9
لدى وصولنا إلى نهاية رسالة الرهبان من سورية الجنوبية إلى البابا هرمزدا نجد قائمة بالتواقيع مرفقة بها ، اولها توقيع اسكندر الذي يدعو نفسه رئيس دير القديس مارون (دير مارون) . إن أول ما تجدر ملاحظته حول هذه القائمة من التواقيع هو أنه ، ما عدا الاسكندر هذا ، لا يوجد موقّع معرَّف باسم ديره ، وهذا مما لا يتفق مع أعراف الكنيسة وقواعدها في ذلك الزمان . فكل هؤلاء الرجال يوقعون أسماءهم على أنهم كهنة او رؤساء أديرة أو شمامسة دون تحديد لهوية كنيستهم او ديرهم أو أبرشيتهم . وبما انهم لم يوقعوا الرسالة بالأسلوب الرسمي المتعارف عليه فلا سبيل لنا إلى معرفة هوية المتهمين . حتى إن توقيع اسكندر يدعو الى الشك لأنه لا يبين أي دير يمثله من الأديرة المسماة بدير مارون . ولذلك لا محيص لنا من التخمين ان اسكندر هذا كان هو رئيس الدير الذي يعتقد الكتّاب الموارنة المعاصرون بأنه الدير الوحيد الذي يحمل هذا الاسم في سورية الجنوبية . لقد بينا سابقاً إقرار البطريرك الماروني اسطفان الدويهي بأنه كان هناك أكثر من دير واحد لمارون في سورية ، كالدير القريب من دمشق وآخر في البترون . بل ان الدويهي نفسه يذكر ديراً آخر لمارون قرب القسطنطينية . ومما يزيد الشك في صحة هذه التواقيع هو أن اسكندر من بين كل الموقعين فقط قد ذكر اسم ديره . من المدهش حقاً أن يذكر واحد فقط ، من بين كل الموقعين هوية ديره وبالاسم فقط . ومما يدعوا الى المزيد من الارتياب هو ان لا تكون رسالةٌ تتضمن الفظيع من الاتهامات والإساءات ضد أحد بطاركة أنطاكية موقعةً بشكل صحيح.
في دفاعه عن هذه الوثيقة يدَّعي الأب بطرس ضو بأن هناك رسالة أخرى تحتوي على اتهامات مماثلة ضد سويريوس وانها تحدد بوضوح هوية تواقيع الكهنة والدير الذي ينتمي إليه كل منهم . قد يكون هذا صحيحاً ولكن طبيعة الاتهامات المغالية ضد سويريوس وبطرس تدعو إلى الشك بصحتها . ففي الرسالة الموجهة إلى مجمع 518 يُضيف الرهبان اتهاماتٍ بجرائم يزعمون أن سويريوس وبطرس قد ارتكباها أكثر مما جاءت به رسالة الرهبان إلى البابا هرمزدا ، مع أن كلتا الرسالتين كانتا على الأرجح قد كتبتا تقريباً في نفس الوقت من عام 518 . تقول الرسالة الموجهة إلى مجمع 518 أن كميناً كان قد نصب للرهبان وجرت مهاجمتهم قرب قرية الفخارين بجوار دير القديس سمعان ، ولم يقتلوا العديد منهم فقط بل أسروا الآخرين وساقوهم عُراة على رؤوس الاشهاد . كما يدّعون أيضاً أن بطرس الأفامي حوَّل دير دوروثيوس وديراً يدعى “أوريغوروم” إلى بيت للدعارة وبأنه ارتكب العديد من الجرائم الأخرى في أوقات مختلفة في موطن ” الشهيد أنطونيوس ” . كما اعتاد بطرس أيضاً قتل الناس من أجل الكسب المادي ، وكان بعد تحريض اتباعه الأوفياء على قتل الرجال يرتقي المذبح ويحتـفل بالقربان المقدس بيدين ملطختين بالدماء . يُضيف الرهبان قائلين : لقد سمعتم أيضاً في حضرة حاكم المقاطعة ، المبجل اميليو ، والنبيل نارسيس وآخرين كل الشكاوي التي تقدم بها الكهنة والشمامسة ورؤساء الشمامسة وبقية الرعية ” الكاثوليكية ” في كنيسة أفاميا ضد بطرس هذا ، كيف قضى حياته بصحبة العاهرات ، وكيف نطق بتجاديف ضد الله والمسيح المصلوب وكيف عمَّد النساء اللواتي لم تكنَّ جديرات بالمعمودية .
وقع هذه الرسالة أيضاً رهبان ورؤساء أديرة يتصدرهم توقيع اسكندر رئيس دير مارون . لا يمكن للمرء هنا ، وكما في حالة الرسالة الموجهة إلى البابا هرمزدا ، أن يحدد الدير الذي كان اسكندر يمثله بين الأديرة التي تحمل اسم مارون ، ولا الموقع أو الهوية الصحيحة للأديرة الأخرى التي الحقت أسماؤها بالرسالة . من الغريب أن هذه الرسالة التي تضم العديد من الجرائم ، التي يُـزعم أن بطرس الأفامي قد ارتكبها ، لم تذكر رسالة الرهبان إلى البابا هرمزدا مع العلم أن الظروف التي كتبت فيها الرسالتان متـشابهة . اننا نعلم من الرسالة الموجهة إلى مجمع 518 أنه تمَّ لفت انتباه حاكم المقاطعة المبجل أميليو (الذي يبدو اسمه لاتينياً أكثر منه يونانياً أو سريانياً) ، إلى الجرائم المنسوبة إلى بطرس الأفامي ، كما لفتت اليها الانتباه ايضا شكاوي أهالي أفاميا انتباه نرسيس . بيد أن الرهبان لا يذكرون فيما إذا كان الحاكم قام باتخاذ اجراء ضد هذا الأسقف ” المجرم ” أو حتى عاقبه خلال السنة المنصرمة . بل ان متهميه لم يذهبوا أبعد من مطالبة أساقفة أفاميا لقطعه عن شركة الكنيسة . ليس هناك في الحقيقة من دليل على أن السلطتين المدنية والكنسية في سورية الجنوبية كانتا على دراية ” بالجرائم ” التي ارتكبها بطرس الأفامي . بل إن المصادر المتوفرة حول هذه الفترة لا تفي بالغرض ولا تلقي ضوءاً على هذه المسألة.
ان رد البابا هرمزدا على رسالة الرهبان إليه يثير الكثير من التساؤل . فأول ما يسترعي الانتباه هو إن جواب البابا على درجة كبيرة من التعميم بحيث يصعب على المرء معرفة ان كان يخاطب جماعة معينة من الناس أو كل الكهنة و” الأرثودكس ” في سورية الجنوبية . فهو يكتب قائلاً : الى الأساقفة والقسس والشمامسة والأرشمندراتية (رؤساء الأديرة) في سوريا الثانية وفي اية جهة اخرى من الشرق وكذلك الى الشعب المشترك بثبات مع ايمان الكرسي الرسولي.
من الغريب أن البابا هرمزدا لم يوجه جوابه إلى اسكندر رئيس دير مارون الذي تصدر اسمه قائمة الكهنة الذين وقعوا الرسالة . ومن الغريب أيضاً أن جوابه لا يشير الى اتهام الرهبان لسويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي ، والاكثر من ذلك يبدو البابا وكأنه غير مكترث بهذه الفاجعة ، فهو يحث الرهبان على الاتحاد معه ومع كرسيه الرسولي قائلاً: ” كيف يمكن للقطيع أن يكون آمناً من الذئاب إن ضلَّ عن راعيه الوحيد الحق ” . ويستفزهم للتمسك بمجمع خلقيدونية ، وتجنب الهراطقة ، ورفض نسطور وأوطاخي وديوسقورس (الاسكندري) وسويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي . يبدو من الصيغة العمومية لجواب هرمزدا انه لم يأبه بنكبة هؤلاء الكهنة؛ او أنه كان يجهل معرفة الأحداث في الشرق . بل يعطي جوابه الانطباع بكونه شخصاً انانياً جلّ همه هو اجتذاب هؤلاء الرهبان وأديرتهم ليكونوا تحت أمرته . ولهذا يمكننا القول بان هرمزدا ليس الذي كتب هذا الرد ، بل إن مضمون رسالة الرهبان من سورية الجنوبية إلى البابا هرمزدا ، ولغتها والظروف التي كتبت فيها ورد البابا عليها يجعل من الصعب جداً قبولهما على أنهما وثيقتين حقيقيتين.
رفعت إلى المجمع المنعقد عام 536 برئاسة مينا ، بطريرك القسطنطينية وثائق مشابهة تحتوي على مزاعم أخرى عن جرائم مختلفة ارتكبها على ما يزعم سويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي . ويستـشهد الكتّاب الموارنة بهذه الوثائق لا ليبرهنوا على أن دير مارون كان موجوداً في القرن السادس فحسب بل أنه كان الدير الأعلى الذي يمتلك سلطة كنسية على كل أديرة سورية الجنوبية.
عندما افتتح المجمع في 2 أيار ، من عام 536 ، رفع الكاهن مارينيانوس أو ماريانوس ، رئيس الدير الدالماتي ورئيس أديرة القسطنطينية بأجمعها ، مع الرهبان من أنطاكية وأورشليم ، عريضة إلى الإمبراطور يوسطينيان ، الذي أمر بقراءتها . طلب هؤلاء المثول أمام المجمع لعرض قضيتهم . استجاب مينا بالتالي لطلبهم . أشار المستدعون في عريضتهم إلى انتيموس وسويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي والناسك السرياني زعورا أنهم ” هراطقة ” ، أثاروا الجدال واعلنوا حرومات القديسين وشيدوا مذابح دنسة في القسطنطينية ، ولطخوا الأرض بدماء القديسين . لم يوقع العريضة كل المتقدمين بالشكوى بل وقعها ممثلو أربعة من الوفود: اثنان يمثلان أديرة أورشليم وفلسطين والثالث يمثل أديرة سيناء وبلاد العرب ، والرابع ، شماس اسمه بولس ، يمثل دير مارون وجميع الأديرة في سورية الجنوبية . يظهر توقيع بولس هذا في نهاية العريضة على هذا النحو : أنا المدعو بولس بنعمة الله ، الشماس وموفد دير المبارك مارون ، رئيس سائر الأديرة في سورية الجنوبية الذي اوفده كل رؤساء أديرة ورهبان المقاطعات المذكورة إلى تقواكم حاملاً عريضتهم ضد من لا رأس له الهرطوقي الآنف الذكر وبالنيابة عن كل رؤساء الأديرة والرهبان المذكورين، عليه أوقع .
اذا تأملنا هذه العريضة نجد ان بولس ، ممثل دير مارون ، هو مجرد شماس ومرتبته هي الأدنى بين كل المناصب الكهنوتية في الكنيسة . والمعروف ان التقاليد الكنسية لا تسمح أن يمثل شماس متواضع عدداً من الأديرة أو الرهبان ، فما بالك بتمثيل سائر الأديرة وآلاف الرهبان بأجمعهم في سورية الجنوبية . قد يمكن ان يصطحب أسقف أو رئيس دير بتمثيل ديره في مجمع ما شماسا حسب التقاليد الكنسية ليسهر على خدمته كما فعل يعقوب النصيبيني عندما اصطحب معه إلى مجمع نيقية (325) شماسه الذائع الصيت أفرام السرياني (ت 373) . أما أن يقوم مجرد شماس بتمثيل سائر الأديرة في سورية الجنوبية في القسطنطينية فهو أمر بعيد الاحتمال.
يؤكد الأب الماروني بطرس ضو تعليقاً على توقيع هذا الشماس بولس أنه من الواضح استناداً إلى توقيعه أن دير مارون ” كانت له سلطة فعلية قضائية على أديرة سورية الجنوبية ” . لهذا السبب يستنتج ضو أن دير مارون كان يقع في سورية الجنوبية . سبق ان قلنا بأنه لم تكن أبداً من عادة الكنيسة أن يقوم مجرد شماس بتمثيل دير واحد في أي مجمع . وأبعد من ذلك فإن تأكيد الاب ضو على أنه كانت لدير مارون “سلطة فعلية قضائية على كل الأديرة في سورية الجنوبية” هو قول ليس له اساس تاريخي . فهو يخالف رواية المؤلف أيفاغريوس بأن بضعة أساقفة فقط في جميع أرجاء سورية ، بضمنها سورية الجنوبية ، كانوا معارضين لسلطة سويريوس الأنطاكي . هذا ما يدل على أن غالبية الأساقفة في سورية وقفوا إلى جانب بطريركهم سويريوس . ومع ذلك وبالرغم من بعض المعارضة ، انتخب الأساقفة في المجمع المنعقد في صيدا عام 512 سويريوس بطريركاً لأنطاكية . وقد وقف أغلب الأساقفة في فينيقية ، لبنان ، الجزيرة العربية وبلاد الفرات وما بين النهرين وسورية صامدين في مساندتهم له ولعقيدته . إن الادعاء بأن دير مارون كان الأول بين أديرة سورية الجنوبية هو ادعاء عديم الاساس بل أن التاريخ صامت تماماً بشأن “سيادة” هذا الدير خلا بعض الرسائل المشتبه بصحتها إلى حدٍّ كبير والتي يستـشهد بها الموارنة للبرهان على هذه السيادة . يقول الأب هنري لامنس أيضاً أن زعامة دير مارون شملت كل أديرة سورية الجنوبية ، لكنه يخفق في تقديم دليل حاسم يؤيد ادعاءه . فهو يضيف أنه من الصعب جداً توضيح مدى هذه الزعامة قائلاً : لا ندري فيما إذا كانت هذه الزعامة زعامة فخرية أم كان لدير مارون بعض السلطة على الأديرة الأخرى . كما أنه من الصعوبة أيضاً بيان أصل هذه الزعامة ، وفيما إذا كانت ناجمة عن انفصال أحد الأديرة عن الآخر او كان سببها إرادة من أسس الدير ، أو انفصال مجموعة من الرهبان من كبرى الاديرة . كل هذه الاسئلة معقدة جداً وليس من السهل وجود حل لها .
يمكننا الاستـنتاج بأن هذه السيادة المزعومة لدير مارون على سائر أديرة سورية الجنوبية لا أساس لها من الصحة وبأن الآراء المقدمة لتأييدها هي محض تكهنات.
أما الوثيقة الثانية المقدمة الى مجمع 536 والتي استعملها الموارنة للبرهان على ادعائهم فهي الرسالة (المذكورة في الفصل 5) التي وجهها الرهبان من سورية الجنوبية إلى البابا أغابيتس . كتبت هذه الرسالة بعد إقالة أنتيموس بطريرك القسطنطينية ، الذي اتحد مع سويريوس الأنطاكي عندما كان سويريوس في العاصمة . وقد خاطب الرهبان الذين وقعوا الرسالة أغابيتس على أنه الكاهن الأكبر لروما القديمة و ” البطريرك المسكوني ” ، تماماً كما دعا الرهبان الآخرون من سورية الجنوبية هرمزدا ” بطريرك العالم أجمع ” . مرة أخرى يوجه هؤلاء الرهبان نفس الاتهامات ضد القادة المناوئين لمجمع خلقيدونية وخاصة سويريوس الأنطاكي . وإحدى هذه الاتهامات هي أن بعض المناوئين لمجمع خلقيدونية ذهبوا إلى بيت كان يعيش فيه رهبان خلقيدونيون وفي سـورة غضبهم اقتلعوا عيناً من رسم يمثل الإمبـراطور يوسطينيان . كما اخذ اسحق الفارسي وهو أحـد هـؤلاء المناوئين الخلقيدونيين بضـرب رأس صورة ” إمبراطورنا الأرثوذكسي ” بالعصا وأهان رسمه . وعندما كسرت العصا ، مزق اسحق قماش اللوحة ورماه في النار . يضيف الرهبان بأن هؤلاء “الهراطقة” تسللوا أيضاً إلى منازل وجهاء الناس واغووا النساء . كما اشادوا مذابح كاذبة وأجران معمودية في الضواحي بحماية شخصيات قوية من بلاط الإمبراطور (يعنون بذلك الإمبراطورة ثيودورة) . ويمتدح الرهبان البابا أغابيتس ويقولون أن الله قد أرسله لطرد هؤلاء “الهراطقة” الذين عاثوا في الأرض فساداً ولطخوها بدم القديسين . ويختتمون رسالتهم طالبين من أغابيتس إقناع الإمبراطور بإلقاء الناسك السرياني زعورا في النار بنفس الطريقة التي أمر فيها بإلقاء الكتب التي كتبها سويريوس الأنطاكي في النار . ويذيل الرسالة العديد من الموقعين أحدهم يدعى بولس ، الذي يوقع كراهب وممثل لدير المبارك مارون في سورية الجنوبية .
من الصعب هنا ، كما هي الحال فيما يخص الرسائل الموجهة إلى هرمزدا ومجمع 518 ، قبول الشرعية التاريخية لهذه الاتهامات الموجهة ضد سويريوس الأنطاكي وشخصيات أخرى تؤيده كما تؤيد عقيدته . أما بالنسبة إلى “بولس” الذي وقَّع هذه الرسالة ، فلا يمكن للمرء أن يقرر فيما إذا كان هو نفس بولس الذي وقَّع الرسالة الأولى الموجهة إلى مجمع 536 (المذكورة أعلاه) أم أنه شخص آخر . كما أنه من الصعب استناداً على توقيعه إن كان فقط راهباً ام كاهناً أم رئيس دير . ربما كان على الأرجح شماساً يرتدي ثوب راهب ، وهي إحدى عادات الكنيسة المتبعة حتى العصور الحديثة في بعض الكنائس الشرقية . بناءً على هذا قد يكون نفس الشماس بولس الذي وقَّع العريضة الآنفة الذكر . مرة اخرى لسنا على يقين أي دير من الأديرة المسماة بدير مارون كان يمثله هذا الراهب . وكما ذكرنا سابقاً كان هناك أكثر من دير واحد يحمل اسم مارون : فعلى سبيل المثال ، تضم الرسالة قيد البحث توقيع شخص ما يدعى ثيودوروس ، رئيس دير مارون في مقاطعة سوكاس في القسطنطينية .
وأخيراً ، يستنجد الأب ضو بوثيقة ثالثة لدعم الادعاءات المارونية . فهو يُـشير إلى عريضة قدمها رهبان القسطنطينية وأورشليم وسورية وفلسطين إلى البطريرك مينا في نهاية الجلسة الخامسة من المجمع في 15 أيار 536 . لا بد من التذكر أن نفس هؤلاء الرهبان كانوا قد قدموا عريضة مماثلة إلى الإمبراطور يوسطنيان ، كما سبق البيان . وفي هذه العريضة ، المقدمة إلى مينا يعبر الرهبان عن سرورهم لإدانة انتيموس بطريرك القسطنطينية ، لكنهم يبدون ملاحظة بالقول أنه مازال للشيطان مساعدان ـ سويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي ــ لتحقيق أهدافه . ويضيفون بأن هذين الرجلين قد اقلقا سلام الكنائس وأراقا دم القديسين وحرما مجمع خلقيدونية وطومس لاون . ويتهم الرهبان بشكل خاص سويريوس باغتصاب كرسي أنطاكية وبطرس باغتصاب أبرشية أفاميا . ويزعمون أن سويريوس أدعى بعدئذ بأنه كان قد قبل كرسي أنطاكية بصورة شرعية . يتهم هؤلاء الرهبان أيضاً سويريوس بخدمة الشياطين في بيروت وانه حتى في زمن مجمع 536 لم يكن يخلو من الوثـنية . ويضيفون قائلين أن سويريوس ، سعياً منه لتـنقية سمعته السيئة ، تظاهر بإصلاح أفكاره الشيطانية بقبول العماد في طرابلس . ولا يتوقف الرهبان عند هذه النقطة بل ينسبون أيضاً إلى سويريوس وبطرس ارتكاب الفظائع . منها ان سويريوس قام بقطع أصابع القديسين الذين تـشبثوا بمذبح الكنيسة طلباً للخلاص من المعتدين عليهم ، وبالقبض على أناس أبرياء وإلقائهم في السجن وبمهاجمة العديد من الأديرة ونهبها باستمرار . ويزعمون بأن سويريوس نجا من العقاب وذلك بالهرب حالما تمَّ عزله وقطعه عن شركة الكنيسة مع أتباعه لكنه عاد من ثمّ ليعيث بمدينة القسطنطينية فساداً . ليس هناك من دليل يؤيد هذه الافعال التي تعزى الى سويريوس ، ولم يقم أي مؤرخ كنسي أبداً بذكر حوادث من هذا القبيل . حتى لو اننا حملنا هذه التهامات على محمل المجاز– احدها بصورة خاصة أن سويريوس عاث فساداً بمدينة القسطنطينية بواسطة تعليمه اللاهوتي وعدائه لإيمان خلقيدونية كما تمسك به الأباطرة (يوسطين ويوسطينيان) ـ فما زال الدليل مفتـقراً على أن سويريوس حرّض على عصيان ديني في العاصمة معيثاً الفساد في الحياة الدينية والكنسية في تلك المدينة . نحن نعلم أن سويريوس زار العاصمة عدة مرات لمناقشة وحدة الكنيسة مع الإمبراطور ، إلا أنه لم يذكر أبداً بأنه عاث بمدينة القسطنطينية فساداً روحياً كان ام مادياً . بالاصافة الى ذلك فقد اتهم سويريوس مع أسقفه بطرس بالدعوة إلى اجتماعات غير قانونية وبإجراء معموديات بعد عزلهما عن منصبهما في تلك المدينة . وقد ضللا كما يُـقال العديد من الناس لا بل أغويا النساء . وأخيراً أرسل سويريوس وبطرس ، على ما يُزعم طغمةً من ” اليهود المجرمين ” واللصوص الذين هاجموا ككلاب مسعورة 350 راهباً وقتلوهم بالسـيف ، مقطعين أجسادهم إرباً دون أن يكلفوا أنفسهم عناء دفنهم . وقع هذه العريضة على غرار الرسالة السابقة أحد الرهبان واسمه بولس ممثلاً دير المبارك مارون ، ” كبير الأديرة في سورية الجنوبية “.
وهكذا هوت الكنيسة الى هذا الدرك من المهانة والتهاتر مما اضعفها واضعف الدولة معها حتى اصبحتا لقمة سائغة للفاتحين العرب في القرن التالي .