقول كاتب القرن الحادي عشر الماروني توما ، أسقف كفرطاب في كتابه الفصول العشرة أن مصطلح موارنة قد اشتق من ماران ، وهي كلمة سريانية تعني ” ربنا يسوع المسيح ” ، وبأن كلمة ماران كانت اسم دير سُمي الموارنة باسمه . ومن هذا الرأي أيضاً جبرائيل ابن القلاعي مطران نيقوسيا الماروني (ت 1516) الذي اعتقد بدوره بأن مصطلح موارنة مشتق من الكلمة السريانية موريو ، وتعني الرب المسيح . إلا أن الكاتب الماروني مرهج نيرون الباني (فاوستوس نيرون ، ت 1711) ، كان من الرأي القائل بأن مصطلح موارنة (بالسريانية ، مورونويي) ، على نحو ما اعتقد توما ، يعود الى دير مارون المسمى باسم ناسك القرن الخامس ، وأصبح هذا الاصطلاح يُطلق عامة على أي امرء تبع إيمان رهبان دير مارون (وهو الإيمان الذي ثبّته مجمع خلقيدونية) . كما يبيِّن مرهج الباني نفسه أيضاً بأن الموارنة قبل نهاية القرن السابع كانوا يدعون بالمردة لكنهم بعد ذلك أصبحوا يدعون بالموارنة .
وما من كاتب ماروني حاول أن يشرح بدقة أصل ومنشأ مصطلح ماروني كالبطريرك الماروني اسطفان الدويهي (ت 1704) . الذي كرس فصلين لهذا الموضوع في تاريخه عن الموارنة بعنوان: تاريخ الطائفة المارونية (بيروت ،1890) . أخذ الدويهي آراء المصادر المارونية وغير المارونية معاً بنظر الاعتبار ومحَّص البراهين التي اوردها كلاهما ولكنه ارتاب بادعاءات أولئك الذين ادّعوا بأن الموارنة سمّوا باسم مارون ، وهو ناسك سرياني من القرن الخامس ، ورفض قول بطريرك الاسكندرية الملكي (الخلقيدوني) في القرن العاشر ، سعيد ابن بطريق ( أوطاخي ت 941) ، بأن الموارنة اشتقّوا اسـمهم من راهب يدعى مـارون في عهد الإمبراطور البيزنطي موريس 582 ـ 602 . لأن مـارون هذا كان مونوثيلياً ، اعتبره الموارنة هرطوقياً يؤمن بأنه لم تكن في المسيح سوى مشيئة واحدة وفعل إرادي واحد . كما يعرض الدويهي أيضاً سبباً وجيهاً لرفض آراء علماء كأمثال بارونيوس وموارنة كجبرئيل الصهيوني الذي ادعى بأن الموارنة قد سمّوا باسـم بلدة تدعى مارون تقع في كورة أنطاكية . ربما كان الدويهي متلهفاً للتشكيك بمارون هذا لأسباب أقل موضوعية لأنه حرص بشكل خاص في كتابه تبرئة طائفته وكنيسته من أية وصمةٍ ” بالهرطقة ” المونوثيلية . ولكن في الوقت نفسه لا يتـفق الدويهي مع القلاعي الذي دافع عن الرأي القائل بأن مصطلح ماروني مشتق من المصطلح السرياني موريو ، ومعناه ” الرب ” . يعتقد الدويهي بأن الدير في سورية سمي على اسم الرب المسيح وبأن الموارنة قد استمدوا اسمهم من هذا الدير . ثم يضيف قائلاً بأن مصطلح موريو (الرب) صحيح فقط بالقدر الذي يـشير فيه إلى صحة إيمان الموارنة . بعبارة أخرى ، سمي الموارنة وديرهم على هذا النحو بسبب إيمانهم “الأرثودكسي” تبعاً للصيغة التي حددها مجمع خلقيدونية عام451 ، وهي ان طبيعتي المسيح ، الإلهية والبشرية ، اتحدتا في شخص واحد لكنهما بقيتا منفصلتين بعد الاتحاد . كما يحبذ الدويهي أيضاً رأياً آخر ينسجم مع تقليد الكنيسة المارونية وتصادق عليه كنيسة روما كما تدل عليه كتب الصلوات المارونية ـ وهو رأي روَّجه القلاعي بأن الموارنة سموا باسم مارون الناسك ، ” بطريرك أنطاكية العظمى” . هذا يدعو الى التشويش حقاً ، لأن القلاعي يكتب أيضاً بأن الموارنة اشتقوا اسمهم من مصطلح موريو اي “الرب المسيح” ، وهو ما يدل على أن ديرهم كان أيضاً معروفاً بهذا الاسم . بالرغم من التـشويش فإن زعمه يصبح أكثر بعداً عن التصديق إذا كان القلاعي يُـشير بمصطلح الدير ، ” موريو ” ، إلى دير مارون التقليدي ، طالما أن المؤرخين يقبلون إدعاء بعض الموارنة بأن هذا الدير قد بني في القرن الخامس على نهر العاصي ، في سورية ، وأن مارون الناسك الذي يزعم بأنه أصبح ” أول بطريرك ” للموارنة قد عاش في النصف الثاني من القرن السابع وتوفي عام 707 . إضافة إلى ذلك ، فإن القلاعي على خطأ في تسمية هذا المرء ” مارون ” . وسوف نرى بأن رفاقه من الموارنة يدَّعون بأن أول بطريرك لهم كان راهباً في دير مارون ، إلا أن اسمه كان يوحنا وأنه أصبح أول بطريرك للموارنة في أوائل القرن السابع ، وقد دُعي مارون نسبة إلى اسم الدير.
يقول الكاتب الماروني الذائع الصيت يوسف السمعاني ملاحظة في مكتبته الشرقية (1 ، 507) بأن اسطفان الدويهي ومرهج نيرون يزعمان بأن المردة (متمردي ثيوفانس) كانوا يدعون بالموارنة في عام 694 لأنهم تبعوا يوحنا مارون ، ” أول بطريرك للموارنة ” . هناك ملاحظة مماثلة أبداها مؤلف الكتاب الماروني الهدى قال فيها: ” تـنسب الطائفة المارونية إلى مارون يوحنا (كذا) ، بطريرك أنطاكية العظمى” . وقد ناقش السمعاني هذه الآراء وخلص الى القول بأن الموارنة سمّوا بهذا الاسم في القرن السابع ، لا نسبة إلى يوحنا مارون الذي أصبح ” أول بطريرك ” لهم في ذلك القرن ، بل نسبة إلى ناسك القرن الخامس القديس مارون . يقول السمعاني: ” طرح اللبنانيون اسم المردة جانباً وأطلق عليهم اسم الموارنة نسبة إلى مارون الذي كان ديره المشهور مشاداً قرب حماه . كما أن بطريركهم يوحنا دُعي أيضاً باسم هذا الدير ” .
يستدل من هذا القول أن الموارنة كانوا يدّعون قبل القرن السابع مردةً أطلق عليهم اسم الموارنة ، وعندما اختاروا راهباً يدعى يوحنا من دير مارون بطريركاً لهم تخلوا عن اسم المردة واتخذوا اسم الموارنة . وكما يقول االسمعاني ، ان مصطلح ” موارنة ” لا يدل على مجموعة أو جماعة محددة التعريف قبل القرن السابع . ومن هنا نستشف عدم وجود فرق بين رأي السمعاني ورأي الدويهي ومرهج نيرون . فسواء ادعي الموارنة بهذا الاسم نسبة إلى قديس من القرن الخامس ، مارون ، أو نسبة إلى دير سمي باسم هذا القديس ، أو باسم راهب القرن السابع يوحنا مارون ، كما يدَّعي الدويهي ـ فالحقيقة هي أن الموارنة ، كما يقول السمعاني ، لم يعرفوا بهذا الاسم قبل القرن السابع بل كانوا يدعون بالمردة . وان هؤلاء المردة لم يكونوا في الاصل طائفة كالآريوسيين أو النساطرة ، بل كانوا قوماً محاربين استخدمهم البيزنطيون لقتال العرب.
هناك نظرية أخرى تستأثر بالاهتمام وهي نظرية المطران يوسف الدبس (ت 1907) ، الذي حاول ارساء مصطلح ” موارنة ” على قاعدة لاهوتية صرفة . فهو يقول بأنه عندما ازداد عدد الهراطقة في سورية في القرن الخامس الذين اضطهدوا ” الكاثوليك (اي الخلقدونيين)” ، دافع تلامذة القديس مارون عن الإيمان ” الكاثوليكي (الخلقيدوني) ” ضد معارضيه . وكانت النتيجة ان المناوئين الذين رفضوا المجمع الخلقيدوني اخذوا ينعتون الذين قبلوا ايمان هذا المجمع ” الكاثوليكي ” الخلقيدوني بالموارنة تحقيراً لهم .
إن ما يعنيه الدبس بالإيمان ” الكاثوليكي ” في هذا السياق هو صيغة ” نهج ” كنيسة روما وكذلك نهج تلك الكنائس التي قبلت مراسيم مجمع خلقدونية . ولكن محاولته تشييد أصل الكنيسة والطائفة المارونيتين على اساسس النزاعات العقائدية التي قسمت الكنيسة إلى معسكرات تتضارب مع نظرية الدويهي والسمعاني بأن الموارنة كانوا يدعون بالمردة قبل القرن السابع ، اي ان الدبس يريد ان يقول بأن كل أهالي لبنان كانوا موارنة منذ القرن الخامس . ويضيف الى ذلك قوله بان هؤلاء الموارنة تمردوا في القرن السابع ضد العرب والإمبراطور البيزنطي يوسطنيان الثاني ، راينوتميتوس (685 ـ 695) معاً . وبسب تمردهم هذا ، دعاهم أعداؤهم وكذلك جيرانهم بالمردة أو Mardaites بمعنى “متمردين” ) . يبدو هنا أن الدويهي والسمعاني يؤكدان على أن أهالي لبنان كانوا يسمون بالمرة منذ القرن الخامس ، إلا أنهم تخلّوا عن هذا الاسم في القرن السابع واتخذوا اسم الموارنة . يدَّعي الدبس ، مجادلاً في هذا الخصوص ، بأن الموارنة كانوا يعرفون بهذا الاسم منذ القرن الخامس ، ثم صار يُـشار إليهم في القرن السابع بالمردة بسبب تمردهم.
يمكننا أن نستخلص مما سبق بأن بعض العلماء الموارنة حاولوا أن ينسبوا أصل اسم كنيستهم وطائفتهم إلى مارونين اثنين على الأقل ، أحدهما ناسك وقديس من أوائل القرن الخامس ، والآخر راهب من أواخر القرن السابع يدعى يوحنا مارون وهو الذي أضحى أول بطريرك لهم . بل يزعمون أكثر من ذلك أن الموارنة كانوا يدعون بالمردة لكنهم تخلوا عن هذا الاسم في القرن السابع محبذين اسم الموارنة . ويدَّعي كتّاب موارنة آخرون بأن اسمهم مشتق من دير سمي باسم مارون الذي عاش في القرن الخامس بينما يعتقد المطران يوسف الدبس بأن الموارنة سموا بهذا الاسم منذ القرن الخامس ، لكنهم سموا ايضاً بالمتمردين أو المردة بسبب تمردهم على الدولة البيزنطية في القرن السابع .
مجمل القول ان جميع كتّاب الموارنة كانوا متمسكين بايمان كنيسة روما اي مقررات مجمع خلقيدونية منذ القرن الخامس . ولكن سنرى فيما بعد بان هذا الادعاء لا صحة له تاريخياً.