تحويل الكنيسة المارونية الى كنيسة لاتينية

Posted by on Aug 16, 2012 in Library, الموارنة في التاريخ - الدكتور متي موسى, الموارنة في التاريخ -2 | Comments Off on تحويل الكنيسة المارونية الى كنيسة لاتينية

25

    كان لارساليتي الموفدين البابويين اليانو ودنديني الى الموارنة في أواخر القرن السادس عشر الاثر الفعال في تحويل الكنيسة المارونية الى كنيسة لاتينية نهائياً. وقد بدأت المحاولات للقيام بذلك في عهد البابا اينوسنت الثالث في أوائل القرن الثالث عشر، إلا أن إتّباع العادات اللاتينية في هذا الطور لم يتعد التقاليد الخارجية كارتداء الكهنة الموارنة حُللاً كهنوتية لاتينية، ولبس المطارنة الخاتم واعتمار التاج وهي عادات قلما تأثر بها نظام الكنيسة المارونية. ولكن عملية الانتقال الى العادات اللاتينية اثرت على نظام الكنيسة المارونية في مجمع قنوبين الأول الذي عقده اليانو عام1580 وبشكل محدود في مجمع قنوبين الثاني الذي عقده دنديني. يقول المطران الماروني بيير ديب في هذا الصدد ” ان عمل اليانو ودنديني كان بمثابة مفترق الطرق في عملية التحويل (الى العادات اللاتينية) المنتظمة والذي مسَّ جوهر المذهب بالذات ” . كانت إحدى دلائل هذا التحويل تبني كتاب صلوات الكنيسة الكاثوليكية في عام 1592. يُـفيد المطران ديب أنه بالرغم من أن التعديلات أدخلت قبل القرن السادس عشر ( حلول الطقس اللاتيني للمعمودية، محل الطقس التقليدي على سبيل المثال ) إلا أنه يعتقد بأن تطبيق هذه التعديلات ” كان بالأحرى مقيداً جداً .”

 

والحقيقة هي أن الكنيسة المارونية منذ نهاية القرن السادس عشر اصبحت خاضعة لسلطة البابا الفعلية . والذي شجع على تحويل الكنيسة المارونية الى كنيسة لاتينية هو يوسف الرزي (ت – 1608) الذي انتخب بطريركاً اثناء وجود جيروم دنديني في لبنان. وكما يقول المطران ديب، فقد كان الرزي ” داعياً متهوراً من دعاة الانتقال الى اللاتينية وقد ضحى بعدد كبير من العادات الجليلة مفضلاً الاقتداء بتقاليد روما . أما العادات التي لم يحددها المطران ديب فهي السماح للمطارنة بأكل اللحم والسماح للعامة من الناس فقط بأكل السمك وشرب الخمر خلال الصيام الأربعيني. كما ألغى البطريرك مراعاة صيام نينوى ومدته أسبوعاً والذي كان الموارنة يؤدون خلاله صلوات متواصلة لغفران الخطايا. وأخيراً إختزل البطريرك المدد التي تسبق الاحتفالات بعيد الرسل وعيد الميلاد والتي لم يسمح فيها للموارنة بأكل اللحم  .

عقد الرزي مجمعاً في ضيعة موسى عام 1598، اي بعد سنتين من انتهاء مهمة دنديني ومغادرته لبنان، لم يثبت فيه التقاليد اللاتينية التي اقترحها مجمع قنوبين الذي عقده دنديني فحسب بل اضاف أيضاً ستة قوانين أخرى تتضمن إحلال التقويم الغريغوري محل التقويم الشرقي وهي خطـوة أخـرى نحـو جعل الكنيسة المارونية كنيسة لاتينية . وقد أثار تبني البطريرك والمجمع للتقويم الغريغوري احتجاج بطريرك الروم الأرثوذكس (البيزنطيين) الذي قدم عريضة إلى حاكم دمشق يشكو فيها “تبني الطائفة المارونية للتقويم الغريغوري الامر الذي خلق إرباكاً كبيراً لبقية الطوائف المسيحية فيما يتعلق بحساب السنين وأعياد الكنيسة ” . واستجاب الحاكم وقام بإلقاء القبض على الكهنة والأعيان الموارنة في دمشق، ولم يطلق سراحهم الا بعد جهد كبير بذله البطريرك الماروني.

 

    استمرت الكنيسة المارونية الاقتداء بالتقاليـد اللاتينية في عهد البطريرك جرجس عميرة (ت 1644). كان عميرة احد أوائل خريجي المدرسة المارونية في روما وكان كاثوليكياً ورعاً ومخلصاً جداً في تبعية للكنيسة الكاثوليكية الرومانية بحيث أطلق عليه كهنة الكنائس الشرقية الأخرى اسم ” المطران الروماني ” . والامر الذي شغل البطريرك عميرة جداً، وهو الكاثوليكي الروماني المتحمس، هو نشر وتعزيز مطامح كنيسة روما إلى حدٍّ كبير بين الموارنة. ولذلك أثارت سياسته في التحيز الى اللاتينية حفيظة المطارنة المحافظين حيث انقلبوا ضده .

 

    وفي عهد البطريرك يوحنا الصفراوي (ت 1656) وُضع الموارنة في لبنان تحت حماية فرنسا في عام 1649، ويعود الفضل في ذلك إلى المهمة الناجحة لرئيس الأساقفة اسحق الشدراوي الذي أوفده البطريرك إلى الحكومة الفرنسية . اصبح الموارنة الآن قادرين على التمتع بحماية الملك الفرنسي لويس الرابع عشر من مضايقات الحكومة العثمانية وأعوانها المفسدين. وبفضل جهود البطريرك الصفراوي، تمَّ تأسيس نيابة قنصلية فرنسية في بيروت وكان أول موظفيها ماروني كاثوليكي غيور هو أبو نوفل الخازن . وقد أدى أحداث هذه القنصلية بشـكل غير مباشـر إلى تطوير علاقات قوية بين الأمراء الشـهابيين في لبنان والمـوارنة، وبحلول عام 1770 اعتنق الشهابيون المسيحية وانضموا إلى الكنيسة المارونية .

 

    من البطاركة الموارنة الذين أحزنتهم سياسة روما في تحويل الكنيسة المارونية الى كنيسة لاتينية وخاصة استبدال الطقس الماروني بالطقس اللاتيني هو اسطفان الدويهي (ت 1704). يُـقال أن الدويهي عانى كثيراً من مناورات المبشرين اللاتين في الشرق الذين كانوا ينتهكون العادات القديمة للكنيسة المارونية ويحلون الطقس اللاتيني محل الطقس الشرقي . بيد أن هذا لا يعني بأن تحويل الكنيسة المارونية الى كنيسة لاتينية أو أن سلطة روما هذه الكنيسة قد تـناقصت. ويجب القول هنا بأن الدويهي، ككاثوليكي ورع وخريج مدرسة الموارنة في روما، لم يتحرج ابداً في ابداء ولائه لسلطة كرسي روما أو في دفاعه عن الإيمان الكاثوليكي. غير انه كان يود أن يُترك الطقس الشرقي أي السرياني سليماً بشكله الفطري .

 

    إن تعلق الكنيسة المارونية بسلطة روما، وخاصة في القرنين السادس عشر والسابع عشر، جعلها موضع ريبة الحكومة العثمانية وممثليها. كما أصبحت طوائف مسيحية أخرى ايضاً موضع ريبة بسبب ارتباط الموارنة بروما مما اثار حفيظتها فصارت تبغض الموارنة بغضاً شديداً. وتفاقمت حدة الخصومة بين مسيحيي الشرق من غير الكاثوليك وبين الموارنة إلى درجة ان الدويهي كتب إلى البابا اينوسنت التاسع يقول بأن الموارنة ” مكروهون بشدة بسببك أنت. “

 

    اعتز الدويهي بحماية فرنسا للموارنة واعتمد على سلطة ومركز السفير الفرنسي اللذين كان يتمتع بهما لدى الباب العالي. وفي عام 1700 التمس الدويهي الحكومة الفرنسية لكي تقنع السلطان العثماني برفع المظالم التي ابتلي بها مسيحيو لبنان. واستجابت الحكومة الفرنسية لذلك وتدخل سفيرها لدى الباب العالي، نيابة عن مسيحيي لبنان، مذكراً الحكومة العثمانية بأن حماية فرنسا للموارنة ستظل موضع التـنفيذ والاحترام .

 

    كما استخدم الدويهي ايضاً حماية فرنسا للموارنة لإنقاذ منصبه البطريركي من الخضوع لسلطة السلطان العثماني. فقد جرت العادة منذ زمن الاحتلال العثماني لسورية عام 1516 ان يحصل بطاركة الطوائف المختلفة على فرمانات من السلطان العثماني تثبتهم في مناصبهم. وكان هذا التـثبيت مهماً جداً من الناحية القانونية اذ بدونه لم يكن البطريرك يعتبر رئيساً شرعياً لطائفته أو كنيسته. إلا أن البطاركة الموارنة لم يطلبوا مثل هذه الفرمانات من السلاطين العثمانيين معتمدين على فرضية أن البطاركة الموارنة والشعب الماروني كانوا تحت حماية فرنسا ولذلك لم تكن لهم حاجة إلى تـثبيت السلطان في منصبهم. ومع هذا فقد أثيرت مسألة حصول البطاركة الموارنة على فرمانات في أيام الدويهي اذ اشتكى بطريرك الكنيسة السريانية الأرثوذكسية لدى الباب العالي بأن البطريرك الماروني هو كسائر رؤساء الكنائس الآخرين في الشرق أحد الرعايا العثمانيين وان عليه أن يحصل على فرمان لتوليته. ولهذا طلبت الحكومة العثمانية من الدويهي تقديم طلب رسمي لإصدار فرمان لتوليته. إلا أن الدويهي استجار بالامتيازات الخاصة التي كانت طائفته قد حصلت عليها بواسطة حماية فرنسا وهكذا واجهت الحكومة العثمانية قضية سياسية ودبلوماسية حساسة مع فرنسا. وبالتالي، تمكن الدويهي من الإبقاء على استقلال البطاركة الموارنة عن السلطة المباشرة للسلطان العثماني . ولكن بالرغم من هذا الجهد الذي صرفه في الحفاظ على الطقس الشرقي السرياني، لم يستطع هذا البطريرك الحسن النية الحؤول دون تحويل الكنيسة المارونية الى كنيسة لاتينية.

 

    يعتبر الدويهي أشهر بطاركة الموارنة لمؤلفاته الدينية والتاريخية وعلى الأخص لدفاعه عن الكنيسة المارونية وإيمانها. ولكن عندما توضع آراؤه التاريخية المتعلقة بأصل كنيسته وإيمانها موضع التحقيق نجدها تـفتقر إلى البرهان أو الى الأساس التاريخي. لو أن الدويهي استطاع فقط تحرير كنيسته من قبضة المبشرين اللاتين، لكان نجح في الحفاظ على لغة وتقاليد وطقوس الكنيسة المارونية والتي كانت مماثلة جداً لتقاليد وطقوس الكنيسة السريانية الأرثودكسية. ولكن هيمنة المبشرين اللاتين، لسوء الحظ على الكنيسة المارونية كانت من القوة بحيث دعتهم الى المزيد من تحويلها الى كنيسة لاتينية بل كانوا عازمين على توسيع تحويل هذه الكنيسة وديمومتها اسوة بما حاولوا القيام به مع كنائس كاثوليكية أخرى متحدة بروما كالكنيسة الكلدانية في العراق ـ ولكنهم بالنتيجة لم يجنوا سوى معارضة عارمة من الكهنة الكلدانيين .

 

    والذي زاد من عملية تحويل الكنيسة المارونية الى كنيسة لاتينية هو المجمع اللبناني الذي اجتمع في دير اللويزة في لبنان عام 1736. يعتبر هذا المجمع حدثاً ذا أثر مهم في تاريخ الكنيسة المارونية اذ لم يسبق أن شهدت الكنيسة المارونية مجمعاً ذا خطورة مماثلة. أراد الكهنة والعلمانيون الموارنة انعقاد المجمع لأنهم احسّوا بضرورة إصلاح بعض المساوئ في كنيستهم ومنها “اكتشاف العملية الجريئة لصيرورة الكنيسة لاتينية والتي أسيء فهمها إلى حد كبير، وافتقار التـنظيم الكنسي” . التمس الكهنة وكبار العلمانيين من البابا اقليميس الثاني عشر إرسال يوسف السمعاني كموفد له لعقد مجمع. ردَّ البابا بالإيجاب وأوفد السمعاني إلى لبنان ليرأس المجمع القادم. وصل السمعاني بيروت في 17 حزيران 1736 حاملاً معه إرشادات من جمعية إنتشار الإيمان وفي 1 تموز توجه إلى دير قنوبين والتقى بالبطريرك يوسف ضرعام الخازن (ت 1742)، وتلى عليه وعلى الكهنة الموجودين في حضرته إرشادات البابا وارشادات جمعية إنتشار الإيمان . وفي 30 أيلول، اجتمع المجمع، الذي دعا السمعاني إلى عقده في دير اللويزة ودام الاجتماع ثلاثة أيام. وعندما عرض السمعاني الإصلاحات التي عكف على القيام بها منذ مغادرته روما، فوجئ بمعارضة قوية من البطريرك وبعض الكهنة أخصّهم الياس محاسب مطران عرقا. كما حدث تآمر جمّ من الكهنة لمناهضة مهمة السمعاني لم ينته على حد تعبير المطران الماروني بيير ديب ” إلا نتيجة فطنة الموفد الباباوي وطول أناته، ونتيجة حصافة البطريرك والتدخل الحكيم لقنصل فرنسا السيد مارتان والشيخ نواف الخازن والنشاط الهادئ الذي قام به اليسوعيون والفرنسيسكان .”

 

    يُعتبر المجمع اللبناني لعام 1736 ذا أهمية كبرى لدراستنا الحالية لأنه المجمع الماروني الوحيد في العصور الحديثة الذي وضع قواعد وقوانين ثابتة للكنيسة المارونية. بل ما هو أكثر أهمية لدراستنا، أن هذا المجمع كان أول مجمع ماروني يقرر شرعية تحويل الكنيسة المارونية الى كنيسة لاتينية تـثبت الطقس اللاتيني والممارسات اللاتينية التي أدخلها البابا اينوسنت الثالث في الكنيسة المارونية في أوائل القرن الثالث عشر. وفي إحدى جلساته استشهد المجمع برسالة البابا اينوسنت الثالث إلى البطريرك ارميا العمشيتي وأعلن أن من واجب الموارنة بأجمعهم إطاعة كل ما جاء في الرسالة وخاصة العادات اللاتينية.

  التي اوعز بها البابا . وفيما يلي بعض العادات اللاتينية التي وضعها المجمع .

 

إجراء العماد لا بالتغطيس وفقاً لعادة الكنائس الشرقية، بل بسكب الماء فقط فوق رأس المعتمد وفقاً للعادة اللاتينية .

 

خلافاً للعادة الشرقية القديمة، يسمح للمرأة النفساء التي وضعت مولوداً، الحضور للصلاة في الكنيسة قبل انقضاء أربعين يوماً على موعد الولادة .

 

إجراء المعمودية والتـثبيت بشكل منفصل، ويكون التـثبيت مقصوراً على المطارنة.

على المطارنة أن يحاولوا الاستغناء عن صكوك الغفران التي يمنحها كرسي روما الرسولي .

 

استعمال الخبز الفطير في خدمة القربان المقدس وفقاً للعادة المرعية في كنيسة روما وبما يتفق مع منشور البابا بولس الخامس، المؤرخ في 20 آب 1566 .

 

على الكاهن ألا يغطي رأسه (أي يعتمر القبعة التي يضعها عادة الكاهن الذي يرأس القداس وفقاً لعادة الكنائس الشرقية) أثناء احتفاله بالقداس .

 

    هنا يحقّ الانتباه بأن العادات التي أشار إليها أعضاء المجمع على أنها عادات الكنيسة الشرقية وهي بصورة رئيسية عادات الكنيسة السريانية الأرثودكسية.

 

    بالإضافة إلى ذلك، ثبت المجمع اللبناني سيادة البابا على المجمع الماروني وعلى الهيئة الكهنوتية المارونية. كما أخضع المجمع البطريرك الماروني للسلطة البابوية إلى درجة أن البطريرك الماروني لم يعد أكثر من ” مطران روماني “. وسوف نرى بعدئذ بأن بعض البطاركة الموارنة أصبحوا كرادلة في كنيسة روما متقبلين بذلك منصباً ادارياً في كنيسة روما، وهو منصب أقل من رتبة البطريرك ناهيك عن رتبة ” بطريرك أنطاكية ” وهي المرتبة التي يدّعيها البطاركة الموارنة لأنفسهم.

 

    واذا عدنا الى احدى عوائد الكنائس الشرقية وخاصة الكنيسة السريانية الأرثودكسية نجد ان صليباً كبيراً كان يتقدم البطريرك في احتفالات الكنيسة. لكن المجمع اللبناني قرر بألا يحمل صليب أمام البطاركة الموارنة إذا كانوا في روما بسبب وجود البابا أو الموفد الباباوي . كما قرر المجمع ما يلي :

 

  • وفقاً لبروتوكول الكنيسة يتعين على البطريرك الماروني أن يحتل المقعد مباشرة خلف البابا.

 لا يحقُّ للبطريرك الماروني إقالة المطارنة من مناصبهم لأن هذا الحق مقصور على البابا وحده.

 

 يجب المناداة باسم البطريرك الماروني في القداس وفي الصلوات الأخرى الإلزامية بعد اسم البابا.

 

  • لا يمكن للبطريرك الماروني القضاء في أمور كنسية وانضباطية خطيرة دون استشارة البابا أولاً .

    يلي ذلك بيان المطارنة والأساقفة الموارنة يتعهدون فيه بولائهم وخضوعهم التامين لسلطة البابا المطلقة أولاً ولبطريركهم ثانياً. كما تعهد المطارنة والأساقفة أيضاً بالمناداة باسم البابا أولاً في القداس يتلوه اسم بطريركهم. وأعلنوا أبعد من ذلك، أنه كما لن يسمح لهم اتخاذ اي اجراء دون استشارة البطريرك، كذلك لن يسمح للبطريرك بالتصرف في مسائل تتعلق بالإيمان أو بانضباط الكهنة (كإقالة المطارنة من مناصبهم) دون مشاورة البابا ( وهكذا جعل المجمع اللبناني خضوع الكنيسة المارونية وهيئة الكهنوت فيها لكرسي روما أمراً قانونياً.

 

    قدّم السمعاني مقترحات أخرى تخصّ الإصلاح إلى المجمع اللبناني ولكنها لاقت معارضة شديدة. وكان أخص هذه المقترحات يتعلق بوجود أديرة مختلطة حيث يعيش الرهبان والراهبات معاً يفصلهم رواق واحد فقط، مع أن الجانبين كانا يشتركان بنفس الفوائد ويخضعان لنفس السلطة . جاهر البطريرك وكهنته وبعض الكهنة اللاتين باعتراضهم على الأديرة المختلطة. ورحب السمعاني بفكرة الأديرة المنفصلة للرهبان والراهبات وبدأ بإعداد الترتيبات لبعض الأديرة المقصورة على الرجال أو على النساء فقط . إلا أنه واجه معارضة شديدة أثارها الياس محاسب مطران عرقا الذي رغب الإبقاء على العادة القديمة للأديرة المختلطة. ويبدو كما يقول المطران بيير ديب أن المطران محاسب استطاع إقناع البطريرك بتغيير موقفه وتأييد الأديرة المختلطة . كما ان الأب الياس سعد (أمين سر البطريرك) وبعض الأفراد من عائلة البطريرك وأحد المبشرين اللاتين أيدوا بدورهم رأي البطريرك في الإبقاء على الأديرة المختلطة. غير ان الخرق اتسع كثيراً بين البطريرك والسمعاني بحيث وصل الى حدّ أعلن فيها البطريرك بأنه لم يعد يعترف بالسمعاني كموفد بابوي أو أن له سلطة على الموارنة. لا بل تمَّ تحدي شرعية ارسالية السمعاني إلى الموارنة . وفي هذه الأثناء وصلت إرشادات من روما تصر على تـنفيذ فصل الأديرة للرهبان والراهبات. إلا أن السمعاني كان عاجزاً عن تـنفيذ هذه الإرشادات فغادر لبنان عام 1738. وبعد زيارة قصيرة للموارنة في قبرص، وصل إلى روما وقدّم تقريره حول المجمع اللبناني إلى البابا اقليميس الثاني عشر و (جمعية إنتشار الإيمان). فما كان من البابا الاّ ان عيّن لجنة من الكرادلة لدراسة قرارات المجمع اللبناني، وخاصة قضية الأديرة المختلطة. وذهب الأب الياس سعد بدوره إلى روما كممثل عن الحزب المعارض للشكوى ضد المجمع اللبناني وضد السمعاني. لكن وفاة البابا في 6 شباط 1740 حالت دون حل المشكلة. خير ان البابا بينيدكتس الرابع عشر الذي خلف اقليمس الثاني عشر لم يهمل القضية بل دعا إلى اجتماع في 7 آب 1741 حيث ناقشت فيه لجنة الكرادلة المشكلة بحضوره. وبعد مداولة طويلة تمَّ التوصل إلى حل اعلنت اللجنة بموجبه بأن المجمع اللبناني هو مجمع شرعي وسيتم الإبقاء على عادة الأديرة المختلطة . وفي 1 أيلول 1741، صادق البابا بينيدكتس الرابع عشر على قرارات المجمع اللبناني . وهكذا استمرت عادة وجود الأديرة المختلطة حتى سنة 1818 حيث تقرر حظرها في مجمع دير اللويزة المنعقد في ذلك العام. إلا أن التخلص منها نهائياً لم يتم حتى عهد البطريرك يوسف حبيش (1823ـ1845) .

 

هنا نخلص بنتيجة عظيمة الأهمية وهي انه منذ اجتماع المجمع اللبناني عام 1736، تـنازل البطاركة الموارنة تماماً عن سلطتهم للبابا. وحتى عهود قريبة، قبل بعض البطاركة الموارنة كالبطريرك بولس المعوشي (ت 1975) منصب كاردينال وهو منصب أقل رتبة من منصب البطريرك، كما أصبح الحبر الروماني هو المرجع الأعلى في الأمور الكنسية والانضباطية في الكنيسة. أجل ان الكنيسة المارونية استمرت بعقد مجامع كنسية إلا أن روما هي التي كانت تقرر نتائجها وتصادق على قراراتها. ولا ادل على ذلك انه عندما اجتمع مجمع بكركي عام 1856 في عهد البطريرك الماروني بولس مسعد (ت 1890)، لم يكن البطريرك هو الذي دعا إلى عقده بل البابا بيوس التاسع وترأسه الموفد الباباوي المونسنيور برونوني . بل تفاقمت سلطة روما عندما بدأت بالتدخل في انتخابات البطاركة الموارنة ـ كما حدث في انتخاب البطريرك سمعان عواد (ت 1756)، الذي اختاره البابا بينيدكتس الرابع عشر بطريركاً ، وكذلك البطريرك بولس المعوشي، الذي اختاره بطـريركاً البابا بيوس الثاني عشر .

    احدثت سياسة روما في تحويل الكنيسة المارونية الى اللاتينية نتائج ضارة يكون بعضها اسهم بطريقة غير مباشرة في حدّة المشاكل التي يواجهها الموارنة الآن في لبنان. وهنا يجب القول بأنه مهما كان شعور المبشرين اللاتين بنبل أهدافهم في الشرق الأوسط وخاصة محاولتهم تـثبيت الموارنة في الإيمان الكاثوليكي وحملهم على تبني عادات الكنيسة اللاتينية، فقد كانوا على الأرجح لا يدركون بأن نتيجة مساعيهم في جعل الكنيسة المارونية لاتينية هي هدم الطقوس والتقاليد السريانية واللغة السريانية.

 

فبالرغم من ان الطقوس والتقاليد واللغة لم تكن قد تبلورت بعد الا انها كانت الأثر الوحيد لماضي الكنيسة الانطاكية السريانية المجيد التي كانت الكنيسة المارونية جزءاً منها. لم يكن للطقوس السريانية في كنيسة أنطاكية السريانية جمالها وتاريخها الراسخ في التقليد الرسولي وحسب، بل كانت تُعتبر أيضاً الرمز الوطني وفخر الشعب السرياني الذي كانت لغته اللغة الشاملة في بلده (سورية الكبرى) قبل ان احتلها العرب في القرن السابع. صحيح أن تعريب كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية، وخاصة في سورية قد بدأ منذ احتلال العرب لذاك البلد، إلا أن هذه الكنيسة مازالت حتى اليوم متشبثة بطقسها السـرياني وبليتورجيتها السريانية. بل كانت قادرة على الصمود أمام تأثير التيّار العربي محافظة بذلك على شعائرها، بالرغم من ان غالبية اتباعها وخاصة في سـورية والعراق في الوقت الحاضر لا يفهمون اللغة السريانية .

 

كانت الكنيسة السريانية قادرة على الحفاظ على شعائرها وتقاليدها لأنها لم تقع تحت النفوذ اللاتيني كالكنيسة المارونية. ولكن العكس هو حال الكنيسة المارونية، فقد تأثرب هذه الكنيسة بالتعريب والتحول الى اللاتينية معاً فكانت النتيجة المؤلمة التي تعانيها في الوقت الحاضر وخاصة فقدان هويتها الآرامية السريانية. لا يمكن للمرء أن يلوم كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية بتعريب أقسام من القداس السرياني لأن اتباع هذه الكنيسة منتـشرون في سائر أرجاء الشرق الأوسط ولا يمكنهم الادعاء بأن لهم بلداً أو قطعة أرض خاصة بهم. بل حتى أولئك الناطقون باللغة السريانية في طورعبدين أو سكان القرى الناطقة باللغة السريانية في شمال العراق يعتبرون في وضع أسيف جداً لا يستطيعون فيه المحافظة على لغتهم بسبب تأثير اللغة والتقاليد العربية في نمط حياتهم. ولكن وضع الموارنة يختلف جداً عن ذلك حيث استطاعوا بتحصنهم مدى عدة أجيال في جبلهم، جبل لبنان بالمطالبة باستقلال أكبر في شؤونهم الكنسية ولذلك كانوا ومازالوا بوضع يساعدهم على إحياء تقليدهم ولغتهم السريانيين. ولكن بدلاً من أن يقوم المبشرون اللاتين بتشجيع الموارنة على الاحتفاظ بتراثهم السرياني والتعلق به وإحياء اللغة السـريانية حتى تصبح مـرة أخرى لغة تخاطب (Lingua Franca) للشعب الماروني، عملوا على ثنيهم عن استعمال هذه اللغة وطعنوا بالتراث السرياني وأضافوا المزيد من البلاء إلى الموارنة الذين جرى التعريب في كنيستهم وذلك بجعلها لاتينية. وهكذا فَقدَ الموارنة بشكل كامل تقريباً هويتهم الوطنية السريانية منذ القرن السادس عشر. وبدلاً من الزهو بتراثهم السرياني، أدعى الموارنة، يأساً منهم في العثور على أصل شرعي لكنيستهم وشعبهم، بأنهم ينحدرون من المردة وهو ادعاء لا أساس له من الصحة تاريخياً. إن الموارنة، كالنساطرة والروم الأرثوذكس (البيزنطيين) والشعب السرياني الأرثوذكسي هم من أصل سرياني ـ آرامي. وعلينا أن نقر بأن المجمع اللبناني لعام 1716 شدد على استعمال اللغة السريانية أولاً والعربية ثانياً في خدمات العبادة في الكنيسة المارونية. ولكن لم يكن المراد بهذا التشديد إحياء اللغة السريانية كما أنه لم يساهم في إحيائها كرمز وطني للكنيسة . ولو ان الجهود لإحياء اللغة السريانية والتقاليد السريانية توافرت لما كان الموارنة اليوم يعانون من فقدان للهوية مدّعين أحياناً بأنهم من أصل يعود إلى المردة وأحياناً من أصل عربي. إن أقل ما يمكن ان يقوله المـرء بثـقة هو أن اسماء القرى والبلدات في لبنان هي اكبر شاهد على الأصل الآرامي السرياني لذلك البلد. في الواقع، إن أهالي العديد من القرى في لبنان وحتى القرن الثامن عشر وخاصة قرية بشري وثلاث قرى مجاورة كانوا يستعملون اللغة السـريانية بمثابة لغة تخاطب (Lingua Franca) لهم .

 

    أثرت عملية تحويل الكنيسة المارونية الى كنيسة لاتينية كذلك على الليتورجية المارونية التي تُعتبر مركز العبادة الدينية المارونية. إن الليتورجية المارونية هي بشكل أساسي النسخة السريانية من ليتورجية القديس يعقوب الرسول وهي ليتورجية كنيسة أنطاكية بالذات.

 

    أظهرنا خلال هذه الدراسة بأنه لم تكن للموارنة ليتورجيات خاصة بهم وأن الليتورجيات التي استعملوها تخص الكنيسة السريانية الأرثوذكسية. إن الأب سيلي جوزيف بيجياني على صواب عندما يقول أن ” الموارنة لم يؤلفوا ليتورجية جديدة بل تبنوا واقتبسوا الليتورجيات التي استعملها المسيحيون في منطقتهم ” . إن الليتورجية المُسماة شرار، التي يدّعي الموارنة بأنها ليتورجيتهم ” الأصلية “، ليست ليتورجية مارونية؛ بل ليتورجية القديسين أدّي وماري التي استعملها الجزء الشرقي من كنيسة أنطاكية السريانية في العراق حالياً. وقد اعتـنقت هذه الكنيسة تعليم نسطور في النصف الثاني من القرن الخامس ومنذ ذلك الحين أصبحت تُعرف بالكنيسة النسطورية. ومن البديهي تاريخياً ان ليتورجية أدّي وماري سبقت في تاريخها ظهور المارونية في القرن السابع وقيام كنيسة مارونية مستقلة وبطريركيتها في القرن التالي. من المحتمل أن تكون الليتورجية المُسماة شرار هي انتحال ماروني لليتورجية أدّي وماري، كما تكشف المقارنة الدقيقة بين الليتورجيتين . والى الآن لم يقدم أي كاتب ماروني، ولا حتى الأب بيجياني، وهو آخر من كتب عن الليتورجية المارونية بيّنة مقنعة بأن شرار هي ليتورجية مارونية .

 

    أصبحت ليتورجية القديس يعقوب التي تستعملها الكنيسة المارونية لاتينية. وهذه حقيقة ثابتة كما جاء في التعليم المسيحي حسب الطقس الماروني الذي ينصّ على ان “لاتينية الليتورجية المارونية ”  يعود الى عدة عوامل، كالصليبيين والموفدين الكاثوليك الى الموارنة والإكليريكية الكاثوليكية في روما. وكما قلنا سابقاً فان عملية التحويل الى اللاتينية لم تكن في صالح الكنيسة المارونية. غير ان كنيسة روما بدأت بتقدير جودة الطقس الشرقي واهميته منذ عهد قريب. ففي عام 1935اوعز البابا بيوس الحادي عشر الى المدارس والإكليريكيات الكاثوليكية الاحتفال بيوم سنوي للطقس الشرقي . ولكن هذا لا يعني أن روما كانت تؤيد إزالة الجذور اللاتينية من الليتورجية المارونية بل يعني فقط أن روما أدركت اخيراً أن الطقس الشرقي لا يقل أهمية عن الطقس اللاتيني. هناك اعتراف آخر بأهمية الطقس الشرقي أبداه البابا بيوس الثاني عشر عام 1957. فقد أيَّد هذا البابا ” وجوب الحفاظ على الطقوس الشرقية التي يعتبر قِدمها الجليل حلية بهية للكنيسة بأسرها وتأكيداً لوحدة الإيمان الكاثوليكي (اي ايمان كنيسة روما) المقدس ” . ربما كان موقف كنيسة روما هذا تجاه الطقوس الشرقية هو ما حدا بالبطريرك الماروني بولس المعوشي والمجمع البطريركي الذي عقده إلى اعادة العادات التقليدية في اجراء التـثبيت في آن واحد مع المعمودية كما هي العادة القديمة في كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية والذي كان مجمع قنوبين الثاني الذي عقده جيروم دنديني عام 1596 قد قام بتغييره .

 

    أصدر المجمع الفاتيكاني الثاني (1963ـ1965) الذي اصرّ على المسكونية (وحدة الكنيسة الجامعة) وتفهم الكنائس الشرقية بصورة فضلى قراراً بإحترام الطقوس الشرقية احتراماً كبيراً نظراً لعراقتها الجليلة . ويشكل قرار المجمع هذا روحا وموقفاً يختلفان تماماً عن الروح والموقف اللذين سادا في مجمع قنوبين عام 1596 الذي اثبت ديمومة التحويل الى اللاتينية في الكنيسة المارونية. ويدل المجمع الفاتيكاني الثاني بأن كنيسة روما قد قطعت شوطاً كبيراً في علاقاتها مع الكنائس الشرقية. ولكن مازال هناك الكثير مما يتعين فعله للحصول على مسكونية شاملة لعلاقتها بتلك الكنائس. ولهذا انتهزت الكنيسة المارونية هذا الإنبعاث الجديد للحركة المسكونية ” بالاعتراف بالحاجة إلى الإبقاء على المفاهيم التقليدية ” . وهذا يعني بأن الكنيسة المارونية عزمت على التخلص من التقاليد اللاتينية التي فُرضت عليها، ربما بطريقة تدريجية، واستعادة التقاليد القديمة لكنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية.

 

    واستجابة لمطالبة المجمع الفاتيكاني الثاني بإحياء روح الكنيسة الجامعة من جديد، بادرت الكنيسة المارونية في الولايات المتحدة إلى إدخال بعض الإصلاحات على الليتورجية. وقد بدأ المطران الماروني فرنسيس زايك، رئيس أبرشية القديس مارون في أمريكا  بتطبيق هذه الإصلاحات عام 1973. وكان السبب المهم للقيام بهذه الإصلاحات هو أن الليتورجية المارونية كانت ” قد اصبحت لاتينية إلى حد كبير وجامدة نوعاً ما ” . يرى بعض الكهنة الموارنة في الولايات المتحدة أن ليتورجيتهم أصبحت تعاني من التكرار والهزال نتيجة الافتـقار إلى ترجمة إنكليزية موحدة .

 

    نجح المطران زايك في تطبيقه التجديد الذي اجراه على الليتورجيه بإستعادة بعضاً من التقاليد القديمة للكنيسة المارونية التي كانت التقاليد اللاتينية قد حلت محلها منذ أمد طويل. وتبعاً لذلك يجري الآن الاحتفال بالمعمودية والتـثبيت في آن واحد، وارتداء الملابس الكهنوتية السريانية في الاحتفال بالقربان المقدس، كما ازيلت التقاليد اللاتينية من الليتورجية المارونية . وفي عام 1969 تمَّ نشر أول كتاب للقداس يحتوي على عدد من التـنقيحات. كما ترجمت مجموعة من الحسايات (صلوات استغفار) إلى اللغة الإنكليزية لإستعمال الموارنة الناطقين باللغة الإنكليزية.

 

    في عام 1972 اقترح مجلس الكنائس الشرقية المقدس إصلاح الليتورجية المارونية . وتمَّ عرض صيغة منقحة لليتورجية المارونية كان المطران زايك قد تبناها لاستخدامها في أبرشيته في الولايات المتحدة. وقد أجريت أيضاً تغييرات أساسية في الليتورجية المنقحة وخاصة إزالة كل الآثار اللاتينية منها بغية اسـتعادة ” الـروح الحقيقية لليتورجية القديمة “

 

    وهكذا وبعد امد طويل بدأت الكنيسة المارونية بإدراك أهمية التقليد السرياني لوجودها الوطني وإعطاء هذه الأهمية حق قدرها. في الحقيقة ان عملية تحويل الكنيسة المارونية الى كنيسة لاتينية وتعريبها معاً أضرتا بالهوية الآرامية السريانية الحقيقية للموارنة. ولو أن الموفدين اللاتين شجعوا الموارنة على احياء لغتهم السريانية وطقسهم السرياني لكي تصبح اللغة السريانية مرة أخرى لغة تخاطب للكنيسة المارونية واتباعها، لما كان الموارنة في العصور الحديثة أن يحاولون رد جذورهم الاثنية الى المردة أو العرب، وهو المسلك الذي أدى في النهاية إلى إضعافهم بشكل كبير خاصة في المحيط العربي السائد. إن لدى الموارنة كل الامكانيات الضرورية لإحياء اللغة السريانية والتقاليد السريانية النبيلة مرة أخرى والتي تُعتبر موضع فخر كنيسة أنطاكية السريانية.