7
يصرّ الموارنة على أن الرسالة التي كتبها الرهبان من دير مار مارون إلى البابا هرمزدا تفيد بأنهم لم يكونوا موارنة فقط، بل خلقيدونيين أيضاً فقدوا 350 من رهبانهم لاعتناقهم الإيمان الخلقيدوني . فقد جاء في هذه الرسالة، ان هؤلاء الرهبان فقدوا حياتهم بينما كانوا في الطريق إلى دير القديس سمعان العمودي في مهمة كنيسة . هذا ما يدل على أن سمعان العمودي، ورهبان ديره كانوا خلقيدونيين مثلهم وإلا ما كانوا ليزوروا هذا الدير . هذه بالتأكيد قضية معقدة تتطلب المزيد من الاستقراء والاثبات.
يجب ان نعلم منذ البداية بأن الخلقيدونيين ومعارضيهم أدعوا معاً بأن القديس سمعان العمودي كان على معتقدهم . في هذا الصدد يقول الكاتب شارل س . توري، الذي قام بنشر رسائل سمعان العمودي والتعليق عليها، أن هذا الرجل القديس كان خلقيدونياً . ويصل شارل توري إلى هذه النتيجة، باستبعاد الدليل، الذي يقدمه المناوئون للخلقيدونية دون سبب مبرر، للبرهان على أن القديس سمعان كان قد أدان وحرم مجمع خلقيدونية وطومس لاون . ولكن تـفسير توري لاثبات وجهة نظره هو تـفسير واهٍ .
إن توري مصيب بقوله بأن أيفاغريوس ادرج في مؤلفاته رسالة من القديس سمعان إلى الإمبراطور البيزنطي لاون يؤيد فيها مجمع خلقيدونية . يقول أيفاغريوس بأن في حوزته النص الكامل لرسالة القديس سمعان، إلا أنه لم يذكر منها سوى مقتطفات لأنه رآها طويلة جداً بحيث يصعب سردها كلها في تاريخه . إلا أن المناوئين للخلقيدونية استطاعوا تقديم رسالة من نفس القديس سمعان موجهة إلى الإمبراطور لاون، تدين عقيدة مجمع خلقيدونية . في الحقيقة، نشر توري نفسه النص السرياني للرسالة الثانية مع ترجمة إنكليزية ، إلا أنه سرعان ما شجبها، كما شجب رسالتين أخريين، لانه كما يدعي كانتا ” من عمل أحد المتحزبين المغالين جرى تداولهما لتكونا سلاحاً بيد الجماعة المونوفيزية ” . وقد اعتمد في حكمه على ما كتب في أعلى الرسالة من شرح للظروف التي كتبت فيها . وبحسب ما تورده الحاشية في أعلى الرسالة ان ثيودوريطس، أسقف قورش، ذهب لزيارة القديس سمعان لكي يقنعه بتأييد مجمع خلقيدونية . لكن القديس سمعان رفض توسلات ثيودوريطس بل كتب رسالة إلى الإمبراطور لاون يدين فيها مجمع خلقيدونية . يروي المؤرخ السرياني ميخائيل الكبير بطريرك أنطاكية نفس الحادثة، اعتماداً على روايات مؤرخين سبقوه . فيقول، بأن ثيودوريطس عند مروره بمحل إقامة القديس سمعان، قام بزيارته لكي يقنعه بالاعتراف بعقيدة الطبيعتين في المسيح . ويردف ميخائيل الكبير قائلاً لهذا فان الموالين الخلقيدونيين نشروا شائعة بأن القديس سمعان كان قد قبل عقيدتهم لكنه يُضيف بأن القديس سمعان رفض قبول قرارات هذا المجمع، ” كما هو واضح من رسالته الموجهة إلى الإمبراطور لاون” . كان على شارل توري أن يدرك أن ما جاء في أعلى هذه الرسالة قد كتبه أحد النسّاخ الذي كان مؤيداً لمجمع خلقيدونية وبأن الكتابة لا علاقة لها بالرسالة التي تعبر عن رفض القديس سمعان لمجمع خلقيدونية . من الممكن انه لم تتوفر لتوري في الوقت الذي كان يكتب فيه مصادر أخرى تبرهن على أن القديس سمعان لم يكن خلقيدونياً . لكن المصادر المارونية تؤيد ان القديس سمعان لم يكن خلقيدونيا.
هناك سيرتان سريانيتان للقديس سمعان العمودي ذكرناهما سابقا: إحداهما نشرها الأب بول بيجان وترجمها إلى الإنكليزية الأب فريدريك لينت؛ أما الأخرى، ليست معروفة في الغرب، كتبها مارقولون، تلميذ القديس سمعان . توجد نسخة منها في مكتبة البطريركية السريانية الأرثوذكسية في دمشق . في هذه السيرة، يروي مارقولون حادثة امتدح فيها القديس سمعان قداسة برصوم رئيس النسّاك السريان في الشرق، وهو مؤيد صلب لديوسقوروس الاسكندري في مجمع أفسس الثاني لعام 449، ومناوئ كبير لمجمع خلقيدونية . يقول مارقولون أن القديس برصوم الطاهر المختار رغب في زيارة أورشليم للمرة الثانية وبأن القديس سمعان تنبأ بهذه الزيارة بوحي إلهي . ففي إحدى المرات رأى القديس سمعان رؤيا بأن برصوم كان قائماً لزيارته فروى هذه الرؤيا للناس الذين كانوا في حضرته . ولما وصل برصوم إلى مقاطعة أفاميا رأى سمعان العمودي رؤيا أخرى وأخبر الحاضرين بأنه إذا أراد أحد الحصول على بركة ذاك الرجل البار، فلينتظر لأنه سيكون هنا في غضون ثلاثة أيام . لا بل صرخ القديس سمعان بصوت عال “إن رغب أحدٌ في تلقي بركة المختار من الله، برصوم، فلينتظر حتى الساعة الثالثة من النهار وهو وقت وصوله ” . وفي الوقت المتنبأ به بالضبط، وصل برصوم الجليل إلى صومعة القديس سمعان . وعندما رآه القديس سمعان يدخل الصومعة، بسط يديه وقال : “ادخل بسلام يا خادم الله الحي، مبارك هو مقدمك وشكراً للمسيح الذي أصغى إلى ابتهالاتي واهلني أنا الخاطيء لرؤيتك ” . ثم حيَّا القديس سمعان برصوم بفرح، مقبلاً جبهته وعينيه، وهو يسبح الله.
للبرهان على صحة هذه القصة، لا بد لنا من الإشارة إلى تقليد الكنيسة المارونية وطقوسها، التي يؤكد كتّابها أن القديس سمعان كان خلقيدونياً، ويزعمون بأن 350 من رهبانهم قد قتلوا بسبب إيمان هذا المجمع وهم في الطريق لزيارة دير القديس سمعان . فقد جاء في فنقيث (كتاب صلوات) ماروني، نشر في روما في صلاة للمساء التي تُتلى عادة في عيد القديس سمعان العمودي كما يلي : هذا هو سمعان الذي أبعد هرطقات باطلة عن قطيعه وأبان بهتانها . هذا هو الذي رغب في لقاء القديس برصوم عندما جاء لرؤيته متـنبئاً بزيارته قبل ثلاثة أيام من وصوله .
يتفق هذا الاستـشهاد مع القصة التي رواها مارقولون تلميذ القديس سمعان . والدليل الآخر الذي يعزز الرأي بأن القديس سمعان لم يكن خلقيدونياً فهو اعتبار الكنيسة المارونية برصوم هذا قديساً . لان تقاويم الأعياد في الكنيسة المارونية، سواء كانت على شكل مخطوطة أم منشورة في روما منذ القرن السادس عشر تعيّن الثالث من شباط عيداً تذكارياً للقديس برصوم . هذا هو نفس اليوم الذي تحيي فيه الكنيسة السريانية الأرثوذكسية ذكرى نفس هذا القديس . ومما هو أبعد من ذلك، أن اسم برصوم مدرج أيضاً بين اسماء القديسين النسّاك في كتاب الليتورجيات المنشور في روما عام 1594 . نستدل من هذا أن الكنيسة المارونية، التي تجل برصوم، وهومناوئ كبير لمجمع خلقيدونية، تروي قصة زيارته للقديس سمعان العمودي، وأن القديس سمعان قد تنبأ بهذه الزيارة بوحي إلهي قبل ثلاثة أيام من حصولها . ومع ذلك، يصرّ بعض الموارنة بأن سمعان العمودي كان خلقيدونياً . لانه مما لا يحتمل التصديق أن يرحب القديس سمعان، إن كان خلقيدونياً، ترحيباً حاراً بشخص معروف بعدائه لمجمع خلقيدونية . إن المراد قوله هو أن الكنيسة المارونية منذ البداية قد بجلت برصوم واعتبرته قديساً، بينما يتهم الموارنة في الوقت نفسه سويريوس الأنطاكي بالتخطيط لقتل 350 راهباً من دير مارون . هذا امر غير معقول لان سويريوس وبرصوم كانا ينتميان إلى نفس الكنيسة ويعترفان بنفس الإيمان وكانا مناوئين شديدين لمجمع خلقيدونية.
تدل الحقيقة التاريخية على أن دير القديس سمعان العمودي كان خاضعاً لسلطة سويريوس الأنطاكي وبأن سويريوس ورهبان القديس سمعان كانوا من نفس الإيمان . هذا ما تؤيده الرسالة التي وجهها سويريوس إلى رئيس دير السيد القديس سمعان بشأن انتهاك الأسقف نونوس للقوانين الكنسية . يُـقال بأن نونوس قد مارس ” السيمونية ” اي “المتاجرة بالمناصب الكنسية لقاء المال “، وهو ما دفع بطريركه سويريوس إلى عقد مجمع محلي للنظر في قضيته . استدعى البطريرك نونوس مراراً، إلا أن نونوس تجاهل مذكرات الحضور . وأخيراً عندما عرض عليه البطريرك مهلة عشرة أيام ثم ضاعفها للحضور أجاب نونوس بواسطة رئيس دير القديس سمعان، طالباً ألا يسمح لأي من الكهنة الذين كانوا قد رسموا نتيجة لمتاجرته بالمناصب الكنسية بحضور محاكمته . ولا بد أن البطريرك سويريوس ادرك موقفه بأنه عصيان لسلطة الكنيسة، ولذلك أحال القضية إلى السلطات المدنية في أنطاكية . وفي غضون هذا الوقت، كان سويريوس يرجو إقناع نونوس بالمثول أمام مجمع الأساقفة لمحاكمته وفقاً للقانون الكنسي وعالج هذه القضية بأكبر قدر من الأناة والفهم . لا بل أوفد شماسه أوسابيوس إلى دير القديس سمعان لكي يحث رئيس الدير، ليسرع في ارسال نونوس إلى أنطاكية، لأن الأساقفة الذين اجتمعوا في تلك المدينة لم يعد بمقدورهم الانتظار مدة اطول وكان عليهم العودة إلى أبرشياتهم .
لو أن دير القديس سمعان لم يكن خاضعاً لسلطة سويريوس ولو أن رئيسه لم يشاركه في إيمانه، لما كانت هناك حاجة لهذا الاتصال بين سويريوس ورئيس دير القديس سمعان العمودي . ولم تكن هناك حاجة أيضاً لأن يقنع سويريوس رئيس الدير لا بل أن يرسل شماسه إلى الدير، للإيعاز لنونوس بالمثول أمام مجمع الأساقفة من أجل محاكمته . إضافة إلى ذلك، لا مبرر للترنيمة المطولة التي كتبها سويريوس في امتداح فضائل القديس سمعان . ففي نهاية هذه الترنيمة، يتضرع سويريوس إلى المخلص مستغيثاً بصلوات القديس سمعان أن يسبغ الرحمة على المؤمنين به . وقد أضافت كنيسة أنطاكية السريانية اعترافاً منها بالإيمان العقائدي للقديس سمعان ـ أي طبيعة متجسدة واحدة للوغوس الإلهي ـ في عهد سويريوس، اسم سمعان إلى (سفر الحياة) وهي تحتفل حتى هذا اليوم بذكراه . كما ألَّف أبٌ ذائع الصيت من آباء الكنيسة السريانية، هو يعقوب السروجي ( ت 521 )، نشيداً في مديح حياة القديس سمعان النسكية . بل ان الراهب العالم السرياني يشوع الباسبريني (ت 1492)، كتب صلاة استعطافية في إحياء ذكراه . يروي ديونيسيوس التلمحري بطريرك أنطاكية حادثة ذات مغزى كبير تعود الى أوائل القرن السابع تؤيد حقيقة احتفال كنيسة أنطاكية السريانية بذكرى القديس سمعان العمودي واعتباره احد قديسيها . يقول التلمحري بأن عصبة من البدو هاجمت المؤمنين وهم يحتفلون بذكرى القديس سمعان في ديره، فقتلت بعضهم ونهبت الدير مما جعل العديد من المسيحيين يشكّون في جدوى إيمانهم . وفي غمرة حيرتهم، تساءل المحتفون عن سبب حلول مثل هذه النائبة بهم، وخاصة أثناء الاحتفال بإحياء ذكرى القديس سمعان . يعلق التلمحري قائلاً بأنهم لم يفهموا أن الاحتفال بذكرى القديسين في العهود الباكرة، وخاصة بالقديس الذائع الصيت سمعان، كان يجري بتسبيح روحي تام، بترتيل الترانيم وقراءة الكتب المقدسة لا بممارسة متع وعادات نابية انغمس بها الناس، من أكل وشرب ورقص مستهجن وسلوك منافٍ للآداب، لإثارة غضب الله، الذي سمح بحصول هذه المصيبة لتأديبهم . صحيح أن القطاع اليوناني الخلقيدوني من كنيسة أنطاكية قد احتفى أيضاً بذكرى القديس سمعان واعتبره بين قديسي هذه الكنيسة . إلا أنه فعل ذلك لأنه ورث هذا التقليد عن سويريوس، تماماً كما ورث من الكنيسة تقليد تلاوة قانون الإيمان النيقاوي من بطريرك آخر لأنطاكية، هو بطرس القصَّار (471ـ488)، الذي كان متمسكاً، على غرار سويريوس، بصيغة القديس كيرلس الاسكندري في الإيمان وهي ـ طبيعة واحدة متجسدة للوغوس الإلهي ـ وكان مناوئاً لمجمع خلقيدونية . هنا لا نجد مندوحة من ان نعير انتباه كنيسة روما والكنائس الشرقية التابعة لها بأن صيغة الايمان هذه قد ايدها القانون الخامس من مجمع لاتران المنعقد عام 649 برئاسة البابا مارتن الأول بكونها تتضمن ايمان الآباء الأطهار الحقيقي المستقيم . وإليك النص الكامل لهذا القانون : ليكن محروماً كلّ من لا يعترف كما يجب بما يتفق مع الآباء القديسين وبما ينسجم مع الحقيقة، بطبيعة متجسدة واحدة لله الكلمة، على اساس أن جوهرنا يدعى جوهراً متجسداً، يتألم فقط بمعزل عن الخطيئة .
لا يترك هذا الاعتراف مجالاً للشك بأن اعضاء مجمع خلقيدونية قد اغفلوا ارثوذكسية ” عقيدة ” القديس كيرلس الاسكندري بل اتهموا ديوسقورس بطريرك الاسكندرية، بأنه يكنّ نفس فكر أوطاخي مسجلين بذلك سابقة للخلقيدونيين في المستقبل للخلط بين ” عقيدة الطبيعة الواحدة للقديس كيرلس الاسكندري والأوطاخية ” . كما ان نص قانون مجمع لاتران المذكور يدّل دلالة قاطعة بأن كنيسة روما كانت منوفوزية تدين بنفس عقيدة القديس كيرلس الاسكندري وهي طبيعة واحدة متجسدة للوغوس الإلهي .