20
تُعتبر المونوثيلية بنظر الموارنة قضية حساسة. فالموارنة، وخاصة أولئك الذين تثـقفوا في المدرسة المارونية في روما في القرنين السادس عشر والسابع عشر والذين كتبوا في الأغلب باللاتينية، انكروا أن شعبهم وكنيستهم كانوا يوماً ما مونوثيليين. وقد سبق ان ذكرنا أسماء هؤلاء الموارنة وكتاباتهم وآخرين جاءوا بعدهم. والذي دافع أكثر من أي ماروني آخر بحماس عن أرثوذكسية (الإيمان الخلقيدوني) لكنيسته هو المطران يوسف الدبس الذي اعتبر الصاق المونولوثية بالموارنة ” محض حسد ” من جانب النقاد سواء كان هؤلاء خلقيدونيين أو خلافهم. وما كتابه روح الردود، وهو تفنيد لرأي المطران السرياني الكاثوليكي يوسف داود، سوى أحد الأمثلة. وبالرجوع الى هذا الكتاب وغيره من كتب المطران الدبس نستطيع ان نستشف السبب الذي يكمن وراء غضب الموارنة الشديد بشأن موضوع المونوثيلية، أي الاتهام بالهرطقة. وفي ردهم على النقاد يحاولون جميعاً البرهان على أن الكنيسة المارونية كانت دائماً ” أرثوذكسية “، أي متمسكة بالإيمان الذي حدده مجمع خلقيدونية، ولذلك فهي لم تكن أبداً هرطوقية.
رأينا سابقاً أن يوحنا مارون، أول بطريرك ماروني مزعوم، كان مونوثيلياً. كما رأينا ايضاً ان مثل هذا الاستنتاج لم يقتصر على رواية البطريرك الخلقيدوني سعيد بن بطريق بل تؤيده الكتب الطقسية المارونية نفسها. ومن بين سائر الكتّاب الذين وصفوا يوحنا مارون كمونوثيلي يحتكر ابن بطريق اشد كراهية الموارنة وسخريتهم. بل ان كل كاتب ماروني على وجه التقريب حاول بطريقة ما أو أخرى، تفنيد رواية ابن بطريق عن يوحنا مارون. وقد كرس البطريرك الماروني اسطفان الدويهي الجزء الثاني بأكمله من كتابه تاريخ الطائفة المارونية لتسفيه معظم النقاد بدءاً بابن بطريق . ان الكتّأب القدامى الذين وصفوا الموارنة على أنهم مونوثيليون عديدون ولذلك فان مناقشة كل رواياتهم حول الموضوع تبعث على الملل خاصة وأن نتائجهم التي توصلوا اليها واحدة . سوف نحاول في هذا الفصل اقتـفاء أثر مونوثيلية الكنيسة المارونية، مستمدين المعلومات بشكل أساسي من كتب مارونية عدا عن المؤلفات المنسوبة إلى يوحنا مارون، بالإضافة إلى عدة شهادات كتّاب كاثوليك.
من الكتب التي يدّعي الموارنة أنها من منبت ماروني أصيل هو كتاب الهدى. يضم هذا الكتاب القوانين والقواعد التي تـنظم الكنيسة المارونية وحياة أفرادها الدينية. إن كتاب الهدى، المكتوب أصلاً باللغة السريانية موجود فقط في ترجمة عربية (كرشونية) عن الأصل السرياني وضعها عام 1059 مطران اسمه داود رداً على طلب قدمه أحدهم ويُدعى يوسف الذي ربما كان راهباً أو رئيس دير. وأقدم نسخة لهذه المخطوطة موجودة في مكتبة الفاتيكان (المخطوطة 133) وقد نسخت عام 1402. أما مؤلف هذا الكتاب فهو مجهول، إلا أن الراهب يوسف والمطران داود معاً يشيران إليه بـ ” الأب الطاهر “. من هو هذا “الأب الطاهر” سيبقى سراً من الأسرار. وكل ما يعرف عن هوية المترجم، المطران داود، هو أن اسمه ورد في مخطوطة الفاتيكان. وهنا ندرك مرة أخرى ندرة المؤلفات المارونية الأصيلة ويبقى السؤال قائماً فيما إذا كان للموارنة مؤلفات مستقلة عن مؤلفات الكنيسة السريانية الأرثوذكسية.
ان ما يستحق الالتفاف اليه هو ان مؤلف كتاب الهدى، هو ماروني مونوثيلي (اي من اصحاب المشيئة الواحدة في السيد المسيح) وانه عبَّر عن المونوثيلية بأوضح التعابير اللاهوتية. فقد كتب:
نؤمن ونعلن بأن واحداً من الثالوث الاقدس الابن الكلمة وُلد من الآب ازلياً لا زمان او بداية له وانه لم يولد كالاجساد المتوالد احدها من الآخر، بل هو نور من نور، إله حق من إله حق، الذي منح بوافر رحمته الخلاص للبشر بمشيئة الروح القدس، نزل من السماء لكن دون أن يبارح الآب ذاته دون تغير أو فساد. وتجسد من الروح القدس ومن ابنة يوياقيم الطاهرة وأخذ منها جسداً كأجسادنا مع روح عاقلة وأصبح مثلنا في كل شيء عدا الخطيئة؛ ووُلد منها أبناً واحداً ورباً واحداً يسوع المسيح، شخصاً واحداً ذو جوهرين عاقلين، واحداً من الآب الأزلي في لاهوته وواحداً من جوهرنا في ناسوته، غير معصوم في ناسوته، معصوماً في لاهوته، متـناهياً في ناسوته ولا متـناهٍ في لاهوته.
والآن إذا كان لنا هذا الإيمان به فإننا حينئذٍ لا نؤمن بعدُ بأنه شخصان ومسيحان ومشيئتان أو فعلان. حاشا ! بل نؤمن أنه يسوع المسيح واحد، ابن الله الذي صار من أجلنا إنساناً، وانه شخص واحد في جوهرين عاقلين، وأنه مشيئة واحدة وفعل واحد .
بعد ان اورد المؤلف سلطة المجامع المسكونية الأربعة الأولى بإيجاز، قام يوصف الطوائف المسيحية في زمانه ونسب الطائفة المارونية إلى ” يوحنا مارون، بطريرك أنطاكية العظمى “. ويبيّن المؤلف، علاوة على ذلك، بأنه شرح بالتـفصيل وضع الملكيين والموارنة وموقفهم العقائدي في رسالته، التي يسميها ” رسالة العدل ” الموجهة إلى الآب الطاهر ارسانيوس، مطران عين قورة (العاقوري). إلا أنه لا يعطي معلومات إضافية عن المطران ارسانيوس أو أبرشيته. ونلاحظ هنا إن اسم ارسانيوس هذا مطران عين قورة غير مذكور في مخطوطة الفاتيكان 133، مما يوحي بأنه قد دُسَّ من قِـبَـل نسّاخين موارنة لاحقين. يتمسك مؤلف الهدى بأن الملكيين والموارنة هما جماعة واحدة تؤمن بنفس المعتقد، فيما يتعلق بجوهر المسيح واتحاد طبيعتيه في شخص واحد، ولكنهم يختلفون بشأن مشيئته: فالملكيون يعترفون بمشيئتين في المسيح بينما يعترف الموارنة بمشيئة واحدة فيه .
يورد المؤلف، مباشرة بعد بيان الإيمان هذا شهادة أخرى عن المونوثيلية المارونية لكي يبين الفروق بين الملكيين والموارنة فيما يتعلق بالمشيئة الواحدة في المسيح. ويسهب في إظهار التباين بينهما حول مسألة المشيئة أو المشيئتين في المسيح. ويؤكد بأن الملكييين يتمسكون بأن للمسيح مشيئتين ـ واحدة من جوهره الإلهي وواحدة من جوهره البشري ـ بينما يؤمن الموارنة بوجود مشيئة واحدة فقط. ثم يقدم براهين كلا الجماعتين في تأييد وجهتي نظرهما .
تبرهن الشهادات الواردة في الهدى بأن الموارنة كانوا مونوثيليين بالرغم أن بعض الكتّاب الموارنة يدّعون بأن توما أسقف كفرطاب في القرن الحادي عشر حرَّف هذا الكتاب بدس العبارات المتعلقة بالمشيئة الواحدة في المسيح. فقد أتهم البطريرك اسطفان الدويهي توما، لا بدس الرسالة المذكورة أعلاه الموجهة إلى ارسانيوس مطران عين قورة (عاقورة) التي تتضمن الاعتراف بالعقيدة المونوثيلية بل بكتابتها أيضاً. لكن الدويهي لا يقدم دليلاً يؤيد فيه هذا الادعاء كما يخفق في تحديد هوية المطران ارسانيوس الذي يدّعي بأن توما قد كتب الرسالة إليه، أو في التحقق من أنه كان معاصراً لأسقفه الكفرطابي . ومما يستحق الذكر هنا هو ان المطران يوسف دريان يشك في الأساس الذي استـند إليه الدويهي في اتهام توما بكتابة رسالة إلى ارسانيوس. يرى دريان بأن التواريخ المتعلقة بحياة ارسانيوس غير معروفة وأنه لم يُذكر أبداً في أي مصدر عدا كتاب الهدى. علاوة على ذلك، يؤكد دريان بأن توما لم يذكر المطران ارسانيوس أبداً في فصوله العشرة، وبأن لغة الفصول أقل فصاحة من لغة الرسالة الموجهة إلى ارسانيوس . ومن الناحية الأخرى، يرى المطران أقليميس يوسف داود، أن اتهامات الدويهي توما بتحريف هذا الكتاب يتعذر الدفاع عنها، وبأن ارسانيوس، مطران عين قورة، ربما كان شخصاً من نسج الخيال.
لا يوجد في النسخ الموجودة من كتاب الهدى ما يدل على أن توما قام بتحريفه، ولا يمكننا أن نأخذ زعم الدويهي في التحريف على محمل الجد . إلا أن الدويهي أعاد النظر فيما قاله عندما رأى نسخة هذا الكتاب في مكتبة الفاتيكان وكتب في هامشها بأنه يشك فيما إذا كان توما أسقف كفرطاب هو الذي دس العبارات أم أن المترجم المتروبوليت داؤد، هو الذي فعل ذلك. ثم يُـضيف الدويهي إلى خطأه خطأ آخر بنسبته كتاب الهدى بأجمعه إلى كاتب القرن الحادي عشر النسطوري الشهير أبي الفرج عبدالله بن الطيب (ت 1034). لا بد أنه توصل إلى هذه النتيجة عندما اقتنع بأن اتهامه لتوما بتحريف كتاب الهدى لا سبيل للدفاع عنه. ولهذا السبب قام بحذف الفصل السادس برمته من كتابه تاريخ الطائفة المارونية وكتب فصلاً جديداً عزا فيه كتاب الهدى إلى ابن الطيب . وما زال الفصل الجديد موجوداً في مخطوطة كتاب الدويهي تاريخ في دير سيدة اللويزة في لبنان، إلا أنه مدرج في نسخة أخرى من كتاب تاريخ هذا، قام بنشرها محرر الكتاب رشيد الشرتوني عام 1890.
يرى الدويهي إن مقترف الشر هو البطريرك الملكي سعيد بن بطريق الذي اعلن بأن يوحنا مارون كان اول من ابتدع عقيدة المشيئة الواحدة في المسيح، وانه كما يقول الدويهي ” قد نصب فخاً في درب التاريخ لاصطياد من يسيرون عليه بدون ارشاد ” . ويعتقد الدويهي أن من بين أولئك الذين وقعوا في هذا الفخ هو عبدالله بن الطيب، وهو ماروني الأصل. ويتابع الدويهي قائلاً أن ابن الطيب تخلى عن إيمان آبائه، عندما قرأ تاريخ ابن بطريق وعلم أن الملكيين كانوا يختلفون عن الموارنة حول وحدة مشيئتي المسيح، تماماً كما كانوا يختلفون عن النساطرة حول وحدة شخصي المسيح. وحيث ان ابن الطيب لم يأبه بمنصب الكهنوت الذي تلقاه من كبار كهنة ” الأمة المارونية ” سقط في الفخ الذي نصبه ابن بطريق قبل مائة عام وأيَّد عقيدة المشيئة الواحدة (المونوثيلية)، وعادى الذين رفضوها. ولهذا السبب فقد نفي من بلده (لا يحدد الدويهي هوية البلد، ولكن لا بد أنه كان يعني لبنان). واثناء وجوده في المنفى أرسل رسائل تحتوي تـفاسير حول عقيدة المشيئتين في المسيح إلى أهالى جبل لبنان آملاً أن يستميلهم إلى رأيه. كما كتب كتاباً سمي بـ الهدى يضم من بين امور اخرى مناظرات بين الملكيين والموارنة تدور خاصة حول المشيئة الواحدة والمشيئتين في المسيح.
ان ما يقوله الدويهي لا أساس له من الصحة تاريخياً. فالقس أبو الفرج عبدالله بن الطيب كان نسطورياً، لا مارونياً، وكان من أهالي العراق، لا من أهالي لبنان. وكان أمين سر للجاثليق (وهي الرتبة التي تلي رتبة البطريرك) النسطوري يوحنا نازوك وقد توفي في عام 1034، في زمن ايليا (الياس) الذي خلف يوحنا . وبالرغم من أن السمعاني يقول بأن ابن الطيب كان نسطورياً، لكنه يبدو بأنه يعتقد أن ابن الطيب سلَّم نسخة من كتاب الهدى إلى جماعة من الموارنة في لبنان. ثم يُـضيف السمعاني قائلاً أنه لمّا علم هذا الكاتب النسطوري بأن الطائفة المارونية كانت تؤمن بعقيدة المونوثيلية اي المشيئة الواحدة كما فعل النساطرة ظن بأن معتقَدي الجماعتين كان نفسه فيما يخصّ التجسد ، لذا ارسل هذا الكتاب إليهم (15). ومع أن قول السمعاني هو مجرد تكهن، إلا أنه مهم جداً لأنه يتضمن اعتراف هذا العلاّمة الماروني بأن الموارنة كانوا مونوثيليين. وهذا ما يـناقض ادعاء القلاعي والدويهي بأن توما أسقف كفرطاب كان أول ماروني نادى بعقيدة المشيئة الواحدة. ومهما يكن من امر فإن قول السمعاني لا يترك مجالاً للشك بأن كاتباً آخر وهو ابن الطيب، الذي سبق توما أسقف كفرطاب بحوالي خمسين عاماً، اعلن بأن الموارنة كانوا مونوثيليين.
والذي يثير الحيرة هو كيف توصل اسطفان الدويهي إلى النتيجة بأن ابن الطيب كان مارونياً وبأنه كتب كتاب الهدى، وأرسله إلى موارنة لبنان ؟ الظاهر ان ما خدع الدويهي هو تـفسيرٌ الإناجيل لابن الطيب الذي على الاغلب قام بتحريفه كاتب ماروني لكي يلائم العقيدة المارونية في المشيئة الواحدة (المونوثيلية). ومازالت هناك نسخة كبيرة من هذا التـفسير المحَّرف موجودة في مخطوطة الفاتيكان السريانية 405 كانت ملكاً للمدرسة المارونية في روما قبل أن تصبح ملكاً لمكتبة الفاتيكان. لا بد أن الدويهي قد قرأ هذه النسخة وظنَّ أن مؤلفها، ابن الطيب، كان مارونياً بسبب الشهادات العديدة التي قدمها ابن الطيب على ما يزعم، للبرهان على مونوثيليته .
إن تحريف نص هذه المخطوطة واضح في نسخة الفاتيكان بكاملها. يقول ابن الطيب في المقدمة، أنه يجد نفسه، وهو الفقير في المعرفة، وغير المستحق، (نوع من التعبير الشرقي عن التواضع) مدفوعاً بحاجة إلى جمع الشهادات من التـفاسير لكتاب الحياة (الإنجيل) التي كتبها علماء الكنيسة أمثال المفسر البارز ” القديس ثيودور المصيصي ” ويوحنا الذهبي الفم؛ ثم عمد ابن الطيب إلى كتابة هذه الشهادات بالعربية التي كانت سائدة في العراق، وطنه، حيث لم تعد غالبية الناس تـفهم اللغة السريانية. وقد وقع التحريف على قول ابن الطيب هذا لكي يبدو كما لو أن ابن الطيب قد أضاف اسمي القديس كيرلس الاسكندري وديونيسيوس (الذي لا يعرّف ابن الطيب هويتهما) إلى اسمي ثيودور المصيصي والذهبي الفم وأنه كتبه بالعربية لأن العربية كانت سائدة في هذا البلد ولم يعد اللبنانيون يفهمون اللغة السريانية. ربما كانت غاية الشخص الذي قام بهذا التحريف هي أن يقود القارئ إلى الاعتقاد بأن المؤلف كان مارونياً كتب هذا التـفسير للإنجيل في لبنان .
تظهر عقيدة المشيئة الواحدة في المسيح في العديد من المواضع في هذا التـفسير للإنجيل، قام بإضافتها المحرف الماروني. مثلاً يقول ابن الطيب تعليقاً على صلاة المسيح في بستان الجثمانية ” يا ابتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس : ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت”. (متى 26: 39 ومرقس 14 36)، ويعلق قائلاً بأن هذه الآية تحتمل دلالات مختلفة. منها أن مشيئة المسيح ومشيئة أبيه ليستا واحدة، ويبدي ملاحظته بأن العديد قد انخدعوا بهذا التفسير. ثم يطرح ابن الطيب ما يعتقد بأنه الحلٌ لهذه النقطة فيقول: لا بد من فهم قول ربنا “ليس كما أريد انا بل كما تريد أنت” بأنه لا يعني ” أريد ” كإنسان بل أن ” مشيئتك ومشيئتي هما واحدة، لأن المسيح في ذلك الحين وضع نفسه بمكان الخليقة بأجمعها وحمل خطاياها ” . ويستطرد ابن الطيب شارحاً بأن حقيقة ان مشيئة المسيح ومشيئة الآب هما واحدة، واضحة من قول المسيح في مواضع أخـرى منها ” أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً ” و ” لأني لا أطلب مشيئتي بل مشيئة الآب الذي أرسلني ” (يوحنا 5: 30). بعبارة أخرى إن ما كان ابن الطيب ينوي مناقشته في هذا السياق هو أن مشيئتي المسيح ومشيئة الآب هم مشيئة واحدة، مما لا يعني ان المسيح له مشيئة واحدة أو مشيئتان. هذا بالضبط ما كان يعنيه ابن الطيب، إلا أن المحرّف الماروني أضاف تـفسيره الخاص وهو، ان ” فحوى هذا هو وجود مشيئة واحدة وفعل إرادي واحد في المسيح “.
يقول ابن الطيب، حول تطهير الرب للأبرص (انجيل مرقس 1: 40ـ42) بأنه سيخرس الذين يقسمون أعمال ربنا بعزو بعضها الى مشيئته الإلهية والأخرى الى مشيئته البشرية. ويقول في الرد عليهم: انظروا كيف قال ربنا للأبرص : ” انها مشيئتي فاطهر” مما يدل على أن مشيئته واحدة وفعله الإرادي واحد أيضاً . علاوة على ذلك، يقول ابن الطيب في تعليقه على رفع موسى الحيّة في البرية (يوحنا 3: 14) أن “الشخص الإلهي كان متحداً بالشخص البشري والمشيئة الإلهية متحدة بالطبيعة البشرية” . وفي مواضع أخرى يدحض ابن الطيب أولئك الذين يؤمنون بمشيئتين في المسيح، وهو تفسير وضعه المحرف الماروني لأنه لا وجود له في النسخة الأصلية
كما بيَّنا سابقاً، لم يكن ابن الطيب مارونياً ولا مؤلفاً لكتاب الهدى؛ كما أنه لم يسلم هذا الكتاب إلى أهالي جبل لبنان فانه لا يذكر شيئاً عن لبنان أو عن أهاليه في مقدمة تـفسيره للإنجيل. حتى وإن كان ابن الطيب قال بالفعل بأنه كتب تـفسير الإنجيل بالعربية لفائدة أهالي لبنان لأنهم لم يعودوا يفهمون اللغة السريانية، فإن هذا القول يكفي كبرهان على أنه لم يكن نفسه مؤلف كتاب الهدى، الذي كتب في الأصل باللغة السريانية، لا بالعربية وترجمه إلى اللغة العربية أحدهم ويُدعى المتروبوليت داود. وهنا نجد المطران الماروني يوسف دريان يدهش من ادعاء البطريرك اسطفان الدويهي بأن ابن الطيب كتب هذا الكتاب وأرسله إلى شعب لبنان للتحايل عليهم لكي يقبلوا المونوثيلية .
يناضل المطران يوسف الدبس في إحدى المناقشات في كتابه روح الردود لتبرئة مؤلف كتاب الهدى، وبالتالي تبرئة الموارنة من كونهم مونوثيليين، إلا أن معظم حججه هي تكرار لموقف الدويهي الذي لا يمكن الدفاع عنه . إلا أن الدبس يورد بياناً يدعو الى الارتياع وهو أن المتروبوليت داود روى في كتابه بأنه من الممكن القول بمشيئة واحدة في المسيح بنفس المعنى الكاثوليكي الذي قال به البابا هونوريوس . يستـشهد الدويهي، برهاناً على وجهة النظر هذه، بالقول التالي من كتاب الهدى (مخطوطة الفاتيكان السريانية 133) : ” إن مشيئتي المسيح هاتين إما متحدتان أو منفصلتان. فإن كانتا متحدتين من كل وجهة، فسيتبع ذلك أنهما قد أصبحتا مشيئة واحدة بسبب اتحادهما وهدفهما. وإن كانتا منفصلتين، فسيتبع ذلك أن يشاء الجوهر الإلهي ما لا يشاؤه الجوهر البشري والعكس بالعكس، (وبالنتيجة فان اتحادهما يصبح باطلاً) . تعتبر هذه الفقرة هامة حقاً خاصة عندما يستـشهد بها كاتب كالمطران يوسف الدبس. ومع أن الدبس مخطيء في عزو تأليف الكتاب إلى المتروبوليت داود، فإن هذه الفقرة تضم، وللمرة الأولى، إقرار الدبس بأن الموارنة كانوا مونوثيليين ولكن ” بمعنى كاثوليكي “. كما تظهر أيضاً بأن نظرية اللاهوت المارونية التي ناقشها مؤلف كتاب الهدى كانت نظرية مونوثيلية لا لبس فيه. علاوة على ذلك، فان هذه الفقرة تهدم ادعاء الدبس (وكذلك ادعاء القلاعي والدويهي) بأن توما أسقف كفرطاب كان قد حرَّف كتاب الهدى بإدخال تعابير مونوثيلية بشكل متعمد.
يسهب المطران الماروني يوسف دريان اكثر من الدبس في دراسة فرضية قبول المونوثيلية بمعنى كاثوليكي . بيد أن الدبس ودريان ليسا أول مارونيين في العصور الحديثة يقومان بشرح المونوثيلية ” بمعنى كاثوليكي “. فقد جرت محاولة القيام بذلك في القرن السابع عشر من قِـبَل مرهج نيرون، والذي يستـشهد به كلاً من الدبس ودريان. ففي مقالته عن أصل المارونية يعمد مرهج نيرون إلى شرح المونوثيلية على ضوء الشهادة الواردة آنفاً في كتاب الهدى. يقول نيرون أن الموارنة عندما اعترفوا في بعض الحالات، بمشيئة واحدة في المسيح إنما كانوا يعنون فعلياً أن مشيئتي المسيح كانتا على اتفاق تام ووحدة كاملة لا فيما يتعلق بقدرات المسيح التي يؤمنون بأنهما قدرتان، أي القدرة الإلهية والقدرة البشرية ( ويستـشهد نيرون بكتاب الهدى، وبأن كاتبه هو المتروبوليت داود، باعتباره مصدراً في هذه الحال بينما الأكثر صواباً أن داود هو المترجم لا المؤلف. ثم يستـشهد نيرون بمرجع (لا يحدده بشكل صحيح) يُـشير بدوره إلى الإنجيل للبرهان على “المعنى الكاثوليكي” للمونوثيلية. والإشارة الكتابية هي (انجيل مرقس 7: 24) “: ثم قام من هناك ومضى إلى تخوم صور وصيدا، ودخل بيتاً وهو يريد أن لا يعلم أحدٌ. فلم يقدر أن يختـفي “. يقول نيرون إن الإجابة على السؤال فيما إذا أستطاع المسيح فعل كل شيء، أم لم يستطع ـ في هذه الحال، الاختفاء عن الجموع ـ هي أن المسيح في ناسوته أراد أن يختـفي لكنه لم يستطع. بيد أنه كان قادراً في لاهوته على القيام بكل شيء. ولكن بما ان المسيح لم يشأ، ولكن مع ذلك فعل وشاء، ولكنه لم يقوَ على الفعل، فذلك يعني أنه امتلك بالضرورة مشيئتين تامتين متحدتين دون انفصال أو تـناقض، مع العلم أن طبيعته البشرية خاضعة لطبيعته الإلهية. وهكذا فإن من يعترف بمشيئة واحدة في المسيح فهو يجدّف. من الناحية الأخرى فالذي يفهم، كما يفعل الموارنة، بأن مشيئة المسيح الواحدة هي نتيجة اتحاد مشيئتيه والاتفاق التام بينهما. فالقضية كلها تعود الى الفكرة التي مفادها انه اذا اتفق اثنان على القيام بعمل ما فان مشيئيتهما تصبحان واحدة في اجراء ذلك العمل. مثل هذا القياس لا يعني بأن إحدى المشيئتين تصبح لاغية. بل إن ما يفهم من المشيئة الواحدة هنا هو أن غاية المشيئتين وهدفهما هما واحد وانهما في الوقت نفسه ان طبيعتي المسيح الإلهية والبشرية تمتلك كل منهما المشيئة الخاصة بهما. ويُـضيف مرهج نيرون بأنه يمكن للمرء أن يستـنتج من هذه الشهادة بأن الذين يعترفون بمشيئة واحدة في المسيح لا يحاولون اثبات ان في المسيح مشيئة فردية واحدة، بل أن مشيئتيه لا تعملان في معارضة أو مـناقضة احداهما للأخرى: بعبارة أخرى، ان مشيئة المسيح البشرية تخضع كلياً لمشيئته الإلهية وتكمل أوامرها. ويمضي نيرون بقوله إن هذا الشرح للمشيئة الواحدة هو شرح “كاثوليكي” صرف ويتفق مع الشهادة التي تبناها المجمع السادس في جلسته السابعة عشرة .
تقودنا هذه الرواية إلى الاعتقاد بأن الموارنة كانوا مونوثيليين ولكن في نصاب ” كاثوليكي “. ولكن بينما يحتكم الدبس إلى كتاب الهدى وإلى البابا هونوريوس للبرهان على وجهة نظره، فإن دريان يلجأ إلى توما أسقف كفرطاب للتوضيح بأن مونوثيلية الموارنة تتفق مع المونوثيلية كما فهمها البابا هونوريوس. لا بد من التنبيه اليه هنا أن الكتّاب الموارنة يتهمون توما الكفرطابي بتحريف كتبهم وذلك بإقحام ادلة مونوثيلية فيها.
يبدو أن المطران دريان يقبل تفسير توما للمونوثيلية ويعتبره متفقاً مع الإيمان “الكاثوليكي”. لذلك تراه يستخرج عدة شواهد من الفصول العشرة لتوما لكي يؤيد رأيه. لا بل يصر بأن تعليم أسقف كفرطاب هو نفس تعليم الموارنة. وان الموارنة لايمتلكون مصدراً آخر يوضح هذا التعليم. يؤمن دريان بأن الإيمان الذي عبَّر عنه أسقف كفرطاب لا يتعارض بحال من الأحوال مع روح تعليم ” الكنيسة الكاثوليكية “، (الكنيسة الكاثوليكية الرومانية) بخصوص هذه المسألة العقائدية. ويصر دريان بأن العقيدة المونوثيلية التي يحتفظ بها الموارنة، لا تتّفق في الجوهر أو في النتيجة مع المعنى ” الحقيقي ” لمونوثيلية القرن السابع التقليدية. ولهذا السبب يقول دريان جازماً ان الموارنة وان كانوا قد دانو بالمونوثيلية كما فسرها توما فليس من الجائز ان يسموا مونوثيليين لأن هذا المصطلح ينطبق فقط على جماعة من المسيحيين عرفوا بتعاليمهم الخاطئة وبمبادئ تتعارض مع إيمان الكنيسة ” الكاثوليكية ” (كنيسة رومـا). ويعلل دريان ذلك بقوله ان هذه الجمـاعة من المسيحيين ظهرت في الربع الأول من القرن السابع وقد أدانها المجمع السادس، وبعد ذلك اختفت تدريجياً ولهذا لا يمكن العثور على أثر لها في الكنائس الخلقيدونية . ولكي يبرهن على النتائج التي توصل إليها استشهد دريان بالكاردينال فرانزلين من القرن التاسع عشر الذي اصر فيما كتبه عن التجسد، بأن البابا هونوريوس كان قد فهم المونوثيلية ” بمعنى كاثوليكي ” ويعلل فرانزلين بأن الذين ينكرون وجود مشيئتين في المسيح ـ المشيئة الإلهية التي تعمل بطريقة سماوية والمشيئة البشرية التي تعمل بطريقة دنيوية ـ أو من ينكرون وجود المشيئة البشرية في المسيح بالقدر الذي تتعارض فيه مع المشيئة الإلهية سيجعلون هاتين المشيئتين مشيئة واحدة في الموافقة والفعل. ويؤكد فرانزلين بأنه من الممكن اعتبار هذا التعليم تعليماً ” كاثوليكياً “، أي موافقاً لتعليم كنيسة روما. ويتابع قائلاً بأن البابا هونوريوس قد فهم هذه المسألة، كما شرحها له سرجيوس بطريرك القسطنطينية في رسالة حول المناظرة الحامية بين قورش الاسكندري وسوفرونيوس مطران أورشليم، بخصوص فيما إذا كانت للرب المسيح مشيئة واحدة وفعلٌ واحد أم مشيئتان وفعلان. يقول فرانزلين إن ما يؤيد رأيه بأن هونوريوس قد فهم المونوثيلية بهذا المعنى هو ما ورد في رسالته إلى سرجيوس. يقول هونويريوس:
نعترف بوجود مشيئة واحدة لربنا يسوع المسيحUnde et unam voluntatem fatemur Domini nostri Jesu Christi)). بما أن طبيعتنا (البشرية) قد استوعبتها الالوهية وانها عارية عن الخطية كانت قبل السقوط. لأن المسيح كما جاء في شكل جسد الخطية فقد رفع خطيئة العالم باتخاذه صورة عبد،. وكما تمَّ الحبل به من الروح القدس فكذلك وُلد أيضاً دون خطيئة من العذراء الطاهرة القديسة والدة الله دون أن يمسها فساد الطبيعة البشرية
يشير دريان الى التشابه بين هذه الجملة ومونوثيلية الموارنة كما شرحها توما أسقف كفرطاب. ويؤكد بأن التـشابه كبير جداً بحيث يبدو من الممكن ان أسقف كفرطاب قد استقى هذه الجملة من رسالة هونوريوس إلى سرجيوس. ويرى دريان أن هذا القول لا يتعارض مع الحقيقة وهي أن المجمع السادس اعتبر البابا هونوريوس هرطوقياً. وينافح قائلاً بأن هونوريوس لم يدن بسبب خطأ في تعليمه، بل لأنه تسامح مع القادة المونوثيليين وكتب إليهم دون أن يتحرى خطأهم معطياً إياهم بذلك الفرصة في استعمال رسـالته لخداع المؤمنين دون أن يدرك حقيقة نواياهم.
إن استعمال رسالة هونوريوس للبرهان على امكانية تفسير المونوثيلية بمعنى ” كاثوليكي ” أمر لا يمكن الدفاع عنه. لأن المونوثيلية تعني بكل وضوح ” مشيئة واحدة ” بغض النظر عن التفاسير المختلفة لنمط اتحاد المشيئتين في المسيح. فقد كان معظم الأنطاكيون القدامى وحتى بولس السميساطي بطريرك أنطاكية (260ـ272) مونوثيليين يعتقدون بأن يسوع المسيح كانت له مشيئة واحدة (mia thelesis) أو كما يقول بولس السميساطي، ” ان اختلاف شخصي المسيح (اي الالهي والانساني) لهما نمط واحد في الاتحاد واتفاق في المشيئة مما يدل على وجود وحدة في الاشياء التي تم اتحادهما ( اي اتحاد طبيعتي المسيح ) . ان الـ Ecthesis الذي اعلنه الإمبراطور هرقل ينص بصراحة بأن نسطور لم يُعلّم أبداً عقيدة المشيئتين . والمصدر الآخر الذي يدل على أن النساطرة كانوا مونوثيليين (من اصحاب المشيئة الواحدة) هو الرسالة الموجهة من البطريرك طيموثاوس النسطوري عام 791 إلى رهبان دير مارون ( بل ان السـمعاني نفسه يعترف بكل تأكيد بأن النسـاطرة كانوا مونوثيليين . يقول مؤرخ اللاهوت الالماني ادولف هارناك في هذا الصدد ان القول بأن ” للطبيعتين المختلفتين والشخصين المختلفين صيغة واحدة في الاتحاد، واتفاق في المشيئة، والذي يدل بوضوح على وجود وحدة في قدرة الاعمال المتحدة معاً على هذا النحو ” يعتبر الركن الأساسي للعقيدة الانطاكية (اي المدرسة الانطاكية) بعد أن تطور ليشكل عقيدة الطبيعتين”. لقد أظهرنا سابقاً أن سرجيوس بطريرك القسطنطينية، جمع مستلات عديدة من كتابات ديونيسيوس الأريوفاغي والقديس كيرلس الاسكندري وآخرين تبرهن على أنهم علّموا عقيدة القدرة الواحدة في المسيح . إن المسألة برمتها تتعلق بالجدل حول صيغة اتحاد طبيعتي المسيح وفيما إذا كان هذا الاتحاد يشمل أيضاً اتحاد المشيئتين في نفس المسيح. ومن المحتمل ان يكون هذا الجدل قد اصبح اساساً جوهرياً في الخلاف اللاهوتي بين مدرستي أنطاكية والاسكندرية القديمتين حيث كانت لهما آراؤهما الخاصة في اتحاد طبيعتي المسيح ومشيئته . يقول الأنطاكيون من الناحية المنطقية انه طالما كانت طبيعة السيد المسيح البشرية موضوعة في خدمة الطبيعة الإلهية فهي مفعمة كلياً بالمشيئة الإلهية. وهكذا، فإن اصطلاح مدرسة أنطاكية (mia thelesis) فيما يخصّ المسيح حسب قول هارناك ” لم يكن نتاج صيغة مادية ـ سيكولوجية بل صيغة أدبية ” . من الناحية الأخرى فان المدرسة الاسكنرية اعتبرت الله ـ اللوغوس (الكلمة اي السيد المسيح خاضعاً لـ الله ـ الإنسان الذي جعل الطبيعة البشرية طبيعة له مصوراً بذلك اتحاد القدرة باساسها وهو اتحاد الله ـ الإنسان الذي يفوق الوصف . وهكذا فإن مصطلح كيرلس الاسكندري اي الله الكلمة وهو طبيعة واحدة متجسدة للوغوس الالهي تتطلب أيضاً مشيئة واحدة لنفس اللوغوس اي الله الكلمة.
يُعتبر الرأيان متفقين بشكل أساسي بأن نتيجة وحدة مشيئتي المسيح هي مشيئة واحدة؛ ولكنهما يختلفان فقط حول صيغة اتحاد مشيئتي المسيح. لذا، فمن غير الجوهري، لا بل من العبث الادعاء بوجود نوعين من المونوثيلية احدهما ” كاثوليكي ” والآخر ” هرطوقي “. ربما يكون البابا هونوريوس اعتقد بأن فهمه للمونوثيلية كان متفقاً مع التعابير المونوثيلية التي استعملها سرجيوس وثيودور الفاراني على اساس أنه لا يمكن ان تكون مشيئة المسيح البشرية التي لا خطيئة فيها مناهضة للمشيئته الإلهية لانه من المحال بعد اتحادهما تمييز الواحدة عن الاخرى . من الممكن أيضاً أن يكون هونوريوس قد فهم المونوثيلية على ضوء صيغة الإيمان الخلقيدونية التي أشار إليها الدبس ودريان على أنها ” المعنى الكاثوليكي ” لها. وهذا ما حاول أن يفعله الاب شارل جوزيف هيفيلي بخصوص عبارة البابا هونوريوس المونوثيلية وهي:
“بناء على ذلك، نؤكد على مشيئة واحدة لربنا يسوع المسيح”. والتي يصفها هيفيلي بأنها ” العبارة التعسة ” ويقر بأنها “مونوثيلية تماماً إن أخذت حرفياً” .
وسواء نجح هيفيلي أم لم ينجح في تـفسيره لما رغب في أن تكون الدلالة ” الكاثوليكية ” لقول هونوريوس المونوثيلي، تبقى الحقيقة الصارخة وهي بأن أعضاء المجمع السادس أدانوا هونوريوس كما أدانوا المونوثيلية. وها هو حكمهم :
إضافة إلى ذلك، نحرم وننبذ مبتدعي العقائد الجديدة التي لا موجب لها وواضعيها ونعني ثيودور الذي كان مطران فاران، وسرجيوس الذي كان مطران مدينتنا الملكية هذه ( القسطنطينية ). كما نحرم ايضاً هونوريوس، الذي كان بابا روما القديمة، كواضع لهذه الهرطقة (المونوثيلية) والذي تبناها ووافق عليها وثبتها .
أصدر الإمبراطور قسطنطين الرابع، بوغوناتس، مرسوماً صادق فيه على قرارات هذا المجمع وثبت حرومات هرطقة ثيودور الفاراني وسرجيوس القسطنطيني وهونوريوس بابا روما القديمة وعُلق المرسوم في فناء الكنيسة الكبرى في الجوار من ديسيمبالون Dicymbalon (46).
ولكن ما من أحد وصف بدقة ” هرطقة ” هونوريوس كما فعل البابا لاون الثاني، في رسالته الموجهة إلى الإمبراطور قسطنطين الرابع، بوغوناتس مثبتاً قرارات المجمع السادس. فقد كتب :
كذلك، نحرم مبتدعي الهرطقة الجديدة، أي، ثيودور مطران فاران، وقورش الاسكندري، وسرجيوس، وبيروس، وبولس وبطرس وجميعهم كانوا بطاركة شرعيين لكنيسة القسطنطينية. كما نحرم هونوريوس الذي لم يعطَ مجداً لهذه الكنيسة الرسولية ذات العقيدة المبنية على التقليد الرسولي بل حاول بالأحرى إفساد الإيمان الطاهر بخيانة دنسة كما نحرم أولئك الذين ماتوا على خطئه ونعتبر محاكاتهم والشركاء الذين وقفوا إلى جانبه أو من هم الآن معه أي مكاريوس وهو الأكثر خداعاً لكنيسة أنطاكية، امراً مقيتاً .
أخذ الكاتب الكاثوليكي الاب شارل جوزيف هيفيلي على عاتقه المهمة المؤلمة في محاولة تبرئة البابا هونوريوس من الهرطقة أو على الأقل ليبرهن أن البابا قد أسيء فهمه. إلا أن الحقيقة تبقى قائمة، وهي ان المجمع السادس قرر ان هذا البابا كان هرطوقياً .
وعلى ضوء قرار المجمع السادس، لا يمكن الدفاع عن المونوثيلية بالمعنى الكاثوليكي كما رغب ذلك المطرانان المارونيان الدبس ودريان وغيرهما. والحقيقة هي ان سائر الكنائس الخلقيدونية، وخاصة كنيسة روما وكنائس الشرق المتحدة بها (بما فيها الكنيسة المارونية) قبلت بالاجماع هذا المجمع أدان المونوثيلية كهرطقة. ولهذا فإن أي تفسير لهذه العقيدة يجترحه الخلقيدونيون هو مسألة أكاديمية بحتة. علاوة على ذلك ليس هناك من دليل على أن الكنيسة المارونية قبلت المجمع السادس على الاقل حتى القرن السادس عشر. من المؤكد أن يوحنا مارون، الذي يعتقد بأنه أول بطريرك ماروني، لم يُـشر إلى المجمع في مؤلفاته؛ لكنه يُـشير فقط إلى المجامع المسكونية الأربعة الأولى (49). فضلاً عن ذلك فان الكتب الطقسية المارونية تضمنت عقيدة المونوثيلية حتى القرن السادس عشر، حينما ” طهرتها ” الارساليات التبشيرية القادمة من كنيسة روما لغرض اعادة الموارنة إلى حظيرتها. ومهما يكن من أمر فان الموارنة المعاصرين الذين اصروا بأن أجدادهم لم يكونوا يوماً من الأيام مونوثيليين مالوا الى الاعتراف بأن أجدادهم كانوا مونوثيليين ولكن ” بمعنى كاثوليكي ” .
إن ما يؤكد مونوثيلية الموارنة هو كتبهم الطقسية. وفيها نجد ان صلاة الاستغفار (الحسّاية في السريانية)، التي يتلوها الكاهن في بداية الاحتفال بالقداس تتضمن العبارة المونوثيلية التالية : ” المجد للرحيم الذي حلّ في مريم بـِضِعَةٍ وأشرق من رحمها كإنسان بتواضع. وخرج إلى البرية باتحاد لا يوصف لطبيعتيه الحقيقيتين. فهو شخص واحد ومشيئة واحدة يحتفظ بخصائص الطبيعتين دون انقسام ” .
إن الاعتراف بالمشيئة الواحدة للمسيح واضح في هذه الصلاة، إلا أن بعض الموارنة يحاولون شرحها بتعليل عقلي ” كاثوليكي ” كما يظنون. يعلق الأب الماروني بولس ابراهيم على هذه الفقرة بقوله أن ما يعنيه الموارنة بالمشيئة الواحدة في هذا السياق هو الوحدة المعنوية للمشيئتين لانه لم تكن في المسيح مشيئة ” للخطيئة “. ويستـنتج بأن هذا ما عناه هونوريوس بالمشيئة الواحدة في رسالته إلى سرجيوس . هذا على ما يبدو رأي واه. فالواضح إن الصلاة المستـشهد بها أعلاه هي صلاة مونوثيلية بشكل صريح وقد استعملها العديد من الكهنة الموارنة كلما احتـفلوا بالقربان المقدس لتثبيت إيمانهم بأنه لم تكن للمسيح سوى مشيئة واحدة.بل إنها تـناقض رأي المجمع السادس الذي أكَّد على مشيئتين وفعلين طبيعيين الذي يجب أن يفهم منه ان المشيئتين والفعلين كائنتان دون انفصال، او تغيير، او انقسام، او بلبلة . ومنذ ذلك الحين صارت هذه العقيدة الصيغة النهائية التي قبلتها كنيسة روما عام 680 وان أي تعليل عقلي يؤيد عقيدة المشيئة الواحدة يعتبر مناقضاً لهذه الصيغة بل يعوزه اي تبرير عقائدي او كنسي.
والكتاب الطقسي الماروني الآخر الذي يعترف بعقيدة المشيئة الواحدة في المسيح هو طقس رسامة الشمامسة والكهنة والأساقفة. فعندما يقوم المطران برسامة الكاهن يتلو عليه البيان التالي الذي يتضمن اعترافاً بالمشيئة الواحدة في المسيح :
اتحد بالإيمان الحق مع يسوع المسيح الذي اهّلك لهذه الخدمة. إنه إيمان قديسينا وآبائنا الرسل وكذلك الإيمان الذي أكدته المجامع، والقوانين الكنسية التي تحوي تعليمهم الصحيح بأن ربنا وإلهنا يسوع المسيح هو شخص واحد، ابن واحد، مسيح واحد ومشيئة واحدة. لهذا السبب قال، ” ما جئت لأصنع مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني. ” حاشا أن تكون للمسيح مشيئتان، وأن يُدعى الثالوث بعد اتحادهما رابوعا هذه الشهادات وغيرها هي برهان حاسم على أن إيمان الكنيسة المارونية لم يكن مطابقاً لإيمان كنيسة روما، وخاصة بعد أن أدان المجمع السادس المونوثيلية.
اعترفت بمونوثيلية الموارنة كذلك جمهرةٌ من الكتّاب غير الموارنة من اللاهوتيين ومؤرخي الكنيسة من طوائف مختلفة. وربما كانت كتابات جرمانوس الأول بطريرك القسطنطينية (715ـ729 أو 733) هي اقدم ما كتب عن هذا الموضوع. يقول جرمانوس أن الموارنة، على غرار العديد من الهراطقة الآخرين، رفضوا المجمعين الخامس والسادس لكنهم قبلوا المجمع الرابع اي مجمع خلقيدونية. ويُـشير إلى جدالهم حول هذه النقطة مع ” اليعاقبة “، الذين اعتبروا الموارنة عديمي المنطق لانهم قبلوا المجمع الرابع ولكنهم رفضوا المجمعين الخامس والسادس. وبعد أن روى بأنه كان للموارنة دير في سورية، يستطرد جرمانوس بأن غالبية الموارنة (ويعني رهبان دير مارون) لم يرفضوا بشكل بات المجمعين الخامس والسادس فقط بل رفضوا أيضاً مجمع خلقيدونية وهو المجمع الرابع. ولكنه لا يعلل هذا الرفض بل يستـنتج بأنه من البديهي ان الذين يقبلون المجمع الرابع لا بد أن يقبلوا بالضرورة المجمع السادس لكونه يثبت اجراءات المجمع الرابع. إن شهادة جرمانوس هذه ذات أهمية بالغة خاصة وانها صادرة من رئيس كنيسة القسطنطينية التي كانت قد قبلت مجمع خلقيدونية. ولكن لسوء الحظ، لا يقدم جرمانوس معلومات حول الأسباب أو الظروف التي حدت بالموارنة إلى رفض مجمع خلقيدونية. إن النتيجة الوحيدة التي يسعنا التوصل إليها على ضوء هذه الشهادة هي أن العديد من الرهبان الموارنة الذين أكرههم الإمبراطور هرقل على قبول مجمع خلقيدونية نبذوا هذا المجمع عندما حررهم موت هرقل من الخوف من الاضطهاد. والأكثر من ذلك نجد ان هذه الشهادة تتفق تماماً مع كتابات بطريرك أنطاكية السرياني ديونيسيوس التلمحري، حول هرقل والرهبان الموارنة والتي أدت إلى النتيجة أن هؤلاء الرهبان لم يكونوا خلقيدونيين بل كانوا سرياناً أرثوذكس ـ مونوفيزيين اي من اصحاب عقيدة الطبيعة الواحدة قبل النصف الأول من القرن السابع. فانه ليس من المعقول ان يقول جرمانوس بأن عدداً كبيراً من الموارنة تبرأوا من المجمع الرابع اي مجمع خلقيدونية لو لم تكن لديه معرفة بقيامهم بذلك في زمنه.
هناك شهادة أخرى عظيمة الأهمية حول الموضوع وهي شهادة يوحنا الدمشقي (ت 749)، وهو أشهر لاهوتي خلقيدوني وأحد قديسي الكنيسة الملكية الذائعي الصيت. كان القديس يوحنا الدمشقي من أهالي سورية وعلى دراية تامة بالطوائف الكنسية المختلفة في زمنه؛ لذا فإن معرفته بإيمان الموارنة أمر لا يقبل الجدل. يذكر يوحنا الدمشقي في مؤلفاته الغزيرة الموارنة مرتين فيما يتعلق بإيمانهم. ففي مؤلفه De Recta Sententia يصفهم بأنهم مونوثيليين. وبعد أن يقسم بالثالوث المقدس بأنه يتمسك بالإيمان الصحيح يتابع قائلاً، “لن أقبل قط أي إيمان مخالف لما أوردته أو ارتبط به مع اي شخص لا يعترف بهذا الإيمان، خاصة الموارنة” . ان إشارة يوحنا الدمشقي هذه إلى الموارنة هي في معرض كتابته عن التقديسات الثلاث، وخاصة عبارة يا من صُلبت لأجلنا، ارحمنا. التي ينسبها هو وكتّاب آخرون خطأ إلى بطرس القصّار، بطريرك أنطاكية. والمهم هنا هو معرفة موقف يوحنا الدمشقي حول هذه الفقرة المضافة الى التقديسات الثلاث. ففي الوقت الذي يُعلن بعض آباء الكنيسة الخلقيدونيين، وخاصة البطريرك أفرام الآمدي، بأن بمقدورهم قبول هذه الإضافة إلى التقديسات الثلاث إن كان المراد بها الشخص الثاني من الثالوث ـ المسيح ـ فإن يوحنا الدمشقي يرفضها رفضاً باتاً. فتراه يصر على ان الذين يستعملون التقديسات الثلاث مع إضافة يا من صُلبت لأجلنا، ينسبون، الصلب، في رأيه، إلى الثالوث بأجمعه. وبما أن الموارنة كانوا من بين أولئك الذين استعملوا الإضافة، فقد اعتبرهم يوحنا الدمشقي مبتدعين ( ويؤكد يوحنا الدمشقي رأيه حول التقديسات الثلاث في رسالة موجهة إلى الأرشمندريت جردانوس قائلاً بأن بطرس القصّار لم يخشَ أن يقصر ترنيمة التقديسات الثلاث كما يقصر ثوباً قذراً؛ فإن كانت هذه الترنيمة المقدسة تخصّ الابن وحده، فسيزول بذلك كل شك ” ونصبح مُمَورَنين (اي نصبح كالموارنة) وذلك بعزو الصلب الى الثالوث بأكمله. حاشـا لله أن نكـرر هذه التقديسات الثلاث بشفاهنا. عسى أن يرحمنا الله وينجينا من هذا الموت، لأن الموت هو في هذه الكأس “.
يبدو هنا أن يوحنا الدمشقي ابتكر عبارة ” نمورن ” عند الإشارة إلى كون الموارنة ينسبون الصلب إلى الثالوث بأجمعه مما اثار استياء المطران الماروني يوسف الدبس. وقد حاول الدبس أن يوضح بأن ليس هناك من شيء في مؤلفات يوحنا الدمشقي يَصِم الموارنة بالهراطقة. ويقول بحماس بأن يوحنا الدمشقي لم يبتكر عبارة : نمورن ” بل استعمل بالأحرى كلمة ” Baronizmen ” (يهذون كالسكارى) لوصف الذين يوجهون عبارة يا من صُلبت لأجلنا، إلى الشخص الثاني من الثالوث اي المسيح. كما يصر الدبس بأن الموارنة في زمن يوحنا الدمشقي كانوا يدعون ” بالمتمردين أو المردة ” لا بالموارنة، وبأن ميخائيل لكويان، الذي قام بتحرير De Recta Sententia، قد خدعته عبارة يوحنا الدمشقي “خاصة الموارنة”. ويرتأي الدبس ان هذه العبارة غير صحيحة ولا تظهر في المخطوطة الأصلية من مؤلف الدمشقي De Recta. وأخيراً يؤكد الدبس أنه من الممكن استعمال التقديسات الثلاث مع العبارة المضافة وهي يا من صُلبت لأجلنا بمعنى كاثوليكي. كما يدّعي أيضاً أن لكويان برّر الموارنة في كتاباته من أية ” هرطقة ” .
إن النقد الذي وجهه المطران يوسف الدبس إلى يوحنا الدمشقي غير مقنع. صحيح أن يوحنا الدمشقي لم يُـشر مباشرة إلى الموارنة على أنهم هراطقة، إلا أنه كلاهوتي خلقيدوني كان يعتبر العبارة المضافة الى التقديسات الثلاث هرطقة فهو يلمح ضمناً بأن الموارنة الذين رتلوا التقديسات الثلاث مع هذه العبارة ، يعتبرون هراطقة. والمراد قوله هنا هو أنه ما من كنيسة خلقيدونية، ومن ضمنها كنيسة روما، رتلت يوماً التقديسات الثلاث مع هذه العبارة المضافة. بل ان مجمع ترولان المنعقد عام 692 في قانونه الحادي والثمانين نهى عن إضافة عبارة يا من صُلبت لأجلنا إلى التقديسات الثلاث . وهذا ما أيده العلاّمة السمعاني نفسه الذي اسهب في الحديث عن قرارات هذا المجمع . يُعتبر إذاً تبرير التقديسات الثلاث، بما فيها عبارة يا من صُلبت لأجلنا، بمعنى ” كاثوليكي ” تبريراً واهياً. فان هذه العبارة إما أن تكون أرثوذكسية أو بدعة. والذي تجب ملاحظته هو انه في الوقت الذي اعتبرتها الكنائس الخلقيدونية، ما عدا الموارنة، هرطقة، فان الكنائس المناوئة للخلقيدونية كالكنائس السريانية والقبطية والأثيوبية والأرمنية اعتبرتها جزءاً أساسياً من إيمانها الأرثوذكسي. والاكثر من ذلك لا يمكن تبرير اتهام المطران الدبس ميخائيل لكويان بالدس المزعوم لكلمات، ” خاصة الموارنة ” في مؤلف يوحنا الدمشقي De Recta Sententia بحجة أن هذه الكلمات لم تكن موجودة في النسخة الأصلية منه. والذي فات المطران الدبس ان ميخائيل لكويان دافع دائماً عن ” كاثوليكية ” الموارنة وأتبع في الكثير من الجوانب آراء كتّاب موارنة. إلا أنه اورد بخصوص التقديسات الثلاث، ما اعتقد بأنه الحقيقة عن الموارنة . بل لا يوجد دليل بأنه قام بتحريف نص يوحنا الدمشقي. علاوة على ذلك، ليس من سبب يدعو إلى الاعتقاد بأن لكويان قد انتهك الحقيقة التاريخية بقوله بأن الموارنة كانوا مونوثيليين. بل ان موضوعيته حول هذه النقطة واضحة سيما وأنه لم يغفل أبداً، في طبعته لمؤلفات يوحنا الدمشقي، الاستـشهاد بآراء كتّاب موارنة، وخاصة آراء مرهج فاوستوس نيرون، الذي يشهد على مونوثيلية الموارنة. كما يعلل لكويان أيضاً أصل الموارنة بانهم كانوا “مونوفيزيين اي يعاقبة” قبل أن يصبحوا مونوثيليين فيقول: ” كان أهالي لبنان ينحدرون من أولئك المونوثيليين الفينيقيين، الذين لم يكونوا في السابق فقط متصلبين بعقيدتهم التي حددها مجمع خلقيدونية بل اعتـنقوا ايضاً العبارة المضافة الى التقديسات الثلاث اي (يا من صُلبت لأجلنا) التي صاغها بطرس القصّار، إلا أنهم على الأقل، كمونوثيليين، هجروا المونوفيزية ” .
لا يوضح لكويان فقط بأن الموارنة كانوا مونوثيليين بل يوحي بالسبب الذي دعاهم لأن يصبحوا مونوثيليين فيما يخص موقفهم من مجمع خلقيدونية. فهو يُـشير في هذا السياق إلى رهبان دير مارون الذين كانوا السوابق للطائفة المارونية. ويمكننا أن نستخلص من قوله هذا بأن لكويان يُـشير إلى الفترة الممتدة من مجمع خلقيدونية عام 451 وحتى النصف الأول من القرن السابع عندما أصبح الموارنة الأوائل ـ رهبان دير مارون ـ مونوثيليين عندما فرض الإمبراطور هرقل المونوثيلية. يُعتبر البيان واضحاً وباتاً خاصة بأن هؤلاء الرهبان الموارنة كانوا مونوفيزيين، وبالرغم من الظن بأن الجدل المحتم حول صيغة اتحاد طبيعتي المسيح قد تمَّ حله عن طريق مجمع خلقيدونية، إلا أن رهبان دير مارون أبدوا تصلباً في قبول قرارات المجمع. وان هذا التصلب ادى بالنتيجة الى غضب هؤلاء الرهبان المونوفيزيين (اصحاب الطبيعة الواحدة) ورفضهم مجمع خلقيدونية وتعريفه للإيمان على غرار غالبية الكنيسة في سورية. وباعتبارهم مونوفيزيين من اصحاب الطبيعة الواحدة فقد فهم كانوا يتلون ترنيمة التقديسات الثلاث مع عبارة يا من صُلبت لأجلنا ، والتي يعتقد لكويان خطأ بأن بطرس القصّار بطريرك أنطاكية اضافها الى التقديسات الثلاث في الجزء الأخير من القرن الخامس. وقد ظل هؤلاء الرهبان مونوفيزيين يتمسكون بصيغة عقيدة القديس كيرلس وهي الطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي حتى بداية القرن السابع، عندما أصبحوا مونوثيليين ولكن بالصيغة الخلقيدونية للإيمان والتي فرضها عليهم الإمبراطور هرقل. وبالرغم من قبولهم هذا الايمان مكرهين على ما يبدو فانهم ظلوا أوفياء لإيمانهم المونوفيزي الأصلي، الذي أبقوا عليه سليماً في كتبهم الطقسية. اي ان عقيدتهم الجديدة بالمونوثيلية (مشيئة واحدة في المسيح) لم تفصلهم فصلاً كبيراً عن معظم المونوفيزيين الأرثوذكس في سورية؛ بل ان نقطة الانفصال كانت هي قبولهم الظاهري لمجمع خلقيدونية الذي فرضته السلطة الإمبراطورية. وبعد قبولهم قرارات مجمع خلقيدونية والمونوثيلية كعقيدة، اصبحوا جماعةً دينية متميزة في القرن الثامن.
إن ما يضفي كبير الأهمية على شهادة لكويان هو تعاطفه مع الموارنة. فهو واحد من أوائل الكتّاب الكاثوليك الغربيين الرومان في العصور الحديثة الذي دافع عن ” كاثوليكية ” العقيدة التي حددها مجمع خلقدونية بكونها فصل الختام في ” الأرثودكسية “. ومع ذلك فهو يقرُّ بأن الموارنة كانوا مونوفيزيين وأنهم تحدوا مجمع خلقيدونية. إن اقرار لكويان هذا لا يؤيد الموقف الذي تمسك به الموارنة منذ القرن السادس عشر، وهو أن الموارنة قد دافعوا بحماس عن مجمع خلقيدونية وعن صيغته في الإيمان منذ القرن الخامس فصاعداً. كما أنه يتـناقض أيضاً مع الزعم القائل بأن سويريوس، بطريرك أنطاكية المونوفيزي وأسقفه بطرس الأفامي نصبوا كميناً لثلاثمائة وخمسين راهبٍ وقتلوهم. لأنه لو كان هؤلاء الرهبان الموارنة في الحقيقة خلقيدونيين مستميتين فقدوا ثلاثمائة وخمسين منهم من أجل إيمانهم الخلقيدوني وانهم دخلوا في جدال مع المونوفيزيين فيما يخص العقائد في نهاية القرن السادس في أنطاكية، لكان من العبث للكويان وغيره من الكتّاب الكاثوليك كالمطران أقليميس يوسف داود اعتبارهم مونوفيزيين أو “يعاقبة”.
بينما يُـشير القديس يوحنا الدمشقي إشارة عابرة إلى مونوثيلية الموارنة، فإن شخصيات كنسية أخرى قريبة العهد من زمنه (مثل، البطاركة النساطرة صليبا زخا (ت 728) وطيموثاوس (ت 823)، أكدت بشكل قاطع على المونوثيلية المارونية. ففي القرن الثامن، نقل الجثالقة النساطرة، الذين دعوا أنفسهم آنذاك “بطاركة “، كرسيهم إلى بغداد (التي شيدت عام 762) عاصمة الدولة العباسية ومركز السلطة السياسية للخلفاء. ونال الأطباء والبطاركة النساطرة حظوة كبيرة في بلاط الخلفاء؛ وهذا ما صح بشكل خاص بالنسبة لطيموثاوس، الذي كان الخليفة هارون الرشيد يخاطبه ” بأبي النصارى ” . لا بد أن الموارنة، الذين كانوا ما يزالون جماعة صغيرة في ذلك الحين، قد علموا عن النساطرة في العراق والمكانة التي كان بطاركتهم يتمتعون بها في البلاط العباسي. وربما اعتقدوا أن وضع أنفسهم تحت سلطة البطريرك النسطوري، الذي كانت الدولة العباسية تسانده، سوف يؤمن لهم الحماية من اضطهاد الملكيين، الذين كانوا يحاولون إرغامهم على الانضمام إلى كنيستهم. ولا بد أنهم علموا أيضاً، أن النساطرة كانوا مونوثيليين مثلهم يعترفون بمشيئة واحدة في المسيح ( ولا بد أن هذا ما حث قادة الكنيسة المارونية على كتابة رسالة إلى صليبا زخا لشرح إيمانهم والتعبير عن رغبتهم في الانضمام إلى كنيسته. ومما يؤسف له حقاً أن الرسائل المتبادلة بين الموارنة وصليبا زخا مفقودة. هناك فقط إشارة إليها في رسالة موجهة من البطريرك طيموثاوس إلى الموارنة، وهي موجودة لحسن الحظ بكاملها. ان الكاتب النسطوري عبديشوع الصوباوي والذي يُـشير إلى العديد من الرسائل المجمعية وغيرها التي كتبها طيموثاوس، لا يذكر شيئاً عنها طالما أنه لم تتوفر نسخة منها في زمنه في الفاتيكان أو في أوروبا. غير ان المطران أقليميس يوسف داود يذكر بأنه حصل على مجموعة من المخطوطات السريانية والعربية من الشرق عام 1869 فأخذها معه إلى روما لإيداعها في مكتبة (مجمع انتشار الإيمان) . وكانت إحدى هذه المخطوطات تضم رسالة طيمثاوس إلى الموارنة. هذه الرسالة موجهة إلى رهبان القديس مارون، ويقول طيموثاوس بأنها كُتبت في السنة الثالثة عشرة من عهد بطريركيته، أي في عام 791. وتُعتبر هذه الرسالة مرجعاً هاماً حول المونوثيلية ومسائل أخرى تتعلق بإيمان الموارنة.
يستهل طيموثاوس رسالته بتحية تعيد إلى الذهن تحيات القديس بولس في رسائله. ويسمي من يخاطبهم ” أعضاء جسد ربنا يسوع المسيح، الأخوة النسّاك الأتقياء الذين يعيشون تحت سدة القديس مارون ـ مع تحيات طيمثاوس العبد الوضيع للإله العظيم ومخلصنا يسوع المسيح، الذي يخدم بنعمة الله الكرسي البطريركي في مدينة الملك (ويعني بها بغداد مدينة الخليفة) ” . ثم ينصرف إلى النقاط التي أثارها الموارنة في رسالتهم إليه. فيثني على إيمانهم معبراً عن فرحه بلجوئهم إليه للاتحاد مع كنيسته، ويلمح إلى اتصالهم السابق بسلفه صليبا زخا. ويمضي في شرح إيمان الكنيسة النسطورية لكي يروا فيما إذا كان موافقا لإيمانهم. ويسهب طيموثااوس في الكتابة عن الثالوث المقدس، والتجسد وطبيعتي المسيح، مبيناً أن الاعتراف بطبيعتين منفصلتين في المسيح يستدعي الاعتراف بشخصين أو مسيحين ـ الواحد منهما مولود من الآب، والآخر مولود من مريم. لهذا السبب اسهب في شرح تعبير (والدة الله) Theotokos محاججاً بأن مريم يجب ألا تُدعى بحاملة الله أو والدة الله . كانت هذه، بالطبع، العقيدة التي آمن بها نسطور، بطريرك القسطنطينية، والتي أدانه بسببها مجمع أفسس (431). إن النقطة الأساسية في رسالة طيموثاوس هي إيمان كنيسته بالمشيئة الواحدة في المسيح حيث يقول: ” إن نتيجة اتحاد شخصي المسيح هي مشيئة واحدة، قوة واحدة، قدرة واحدة وخاصية واحدة. فنحن إذاً لا نقسم ابن الله إلى مشيئتين، وقدرتين أو خاصيتين كما يفعل بعض الأشرار من الناس. حاشا، لان أي امرئ يفعل ذلك يجب ان يلقى في قصور الهراطقة، ويكسى يالأرجوان ويصبح مهملاً “.
إن ما عناه طيمووثاوس ” بقصور الهراطقة ” هو قصور الأباطرة البيزنطيين، وخاصة الإمبراطور قسطنطين الرابع بوغوناتس، الذي حرم المجمع السادس (680) في عهده عقيدة المشيئة الواحدة وثبت عقيدة المشيئتين والقدرتين في المسيح.
بعد ذلك ينتقل طيموثاوس إلى التقديسات الثلاث، فينبه الرهبان الموارنة بأنه لا يمكن لهذه الترنيمة أن تُرتل مع عبارة يا من صُلبت لأجلنا، حتى وإن كانت موجهة إلى ابن الله. ويناشدهم التخلي عن استعمال ” هذه العبارة التجديفية ” في ديرهم؛ ولكن يبدو بأنه يرغب في المصادقة على استعمالها إذا تمَّ تغيير صيغتها لتكون على الشكل التالي : “قدوس أنت الله، قدوس أنت القوي، يا من تجسدت وصُلبت من أجلنا، قدوس أنت أيها السرمدي ارحمنا “. ويعلل طيموثاوس قوله هذا أنه من الممكن ان تحتل عبارة، يا من صُلبت لأجلنا بهذه الصيغة فقط مكاناً في التقديسات الثلاث. وبعد التأكيد بأن كنيسته قد حفظت الإيمان دون فساد منذ العهود الرسولية، يطمن طيموثاوس الرهبان الموارنة قائلاً ” لا يوجد شيء يستطيع ان يمنعنا أيها الأخوة الأحباء من أن نصبح كنيسة واحدة في المسيح ربنا ” . ويستمر في تملق الرهبان الموارنة للانضمام إلى كنيسته موضحاً بأن العديد من الناس (بما فيهم ثلاث عشرة كنيسة في نجران في الجزيرة العربية) قد فعلوا ذلك، وأن الأتراك وقادتهم قد تمت هدايتهم إلى المسيحية وأصبحوا خاضعين لسلطته الكنسية . ويختتم رسالته بعرض شروط انضمامهم إلى كنيسته. ومن بين المسائل العقائدية التي يتوقع من أفراد دير مارون أن يعترفوا بها قبل قبولهم في طائفته هي كما يلي : عليهم الاعتراف بطبيعتين وشخصين في المسيح؛ وأن يسموا سيدتنا العذراء والدة المسيح، لا والدة الله؛ وانهم يجب ان يتخلوا عن عبارة يا من صُلبت لأجلنا في التقديسات الثلاث. وأخيراً، يتوقع طيموثاوس من الرهبان الموارنة قبول تعاليم ثيودور المصيصي وديودورس ونسطور ونبذ كيرلس ” الهرطوقي ” .
إن مونوثيلية الرهبان الموارنة تبدو مفهومة ضمناً لا علناً في رسالة طيموثاوس. يمكن ملاحظة ذلك في نقاشه لعقيدة الطبيعتين والمشيئتين في المسيح وفي وصمه الذين يتمسكون بهذه العقيدة بأنهم هراطقة. وما تجب ملاحظته هنا ايضاً هو انه لو كان الرهبان الموارنة من المتمسكين بهذه العقيدة لما وصم طيموثاوس، على الأقل من باب اللياقة، أناساً يرغبون في الانضمام إلى كنيسته بالهراطقة. كما ان طيموثاوس وهو العالم بالأمورالكنسية كان يعرف مسبقاً بأن رهبان دير مارون كانوا مونوثيليين كما كان هو، ولهذا السبب لم يدعهم للاعتراف بمشيئة واحدة في المسيح قبل أن يتأهلوا للانضمام إلى حظيرته في الإيمان. وهكذا لم يتم إدراج هذه العقيدة كشرط من الشروط الموضوعة لغرض اتحادهم بكنيسته. إلا أن النقطة الحاسمة في الأمر هي أنه إذا كان هؤلاء الرهبان، كما يدّعي كتّاب موارنة معاصرون، مدافعين عن إيمان مجمع خلقيدونية وكانوا قد ضحوا بالعديد من الأرواح من أجل هذا الإيمان فلِـمَ يفكروا بالسعي وراء الوحدة مع الكنيسة النسطورية التي كان مجمع أفسس (431) قد أدان عقيدتها، ومع نسطور الذي سميت الكنيسة باسمه (وهو الذي أدانه في مجمع خلقيدونية صديقه الحميم ثيودوريطس القورشي الذي لم تختلف وجهات نظره اللاهوتية عن وجهات نظر نسطور). من الصعب قبول اعتراض المطران الماروني يوسف الدبس بأن طيمثاوس كان يعني فقط رهبان دير مارون لا سائر الموارنة، وبأنه لم يدعُ الرهبان إلى الاعتراف بمشيئة واحدة في المسيح لأن النساطرة لم يشددو في عقيدتهم على مشيئة واحدة في المسيح أو مشيئتين بل على طبيعتين وشخصين في المسيح . من الغريب ومن غير المنطقي أن يعمد الدبس، الذي اصرّ على أن الرهبان الذين تبعوا الناسك مارون كانوا منافحين عن الإيمان ” الكاثوليكي ” وأن الذين قبلوا تعاليمهم كانوا يدعون موارنة، إلى فصل الرهبان عن بقية الموارنة في اعتراضه على رسالة طيموثاوس. أما بالنسبة للاعتراض الثاني، قد يكون صحيحاً أن النساطرة لم يشددوا كثيراً على عقيدة المشيئة الواحدة، إلا أنها كانت جزءاً أساسياً من إيمانهم. هذا ما تدل عليه رسالة كتبها طيموثاوس نفسه إلى أحد الكهنة واسمه سرجيوس، دافع فيها عن عقيدة المشيئة الواحدة والقدرة الواحدة في المسيح وناقشها بالتـفصيل .
يرى الكاتب االكاثوليكي الافرنسي الأب ف. نو أن رسالة طيمثاوس لم تكن موجهة إلى الرهبان الموارنة في سورية بل إلى قبيلة تحمل اسماً مشابهاً عاشت في بلاد فارس. يقيم نو نظريته على تعبير مارونيا (Maronia) الذي ناقشه السمعاني في المجلد الثالث من مكتبته الشرقية. حيث بيّن السمعاني بأن مارونيا (Maronia) كان اسم قبيلة تتمسك بالإيمان النسطوري وقد عاش أفرادها في مدينة مرو في مقاطعة خراسان في بلاد فارس. ولكنه لا يعتبر مارونيا نفس شعبة الموارنة في سورية ولبنان. ان الأب نو، الذي ينافح عن موقف الموارنة وعن وجود ارتباط دائم بينهم وبين كنيسة روما يجد في هذه الكلمة حجة مقنعة تهدم اصالة المراسلة بين طيموثاوس والموارنة. فهو يسهب في الحديث عن مارونيا مبيناً بأنها مشابهة تماماً في الشكل للكلمة السريانية مارونايي (الموارنة باللهجة السريانية الشرقية)، ويستـنتج بأن الشبه الكبير بين المصطلحين قد أدى بالبعض إلى الاعتقاد بأن البطريرك طيموثاوس كان قد وجه الرسالة قيد البحث إلى موارنة لبنان، بينما في الحقيقة انه وجهها إلى قبيلة نسطورية تحمل اسماً مشابهاً كانت تعيش في بلاد فارس. ويتابع نو قائلاً بأنه كانت هناك مدينة ذكرها المؤرخ سترابو قرب الخليج الفارسي تُدعى “مارون”، كان سكانها شبه بدو رحل. وبينما يحدد السمعاني مقر سكناهم بأنه في مرو. فان الاب نو يدعي بأن رسالة طيموثاوس كانت موجهة إلى رهبان من هذه القبيلة. ولكي يبرهن نو على صحة رأيه يقول بأن هذه الرسالة بالذات، وبحسب ترتيب رسائل طيمثاوس، تقع في الموضع بين رسالة طيموثاوس إلى الراهب سرجيوس في عيلام، إلى الجنوب الغربي من بلاد فارس، ورسالته الموجهة إلى رهبان القديس جبرئيل قرب الموصل في بلاد ما بين النهرين (العراق). ويستطرد الاب نو قائلاً أن هذا البطريرك كتب ما لا يقل عن تسع وخمسين رسالة، وانه لا توجد واحدة منها موجهة إلى الرهبان في سورية، لأنه طيموثاوس لم تكن له صلة بهم. علاوة على ذلك، فإن رسالة طيموثاوس موجهة ” إلى الرهبان الذين يعيشون تحت مظلة Canopy مارون” وليس فيها ما يدل في هذا السياق بانها قد ارسلت إلى رهبان دير مارون. بل يذهب نو اكثر من ذلك بقوله بان مصـطلح ” مظلة ” (Canopy) في هذا الخصوص لا يدل على دير، فما بالك إن اعتبر بأنه يُـشير إلى دير مارون. ويخلص نو الى النتيجة بان هؤلاء الرهبان لم يكونوا غير الرهبان المذكورين آنفاً، وكانوا يعيشون في خيام في بلاد فارس وأنهم كانوا أتباعاً لرجل يُدعى مارون بل من المحتمل أن يكونوا قد عاشوا في مدينة مارون قرب الخليج الفارسي أو في مكان يُدعى مرو في بلاد ما بين النهرين .
ان نظرية نو وحجته لا يمكن الدفاع عنها من الناحية التاريخية. إذ تراه يغفل حقيقة أن هذه القبيلة الفارسية التي تحمل اسماً مشابهاً لاسم الموارنة كانت على الإيمان النسطوري (ويعترف هو والسمعاني قبله بذلك). وكانت هذه القبيلة على اتصال مع البطريرك طيموثاوس وخاضعة لسلطته الكنسية. وبالنتيجة لم يكن طيموثاوس بحاجة إلى كتابة رسالة يدعوهم فيها إلى الانضمام إلى كنيسته. بل من العبث أن يشرح طيموثاوس للرهبان الفرس معتقدات إيمان كنيسته في الوقت الذي كانت لهم معرفة جيدة بها. ان لغة رسالة طيموثاوس وسياقها يدلان بكل وضوح أنه كان يخاطب رهباناً لم تكن لهم علاقة بكنيسته، ويتمنى لو أنهم انضموا إلى حظيرته في الإيمان. ويُـشير طيموثاوس في نفس الرسالة إلى الرسالة التي كان رهبان مارون قد بعثوها إلى سلفه، صليبا زخا، ويعبر عن فرحه برغبتهم في الاتحاد بكنيسته. ولو اننا تتبعنا مناقشة نو حتى نهايتها المنطقية لوجدنا أنفسنا مجبرين على التسليم بأن صليبا زكا كان يخاطب الرهبان في بلاد فارس لا في سورية. وهناك مسألة اخرى وهي ان الاب نو فهم مصطلح ” مظلة ” في رسالة طيموثاوس حرفياً؛ بالرغم من ان طيموثاوس لم يكن يعني بالتأكيد باستعماله مصطلح ” مظلة ” كخيمة أو دير بل كان يعني ” المظلة الروحية لإيمان مارون “. او كان يعني بالأحرى أن هؤلاء الرهبان كانوا يعيشون في مجتمع من الأخوة في دير مارون. إن إسناد نو نقاشه برمته على الفرق البسيط بين مصطلحات متماثلة، يضعف هذا النقاش الى درجة يتعذر فيها الدفاع عنه.
وختاماً رأينا حتى الآن ان مونوثيلية الموارنة قد استندت على بيّنات داخلية وخارجية معاً. ولكن هناك بيّنات اخرى حول مونوثيلية الموارنة ذات صلة كبيرة بعلاقة الموارنة بكنيسة روما ستتم مناقشتها في الفصل التالي.