الادعاءات المارونية ووثائق مراسلات القرن السادس

Posted by on Aug 16, 2012 in Library, الموارنة في التاريخ - الدكتور متي موسى, الموارنة في التاريخ -2 | Comments Off on الادعاءات المارونية ووثائق مراسلات القرن السادس

5

    يستند الموارنة في ادعائهم بأنهم كانوا منذ القرن الخامس متمسكين بالإيمان الذي حدده مجمع خلقيدونية إلى توقيعي اسكندر وبولس ، رئيسي دير مارو (المُشار إليه بدير المبارك مارون) ، اللذين تحملهما عدة رسائل موجهة إلى الإمبراطور يوسطنيان الأول ، وتحمل هذين التوقيعين رسائل أخرى موجهة احداهما إلى مينا ، بطريرك القسطنطينية واخرى إلى البابا أغابيتس ، وغيرها ايضاً موجهة إلى أساقفة سورية الجنوبية  .  والاعتقاد السائد هو أن كل هذه الرسائل كتبها رهبان ورؤساء أديرة وشمامسة وأساقفة من القسطنطينية ، وأورشليم وسيناء ، وفلسطين وسورية الجنوبية .  تحتوي هذه الرسائل على اتهامات موجهة ضد سويريوس ، بطريرك أنطاكية المتوفي سنة 538 ، وبطرس أسقف أفاميا ، وانتيموس بطريرك القسطنطينية والناسك السرياني زعورا .  ومجمل هذه الاتهامات هو أن هؤلاء الرجال عارضوا الإيمان الذي أعلنه رسمياً مجمع خلقيدونية ، ونددوا بطومس لاون الذي كان السبب الرئيسي في انعقاد هذا المجمع .  وقد اتُهم اثنان منهما ، هما سويريوس وبطرس ، أكثر من ذلك باضطهاد رهبان خلقيدونيين وكهنة آخرين عارضوا سلطتهما وانهما قاما بتنفيذ خطة لاغتيال 350 راهباً .  وقد ظل الكهنة الخلقيدونيون خامدين طوال وجود الإمبراطور أنستاسيوس الأول المناوئ لمجمع خلقيدونية على العرش .  كان الامبراطور انستاسيوس الاول من اصحاب الطبيعة الواحدة وبالطبع مناهضاً لمجمع خلقيدونية ومناصراً للبطريرك سويريوس الانطاكي واصحابه المناوئين لهذا المجمع .  ولذلك ظـل الكهنة الخلقيدونيين لازمين الصمت والهدوء طوال فتـرة حكمه (491-518) .  ولكن عند وفاته وارتـقاء يوسطين المناصر لمجمع خلقيدونية العرش وخلع سويريوس من منصبه صبَّ الكهنة الخلقيدونيون جام غضبهم على سويريوس وانصاره رغبة منهم في القضاء على كل معارضة لإيمان خلقيدونية .  ومن هنا ، لم تكن الرسائل التي كتبها الخلقيدونيون إلى المجامع التي التأمت في سورية والقسطنطينية عام 518 لتجريح سويريوس واصحابه ، لاذعة فحسب ، بل احتوت على ضروب من الاتهامات الموجهة إلى سويريوس وإلى قادة كنسيين آخرين مناوئين للخلقيدونية .  ومن جملة هذه الرسائل رسالتان هامتان تتهمان سويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي باغتيال عدد من الرهبان ، وجّه إحداهما عام 517 كهنة من سورية الجنوبية إلى البابا هرمزدا (المُـشار إليها بعدئذ برسالة الرهبان إلى البابا هرمزدا) ؛ أما الأخرى فقد كتبها رهبان من أفاميا في سورية الجنوبية إلى أساقفتهم الذين اجتمعوا عام 518 لإدانة سويريوس الأنطاكي وشركائه (المُـشار إليها بعدئذ برسالة الرهبان إلى مجمع 518) .  ومع أن الرسالة الموجهة إلى مجمع 518 لا تذكر عدد الرهبان الذين تمَّ قتلهم ، فإن رسالة الرهبان إلى البابا هرمزدا تحدد العدد بـ 350 راهباً .  وقد دفعت الظروف المرتبطة بمقتل هؤلاء الرهبان ، في كلا الرسالتين ، بعض الكتّاب الافتراض بان ما جاء فيهما متشابه جداً  .  وسوف نرى لاحقاً أن الاختلافات في كلا الرسالتين تكشف عدم تطابقهما.

 

    في رسالتهم الموجهة إلى البابا هرمزدا عام 517 ، يتهم الرهبان من سورية الجنوبية سويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي بنصب كمين لـ350 راهباً ورئيس دير كانوا مسافرين في مهمة كنيسة إلى دير القديس سمعان العمودي قرب حلب وقتلهم دون شفقة .  فهم يكتبون : لا شك أن قداستكم قد سمعتم من هما هذان الرجلان ومن الذي أطلقهما ضدنا .  إنهما سويريوس وبطرس ، اللذان يشتمان يومياً مجمع خلقيدونية المقدس ، مع أنهما لن يعدّا أبداً في مصاف المسيحيين ، ويهاجمان أبانا لاون بإساءة علنية؛ واطئين بأقدامهما قوانين الآباء القديسين الجليلة ومغفلين حكم الله بجعل الأساقفة يُعَينون بمراسيم إمبراطورية وإجبارنا على الاستهزاء بالمجمع المقدس المذكور آنفاً بإنزال آلام مبرحة لا يمكن وصفها .  ونتيجة لهذه المعاملة  ، لم يقوَ بعض من أفرادنا على تحمل الإساءة فرحلوا عن هذا العالم وفُقدَ عدد لا يُستهان به من المجموعة .  بينما كنا في الطريق إلى دير (ماندرا) سيدنا سمعان في مهمة تخص الكنيسة ، هاجمنا الرجلان المذكوران سويريوس وبطرس ، اللذان لا حياء لهما ، في الطريق وقتلا ثلاثمائة وخمسين منا وجرحا آخرين .  أما الذين تمكنوا من اللجوء إلى المذبح المقدس فقد قُتلوا على الفور وأُحرق الدير .  وطرد هذان الرجلان الهمجيان ذاتهما ليلاً عدداً كبيراً من الرجال المذعورين وممن أعفى عنهم بدفع الفدية بينما قاما بنهب ممتلكات الكنيسة الضئيلة .  سوف تفيدكم بالتفاصيل الرسائلُ التي أرسلت إلى قداستكم بواسطة أخوينا الجليلين يوحنا وسرجيوس اللذين أرسلناهما إلى القسطنطينية آملين الانتقام من الفظائع المرتكبة .  لقد ترفّع الإمبراطور عن الترحيب بهذين المبعوثين كليهما ولو بكلمة ، لا بل ردهما بإهانات وتهديدات وجهت إلى كاتبي الرسائل .

 

ومن هنا ندرك في النهاية أن الأذى الذي ارتكبه هؤلاء الناس الأشرار بحق الكنيسة جاء بتحريض من الإمبراطور (انستاسيوس الاول) نفسه .  لذا نتوسل إليك ، أيها الآب الأقدس ، باكين ومصلين أن تثور بغضب وحق .  ” تسمع صوتي وأنا أعرفها فتتبعني ” (انجيل يوحنا 10 : 1-16) .  لا تحتقرنا أيها الآب القديس ، إذ تنهشنا الوحوش يومياً .  ولاجل المعرفة الاكيدة لملاكك القدوس فإننا ، نحرم بتوسلنا هذا ذاته ، الذي هو بيان بالمعلومات ، كل أولئك الذين انفصلوا وانقطعوا عن شركة الكرسي الرسولي .  نُـشير إلى نسطور الذي كان أسقف القسطنطينية وأوطاخي وديوسقوروس وبطرس الاسكندري الملقب ببالبوس (مونغوس ـ المتلعثم) ، وبطرس الأنطاكي المدعو بالقصار وأكاكيوس (أقاق) الذي كان أسقف القسطنطينية واحد بطاركتهم وكل أولئك الذين يناصرون أية من هذه الهرطقات .

 

    تلي هذه الرسالة تواقيع أكثر من مئتين من رؤساء الأديرة والرهبان والكهنة والشمامسة مسـبوقة جميعاً بتوقيع اسكندر ، رئيس دير مارون ، الذي رأى من المناسب إضافة ” أنا المدعو ، اسكندر ، بنعمة الله ، قسيس وأرشمندريت دير القديس مارو قد وقعت هذا الالتماس ”  .  هناك أيضاً رسالة مؤرخة في 10 شباط  518 ، كتبها على ما يبدو إلى المؤمنين في سورية الجنوبية البابا هرمزدا .  يظهر ان هذه الرسالة الاخيرة خدعت بعض الكتّاب فاعتقدوا أنها كانت جواباً على الرسالة المذكورة أعلاه  .  إلا أن مضمون هذه الرسالة لا يوحي بأن الحال كانت على هذا النحو .

    نجد من قراءة رسالة رهبان ورؤساء دير أفاميا الموجهة إلى مجمع 518 انهم يشتكون من سلوك سويريوس الأنطاكي “الشرير” وأسقفه بطرس الأفامي  قائلين : كنا في طريقنا إلى باجوس فيغولوروم (قرية الفخارين) ، القريبة من معبد الطوباوي سمعان المعترف ، متطلعين إلى السلام والاتحاد في الإحسان والصلاة ، محيطين أنفسنا بما للرهبان من عادات واهتمامات مناسبة .  لا نعلم كيف استحقينا عدواً مثل هذا الشرير سويريوس الذي لم يعرفه المسيحيون ولا قبلوه ولم يرغبوا أن يشتركوا في شركة حقيقية معه .  وإذا كان رأيُ عدو الحق قابلاً للإحترام ، فإن اليهود والرهبان هاجمونا من أماكن عالية وعرةً .  فما كان عسانا ان نفعل ، وكيف كان في مقدورنا أن نقاوم غضب أولئك الذين أرسلوا ضدنا ؟ إذ أنهم قتلوا بعضاً ، واسروا آخرين ، وجردوا البعض عراة وتركوا البعض الآخر في ثياب رثة بشكل مشين حسب رأي اولئك الذين شهدوا ما فعله هؤلاء الناس علناً .

 

    أرسل (سويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي) جيشاً من الرجال الريفيين دخلوا الدير (المفترض بأنه دير القديس سمعان) بعد ان هاجموه وهدموا جزءاً من الجدار في الليل وقتلوا بعض الرهبان وضربوا العديد منهم لا بل هدموا جزءاً كبيراً من الدير وفي غمرة الصراخات المتعالية وضعوا أنصاباً للنصر تنافي التقى .  إلا أنهم رُدوا على أعقابهم أخيراً . والاكثر من هذا فقد اتهم بطرس في هذه الرسالة المطولة بأشكال متنوعة من الأعمال المنافية للاخلاق ، منها استقدام غانيات إلى دير دوروثوس ، وضرب بعض الرهبان ، وحبس آخرين .

 

    تحمل الرسالة الموجهة إلى البابا هرمزدا وتلك الموجهة إلى مجمع 518 معاً توقيع اسكندر ، كاهن دير المبارك مارونيس (مارون) ورئيسه ، يليه سبعة عشر توقيعاً لعدد كبير من الرهبان باللغة السريانية ، إلا أن القائمة ليست ملحقة بالرسالة  .

 

    دعت المشابهة في وصف المجزرة في الرسالتين بعض الكتّاب (مثل أرنست هونيغمان) إلى الافتراض بأن الحدث كان واحداً وأنه جاء نتيجةً لنفس الأسباب التي كتبها نفس الرهبان  .  لكن هذا الافتراض يعتبر صحيحاً لو أن مجزرة كهذه جرت فعلياً في سورية عام 517 .  وليس لدينا من مصدر يورد هذه المجزرة سوى الرسالتين قيد البحث ولهذا كان من اللازم الاصرار على ان أيّ نقد يوجه الى رسالة الرهبان إلى البابا هرمزدا لا بد أن يسري أيضاً على رسالة الرهبان الموجهة إلى مجمع 518 لأن الرسالتين معاً تصفان ظروفاً مماثلة .  بل من الحق أن ينطبق نفس النقد على كل الوثائق التي رفعت بعدئذ إلى المجمع الملتئم في القسطنطينية عام 536 لغايةٍ وحيدة وهي إدانة سويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي ، وغيرهم من آباء الكنيسة المناوئين للمجمع الخلقيدوني.

 

    إذا كان الرهبان الذين وجهوا الرسالة إلى البابا هرمزدا هم نفس الذين وجهوا أيضاً الرسالة إلى مجمع 518 ، فمن المدهش حقاً أنهم لم يذكروا في الرسالة الموجهة إلى المجمع رسالتهم إلى البابا .  بل من المدهش أيضاً أن الـرهبان ، في رسالتهم الموجهة إلى البابا يقولون أن 350 راهباً قُتـلوا ، أما في رسـالتهم الموجهة إلى مجمع 518 فقد تركوا الرقم دون تحديد .  فضلاً عن ذلك ، يقول الرهبان في رسالتهم الموجهة إلى البابا هرمزدا بصراحة بأن كميناً نصب لهم وهم في طريقهم إلى باجوس فيغولوروم (قرية الفخارين) قرب معبد المبارك سمعان المعترف .  لا يذكر هونيغمان هذه القرية لكنه يبيّن بأن الحادثة حصلت قرب (كابرا كيراميون) (قرية الكروم) على بعد عشرين كيلومتراً إلى الجنوب من قلعة سمعان في موقع دير القديس سمعان  .  من الواضح أن القريتين ليستا القرية ذاتها .  والاكثر من ذلك أن الرهبان المتذمرين يقولون في رسالتهم إلى البابا هرمزدا بأنهم أوفدوا أخوين وقورين ، هما يوحنا وسرجيوس ، إلى القسطنطينية لتقديم دعواهم إلى الإمبراطور أناستاسيوس وبأن الإمبراطور احتقر هذين المبعوثين ، بينما لا يذكرون في رسالتهم الموجهة إلى مجمع 518 شيئاً عن مبعوثيهما أو مهماتهما .  فضلاً عن ذلك ، يبدو بأن الرهبان في رسالتهم الموجهة إلى مجمع 518 يعتمدون على رأي الشهود بالنسبة لروايتهم ، بينما يستشف المرء من رسالتهم الأخرى بأنهم كانوا في الموقع عندما حصل الهجوم .  وإليكم روايتهم : ” كيف كان بمقدورنا أن نقاوم غضب أولئك الذين أرسلوا  ضدنا؟ إذ أنهم قتلوا بعضاً وأسروا آخرين ، جردوا البعض عراة وتركوا البعض الآخر في ثياب رثة بشكل مشين بحسب رأي أولئك الذين شهدوا ما فعله هؤلاء الناس علناً ” .

 

    يبدو بأن هذه الرواية تُـشير إلى أن الحادثة التي رواها الرهبان تعتمد على شهود مجهولين ، وهذا ما يلقي ظلاً من الشك على صحتها . ان نقاط الخلاف في رسالة الرهبان إلى البابا هرمزدا ورسالة الرهبان إلى مجمع 518 ليست مجرد إهمال أو اساءة تـفسير لأننا نعلم أن اسكندر كاهن دير مارون ورئيسه قد وقع كلا الرسالتين مما يعني بأنه كان يدرك مضمونهما المتعلق على الأخص بالمجزرة التي نزلت بزملائه .

 

تُعتبر الرسالة التي وجهها رهبان سورية الجنوبية إلى البابا هرمزدا أكثر أهمية من الرسالة الاخرى لأنها موجهة إلى بابا يجله الرهبان ، معتبرين إياه بطريرك العالم بأسره ” والمتبوئ كرسي بطرس ” .  وانها تذكر مقتل 350 راهباً يزعم بأنهم كانوا موارنة .

 

    ومما يدل على عظم هذه الرسالة ايضاً ان الكتّاب الموارنة وغير الموارنة يستشهدون بها اكثر من ايّة وثيقة اخرى لكي يثبتوا بأن البطريرك سويريوس الانطاكي فتك بهؤلاء الرهبان لمعارضته مجمع خلقيدونية . فضلاً عن ذلك ، تعتبر هذه الرسالة الموجهة إلى البابا هرمزدا ذات أهمية قصوى لأنها لا تزوّد الموارنة المعاصرين بما يزعمون بأنه دليل تاريخي لشرعية الوجود الماروني قبل القرن السابع فحسب ، بل تعطي أيضاً الدليل على أن رهبان دير مارون ، الذي يُرجع الموارنة أصلهم إليه ، كانوا ” كاثوليكاً ” معتنقين إيمان كنيسة روما .  إلا أن المشكلة هي أن الرسالة تُـشير إلى إيمان هؤلاء الرهبان في سياق الحديث عن جريمة فظيعة .  اذ يتّهم الرهبان الذين وقّعوا الرسالة سويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي بنصب كمين وقتل 350 راهباً مسالماً منهم وهم في طريقهم الى دير مار سمعان العمودي في مهمة كنيسة .  بل ان الرسالة بأكملها تركز حقاً على هذه المذبحة ، والقضية الاساسية هنا هي انه ما لم تحل مشكلة هوية هؤلاء الثلاثمائة وخمسين راهباً وسبب مقتلهم ، فلن نكون قادرين أبداً على معرفة إيمانهم الصحيح وهويتهم الحقّة ، وبالتالي لن يكون بمقدورنا تبرير مزاعم الموارنة .

 

جاء في الرسالة أن الرهبان كانوا خلقيدونيين وبأن سويريوس الأنطاكي قتلهم لأنه كان عدواً لمجمع خلقيدونية .  ومما يجعل الوضع أكثر سوءاً هو أن الكنائس المارونية والكاثوليكية الرومانية الاخرى بالغت في ضخامة هذه المذبحة المزعومة وذلك بالاحتفال بذكرها في 31 تموز من كل عام ، وهي ممارسة سُنّت لأول مرة في القرن الثامن عشر .  في الحقيقة ان الموارنة لا يعتبرون هؤلاء الرهبان ” شهداء ” فحسب ، بل يعتبرهم كذلك ايضاً كتّاب آخرون ، ليسوا موارنة ، مثل الأب لويس شيخو ، الذي كتب مقالاً بعنوان : شهداء المجمع الخلقيدوني في التاريخ . يستـشهد فيه بقول الأسقف الماروني جرمانوس فرحات (1670ـ1732) ، بشأن هذه الحادثة يقول فرحات :

 

اليوم ، الحادي والثلاثون من تموز ، هو يوم إحياء ذكرى الثلاثمائة وخمسين شهيداً من الرهبان الذين قتلهم سويريوس الأسقف الدخيل ، وتلميذ أوطاخي وديوسقوروس في عهد الإمبراطور الهرطوقي اناستاسيوس لأنهم كانوا من رهبان القديس البار مارون الناسك ، ويتمسكون بإيمان مجمع خلقيدونية المقدس .  وقد حصل هذا عام 517  .

 

    لا يترك الأسقف الماروني جرمانوس فرحات مجالاً للشك بأن هؤلاء الضحايا فتك بهم سويريوس الأنطاكي بسبب تمسكهم بإيمان خلقيدونية ، وبأنهم كانوا ينتمون إلى دير القديس مارون ، وهذا يعنى بأنهم كانوا ” موارنة ” .  إن فرحات على خطأ في ربط سويريوس الأنطاكي وديوسقوروس الاسكندري بأوطاخي الهرطوقي فهذان البطريركان كانا من اتباع عقيدة القديس كيرلس الاسكندري الأرثوذكسية والمتمسكين بها ، لا من اتباع أوطاخي .  وسوف يتم شرح هذه العقيدة بالتفصيل خلال هذا الكتاب .  وليس المطران فرحات وحده من هذا الرأي بل إن الأب هنري لامنس هو أيضاً من ذوي الرأي القائل: ” أن هؤلاء الشهداء كانوا ينتمون إلى دير القديس مارون ”  .  وهنا لا نجد مندوحة من توضيح عدد من الأسئلة قبل أن نستطيع إصدار حكم عادل بشأن هذه الحادثة .  ومن هذه الأسئلة ما هو انتساب هؤلاء الرهبان الى عقيدة دينية ؟ لماذا قتلهم رجال سويريوس الأنطاكي وأسقفه ، وكيف قتلوهم وأين ؟ بما أن الإبلاغ عن الحادثة تمَّ على شكل رسالة ، ما مدى صحتها تاريخياً ؟ ومتى بدأ الكتّاب بالإشارة إليها ؟

 

    اسهب الكتّاب ، منذ عهد البطريرك اسطفان الدويهي وحتى اليوم ، في الرواية عن هذه المجزرة ، ولكي يثبتون صحتها ادعوا بأن الكنائس انقسمت بعد مجمع خلقيدونية451 مباشرة الى فريقين ، احدهما قَبِل هذا المجمع والآخر رفضه .  ففي سورية ، التي كانت آنئذٍ تحت الحكم البيزنطي ، رفضت غالبية كبرى من السكان مجمع خلقيدونية .  وقد تدخل الاباطرة البيزنطيون في النزاع اللاهوتي في الإمبراطورية بيد أن تدخلهم وتحيزهم ألهبا حدّة المشادات الكلامية بين الخلقيدونيين ومناوئيهم بدلاً من تخفيفها .  وعندما ارتقى الإمبراطور اناستاسيوس الأول ( ت 518) العرش في 491 ، آثر الوقوف إلى جانب سويريوس الأنطاكي المناوئ العنيف للخلقيدونية لأنه لم يقبل الإيمان الذي حدده مجمع خلقيدونية .  وبعدئذ ، أصبح سويريوس بطريرك أنطاكية عام 512 ، حيث حل مكان فلافيان الثاني ، الذي كان متذبذباً بين الخلقيدونيين ومناوئيهم .  وبعد ارتقاء سويريوس سدّة البطريركية واجه معارضة بضعة أساقفة من سورية الجنوبية ، خاصة في أفاميا .  وكما يقول مؤرخ القرن السادس ايفاغريوس ، فان المعارضة تصاعدت ضد البطريرك الجديد حالما قام بتسليم الرسائل المجمعية إلى الأساقفة الخاذعين لسلطته  .  ونتيجة لذلك ، قام بعض الأساقفة والكهنة من ذوي الآراء اللاهوتية المختلفة بعزل أنفسهم عن سويريوس .  ويذكر ايفاغريوس من بين هؤلاء قوزما ، أسقف بلدة ابيفانيا ، وهي موطن ايفاغريوس ومدينة حماه حالياً ، كما يذكر ايضاً سيفيريان ، أسقف اريتوزا (ارتاح) وابيفانيوس الصوري وأساقفة وكهنة آخرين عارضوا سويريوس ، (على سبيل المثال جوليان ، أسقف بصرى وبطرس أسقف دمشق) اللذين أجبرا على التخلي عن كنائسهما .  بالاضافة الى ذلك فصل العديدُ من القساوسةِ من أفاميا أنفسـهم أيضاً عن شـركة سويريوس

 

    يقول ايفاغريوس ، متتبعاً تقدم هذه الأحداث ، بأن الإمبراطور اناستاسيوس عندما علم بأن قوزما وسيفيريان كانا قد أرسلا رسائل بعزل سويريوس ، امر اشياتيكوس ، وهو قائد في فينيقية ، لبنان ، بطرد هذين الأسقفين ، من كرسيهما .

    عندما وصل اشياتيكوس إلى الشرق (سورية) وجد بأنه كان للأسقفين العديد من الأنصار ، وخاصة في المدن الواقعة تحت ولايتهما ، وأدرك انه لم يكن في استطاعته عزلهما دون إراقة دماء .  يقول ايفاغريوس ، بأن أناستاسيوس كان إنساناً عظيماً يعمل لخير الإنسانية .  ولذلك كتب إلى اشياتيكوس يعلمه بعدم رغبته في تحقيق أي هدف ، مهما كان هاما ً ، باراقة قطرة دم واحدةٍ  .  نعلم أيضاً من رسالة سويريوس إلى كبير الأطباء تيوتيكنوس ، بأن الإمبراطور ورئيس الدواوين كانا قد كتبا إليه ليلغي عزل من يسميهما البطريرك ” الذين لا يستحقون ان يسموا اساقفة ” في سورية الجنوبية .  يجيب سويريوس الامبراطور قائلاً: ” بما أن هذا ما يسرك ، فإن غاية القوانين الكنسية هي قبولهما ، إن هما أعلنا التوبة بشكل قانوني بشرط أن يجتمع كل الأسـاقفة الذين عزلوهما معاً وأن يقرروا قبولهما قانـونياً ”  .  إن ما يقوله سويريوس في الواقع هو أن هذين الأسقفين العاصيين قد عُزلا من قِـبَـل مجمع أساقفة ، وبأنه ، وفقاً لقوانين الكنيسة ، لا مجال لإعادتهما إلى منصبيهما دون مجمع أساقفة .  هذا ما يُـشير بوضوح إلى أن سويريوس لم يتصرف بشكل تعسفي وبمفرده في عزل الأسقفين .  أما فيما إذا كان الموقف المتسامح للبلاط الإمبراطوري قد شجع على صفاقة الأسقفين المتمردين ، كما يقول إرنست هونيغمان ، فهو أمر لا أهمية له  .  إن المهم هو فيما إذا كان سويريوس قد أصيب بالخيبة وبذلك فقد إدراكه فنصب مع بطرس ، أسقف أفاميا ، كميناً للرهبان وهم في طريقهم إلى دير القديس سمعان العمودي .  ان هونيغمان الذي سرد مطولاً خلفية التوتر بين سويريوس والأساقفة المعارضين له لا يذكر عنفاً أو جريمة من أي نوع كان ، بل هو يعتمد ، كما تفعل هذه الدراسة على رواية ايفاغريوس ، التي لا تـفيد بوجود عنف أو سفك دماء .  فما هو المصدر الذي يروي أحداث المذبحة المزعومة التي دبرها سويريوس الانطاكي وبطرس الأفامي وذهب ضحيتها 350 راهباً ؟ يعلن هونيغمان عن هذا الحادث حين يقول :

تُعرف الأحداث التي تلت بشكل أساسي من خلال قرارات مجمع القسطنطينية الذي عُـقد في عهد البطريرك مينا عام 536 ، إذ أنها كانت الوحيدة ، بين ما قدم من نبذات إلى مجمع  518 ، التي حفظت وجرى ذكرها بعد ثمانية عشر عاماً في المجمع .  لم يكن المؤلفون الذين قاموا بجمع هذه الوثائق عام 536 حريصين على وضع ترتيب زمني واضح متشدد للأحداث .  فقد أوردوا بأسلوب عشوائي الأعمال الشائنة لبطرس (أسقف أفاميا) ؛ وارتضوا بتلميحات بسيطة فقط .  هناك وثيقة أخرى يمكن للمرء أن يرجع تاريخها ، بشيء من الاحتمال ، إلى خريف عام 517 وهي رسالة وجهها رؤساء أديرة سورية الجنوبية ورهبانها إلى البابا هرمزدا.

 

    يقول هونيغمان أيضاً بأن هذه الحادثة حصلت قرب قرية كفر كرمين (كابرا كيراميون) ، على بعد عشرين كيلومتراً إلى الجنوب من قلعة سمعان في موقع دير القديس سمعان ( بينما تبيِّن الرسالة الموجهة إلى مجمع 518 بوضوح أن المكان كان قرية الفخارين .  إن ما يقوله هونيغمان هو أن الظروف التي أدت إلى قتل 350 راهباً معروفة من مصدرين ، احدهما الرسائل المقدمة من سورية الجنوبية إلى مجمع الأساقفة عام 518وما يجول في ذهنه هنا هو رسالة الرهبان من سورية الجنوبية إلى البابا هرمزدا ، والآخر هو معارضة كهنة سورية الجنوبية ، الذين كانوا خلقيدونيين ، لسلطة سويريوس المناوئ لمجمع خلقيدونية ورفضهم الموافقة على إيمانه.

 

    قام كاتب معاصر آخر ، هو و . هـ . س فرند ، أيضاً بمناقشة معارضة أساقفة سورية الجنوبية لسلطة سويريوس الأنطاكي ، لكنه ، على خلاف هونيغمان ، يعطي الانطباع بأن ” سورية الثانية (الجنوبية) كانت ، فيما عدا بضعة مراكز منعزلة ولكنها هامة ، مثل أفاميا ، متحدة ضده”  .  ولكن االذي يبدو من اقوال ايفاغريوس ، اذا فهمناه بشكل صحيح ، أن بضعة أساقفة وقساوسة فقط في سورية الجنوبية كانوا يعارضون سلطة سويريوس ، بينما وقف السواد الأعظم من الأساقفة في سورية معه .  ويمضي فرند ، على غرار الكتّاب الآخرين بالاستشهاد بالرسالة الموجهة إلى هرمزدا ، وفيها يتهم رهبان سورية الجنوبية سويريوس بقتل 350 منهم ، إلا أن فرند لا يقوم بأية محاولة لإثبات مضمونها أو صحتها.

 

    من الواضح إذاً أن المصادر الخاصة بمقتل هؤلاء الرهبان هي الرسالة الموجهة إلى البابا هرمزدا والرسالة الموجهة إلى المجمع المنعقد عام 518 .  وقد لاحظنا نقاط الخلاف بين الرسالتين وأشرنا إلى تعرضهما للانتقاد .  بوسعنا أن نضيف هنا أنه إذا كانت مجموعتان من الرهبان قد كتبتا الرسالتين ووقعتاهما ، فإنه من المحتمل إلى حدٍّ كبير ، على ما يبدو ، أن تكون الرسالتان تنقلان حادثـتين مختلفتين عن رهبان قتلوا بتحريض مزعوم من سويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي ، إحداهما تذكر 350 راهباً ، والأخرى عدداً غير محدد من الرهبان .  إن المراد قوله هو أن المسألة برمتها التي تـنطوي على مقتل رهبان تـفتقر إلى برهان تاريخي مقنع .

 

    يبرز هنا سؤال يحتاج الى توضيح ، عن مصدر رسالة الرهبان من سورية الجنوبية إلى البابا هرمزدا .  من المدهش حقاً ان رسالة الرهبان المقدمة إلى مجمع 518 ظهرت لأول مرة في مجمع القسطنطينية عام 536 ، اي بعد ثمانية عشر عاماً من تاريخ ارسالها بالرغم من عدم وجود دليل على أن أعضاء هذا المجمع قد تمعنوا بها .  كما انه ليس لدينا أي دليل بأن رسالة الرهبان إلى البابا هرمزدا كانت قد رُفعت إلى مجمع القسطنطينية عام 536 ، أوحتى إلى أي مجمع آخـر بخصوص هذه المسألة ، لا بل لم تُقدم إلى المجمع المنعقد عام 518 ذاته لإدانة سويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي .  والاكثر من ذلك ، فان محرري الساكروسانكتا كونسيليا (مجموعة المجامع المقدسة باريس 1671) ، فيليب لابي وغبرييل كوسارتي لم يدرجا هذه الرسالة بين الوثائق المقدمة إلى مجمع القسطنطينية  ، بل ادخلاها في القسم المحرر عن حياة البابا هرمزدا في المجلد الرابع من مجموعتهما مع تذييل لسيفيرنيوس بينيوس ،  الذي كان أول من حرر مخطوطة قرارات مجمع القسطنطينية التي اكتشفت عام 1618  .  يُعلن بينيوس قائلاً بأنه ” في هذا الوقت حصلت تلك الأشياء التي يكتبها أمين المكتبة اناستاسيوس عن حياة هرمزدا بهذه العبارات : “كذلك ، وللمرة الثانية أرسل (هرمزدا) اينوديوس ، الخ” .  لا يشرح بينيوس ما هي ”  تلك الأشياء ” ، لكنه يتابع قائلاً : ” ما أن حصلت هذه الأشياء ، حتى قام سويريوس الأنطاكي وآخرون ممن لا رئيس لهم بالفتك بالشعب الأرثوذكسي وإيذائه كما تظهر الرسالة التالية (الموجهة من الرهبان إلى البابا هرمزدا) ”  .  من الواضح ان ما يقوله بينيوس لا يفيدنا شيئاً لأنه لا يقدم أية معلومات حول هذه الرسالة ومصدرها أو المخطوطة التي وجدها فيها .  وبما أن بينيوس ومحرري الساكروسانكتا كونسيليا لا يقدّمون دليلاً يدعم وجود رسالة الرهبان إلى البابا هرمزدا ، فلا بديل لدينا إلا ان ننتهي الى الرأي بأن هذه الرسالة عديمة الأساس التاريخي .  ومع ذلك فان محرري الساكروسانكتا كونسيليا يدرجان في قرارات مجمع القسطنطينية 536 رسالة وجهها البابا هرمزدا إلى الأساقفة ورؤساء الأديرة وكهنة آخرين في سورية الجنوبية ، مع ملاحظة هامشية تُـشير إلى أن هذه الرسالة تظهر كالرسالة رقم 21 في مخطوطة قديمة من مخطوطات الفاتيكان اجرى استنساخها في روما عام 1591 ، ولكنهما لايعلنان هوية المخطوطة أو محررها  .  مما حدا ببعض الكتّاب إلى الافتراض بأنها كانت رداً على الرسالة الموجهة من الرهبان في سورية الجنوبية إلى البابا هرمزدا (28) ، ولذا الافتراض يفتقر الى دليل تاريخي .  وسوف نرى بعدئذ بأن رسالة البابا هرمزدا هذه لا علاقة لها بالظروف التي تـنطوي عليها الرسالة التي كتبها الرهبان من سورية الجنوبية إلى البابا .

 

    لقد أظهرنا حتى الآن أن الاتهامات الموجهة الى سويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي ، واخصّها تهمة قتل 350 راهباً ، تستند بشكل رئيسي الى الرسالتين اللتين تمت مناقشتهما بينما اثيرت رسالة الرهبان من أفاميا الموجهة إلى مجمع 518 في مجمع القسطنطينية في عام 536 ، اي بعد ثمانية عشر عاماً من كتابتها كما يُزعم .  والحقيقة هي ان رسالة الرهبان من سورية الجنوبية إلى البابا هرمزدا لم تُرفع الى هذا المجمع  او اي مجمع آخر سابق .  بل إن أول مرة ظهرت فيه هذه  الرسالة هو في ساكروسانكتا كونسيليا (مجموعة المجامع المقدسة) ، التي نشرت لأول مرة عام 1671  .  وما عدا ذلك فلا يوجد دليل خارجي يثبت صحة هذه الرسالة .

 

    أن قضية الرسالة المرفوعة إلى مجمع 518 مختلفة لاسيما وأنها ظهرت في قرارات مجمع القسطنطينية عام 536 مع وثائق أخرى لإدانة سويريوس الأنطاكي وغيره من آباء الكنيسة المناوئين لمجمع خلقيدونية .  لذا نجد من المناسب معرفة غرض هذا المجمع وطبيعته لكي يمكن إثبات مدى صحة الاتهامات الموجهة الى الآباء المناوئين لمجمع خلقيدونية وبالتالي اثبات لا على صحة هذه الرسالة وحسب ، بل على صحة رسائل أخرى أيضاً وخاصة رسالة الرهبان إلى البابا هرمزدا .  وإذا تمّ لنا معرفة ذلك سيصبح من السهولة بيان صحة الادعاءات التي يستند اليها الموارنة واخصّها تواقيع بعض رؤساء الأديرة التي تذيل هذه الرسائل .

 

    عقد المجمع في أيار وحزيران من عام 536 ، وانتج قرارات عديدة شاملة .  وأول من حرر هذه القرارات هو سيفيرينوس بينيوس عام 1618 ، وفق مخطوطة موجودة الآن في مكتبة هايدلبرغ ويقول المؤرخ الالماني الكاثوليكي شارل جوزيف هيفيلي بان هذه المخطوطة ناقصة في مواضع عديدة و” خاطئة ومتـنافرة ” في مواضع أخرى .  ويضيف هيفيلي قائلاً بأن العلاّمة اليسوعي فرونتون لي دو اكتشف نصاً أفضل بكثير عام 1618 ، لكن هذا النص أيضاً ” ترك قدراً كبيراً ليلتقطه لابي وهو أحد أعضـاء رهبنته ونحن مدينون بالنص الحالي لاجتهاد هذا الأخير ” .

 

    ان مصدر الرسالة قيد البحث إذاً يتألف من فهرسين اكتشفا في أوروبا عام 1618 أحدهما ناقص في العديد من المواضع ومتـنافر في بعضها الآخر .  وقد قام فيليب لابي ، وهو كاتب يسوعي من القرن السابع عشر ، وبناء على اجتهاده الخاص ، بتناول النص الآخر ، مقتطفاً منه ما رآه مناسباً .  ومحصّل القول فان المصدرُ الأصلي ، للمعلومات المتعلقة بالمذبحة ـ وهو المصدر الذي اعتمد عليه كل من كتبوا حول الموضوع ـ يعتبر موضعَ شكٍ إلى حدٍّ كبير.

 

    لقد أظهرنا فيما سبق مدى تجريح الرسـالة المقدمة إلى مجمع 518 .  بل ان هذا التجريح سيكون اكثر ضراوة لو وضعنا أحداث هذا المجمع وقرارات مجمع القسطنطينية لعام 536 في نصابها التاريخي الصحيح .  ولأجل القيام بذلك كان من الضروري التحري باقتضاب عن الأحداث التي جرت في مطلع مجمع خلقيدونية . ان تعريف الإيمان الذي اجترحه مجمع خلقيدونية عام 451  كان مبنياً على طومس البابا لاون الأول .  وقد خلق هذا التعريف المزيدَ من الشقاق وسوء النية والتنافر في الكنيسة .  ومما زاد من حدة هذا الشقاق أن الأباطرة البيزنطيين والدولة البيزنطية تدخلوا في هذه القضية اللاهوتية المتفجرة إلى حد كبير .  ففي عام 482 أصدر الإمبراطور زينون الهينوتيكون (قرار التوحيد) محاولةً منه في مصالحة الخلقيدونيين مع اللاخلقيدونيين .  ومع أن الهينوتيكون لم يدن صراحة مجمع خلقيدونية ، إلا أنه في فحواه كان مناهضاً الإيمان الذي حدده ذلك المجمع .  ولما كان الهينوتيكون قد طُرح ونُشر بناء على أمر أكاكيوس (اقاق) ، بطريرك القسطنطينية ، فقد خلَّف صدعاً بين كنائس روما والقسطنطينية .  وبالرغم من ان بعض الآباء المصريين لم يرضهم الهينوتيكون تماماً  ، لأنه لم يحتوي على إدانة صريحة لمجمع خلقيدونية إلا أن غالبية الآباء الذين رفضوا صيغة الإيمان التي حددها مجمع خلقيدونية قبلوه على أنه يضم الإيمان الأرثوذكسي الصحيح  .  وفي عام 491 توفي زينون وفي 10 نيسان من ذلك العام ارتقى أنستاسيوس الاول العـرش .  كان أنستاسيوس مناوئاً لمجمع خلقيدونية ومتعاطفاً مع آبـاء الكنيسـة الذين رفضوا المجمع  .  إلا أن وضع المناوئين لمجمع خلقيدونية ساء جداً عندما خلف يوسطين الأول انستاسيوس على العرش عام 518 .  كان الإمبراطور الجديد لاتينياً ومؤمناً عنيداً بمجمع خلقيدونية .  كان أمياً ومن المـرجَّح انه لم تكن لديه معـرفة صحيحة بقضايا زمانه اللاهوتية المعقدة  .  واعتقاداً منه بأن وحدة الإمبراطورية كانت تعتمد على وحدة الكنائس ، قرر يوسطين أن يجعل من تعريف مجمع خلقيدونية للإيمان إيمان الإمبراطورية جمعاء .  ولتحقيق هذه الغاية قام بشن أعنف اضطهاد ضد الذين رفضوا مجمع خلقيدونية .  وكان أحد ضحاياه سويريوس ، بطريرك أنطاكية الذي بارح كرسيه عام 518 بعد ان هدده يوسطين بقطع لسانه ، وذهب للعيش في مصر ، واستمر هناك في إدارة ذلك الجزء من كنيسة أنطاكية التي ظلت مخلصة له حتى وفاته عام 538 .

 

    وما أن أرغم سويريوس على مبارحة كرسيه ، حتى بدأ اعداؤه ، بتشجيع إمبراطور مليء بالحقد ، بصب جام غضبهم عليه وعلى اعوانه بقصد تحطيمهم وتحطيم كنيستهم .  وفي عام 518 التأم عدداً من المجالس والمجامع الكنسية في سورية والقسـطنطينية لإدانة آباء الكنيسة المناوئين لمجمع خلقيدونية ، وخاصة سويريوس الأنطاكي ، بطرس الأفامي ، انتيموس ، وبطريرك القسطنطينية والناسك زعورا .  وكان أحد هذه المجامع مجمعاً محلياً عُقد في صور في 16 أيلول ، عام 518 .  كما عقد أسـاقفة من سورية الجنوبية مجمعاً آخر برئاسـة الأسـقف قورش مريمنا عام 518  .  كتب هؤلاء الأساقفة رسالة إلى يوحنا الثاني الكابدوكي ، بطريرك القسطنطينية مخاطبين إياه على أنه ” البطريرك المسكوني ” ومعبرين عن فرحهم بأن إمبراطوراً أرثودكسياً تسلم مقاليد الحكم .  كما أنهم يعلنون في هذه الرسالة عن تأييدهم للمجمع الذي كان البطريرك يوحنا قد عقده في القسطنطينية في نفس العام 518 ، ويدينون سويريوس الأنطاكي وشركاءه .  وقد أرفق الأساقفة رسالتهم الموجهة إلى البطريرك برسالة أخرى كانوا قد تلقوها من بعض الأساقفة من مقاطعة أفاميا يتهمون فيها الأساقفة سويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي بقتل رهبان لكن دون تحديد عددهم .  وهذه هي الرسالة التي أطلقنا عليها رسالة الرهبان إلى مجمع 518 (37) .  كم البطريرك يوحنا الكابادوكي المذكور آنفا دعا الى عقد مجمع ثالث في القسطنطينية في 20 تموز  518 ، وضم ثلاثة وأربعين أو أربعة وأربعين أسقفاً ( كان مجمعاً هاماً لأنه التأم في العاصمة ولأن المجمع الذي انعقد في سورية الجنوبية قدم اليه وثائق من ضمنها رسالة الأساقفة من أفاميا التي تتهم سويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي بقتل الرهبان .  إلا أنه من الغريب ألا يحضر يوحنا الثاني الكابادوكي ، بطريرك القسطنطينية هذا المجمع الذي كان هو قد دعا إلى انعقاده ، لكنه وجه إليه رسالة فقط .  كان يوحنا انتهازيا ً ، ففي عهد الإمبراطور انستاسيوس أوحى لسويريوس الأنطاكي الانطباع بأنه كان ، كما يكتب سويريوس في إحدى رسائله ، ” يميل إلى الآراء الصائبة ويحمل بعض الآمال المرضية للأرثوذكس ” ، لكنه ظهر بعدئذ بأنه رجل عديم الضمير بل أكثر رغبة ، على حد تعبير سويريوس الأنطاكي في تبني موقف متوسط خـادع محتذياُ خطة سـلفه طيمثاوس في رسـائله المجمعية ” .  ومهما تكن المبررات التي اوردها سويريوس الأنطاكي دفاعاُ عن نفسه فقد اشمئز منه أعضاء مجمع عام 518  .  ولكن ما يضفي على غاية هذا المجمع الكثير من الشك هو أن يوحنا ، بطريرك القسطنطينية ، لم يحضر هذا المجمع الذي هو نفسه دعا الى انعقاده وانه هو نفسه قام بإدانة سويريوس الأنطاكي حماية لمنصبه .

 

    فضلاً عن ذلك فان مناقشة قرارات مجمع 518 لم تتم حتى عام 536 عندما التأم مجمع مماثل لإدانة سويريوس الأنطاكي نفسه  .  من الغريب جداً أن تكون الوثائق المقدمة إلى مجمع 536 ومن ضمنها الرسالة التي وجهها الرهبان من أفاميا (بمن فيهم اسكندر ، الذي ينصّب نفسه رئيساً لدير مارون) إلى مجمع الأساقفة الذي اجتمع في سورية الجنوبية في عام 518 قد بعثت إلى النور فقط بعد ثمانية عشر عاماً في المجمع المنعقد عام536  .  بل من الغـرابة بمكان أن الجرائم المنكرة المنسوبة إلى سويريوس الأنطاكي قد فاتت انتباه الناس والكهنة خلال هذه السنوات .  إذ لا دليل هناك على وجود شكوى قدمت ضد سويريوس الأنطاكي سوى رسالتين إحداهما موجهة إلى مجمع 518؛ والأخرى إلى البابا هرمزدا والتي لم يكن المجمع المنعقد عام 536 على معرفة بها .  فطالما أن الدليل الذي يستـشهد به الموارنة المعاصرون يرقى في تاريخه إلى هذا المجمع ، فمن الضروري معرفة ظروف المجمع ومجرياته والادلة المقدمة إليه ، وخاصة الرسائل التي يستخدمها الموارنة للدفاع عن تمسكهم بالإيمان الخلقيدوني وهذا ما يحتاج الى شيء من الايضاح.

 

    عندما صار يوسطنيان الأول إمبراطوراً عام 527 ، اهتم ، على غرار خاله يوسطين قبله  ، بمصالحة الخلقيدونيين مع معارضيهم لتحقيق السلام والوئام في الإمبراطورية .  كان يوسطنيان كخاله خلقيدونياً لكن زوجته ثيودورة كانت متمسكة بعقيدة الطبيعة الواحدة ومناوئة لمجمع خلقيدونية ودعمت آباء الكنيسة المناوئين لمجمع خلقيدونية ، ومنهم سويريوس الأنطاكي .  كانت تيودورة هي التي أقنعت الإمبراطور بدعوة سويريوس إلى العاصمة لمناقشة اتحاد الكنيستين   .  وبذلك كتب يوسطنيان إليه العديد من الرسائل  ، إلا أن سويريوس أحجم عن السفر إلى القسطنطينية  .  وفي رسالة سجلها زكريا أسقف مدللي توسل البطريرك المسن إلى الإمبراطور أن يتركه وشأنه ، لأنه أضحى عجوزاً ضعيفاً يتمنى قضاء بقية أيامه في سلام .  وبالرغم من أن الإمبراطور كان قد وعده بحصانة تامة من أعدائه إلا أن سويريوس لم يجد معنى لرحيله إلى العاصمة .  ولذلك كتب الى الامبراطور بأنه يخشى إن هو ظهر في العاصمة ” فسوف يستـفز وجوده غضب العديد من الناس ويحتدم غضبهم بسبب هذا القلق التافه كما لو الهبته جذوة ، بحيث يزعج هذا الأمر حتى عظمتك أنت ويغضبك نظراً لعاطفتك نحوي ”  .  لكن الإمبراطور اصرّ على مجيء سويريوس إلى العاصمة ، وأخيراً اذعن سويريوس المسن نزولاً لتوسلات الإمبراطور ، ووصل القسطنطينية في وقت ما عام 535 .  وحلّ في القصر الإمبراطوري ضيفاً على الإمبراطور حتى آذار من عام 536 .

 

    وكما تـنبأ سويريوس ، فإنه لم يكد يصل إلى القسطنطينية حتى بدأ الأساقفة الخلقيدونيون بالهيجان ضده .  اما الشخص الذي إثار هذا الهيجان هو أفرام الآمدي ، بطريرك أنطاكية الخلقيدوني السيء السمعة الذي كان شديد الاضطهاد لمناوئي مجمع خلقيدونية  .  كانت لدى أفرام كل الأسباب التي تدعوه إلى التخوف من تطور الأحداث في العاصمة والتي قد تهدد منصبه البطريركي بصورة جدّية .  كان ابيفانيوس ، بطريرك القسطنطينية الخلقيدوني قد توفي وخلفه انتيموس ، أسقف طرابزون ، وهو رجل تقي ذو شخصية عالية المناقب  ، استماله سويريوس بما لديه من إقناع الى جانبه ، حتى انه رفض مجمع خلقيدونية علناً متقبلاً صيغة طبيعة واحدة متجسدة للوغوس الإلهي لتكون عقيدته  .  وفي غضون هذا الوقت ، كان ثيودوسيوس ، وهو رجل علاّمة وتقي قد أضحى بابا الاسكندرية الجديد .  وكان ثيودوسيوس أيضاً صديقاً لسويريوس متمسكاً بنفس عقيدة سويريوس .  ربما خشي  أفـرام من احتمال ان يكسب هذا “المثلث” الكنسي القوي (سويريوس ، انتيموس ، وثيودوسيوس) الإمبراطور إلى جانبهم ، وخاصة ان الإمبراطورة ثيودورة كانت تؤيدهم وتؤيد صيغة إيمانهم .  وبعد أن وجد  أفرام نفسه وحيداً في الحلبة ، لم يتطلع إلى أي مؤيد عادي بل نحو مؤيد قوي لمساعدته في تدعيم مركزه والحؤول دون وقوع أية كارثة مقبلة به وبكرسيه .  تطلّع وهو في غمرة هذه الورطة إلى كنيسة روما ، التي كانت تـشترك معه في إيمان خلقيدونية ، فخطط لدعوة البابا أغابيتس (535ـ536) للمجئ إلى القسطنطينية  .  وعمد لتنفيذ خطته بإيفاد سرجيوس الراسعيني (رأس العين حالياً) ، وهو علاّمة ذو شخصية أخلاقية مريبة ومن معتنقي مذهب الطبيعة الواحدة ، مع أنه كان متعاطفاً مع الخلقيدونيين ، مبعوثاً له إلى اغابيتس .  وصل سرجيوس روما وسلَّم رسالة  أفرام إلى اغابيتس ، إلا أننا نجهل مضمون الرسالة .  واكبر الظن انها كانت تحتوي على شرح للوضع في العاصمة وتستغيث بالبابا للمسارعة إلى القسطنطينية لإنقاذ الوضع .  هذا ما يؤكده استجابة اغابيتس الفورية الذي وصل إلى القسطنطينية في آذار من عام 536 .  وبالرجوع الى رواية زكريا أسقف مدللي (متيلين) يمكننا ان نقرر بان هذا هو السبب الرئيس الذي دفع باغابيتس لزيارة القسطنطينية  .  ولكن المؤرخ الالماني الكاثوليكي شارل هيفيلي يرى أن ثيوداتوس ملك القوط الشرقي هو الذي اوفد اغابيتس الى القسطنطينية لبحث شؤون سياسية مع الإمبراطور .

 

    إن وصول اغابيتس الى العاصمة بدَّل الوضع فيها بشكل بالغ الأثر ، لأن المرجح أنه استطاع ان يقنع الامبراطور المتردد بأن يختار بين خسارة تأييد الكنيسة الغربية بأجمعها له وبين محازبته أعداء مجمع خلقيدونية في الشرق .  كان مرد هذا إلى الحقيقة وهي أن اغابيتس كان يتكلم اللغة (اللاتينية) التي يتكلمها الإمبراطور وأنه كان الكاهن الأعلى في إيطاليا ، التي كان الإمبراطور قد احتلها ووضعها تحت سيطرته  .  ومما لا شك فيه أن اغابيتس وجد من السهولة بمكان التأثير على الإمبراطور واستمالته إلى جانبه .  كما انه رفض الشركة مع سويريوس الأنطاكي وانتيموس ، داعياً أحدهما بالفاسق والآخر بالأوطاخي بالطبع بغير حق ، وبذلك نجح اغابيتس في ” تحويل محبة الملك (الإمبراطور) نحوهما ومعاداتهما وتحريضه على طردهما من المدينة ” ( فما كان من يوسطنيان الاّ ان أقال انتيموس وعيَّن مكانه مينا ، الذي أصبح بطريرك القسطنطينية في 13 آذار 536  .  وذهب اغابيتس ، تغمره النشوة بالنصر على أعدائه أبعد من ذلك بتحريضه الإمبراطور على اعتقال سويريوس الأنطاكي وانتيموس وزعورا ، وهو ناسك سرياني ومناويءٍ صلد للخلقيدونية .  بيد أن الإمبراطور لم يفعل ذلك لانه كان قد أعطى الأمان لضيوفه .  واخيراً انتهت مناورة اغابيتس بموته المفاجئ في آذار عام  536 (52) .  ومن توّه سويريوس إلى مصر لكنه ظل يتبادل الرسائل فيما يتعلق بالإيمان مع انتيموس وتيودوسيوس حتى وفاته في 8 شباط 538 .