الملكيون والموارنة والمجمع السادس

Posted by on Aug 16, 2012 in Library, الموارنة في التاريخ - الدكتور متي موسى, الموارنة في التاريخ -2 | Comments Off on الملكيون والموارنة والمجمع السادس

13

    يشرح التلمحري، بوضوح، انه لم يكن في سورية، منذ عام 629 عندما فرض هرقل المونوثيلية كعقيدة جديدة، وحتى عهد الإمبراطور قسطنطين الرابع بوغوناتس، ذو اللحية (668ـ685) أحد قد ناقش أو حتى أقرَّ بأن الإيمان بطبيعتين في المسيح اقتضى أيضاً الاعتراف بمشيئتين فيه. فالملكيون الخلقيدونيون والموارنة الخلقيدونيون كانوا يعتمدون العقيدة التي تنص بأن طبيعتي المسيح اتحدتا في شخص واحد ومشيئة واحدة وفعل إرادي واحد. باختصار، كانت هاتان الجماعتان مونوثيليتين، وكان اعتـناقهما لإيمان خلقيدونية هو الاختلاف اللاهوتي الرئيسي الوحيد بينهما وبين غالبية السـريان الذين رفضوا ذلك الإيمان. ومع ذلك فان الجماعتين عاشتا في انسجام لأنهما كانتا ملتزمتين بنفس الإيمان. ويذكر التلمحري أن المشاكل حصلت بينهما عام 727 حول إدخال عقيدة المشيئتين في المسيح، والتي يسميها التلمحري بـ ” هرطقة  مكسيموس “، لأن مكسيموس كان قد استمات أكثر من أي واحدٍ آخر، في الدفاع عنها. ونحن نعلم أن المجمع السادس الذي انعقد عام 680 برئاسة الإمبراطور قسطنطين بوغوناتس قد تبنى هذه العقيدة وجعلها بنداً من بنود الإيمان. وفي هذا المجمع نفسه أدينت عقيدة المونوثيلية وجرت حرومات الذين أُدانوا ومنهم على الاخص مينا بطريرك القسطنطينية، والبابا فيجيليوس والبابا هونوريوس . هذا ما يؤكد قول ابن العبري بأن البيزنطيين كانوا يعترفون حتى زمن مكسيموس وثيودور الحرّاني ويوحنا الدمشقي بعقيدة المشيئة الواحدة في المسيح. وكما يقول التلمحري فانه لم يجر نشر العقيدة الجديدة اي عقيدة المشيئتين في المسيح والتي جُعلت عقيدة رسمية في البلاد البيزنطية نفسها (آسيا الوسطى)، في سورية عن طريق البعثات التبشيرية البيزنطية بل عن طريق الأسرى البيزنطيين والاهالي الذين قام العرب بترحيلهم إلى سورية. وربما كانت الحرب التي دارت بين العرب والبيزنطيين هي التي اقتلعت هؤلاء الأسرى البيزنطيين من ديارهم فتوجهوا أخيراً نحو سورية. لم يكن القادمون خلقيدونيين فقط بل يدينون بعقيدة المشيئتين في المسيح، والتي كان السريان يعتبرونها بدعة. ولدى انتـشار هذه العقيدة الجديدة في سائر أنحاء سورية، اعتـنقها غالبية سكان المدن (دمشق وحلب وحمص على سبيل المثال) والعديد من الأساقفة والشخصيات. وكان أحد هذه الشخصيات سرجيوس ابن منصور، الذي أجبر السريان على قبول هذه العقيدة. لكن السريان الذين خضعوا لإكراه إبن منصور لم يكونوا ملكيين خلقيدونيين ولم يتلوا أبداً التقديسات الثلاث مع عبارة يا من صُلبت لأجلنا؛ بل كانوا تلامذة رهبان دير مارون الذين تلوا التقديسات الثلاث مع هذه العبارة والذين تبنوا المونوثيلية في زمن هرقل. كان بعضهم أيضاً، سرياناً مناوئين للخلقيدونية ينتمون إلى كنيسة البطريرك ديونيسيوس التلمحري وكانوا يتمسكون بعقيدة الطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي. والذي يبدو من رواية التلمحري أن الكراسي الخلقيدونية في أورشليم وأنطاكية والرها بالإضافة إلى بعض المدن الصغرى في سورية قد اعتنقت ما بين عامي 680ـ727 عقيدة المشيئتين في المسيح.

 

    النقطة الأساسية في رواية التلمحري هي أن رهبان بيث مارون (دير مارون) وأساقفته وبعض الناس الآخرين رفضوا هذه العقيدة. ولا بد أنهم فعلوا ذلك لأنهم كانوا أصلاً مونوثيليين، لكونهم تشبثوا بعقيدة المشيئة الواحدة في المسيح منذ زمن هرقل ؛ يُـضيف التلمحري بأن إدخال عقيدة المشيئتين في المسيح ونشرها في سورية احدثت نزاعات ومشادات كلامية بين الملكيين الخلقيدونيين والموارنة الذين كانوا أيضاً خلقيدونيين. ولم يكن الخلاف حول العقيدة الخلقيدونية فحسب بل شمل ايضاً طبيعتي المسيح واتحادهما او انهما بقيتا منفصلتين بعد الاتحاد في مشيئة واحدة. ويورد التلمحري الاتهامات اللاهوتية التي اجترحتها الجماعتان شارحاً بذلك العقيدة التي اعتمدها الرهبان الموارنة وتلامذتهم. يقول التلمحري أن الموارنة، أو كما يدعوهم “تلامذة مارون” شتموا أتباع مكسيموس واتهموهم بعدم الاعتراف بأن المسيح هو الله او انه وُلد من العذراء او انه صُلب وتألم بالجسـد؛ بل كان إنسـاناً بسـيطاً واقنـوماً “Qnumo” خاصاً (وهي كلمة سريانية معناها شخص)؛ مستقلاً عن الله، وهو والآب كيانان منفصلان ولهذا السبب خشي الموت وطلب من الآب أن يُبعد عنه كأس الموت قائلاً ” لتكن لا إرادتي، بل إرادتك “، كما لو أنه هناك مشيئتان، واحدة للآب وأخرى للابن. اما الموارنة فقد اتهموا بدورهم تلامذة مكسيموس لاعتقادهم بأن مشيئتي المسيح لم تكونا مختلفتين فحسب بل متناقضتين تناهض احداهما الأخرى. والذي يريد الرهبان الموارنة قوله هو انه بعد تجسد الله الكلمة لا يمكن الاعتراف الا بمشيئة واحدة فقط في المسيح. هذا ما يدعو إلى الذاكرة جدل القديس كيرلس الاسكندري مع تعليم المدرسة الأنطاكية اللاهوتي بأجمعه (وخاصة تعليم ثيودور المصيصي) وبعدئذ نسطور، بطريرك القسطنطينية. فقد أقرَّ هذا الرجلان بطبيعتين منفصلتين في المسيح مع أقنومين، ولذلك فرّقا بين المسيح الذي وُلد من الآب منذ الازل والمسيح المولود من العذراء مريم. نتيجة لهذا المعتقد، رفض نسطور أن يدعو العذراء مريم Theotokos (والدة الله)؛ بل دعاها Chrisostokos (والدة المسيح)، كما لو أن المسيح الذي وُلد منها لم يكن الابن السرمدي، أو الله، بل مجرد إنسان. ولهذا إتهم رهبان مارون تلامذة مكسيموس بالهرطقة النسطورية التي حرمها مجمع أفسس عام 431 واستشهدوا لإثبات عقيدتهم بآراء القديس كيرلس الاسكندري الذي اصرّ أن في تجسد الله الكلمة ـ المسيح ـ يمكننا فقط أن نعترف بطبيعة متجسدة واحدة للوغوس الإلهي لأن الله الكلمة صار جسداً. وتبعاً لذلك فمن المنطقي ان نعترف بوجود مشيئة واحدة فيه.

 

    هنا نواجه مشكلة لاهوتية حساسة شديدة التعقيد تتخطى أفق هذا الكتاب . لكن ما يستوجب القول هنا هو أن هؤلاء الرهبان وان كانوا خلقيدونيين إلا أنهم قدموا نفس الحجة ضد تلامذة مكسيموس والتي كان سائر المناوئين للخلقيدونية بالاستناد الى تعاليم القديس كيرلس قد استعملوها لتفنيد العقيدة التي ثبّتها مجمع خلقيدونية ببقاء انفصال طبيعتي المسيح بعد اتحادهما. وهذا غريب حقاً بالنسبة لهؤلاء الرهبان الموارنة وسائر الموارنة الذين جاءوا بعدئذ والذين اعترفوا بالمونوثيلية. فإذا كانوا قد اعتقدوا بأن طبيعتي المسيح اتحدتا في مشيئة واحدة، فمن اللازم أن يكونوا أيضاً قد اعترفوا بأن الطبيعتين اتحدتا بطريقة تفوق الوصف بحيث اصبحتا طبيعة واحدة. بعبارة أخرى، إذا كانت نتيجة تجسد الله الكلمة طبيعة متجسدة واحدة، كما أكَّد القديس كيرلس، فمن المنطقي ايضاً التمسك بأن تجسد نفس الله الكلمة هي مشيئة واحدة. ومن الواضح اذن في هذا الصدد ان عقيدة رهبان مـارون تتفق اتفاقاً كبيراً بعقيدة القديس كيرلس الأرثوذكسية، وهي نفس عقيدة كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية حتى يومنا هذا.

بناء على مجادلة رهبان دير مارون وتلامذتهم مع مخالفي عقيدتهم نستطيع القول بأن هؤلاء الرهبان الموارنة لم يكونوا خلقيدونيين قبل تبنيهم المونوثيلية نتيجة ضغط الامبراطور هرقل. ولكن بعد أن تبنّوا هذه العقيدة وقبلوا معها مجمع خلقيدونية احتفظوا بإيمانهم بالطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي، إلا أنهم لم يستطيعوا الاعتراف به جهراً خوفاً من الإمبراطور الخلقيدوني. ولهذا يصح القول ان إيمان الرهبان الموارنة الذين أُكرهوا على قبول مجمع خلقيدونية، ولكن بصيغة مونوثيلية هو مجرد إدعاء لأن معتقدهم الصحيح كما توضحه كتب الصلوات والطقوس، كان ولم يزل الإيمان بطبيعة واحدة متجسدة للوغوس الإلهي (المونوفيزية).

 

    وما من شيء يوضح هذه القضية كاتهام تلامذة مكسيموس الرهبان الموارنة بأنهم لم يكونوا متمسكين بعقيدة مجمع خلقيدونية وطومس لاون. ويدل هذا الاتهام ضمنياً بأن الرهبان لم يؤمنوا بأن طبيعتي المسيح اتحدتا في شخص واحد وانهما بقيتا منفصلتين بعد الاتحاد. كما أضافوا قائلين أنه لو كانت للمسيح طبيعتان مستقلتان لكان من الضروري أن تكون له أيضاً مشيئتان مستقلتان وفعلان إراديان مستقلان. كما اتهموهم ايضاً بالتمسك بعقيدة كيرلس وعقيدة سويريوس الأنطاكي، وبالاعتراف بوجود طبيعة واحدة في المسيح، وشخص واحد ومشيئة واحدة وقدرة واحدة وفعل واحد وسلطة واحدة. لهذا السبب دُعي الرهبان بـ ” السويريين “، ” اليعاقبة ” و ” مؤلمي اللاهوت “، أي أنهم يؤمنون بأن الالوهية كلها قد تألمت على الصليب. وهذه المناقشة نفسها ارتكن اليها نسطور في جدله مع القديس كيرلس ومؤيديه، الذين أتهمهم نسطور خطأً بالإيمان بالعقيدة القائلة بأن ” الله في المسيح قد تألم ” .

    يختتم التلمحري هذا الجزء من روايته بالقول أنه لم يكن مسوغ لهذين الفريقين لتبادل التهم لأن كليهما كانا في الحقيقة خلقيدونيين. وهذا لا يعني، كما يؤكد المطران الماروني يوسف دريان خطأً، بأن الفريقين كانا يجادلان تـفسير عقيدة الطبيعتين والمشيئتين في المسيح في مواجهة عقيدة الطبيعة الواحدة والمشيئة الواحدة في المسيح. إنه يعني، كما يدَّعي دريان، أن الرهبان الموارنة، مع أنهم خلقيدونيون، لم يفهموا هذه العقيدة الجديدة حول المشيئتين في المسيح فرفضوها لأنهم وجدوها تتفق مع تعليم نسطور. فضلاً عن ذلك، فإن دريان يخطئ بقوله أن اتباع مكسيموس أتهموا رهبان مارون بالتمسك بنفس عقيدة كيرلس الاسكندري وسويريوس الأنطاكي لكي يعرضوهم للسخرية والسباب. ويزيد دريان في خطأه بأنه لو كانت عقيدة المشيئتين قد أُدخلت الى سورية بالطرق القانونية الكنسية المرعية لاستجار معتنقوها بأحكام المجمع السادس في نقاشهم مع المعارضين. بعبارة أخرى، ان احكام المجمع السادس التي دانت المونوثيلية كانت معروفة رسـمياً فقط في سورية وكان على رهبان دير مارون المونوثيليون ان يتقيدوا بها . ويكرر الباحث كمال صليبي نفس هذه الفكرة، ولكنها فكرة غير مقنعة، فيقول ، أنه بعد إدانة المجمع السادس للمونوثيلية فإن نبأ موقف ما يدعوه ” بالكنيسة الجامعة ” من هذه العقيدة لم يكن قد وصل بعد إلى وادي نهر العاصي حيث عاش رهبان دير مارون. مما دعا ” الشعب الماروني إلى الاستمرار في التمسك بالمونوثيلية بأسلوب ما لعدة قرون ” . بيد أن كمال صليبي يقرّ بأن رهبان دير مارون اعترفوا بعقيدة المشيئة الواحدة في المسيح ” بشكلها البدائي، الذي أكَّد على فعل واحدٍ في المسيح لكنه لم يحدد مشيئته “.

 

    إن ادعاء المطران يوسف دريان بأن مرد الجدل برمته حول المشيئة الواحدة أو المشيئتين في المسيح يعود إلى سوء فهم التعابير اللاهوتية مثـل شـخص، وطبيعة، وفعل وإرادة هو ادّعاء يتعذر الدفاع عنه . كما أن ادعاء الباحث كمال صليبي بأن رهبان دير مارون قد أكَّدوا على فعل واحدٍ لا مشيئة واحدة بالأحرى في المسيح هو بدوره ادعاء يصعب الدفاع عنه  لافتقاره الى بيّنة تاريخية.

 

من المؤكد أن رهبان دير مارون كانوا على علم بعقيدة المشيئة الواحدة في المسيح ودلالتها اللاهوتية. لأنهم في الواقع قبلوا مونوثيلية الإمبراطور هرقل، وهي مونوثيلية ذات معان منسّقة لا يلطفها تـفسير فعل إرادي أو مشيئة إرادية. نعلم من التلمحري أن القضية برمتها كانت قضية خطيرة احدثت نقاشاً حاداً يتسم بالجد لان تلامذة مكسيموس لم يسموا الرهبان الموارنة بـ “بالسويريين ” و ” اليعاقبة ” على سبيل المزاح بل أدركوا أن هؤلاء الرهبان بالرغم من كونهم خلقيدونيين بشكل سطحي، ما زالوا متمسكين بنفس معتقد سويريوس الأنطاكي. وبعبارة اخرى كانوا “مونوفيزيين”. إن ادعاء المطران دريان، بأن التلمحري قد اقحم اسمي كيرلس الاسكندري وسويريوس الأنطاكي في الجدل القائم بين الرهبان الموارنة وتلامذة مكسيموس، نظراً لأنه كان يشاطرهم نفس العقيدة، لايستند على اساس تاريخي. إن ما يحاول دريان إثباته هو أن التلمحري، بما أنه “يعقوبي”، وجد أنه من الملائم إقحام اسم كيرلس في هذا السياق للبرهان على أن رهبان دير مارون المونوثيليين كانوا على نفس إيمان كيرلس. وفي نظر دريان ان ” اليعاقبة ” دائماً يفسرون تفنيد كيرلس لنسطور بطريقتهم الخاصة الغريبة للبرهان على إيمانهم بطبيعة متجسدة واحدة ومشيئة واحدة للوغوس الإلهي. ولكن الذي يستحق الذكر هنا هو ان أعضاء مجمع خلقيدونية انفسهم فسّروا عقيدة كيرلس بطريقة كهذه لتبرير تسوية خلافهم مع النساطرة لكي يثبتوا شرعية تعريفهم الجديد للإيمان وهو طبيعتان للمسيح متحدتان في شخص واحد مع بقائهما منفصلتين بعد الاتحاد بالاتفاق مع طومس لاون .

 

    هناك دليل قوي على أن رهبان مارون وتلامذتهم كانوا على دراية بإدانة المجمع السادس للمونوثيلية. فقد رأينا سابقاً التلمحري يقول بأن عقيدة المشيئتين في المسيح دخلت إلى سورية عن طريق الأسرى البيزنطيين واللاجئين الذين رافقوا الجيوش العـربية ثم استقروا في سورية . وهذا يدل على أن احكام المجمع السادس قد نقلت إلى سورية، وبأن الرهبان الموارنة وتلامذتهم كانوا على دراية بها.

    لم يكن بعض الناس في سورية الجنوبية، حيث عاش رهبان مارون يجهلون المجمع السادس وغايته. إذ تـفيدنا وقائع الجلسة السادسة عشرة من هذا المجمع والتي عُـقدت في 9 آب عن قسيس من أفاميا يدعى قسطنطين وعقيدته المونوثيلية. طلب قسطنطين الذي كان موجوداً في القسطنطينية حيث إبّان انعقاد المجمع الإذن بالدخول إلى المجمع لتقديم صيغة إيمانه فيما يتعلق بقضية المشيئتين في المسيح، والتي كان المجمع يناقشها. ولم يسمح لقسطنطين بالدخول إلى المجمع بل خاطب أعضاءه قائلاً أنه كاهن من كنيسة مدينة أفاميا المقدسة في سورية الجنوبية، وقد رسمه كاهناً ابراهام أسقف اريتوزا (حالياً الرستن بين حمص وحماه). وعندئذ طلب منه المجمع تقديم صيغة ايمانه. ومن ذم التمس قسطنطين أعضاء المجمع إعطاءه مهلة ستة أيام لإنهاء كتابة هذه الصيغة بالسريانية. لكن أعضاء المجمع اصروا على أن يقدم صيغة ايمانه فوراً وباليونانية التي كان يتكلمها بطلاقة. عندئذ بيَّن قسطنطين بأن صيغته الايمانية تنطوي على قدرتين في المسيح وأن هاتين القدرتين تمتان إلى خصائص طبيعتيه. إلا أن قسطنطين أضاف أن للمسيح مشيئة واحدة فقط وهي مشيئة اللوغوس (الله الكلمة). وهنا فهم أعضاء المجمع أنه يعني بأن للمسيح مشيئة إلهية واحدة فقط؛ لذا، أتهم بأنه أبوليناري وطرد من الاجتماع .

    لا نعرف كيف علم هذا القسيس المتبحّر بالمجمع السادس. بل ما نعرفه هو أن المجمع السادس كان ولا بد معروفاً لدى الكنيسة في سورية الجنوبية. ومن المحتمل إلى حد كبير أن يكون رهبان دير مارون على معرفة به أيضاً، وهو الدير الذي كان الكاهن قسطنطين ينتمي إلى مقاطعته. من الواضح أن قسطنطين كان كاهناً مونوثيلياً رسمه أسقف مونوثيلي وكان ينتمي إلى كنيسة مونوثيلية. وقد أعلن بشدة في بيانه الذي قدمه إلى المجمع عن إيمانه بمشيئة واحدة في المسيح. لأنه ليس من الممكن أن يكون قسيساً مناوئاً للخلقيدونية أو مونوفيزياً، وإلا لما سمح له المجمع بالدخول إلى جلساته، ما لم يتخلَ عن إيمانه بالطبيعة الواحدة. لا بد وأنه كان إما ملكياً خلقيدونياً أو مارونياً غايته البرهان عن الإيمان التقليدي للكنيسة الشرقية فيما يتعلق بعقيدة المشيئة الواحدة في المسيح. ان رواية قسطنطين هذه لا تتعارض مع رواية التلمحري بل تؤيدها. ففي الوقت الذي كان فيه المجمع السادس واحكامه معروفين في سورية الجنوبية وعلى الأرجح في بقية أنحاء سورية، فإننا لا نجد أية محاولة من الإمبراطور قسطنطين بوغوناتس أو من كنيسة القسطنطينية لفرض عقيدة المشيئتين في المسيح على شعب سورية. لو أن الإمبراطور اراد ذلك لاستعمل القوة وسيلةً للاقناع. إلا أنه ما كان بمقدور الإمبراطور أن يفرض احكام هذا المجمع على أهالي سورية لسبب بسيط وهو أن سورية كانت قد أصبحت مقاطعة عربية في عام 636. كان الوضع قد تغير بشكل جذري منذ عام 629ـ630، عندما فرض هرقل المونوثيلية على السريان في زمن كانت تلك البلاد تحت السيادة البيزنطية ـ وبسبب تغير الأحداث لم تتح الفرصة للإمبراطور البيزنطي لإدخال عقيدة المشيئتين إلى سورية عن طريق سلطة الدولة. لكن الذي غرس هذه العقيدة في سورية كما يبيّن التلمحري بحق هم الأسرى البيزنطيون واللاجئون الذين كانوا ضحايا الحرب الدائرة بين العرب والبيزنطيين. وبمرور الزمن قبل الملكيون السريان عقيدة المشيئتين بينما رفضها الموارنة. وقد أضحت هذه العقيدة، كما يقول التلمحري، مصدراً للمشاكل والخصام بين الفريقين.