ارسالية جيروم دنديني الى الموارنة

Posted by on Aug 16, 2012 in Library, الموارنة في التاريخ - الدكتور متي موسى, الموارنة في التاريخ -2 | Comments Off on ارسالية جيروم دنديني الى الموارنة

24

    يبدو أن الجهود التي بذلها اليانو لإزالة العقائد ” الهرطوقية ” من كتب الموارنة الطقسية لم تـقنع كرسي روما الرسولي بأن الإيمان الماروني والمؤلفات الدينية المارونية، جرى تطهيرها كليّاً، لأننا نجد بعدئذ بابا آخر ، هو أقليميس الثامن ( 1592 ـ 1605 )، يوفد جيـروم دنديني (1554ـ1634)، أستاذ للفلسفة في Peruge (بيروج) ، إلى الموارنة للقيام بنفس المهمة التي قام بها اليانو قبله، ولحسن الحظ، ترك لنا دنديني تقريراً مسهباً عن ارساليته إلى الموارنة مع وصف بليغ عن رحلته وعن أخلاق الموارنة والمسلمين، (الذين يسميهم عموماً بالأتراك)، وعاداتهم .

 

    نعلم من رواية دنديني بأن الموارنة في زمنه ولفترة طويلة قد اعطيت عنهم فكرة خاطئة للبابا والكرادلة باتهامهم ” بأضاليل مختلفة وهرطقات كبيرة ” . لكن لا بد وأن الطلاب الموارنة الذين كانوا يدرسون في روما في ذلك الوقت قد بذلوا جهداً كبيراً في شرح أصل كنيستهم وإيمانهم والبرهان عليه للكتّاب اللاتين واحبار كنيسة روما. من المحتمل ايضاً أن يكون تقرير اليانو المقدم إلى البابا والذي احتوى على “الأضاليل” التي كان قد عثر عليها في كتب الموارنة قد اسعر حدّة الجدل والريبة بشأن ” كاثوليكية ” الموارنة. لهذا السبب وغيره، خاصة تبرير المصاريف الهائلة المخصصة لمدرسة الموارنة في روما، ارتأى البابا ضرورة ايفاد جيروم دنديني إلى لبنان للحصول على تقرير صادق ونهائي عن معتقدات الموارنة وولائهم لكرسي روما الرسولي .

 

    وصل دنديني إلى طرابلس في نهاية آب عام 1596 يرافقه الأب فابيو برونو. وانطلق إلى دير قنوبين تاركاً وراءه الأب برونو مريضاً، ووصل الدير في الأول من أيلول. وفي اليوم التالي حظي بمقابلة البطريرك سركيس الرزي (1581ـ1596) الذي كان قد خلف أخاه ميخائيل عام 1581. شرح دنديني للبطريرك طبيعة مهمته وسلمه البراءة البابوية والتي قبلها البطريرك بورع ووضعها على رأسه علامة الاحترام. كانت الزيارة مختصرة، لكن دنديني حظي بلقاء رسمي آخر مع البطريرك في اليوم التالي. وما أن بدأ دنديني بمناقشة مهمته حتى بدأ البطريرك يتذمر لأن البابا أرسل اليه فقط رسالة عادية لا منشوراً بابوياً رسمياً يثبت معتقد الموارنة واتحادهم بكنيسة روما، كما كانت عادة الباباوات السابقين.

 

    اعتقد البطريرك بأن منشوراً جليلاً كهذا قد يكون عزاء كبيراً لمطارنته وشعبه. كما تذمر أيضاً بأنه كان قد أرسل قبل عام موفداً إلى البابا للتعبير باسمه وباسم الموارنة عن خضوعهم له ولكنيسته وراجياً تثبيته في ” منصبه القديم كبطـريرك أنطـاكية “، إلا أنه لم يتسلم رداً من البابا . وهنا دهش دنديني الذي لم يكن على علم بهذه المسائل، إلا أنه حاول قصارى جهده تهدئة البطريرك الذي يبدو بأنه اقتنع باعتذار دنديني. ثم عرض دنديني على البطريرك الدعوة إلى عقد مجمع لاتخاذ قرار نهائي عن الوضع الصحيح لمعتقدات الموارنة مضيفاً بأنه تكفي لهذا الغرض دعوة الأساقفة فقط إلى هذا المجمع. اعترض البطريرك بشدة على عقد مثل هذا المجمع لأسباب تتعلق بمجمع قنوبين السابق الذي عقده اليانو عام 1580 في عهد ميخائيل شقيق البطريرك، وحضره البطريرك نفسه عندما كان مطراناً. احتج البطريرك بأنه في ذلك المجمع كان هو نفسه والمطارنة الحاضرين قد اعطوا ورقة بيضاء للتوقيع عليها واكّد الذين سلموها اليهم بأنها ستملأ بما هو صالح ومفيد للشعب الماروني. وبعد أن وقع الأساقفة الورقة اخذها الذين طلبوا منهم توقيعها إلى طرابلس ودسوا فيها عدداً كبيراً من الأضاليل والهرطقات. وانطلق هؤلاء إلى روما، دون أن يبلغوا أياً من أعضاء المجمع أو يتركوا نسخة من قراراته بل عمدوا بخبث شديد إلى تشويه سمعة أعضاء المجمع أمام البابا وكرادلته. وخوفاً من تكرار مثل هذه الإساءات اعتذر دنديني للبطريرك من هذه المعاملة لكنه اصرّ على وجوب عقد مجمع . لم يستطع دنديني تصديق ما سمعه من البطريرك إلا أنه يقول بأنه لم يجد نفسه في موقف يمكنه من إنكار ما سمعه طالما أن العديد من الأشخاص أيدوا شكاوى البطريرك. ولم ير دنديني مندوحة من تهدئة البطريرك واعداً اياه بفحص وقائع جلسات مجمع قنوبين الذي اثار استياء البطريرك. واضاف دنديني بأنه لن يفعل شيئاً دون مشاورة البطريرك وموافقته. غير ان البطريرك قدّم حجةً أخرى بعدم وجود ضرورة لعقد مجمع وهي : أنه من الصعب دعوة مجمع للانعقاد وجمع الأعيان الموارنة ولقائهم مع موفد البابا بالنظر الى حالة الحرب بين الأتراك العثمانيين وأوروبا،. وبالرغم من هذه الحجة فقد قام دنديني بتهدئة البطريرك وإقناعه بأنه من الممكن ايجاد بعض المبررات لعقد المجمع. وأخيراً يقول دنديني بأن هذا ” الرجل العجوز الطيب ” وافق على طلبه وكتب إلى مطارنته داعياً إياهم إلى عقد مجمع.

 

    ليس هناك من دليل على أن اليانو خدع البطريرك والمطارنة ليوقعوا ورقة بيضاء في قنوبين عام 1580. بل ليس من دليل أيضاً على أن اليانو اوغيره ملؤوا هذه الورقة بـ ” أضاليل وهرطقات ” وحملوها إلى روما للطعن بمعتقدات الموارنة أمام البابا. إن ما يدعو إلى الدهشة حقاً هو زعم البطريرك سركيس الرزي بأن اليانو نفذ هذه المكيدة الشريرة دون معرفة المجمع أو أي شخص آخر. ولكن يظهر ان البطريرك المح بالنتيجة بطريقة غير مباشرة بأن البابا وجد من الضروري إرسال دنديني للتحقيق في صحة معتقدات الموارنة لأن اليانو كان قد شوه سمعتهم بخبث. هذا ما دعا المطران أقليميس يوسف داود ان يشك بصدق اتهامات البطريرك لاليانو . ولكن مما يزيد في صعوبة الدفاع عن هذه التهم هو العدد من الرسائل التي كتبها البطريرك إلى اليانو في روما، ممتدحاً جهوده المشكورة لمساعدة الموارنة. وربما كان البطريرك سركيس قد نسي بأن أخاه، البطريرك ميخائيل، كان قد بعث رسالة إلى الرئيس العام لليسوعيين يبلغه فيها بأن “اليانو قرأ كتبنا ووجد فيها العديد من الأضاليل”، ويطلب منه إرسال اليانو مرة أخرى إلى لبنان . لكن يبدو، بغض النظر عن شكوى البطريرك بأنه أُجبر مع آخرين من المطارنة على توقيع ورقة بيضاء، أن المعلومات التي قدمها اليانو إلى ذوي الشأن في روما تدل على أن كتب الموارنة مازالت تضم عقائد مخالفة لعقائد كنيسة روما، ومن هنا جاءت ارسالية دنديني الى الموارنة.

 

    قام دنديني باستقصاء شامل لمعتقدات الموارنة قبل أن يعقد مجمعاً كنسياً. ويقول بأنه وجد الكثير من الأدلة عن ” المفاسد ” في معتقدات الموارنة جعلته يفتح عينيه وينكب بجـد ومثابرة على اكتشاف حقيقة  الأمر . هناك سببان حملاه على القيام بذلك وهما : أهمية المسائل التي كان يقوم بالبحث عنها، وانه قد علم قبل بضع سنوات بأن هذه ” الأضاليل ” وغيرها قد نسبت إلى الموارنة . وقد ظل الموارنة متمسكين بهذه ” المساوئ ” و” الأضاليل ” التي لم يزل كهنتهم يتلونها حتى نهاية القرن السادس عشر. وقام دنديني بتبويب تسعة فئات لهذه “الأضاليل”، وهي:

 

  • أنه لم تكن في يسوع المسيح سوى طبيعة واحدة وهي الطبيعة الإلهية.
  • أن الروح القدس ينبثق فقط من الآب.
  • أن الثالوث بأجمعه قد تجسد ومات على الصليب وقام ثانية.
  • بوسع الزوج أن يطلق زوجته ويتزوج بأخرى إذا ارتكبت الزنى أو لأسباب أخرى.
  • لا وجود للخطيئة الأصلية.
  • أن الأرواح التي تبارح أجسادنا لا تذهب الى الجنة كثواب، ولا الى الجحيم كعقاب، بل تـنتظر ذلك حتى يوم دينونة العالم وأنها في غضون ذلك تبقى في مكان حيث لا حزن فيه ولا فرح.
  • من المباح قانوناً أن ينكر المرء معتقده ظاهرياً وأن ينكره شفهياً بشرط أن يختزنه في القلب.
  • أن سر التثبيت لا يتميز عن المعمودية.

– أنهم يعطون القربان المقدس للأطفال .

 

    يقـول دنديني بأنه بذل كـل جهد للتوصل الى معـرفة حقيقة هذه ” الأضاليل ” حتى انه استخدم آخرين لمساعدته في البحث عنها. ولكن كل ما استطاع أن يجده هو ضربين فقط من هذه “الأضاليل” كان الموارنه يمارسونهما وهما: طلاق الزوجة لعلة الزنى ومناولة القربان المقدس للأطفال. أما بالنسبة ” للأضاليل ” الأخرى فقد ادرك جيداً أن الموارنة قد اتهموا بها زوراً. بيد أنه يعترف، بأنه وجد وهو يقرأ أحد كتبهم ـ دون أن يتمكن من تذكر اسم الكتاب ـ الاعتقاد بمشيئة واحدة وفعل واحد في المسيح (المونوثيلية) كما وجد فيه أيضاً ” بعض الأشياء الأخرى الآثمة ” وقرر تدوين كل هذه المفاسد خطياً لعرض كل واحدة منها بالتفصيل الى المجمع عند اجتماعه لكي يتكفل بتصحيحها .

 

    أول شيء يلحظه المرء بخصوص قائمة ” المفاسد ” أو “الأضاليل” التي جمعها دنديني هي أنها وتلك التي جمعها اليانو قبل نحو عشرين عاماً مطابقة ولكن ليس هناك من بيِّنة بأن دنديني كان قد درس مفكرات اليانو قبل مغادرته روما. فانه من غير المحتمل جداً أن يكون قد اطلع على هذه المفكرات ولم يشر اليها. بالإضافة الى ذلك ليس لدينا دليل بأن دنديني كان على معرفة باللغات الشرقية الضرورية لقراءة كتب مارونية. ولكن من المحتمل كما يقول هو نفسه بانه اعتمد على الآخرين في قراءة هذه الكتب له والتي وجد فيها “بعض الأضاليل” . ان هذه القائمة من ” الأضاليل ” هي بالضبط تلك التي قدمها دنديني إلى المجمع المزمع لبحثها.

 

    بعد أن أطلع دنديني على معتقدات الموارنة وعلى ” الأضاليل ” التي لم تزل موجودة في كتبهم، أبلغ البطريرك والمطارنة والكهنة والشمامسة الآخرين بعزمه على عقد مجمع. والذي يلفت النظر هنا هو ان ارسل الاشعار الى البابا بعقد مجمع لم يكن البطريرك الماروني بل موفده دنديني موفد البابا مما يدل، بأن سلطة الموفد البابوي كانت أعلى من سلطة البطريرك. وأخيراً اجتمع المجمع في 28 كانون الأول 1596. وجرت قراءة رسالة البابا الموجهة إلى البطريرك والتي يشرح فيها مهمة دنديني وقد أضاف دنديني الأسباب التي دفعته إلى عقد هذا المجمع. كما أنه القى خطاباً قصيراً موجهاً بصورة خاصة إلى المطارنة يذكرهم فيه بواجبهم حيال الكنيسة .

 

    قسم دنديني القضايا التي ستتم مناقشتها إلى ثلاث فئات : تتعلق الفئة الأولى بمعتقد الموارنة؛ أما الفئتان الثانية والثالثة فتتعلقان بالمدرسة المارونية في روما ومعاملة خريجيها ومستقبلهم. يروي دنديني بأن البطريرك قاطعه وهو يهِّم بافتتاح المجمع معرباً بصوت جهوري عن استيائه الكبير من المجمع السابق الذي التأم في الدير قبل ستة عشرة عاماً محتجاً بأنه لم يصادق هو أو سلفه على قرارات ذلك المجمع. وتابع البطريرك معترضاً بادانة ” الأضاليل ” التي ادعى بأنها فرضت عليهم وعلى شعبهم. كما أدان أولئك الذين عقدوا ذلك المجمع واصر بأنه هو نفسه وشعبه قد اتبعوا دائماً تعاليم كنيسة روما وسوف يستمرون في اتباعها . وهنا تأثر أحد الشمامسة الحاضرين في المجمع بحرومات البطريرك فصاح ” نعم سوف نتبع تعاليم كنيسة روما ولن نفصل أنفسنا بأي حال عنها مهما أصابنا من بؤس ” .

استحسن دنديني هذا الحماس واعتبره علامة طيبة في بداية المجمع. وعلى الرغم من ذلك أراد دنديني التأكد أكثر بخصوص معتقد الموارنة، وهو الامر الذي كان قد كُلفِّ للقيام باختباره. بسط دنديني أمام أعضاء المجمع ” الأضاليل ” التي كان قد صنَّفها وطلب من كل واحد منهم أن يُعلن معتقده.

  وبعد أن فرغ من ذلك، اعترف الجميع بالإجماع وبدون جدال، بالبنود التالية كما يؤكد دنديني :

 

ليس في يسوع المسيح سوى شخص واحد إلهي، بطبيعتين، ومشيئتين وفعلين؛ إحداهما إلهية والأخرى بشرية.

 

أن الروح القدس ينبثق من الآب والابن كانه من قدرتين فاعلتين وحيدتين.

 

أن الابن وحده تجسـد، لا الثالوث بأجمعه؛ كما أن من وُلد ومات هو من قام ثانية صعد إلى السماء. ولهذا السبب فهموا كلمة التقديسات الثلاث Trisagion بأسلوبين مطبقين إياها أحياناً على الثالوث بأجمعه وأحياناً على الشخص الثاني من الثالوث فقط، إلا أنهم بعد ان فهموها بالأسلوب الأول، لم يقوموا بإضافتها أبداً ولكن حين فهموها بالأسلوب الثاني أضافوها ـ انسجاماً مع التجسد والميلاد والموت وما شابه ذلك من الأشياء الأخرى التي كانت تتـفق حقاً مع يسوع المسيح.

 

يمكن الحكم بناء على أفعالهم بأنهم اعترفوا بالمطهر والخطيئة الأصلية وأن صدقاتهم وصلواتهم تدل بشكل واضح عن حقيقة المطهر.

 

أن (الخطيئة الأصلية) برهنت عن نفسها بصراحة بالمعمودية التي أجازوها للمواليد الصغار، لغرض إمكانية الحصول على الحياة الأبدية بكونهم قد غسلت خطاياهم وتطهروا منها، مع أنهم ما ارتكبوا خطيئة فعلية دعت إلى غسلها أو تطهيرها، بواسطة ذلك السر عالمين بأن القديس أوغسطين قد استعمل تكراراً تلك الحجة للبرهان على نفس الحقيقة ضد البيلاجيين في زمنه.

 

أن الأرواح، بشكل عام تذهب بعد مبارحتها الجسد مباشرة إلى السماء للتمتع بالبركة أو إلى الجحيم لتعاقب العقاب الأبدي أو للبقاء فترة في المطهر.

وليس من الواجب الشرعي مطلقاً إنكار المرء إيمانه قولاً لأن يسوع المسيح نفسه أعلن صراحة، ” من ينكرني قدام الناس أنكرته أنا أمام أبي في السماء .”

 

أخيراً، قرروا بأنه يجب السماح أحياناً بالتفريق في الزواج، ولكن ما من شيء سوى الموت قادر على حل عرى الزواج بحيث يسمح للزوج أن يتزوج بأخرى شرعاً، الامر الذي يتفق مع قول يسوع المسيح : ” كل من يطلق امرأته ويتزوج بأخرى يزني. “

 

    بعد أن صادق كل واحد على البنود المذكورة أعلاه، عرض دنديني على أعضاء المجمع الكتاب الذي وجد فيه بعض ” الأضاليل “. ولكن المجتمعين انكروا أن تكون هذه هي كتبهم، مدعين ” بأن اليعاقبة هم الذين ابتدعوها ونشروها بين أمتهم بخبث “. كما أخبروا دنديني بأن كتبهم الاخرى كانت مختلفة تماماً وبأن البابا كان تلقى معلومات كاذبة عن الموارنة. والظاهر أن دنديني اقتنع بإجاباتهم إذ يقول ” لم أرَ شيئاً في كتبهم التي أقروا بها إلا ما كان كاثوليكياً .”

    يناقض دنديني نفسه عندما يقول بأنه لم يجد شيئاً في الكتب المارونية إلا ” ما كان كاثوليكياً لانه هو نفسه أعلن سابقاً بأنه وجد في أحد هذه الكتب عقيدة المشيئة الواحدة والفعل الواحد في المسيح إلى جانب ” بعض الامور الفاسدة ” . ومن نافل القول ان تعتبر عقيدة المشيئة الواحدة (المونوثيلية) في كنيسة دنديني ” كاثوليكية ” بل هي هرطقة. اضف الى ذلك، لم تكن هذه ” الأشياء الفاسدة ” أو ” المساوئ ” كاثوليكية أو متفقة مع تعاليم كنيسة روما. ومن المدهش حقّاً أن يُعلن دنديني بكل يقين بأنه لم يرَ شيئاً في الكتب المارونية إلا ما كان ” كاثوليكياً ” حين يكون هو نفسه قد وضع قائمة تشمل تسع بنود من ” المساوئ ” لتقديمها إلى المجمع لغرض تصحيحها . ومما هو مدعاة للدهشة الى حدّ كبير هو ابداءه الرضى بعد ان سمع البطريرك ينتقض سمعة المجمع الذي عقده اليانو عام 1580 ويحرم الذين عقدوه أو حضروه. صحيح أن البطريرك سركيس الرزي لا يذكر اليانو بالاسم، إلا أن البطريرك الدويهي يفعل ذلك. لا بل يصم الدويهي اليانو بالكذب. يقول الدويهي أن البطريرك سركيس الرزي دعا كبار الكهنة وأعيان الموارنة والعلماء إلى الاجتماع في 18 أيلول 1596 بعد وصول دنديني. وبعد أن قرئت رسالة البابا إلى البطريرك أعلن البطريرك أمام الناس وأمام الموفدين البابويين (دنديني وبرونو) بأن أخاه، البطريرك ميخائيل، والطائفة المارونية كانوا براءً من الاتهامات ” التي وجهها إليهم افتراءً جيوفاني باتيستا (اليانو) ” . وبما أن دنديني اعترف شخصياً بانه وجد هذه ” الأضاليل ” في الكتب المارونية، فمن المدهش أن نراه يوافق على ادعاءات أعضاء المجمع بأن هذه الكتب قد ” استحدثها اليعاقبة بخبث ” . ولكن ما لم يخبر هؤلاء الاشخاص دنديني هو كيف حرّف هؤلاء ” اليعاقبة ” الكتب ومتى ؟ ان اول من أشار إلى هذا الاتهام هو البطريرك ميخائيل الرزي في إحدى رسائله الموجهة إلى الكاردينال كارافا ولكن اعلانه تمّ بصراحة في المجمع المنعقد عام 1596. وقد دأب الكتّاب الموارنة، ما عدا السمعاني، على تكرار هذا الاتهام بكل اصرار ضد الكنيسة السريانية الأرثوذكسية. ولكن الأمر الأقرب الى التصديق هو أن الكتب التي قدمها الموارنة إلى دنديني لفحصها، والتي لم يجد دنديني فيها شيئاً سوى ما هو ” كاثوليكي ” كانت كتباً جديدة نُسخت في القرن السادس عشر وتضمنت بالطبع تعاليم تتّفق مع تعاليم كنيسة روما؛ لكن الكتب المارونية التي كانت كنيسة روما وموفدوها معنيين بها بشكل كبير هي الكتب المارونية القديمة. هذه الكتب، وخاصة تلك المنسوبة إلى يوحنا مارون، تضمنت اعترافاً صريحاً بعقيدة المشيئة الواحدة (المونوثيلية). والحقيقة هي انه لا يوجد دليل بأن “اليعاقبة” حرّفوا الكتب المارونية أو أن توما مطران كفرطاب كان قد حرّفها كما ان الحقيقة التاريخية لا تؤيد الادعاء بأن ” اليعاقبة ” ذهبوا للعيش في وادي الفراديس في لبنان متذرعين بالتقوى لكي يقوموا بنساخة الكتب المارونية وتحريفها .

 

    هناك بعض الشك في أن أعضاء مجمع قنوبين لعام 1596 قد أطلعوا دنديني الحقيقة عن إيمانهم كما ورد في كتبهم. من المحتمل أنهم اطلعوه على بعض كتبهم المنقحة حديثاً، لا الكتب القديمة. كما أنهم قادوه إلى الاعتقاد، بأن البابا كان قد تلقى معلومات كاذبة من اليانو حول إيمانهم (24). والحقيقة هي أن مجمع قنوبين هذا كان على وفاق تام مع المجمع الذي عقده اليانو في عام 1580، كما كانت القضايا العقائدية التي ناقشها المجمعان واحدة. بل من الواضح ان مهمة دنديني، في هذا االمضمار، والمجمع الذي عقده للبحث عن ” الأضاليل ” في الكتب المارونية كانت امتداداً لمهمة اليانو ومجمعه.

 

    إذا تـأملنا قائمة ” الأضاليل ” التي عثر عليها دنديني في الكتب المارونية، نجد أنه باستثناء إنكار الخطيئة الأصلية وإمكانية إنكار المرء لإيمانه علناً في حين يحتفظ به في قلبه، فإن كل ما تبقى يمثل العقائد الجوهرية للكنيسة السريانية الأرثوذكسية. ولكن نظراً لجهل دنديني بعقائد الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، فقد أساء فهم أكثر عقائدها الأساسية وهي، الطبيعة الواحدة والثالوث. يقول دنديني بأن إحدى “الأضاليل” التي وجدها في الكتب المارونية هي الاعتقاد بأنه لم تكن في المسيح سوى طبيعة واحدة، الإلهية . هذا ما لا تعتقده الكنيسة السريانية الأرثوذكسية. فإن هذه الكنيسة تدين بعقيدة القديس كيرلس الاسكندري، وهي أن طبيعتي المسيح اتحدتا معاً بطريقة تفوق الوصف وأصبحتا طبيعة واحدة، ولكن دون أن تـفقد الطبيعتان خصائصهما، ومن هنا جاءت عبارة القديس كيرلس طبيعة متجسدة واحدة للوغوس الإلهي. لذا فإن فصل هاتين الطبيعتين بعد اتحادهما واعتبارهما متمايزتين الواحدة عن الأخرى هو عودة إلى الآراء اللاهوتية لمدرسة أنطاكية اي ” النسطرة ” التي تؤمن بأن الابن الذي وُلد من الآب قبل خلق العالم هو غير الذي وُلد من العذراء القديسة مريم. هذا ما عنى به نسطور وهو أن العذراء لم تحمل الاهاً بل مجرد إنسان. والظاهر، أن دنديني، جرياً على قاعدة الكتّاب الخلقيدونيين القدماء والمعاصرين ، قد خلط بين هذه العقيدة الأرثوذكسية للكنيسة السريانية الأرثوذكسية وعقيدة الهرطوقيين أبوليناريوس وأوطاخي، اللذين اعلنا نتيجة اتحاد طبيعتي المسيح هي طبيعة إلهية واحدة  وهذا ما حرمته الكنيسة السريانية الارثودكسية.

 

    كذلك نجد ان الامر قد اختلط اختلاطاً جمّاً على دنديني بخصوص التقديسات الثلاث. فمنذ القرن السابع وحتى ابتداء دنديني بفحص الكتب المارونية، كان الموارنة يرتلون ترنيمة التقديسات الثلاث كما ترتل في الكنيسة السريانية الأرثوذكسية مع عبارة يا من صُلبت من أجلنا. لقد قمنا بمناقشة التقديسات الثلاث من ضمنها هذه العبارة بشكل وافٍ وأظهرنا بأن الكنيسة استعملتها منذ القرن الرابع . كما بيَّنا أيضاً أرثودكسيتها وأن بطريرك أنطاكية بطرس القصّار قد اتهم بهتاناً بإضافة العبارة المستـشهد بها إلى التقديسات الثلاث وذلك من أجل إثبات معتقده “المونوفيزي”. ان الكنائس الخلقيدونية، ومنها كنيسة روما، كانت قد ادانت هذه العبارة في المجمع الخامس وفي المجامع التي تلته. والحقيقة التي يجب ان تقال في هذا الصدد هي ان الخلقيدونيين اعتقدوا خطأً بأن هذه العبارة موجهة إلى الثالوث بأجمعه، مما يؤدي الى النتيجة بأن الثالوث بأجمعه قد تجسد ومات على الصليب وقام من القبر. هذه هي الكيفية التي أدت بدنديني، وهو الخلقيدوني تقليداً، إلى إساءة فهم يا من صُلبت من أجلنا وارتباطها بالثالوث. والحقيقة هي ان الكنيسة المارونية قبل أن تصبح كياناً مستقلاً وحتى بعد ذلك استمرت، على غرار الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، في ترتيل التقديسات الثلاث مع هذه العبارة المضافة لا بنية توجيهها إلى الثالوث بأجمعه بل إلى الشخص الثاني في الثالوث (المسيح) وحده. لذا كان من غير المجدي الادعاء، كما فعل دنديني، بأن الثالوث بأجمعه قد تجسد وصُلب وقام . ان إساءة فهم التقديسات الثلاث على هذه النحو هو خرق لتعاليم العديد من آباء الكنيسة الذين فهموا عبارة يا من صُلبت من أجلنا في التقديسات الثلاث بهذا المدلول. وبهذا المدلول فهم أفرام الآمدي، بطريرك أنطاكية الخلقيدوني هذه العبارة ذاتها . إن ما يبرهن على أن هذه العقائد موجودة في الكتب المارونية القديمة هو الكتب المنسوبة إلى يوحنا مارون، بالإضافة إلى كتاب الهدى (Nomocanon). لقد سبق وان قمنا بمناقشة وافية لعقائد المشيئة الواحدة والطبيعة الواحدة والتقديسات الثلاث وانبثاق الروح القدس من الآب وحده ولا حاجة لتكرارها هنا.

 

تشمل قائمة دنديني أيضاً معتقدات وتقاليد أخرى تؤمن بها الكنيسة السريانية الأرثوذكسية منها انحلال عقد الزواج لعلة الزنى وإنكار وجود المطهر وعدم وجود ثواب او عقاب قبل الدينونة العامة وان سر التثبيت المقدس غير متميز عن المعمودية ومناولة القربان المقدس للأطفال الصغار . بمقدورنا إذاً ان نتوصل بكل بثقة الى النتيجة وهي ان العقائد التي احتوت عليها هذه الكتب تعلن بأن الموارنة كانوا ولم يزالوا سرياناً أرثوذكسيين “يعاقبة” آمنوا بعقيدة الطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي منذ القرن السابع حتى القرن السادس عشر.

 

    يمكن التوصل إلى بعض النتائج من تضاعيف ارساليتي اليانو ودنديني إلى الموارنة. منها ان العدد الكبير من الكتب التي قام هذان الموفدان الباباويان بفحصهما هي من أصل سرياني أرثوذكسي. ولكن ذلك لا يدل على ندرة المؤلفات الدينية في الكنيسة المارونية فحسب بل يدل ايضاً على اعتمادها الكلي على مؤلفات الآباء السريان. والاكثر من ذلك يدل على أن الكنيسة المارونية حتى القرن السادس عشر لم تـنفصل بشكل واضح وحاسم عن الكنيسة السريانية الأرثوذكسية الأم في معتقداتها وطقوسها وتقاليدها. من الصحيح أن الرهبان الموارنة والكنيسة المارونية والطائفة المارونية التي جاءت بعد ذلك عمدوا، نتيجة إكراه الإمبراطور هرقل واضطهاده للرهبان الموارنة في القرن السابع، إلى قبول الإيمان الذي حدده مجمع خلقيدونية، وكذلك عقيدة المشيئة الواحدة التي روَّج لها هرقل، إلا أن الكنيسة المارونية لم ترفض رسمياً عقيدة الطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي (المونوفيزية) أبداً. بل ظلت هذه العقيدة حية في الكتب الطقسية المارونية حتى نهاية القرن السادس عشر بالذات، عندما خضع الموارنة أخيراً لسلطة البابا.

 

    هناك نقطة واحدة لا بد من عرضها بخصوص حق البطريرك الماروني في استعمال لقب ” بطريرك أنطاكية “. يُعلن البطريرك بولس مسعد الماروني بأن ” بطريرك الطائفة المارونية هو بطريرك أنطاكية الحقيقي الوحيد ” . هذا الادعاء لا أساس له من الصحة من الناحيتين التاريخية والكنسية. فقد أثبتنا سابقاً بأن البطريركية المارونية لك ترتكز على اساس القوانين والتقاليد الكنسية. إذ لم يبدأ بعض البطاركة الموارنة بإضافة لقب “بطريرك أنطاكية” إلى أسمائهم حتى القرن الثالث عشر فقط بل لم يبدأوا بإضافة اسم بطرس إلى أسمائهم إلا مؤخراً لإظهار كونهم القيمين على سدة أنطاكية ، وهو منصب أسسه الرسول بطرس بحسب التقليد. والذي يؤكد بان كنيسة روما لم تعتبر البطريرك الماروني بطريركاً شرعياً لأنطاكية هو رسالة البابا اينوسنت الثالث التي وضع بموجبها البطريرك الماروني تحت سلطة البطريرك اللاتيني . ففي هذه الرسالة يخول البابا اينوسنت البطريرك الماروني ارميا العمشيتي ومن يخلفه من البطاركة ارتداء الباليوم ( درع التثبيت ) الذي يسعد “بطريرك أنطاكية اللاتيني” أن يخلعه عليه. يقول اينوسنت “إننا بهذا نمنحكم ونمنح من يخلفكم بموجب سلطتنا الرسولية الحق الكامل للباليوم كما يقتضيه الإجراء المعهود للمنصب البطريركي وهو الحق الذي كان على بطريرك أنطاكية (بطريرك أنطاكية اللاتيني) أن يكون قد منحكم إياه دون قيد وفقاً للعرف المقبول والذي نؤمن بأن أسلافكم في كنيسة أنطاكية قد تمتعوا حقاً به”.

 

    يبدو هنا أن البابا قد أخضع البطريرك الماروني لسلطة “بطريرك أنطاكية” اللاتيني لأنه اعترف بأن هذا البطريرك هو “بطريرك أنطاكية الوحيد” وإلا لأصبح لديه بطريركان خاضعان لسلطته يطالبان بنفس اللقب. وبالرغم من أن تعليمات اينوسنت الثالث قد فوّضت البطريرك اللاتيني بتقليد الباليوم للبطريرك الماروني، إلا أن المطران الماروني يوسف الدبس يصر خطأً بأن البابا أرسـل الباليوم الى البطريرك ارميا العمشيتي مباشرة، لا بواسطة البطريرك اللاتيني . هناك في الواقع بيِّنة بأن البابا اينوسنت الثالث قد اعتبر جاثاليق الكنيسة الأرمنية في مركز أعلى من مركز البطريرك الماروني، لأنه أرسل له الباليوم شخصياً مع موفده، الكاردينال بطرس من رهبنة القديس مارسيلوس. وقد ذكر البابا بينيدكتس الرابع عشر، في خطابه الذي ألقاه في اجتماع الكرادلة في 23 أيلول 1750، بعض الحالات التي انعم فيها باباوات سابقون بالباليوم على بعض رؤساء كنائس الشرق. ومن هذه الحالات إرسال اينوسنت الثالث الباليوم مع موفديه الكاردينال سوفرد (أو جيوفري) وبطرس من رهبنة القديس مارسيلوس، إلى يوحنا السابع جاثاليق أرمينيا الكاثوليكي عام 1203 ( من الواضح أن البطريرك اللاتيني هو الذي قلد الباليوم للبطريرك الماروني على خلاف الجاثليق الارمني إلا أن الباباوات لم يكونوا سواسية في اضفاء لقب ” بطريرك أنطاكية ” على البطريرك الماروني. فبينما دعا البابا اسكندر الرابع، البطريرك الماروني شمعون (سمعان) الثاني بـ “بطريرك  أنطاكية” فان كرسي روما الرسولي اشار إليه على أنه البطريرك الماروني وحسب. ومهما يكن الامر فإن لقب “بطريرك أنطاكية” الذي يستعمله البطاركة الموارنة اليوم هو لقب اعتباطي لا يقره القانون أو التقليد الكنسيين. واذا اتبعنا رأي الكاتب الكاثوليكي ميخائيل لكيان، نجد انه لا يُعّد البطريرك الماروني من بين بطاركة كرسي أنطاكية الحقيقيين، بل يؤكد ان لقب ” بطريرك أنطاكية ” الذي مازال البطاركة الموارنة يضيفونه إلى أسمائهم لعدة أجيال هو لقب فخري ليس الاّ .

 

على ضوء ما قيل أعلاه، يعتبر بيان أعضاء المجمع اللبناني عام 1736 الذي يؤكد بأن بطريركهم، منذ انفصال الموارنة عن الطوائف الشرقية الأخرى، كان دائماً يدعي ” ببطريرك أنطاكية ” هو بيان لا أساس له من الصحة تاريخياً ( كما أن ادعاء أعضاء هذا المجمع بأن الأحبار الرومان لم يعترضوا أبداً على لقب ” بطريرك أنطاكية ” الذي يستعمله البطاركة الموارنة بل دعوهم في الحقيقة دائماً “بطاركة أنطاكية “، هو بنفس الوقت ادعاء عديم الاساس التاريخي.