علاقة الموارنة بالمردة والجراجمة

Posted by on Aug 16, 2012 in Library, الموارنة في التاريخ - الدكتور متي موسى, الموارنة في التاريخ -2 | Comments Off on علاقة الموارنة بالمردة والجراجمة

19

علاقــة المــوارنــة بالـمــردة رأينا حتى الآن ان الموارنة ظهروا كجماعة دينية في القرن السابع عندما قبلوا صيغة إيمان خلقيدونية بمدلولها المونوثيلي الذي فرضه الإمبراطور هرقل كإجراء للحفاظ على وحدة الإمبراطورية. وتبع رهبان دير مارون الذين قبلوا هذه الصيغة المونوثيلية أهالي حمص ومنبج وسورية الجنوبية. إلا أن المونوثيلية، كعقيدة رسمية كانت محصورة بسورية بالذات، موطن المهتدين الجدد، ولم تكن قد انتـشرت بعد إلى لبنان أو إلى البلدان المجاورة. تُـشير أقدم المصادر الموثوقة، وخاصة تاريخ ديونيسيوس التلمحري، بأن رهبان دير مارون اقاموا في أواسط القرن الثامن أول بطريرك لهم من بين رهبان الدير، إلا أنه لم يذكر اي من هؤلاء البطاركة الأوائل بالاسم. ولكن التلمحري يعطي الانطباع بأن المهتدين الجدد إلى المونوثيلية وجدوا من الملائم التأكيد على استقلالهم الكنسي عن رئاسة البطريركية الأنطاكية. اما كون هؤلاء المهتدين ينتمون إلى جماعة الملكيين أو جماعة ” اليعاقبة ” في هذه البطريركية فليس بالأمر الهام في هذه المرحلة الحرجة. المهم هو أن رهبان دير مارون أرادوا استقلالاً كنسياً يميزهم عن هاتين الجماعتين. كانوا مجرد جماعة دينية لا طائفة مكتملة بكل معنى الكلمة. بل لم يكونوا بالتأكيد  ” أمة “، وهو التعبير الذي استعمله الدويهي للدلالة على أن الموارنة كانوا طائفة دينية مكتملة.  والذي يجب الاشارة اليه في هذا المقام انه ما من مؤرخ سرياني أو خلافه قد اشار إلى الموارنة كطائفة في وقت مبكر يرجع إلى القرن الثامن، أو نسب إليهم صفات أمة وهي تسمية استعملها لأول مرة موارنة من القرن السابع عشر، وخاصة الدويهي. ولكي يحاولوا إيجاد هوية مستقلة لكنيستهم وجماعتهم لم يدَّع موارنة القرن السابع عشر فقط بأن الموارنة كانوا ورثة الكنيسة والبطريركية الملكيتين بل ادعوا ايضاً بأنهم ينحدرون من سلالة قوم محاربين يدعون بالمردة، ظهروا لأول مرة في سورية ولبنان في القرن السابع وان هؤلاء المردة كانوا قوماً متميزين امتلكوا صفات أمة ولذلك فإن الموارنة، الذين كانوا قد أصبحوا أيضاً أمة في ذلك القرن، ليسوا سوى هؤلاء المردة أنفسهم .

 

يقول الدويهي بعد ان روى قصته عن يوحنا مارون أن يوحنا مارون أصبح بالتالي ” رأس الأمة المارونية ” . تُرى كيف استطاع يوحنا مارون الحصول على مركز كهذا، ومن هم هؤلاء القوم الذين كوّنوا ” الأمة المارونية ” ؟ يقدم الدويهي شرحاً يتعلق باحتلال المردة لبنان، الذين أرسلهم إلى ذلك البلد الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الرابع، بوغوناتس عام 676. ويدّعي الدويهي انه ما ان تمّت رسامة يوحنا مارون اسقفاً حتى شرع بالتنقل من مكان إلى آخر لنشر إيمانه. وفي فترة قصيرة من الزمن استطاع يوحنا مارون على تحويل العديد من المونوفيزيين (ويقصد بهم اليعاقبة) عن إيمانهم، إلى درجة أنه وجد نفسه رئيس رعية كبيرة. ويستطرد الدويهي قائلاً أن يوحنا مارون لم يسد فقط على هؤلاء المهتدين الجدد في لبنان، بل امتدت سلطته لتشمل سائر أهالي البلاد الممتدة من أرمينيا حتى أورشليم. ويستـشهد في هذا الصدد بتاريخ ثيوفانس (ت 818)، وهو أول من روى أن المردة هاجموا جبل لبنان واحتلوا البلاد بأسرها من الجبل الأسود (اللكام) وحتى أورشليم في السنة التاسعة من حكم الإمبراطور قسطنطين الرابع بوغوناتس. يدعي الدويهي ان هؤلاء المردة انفسهم هم الموارنة الذين خضعوا لسلطة يوحنا مارون. ويمضي الدويهي قائلاً أنه يمكن العثور على السبب الذي لأجله اصبح هؤلاء الناس يدعون بالمردة (المتمردين) لا الموارنة في كتاب قديم قام بنسخه جرجس بن داود بن ابراهيم، عام 1315. ثم يورد بالسريانية حادثة لا صلة لها لا بالمـردة ولا بالمـوارنة مغفلاً تحديد هوية هذا الكتاب القديم أو وصفه مما يضطرنا الشـك بصحة روايته بخصوص هذا المصدر .

 

يتحدث الأب هنري لامنس أيضاً عن ” الأمة المارونية ” وانتـشارها في لبنان، إلا أنه يفصل بين الموارنة والمتمردين Mardaite الذين يسميهم بالمردة . إن الاب لامنس مصيب في اقراره بأن الموارنة كانوا قوماً آراميين (ينطقون بالسريانية) يعيشون في سورية الجنوبية في مدن حمص وحماه وشيزر. كما أنهم عاشوا على بعد إلى الشمال في منبج وقنسرين والمدن الواقعة على خط الحدود بين الولايات العربية والبيزنطية والتي كان العرب يُـشيرون إليها بالعواصم. بعبارة أخرى، كان الموارنة في القرن السابع مازالوا يعيشون في سورية بالذات ولم يكونوا قد نزحوا ببطء إلى لبنان. لكن الاب لامنس لم يستطع تحديد عدد هؤلاء الموارنة، فهو يخمن اعتماداً على مناظرة جرت بين جماعة من الموارنة وكهنة ” يعاقبة ” (على الأرجح من الرهبان) بحضور الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان (ت 680)، بأن عددهم كان لا بد كبيراً، وإلا ما كان الخليفة ليتخذ قراراً بشأن المناظرة لصالحهم ضد خصومهم، ” اليعاقبة ” . غير أن هذه المناظرة خارجة عن السياق ولا تفيد في تقدير عدد الموارنة.

 

يؤكد الاب لامنس بأن الموارنة هاجروا إلى لبنان في النصف الثاني من القرن السابع من وادي نهر العاصي في سورية، إلا أنه لا يدعم رأيه بدليل تاريخي. ولما ادرك أن رأيه قائم على اساس واهٍ توقع ان آراءه المشوبة بالتعميم ستلاقي معارضة جمّة. ولكي يتلافي النقد لجأ الى سرد هذه الآراء بصيغة حوار كالتالي:

 

لماذا تتكلم عن هجرة الموارنة إلى لبنان؟ أليس من الأنسب القول بأن سكان لبنان الأصليين لم يكونوا سوى الموارنة ؟ المعترض :

ان معرفتنا الأولى لتاريخ الموارنة الديني تدل بجلاء بأن هذه الطائفة عاشت خارج لبنان. وأنها اخذت اسمها من القديس مارون الذي عاش في شمال سورية (الأصح، أن الموارنة اشتقوا اسمهم من دير مارون، لا من الناسك مارون).بل يعوزنا الدليل بأن الموارنة كانوا يوماً في لبنان، إلا أننا نجدهم بعد فترة من الوقت يهاجرون من شمال وأواسط سورية إلى جبل لبنان. لذا يتحتم علينا الإقرار بنزوح الأمة المارونية (الى لبنان). ان المؤرخ ثيوفانس والمؤرخ المسلم البلاذري اشارا إلى مثل هذا النزوح الذي قام به هؤلاء القوم.

لامنس :

ولكن لماذا غادر الموارنة وطنهم في سورية للعيش في لبنان ؟

المعترض :

فعلوا ذلك كي ينجوا من اضطهاد جيرانهم، وخاصة أعداءهم ” اليعاقبة “. كان هؤلاء اليعاقبة أشداء يسيطرون على أفاميا في سورية الجنوبية. وكان لهم دير كبير قرب تلك المدينة يُدعى بدير مار (القديس) باسوس يؤوي ستة الآف وثلاثمائة راهباً. ونظراً لأن الموارنة واليعاقبة كانوا على خلاف (حول قضايا عقائدية)، فلم يجد الموارنة بداً من مغادرة موطنهم .

لامنس :

ثم يحاول الاب لامنس توضيح العداء المزعوم بين الموارنة و” اليعاقبة ” استـناداً إلى المناظرة التي جرت بين رجال الدين من الجماعتين بحضور الخليفة معاوية. كما يوضح أيضاً كيف استولى الموارنة، في زمن الإمبراطور هرقل، على العديد من الكنائس والأديرة التابعة ” لليعاقبة “. يقول الاب لامنس أن هؤلاء ” اليعاقبة ” حاولوا استرداد املاكهم في زمن الخليفة معاوية إلا أنهم أخفقوا في ذلك. ويتكهن بأنهم لهذا السبب انتظروا فرصة سانحة لمعاداة الموارنة وإخراجهم من بيوتهم. نتيجة لذلك، بحث الموارنة عن موطن أكثر أمناً وسلاماً في جبل لبنان.

 يتكهن الاب لامنس أيضاً بأن” اليعاقبة ” في هذا الوقت هدموا دير مارون. ويتابع قائلاً أن هجرة الموارنة لم تكن هجرة جماعية بل بشكل جماعات صغيرة على مدى فترات طويلة من الزمن. عاش هؤلاء المهاجرون في بادئ الأمر في شمال لبنان ثم انتـشروا في جميع أنحاء البلد. وعاصر نزوحهم نفس الوقت الذي هاجم فيه المردة لبنان فوجد الموارنة الحماية في ظله.

 ويؤكد الاب لامنس بأن هؤلاء المردة كانوا نفس من يسميهم البلاذري بالأنباط، وأنهم مع فريق آخر (الجراجمة) ومع العديد من العبيد الهاربين أنضموا إلى الجيش البيزنطي. ويختم لامنس قوله بأن البلاذري أطلق على هؤلاء الموارنة اسم الأنباط للدلالة على أصلهم الآرامي (السرياني) .

 

يتعذر الدفاع عن أقوال الاب لامنس هذه، فيما عدا قوله بأن الأنباط هم شعب ناطق باللغة الآرامية. لقد بيّنا سابقاً، استناداً على رواية التلمحري، بأن الموارنة كانوا سرياناً أرثوذكسيين ” يعاقبة ” قبل اعتناقهم المونوثيلية حسب الصيغة المونوثيلية التي ارادها هرقل، وأنهم فصلوا أنفسهم عن السريان الأرثوذكس ” اليعاقبة ” بعد أن أصبحوا مونوثيليين واستولوا على العديد من كنائس السريان الأرثوذكس وأديرتهم. والأكثر من ذلك هو عدم وجود دليل يؤيد رأي لامنس بأن الجماعتين تخاصمتا إلى الحد الذي حمل الموارنة على النزوح إلى لبنان طلباً للنجاة من اضطهاد هؤلاء السريان الأرثوذكس ” اليعاقبة “. بل ليس هناك في الواقع من دليل بأن الموارنة نزحوا يوماً من سورية إلى لبنان، إمّا بشكل جماعي أو بشكل جماعات صغيرة منفردة. إضافة إلى ذلك، يتعذر الدفاع عن رأي لامنس بأن اليعاقبة حاولوا في زمن الخليفة معاوية استرداد أبنية الكنائس والأديرة من الموارنة، والتي كانوا قد فقدوها في زمن الإمبراطور هرقل ولكنهم أخفقوا في ذلك. ومما يتعذر الدفاع عنه ايضاً قوله بأن اليعاقبة كانوا دائماً، نظراً لإخفاقهم في استرداد ممتكلاتهم على استعداد لانتهاز الفرص لمخاصمة الموارنة، ولهذا السبب هاجر الموارنة إلى لبنان. فاننا نعلم من المناظرة التي جرت بين رجال الدين الموارنة والسريان الأرثوذكس “اليعاقبة” بأن ” اليعاقبة ” كانوا هم المضطَهدون والموارنة كانوا المضطهدين. وإذا استطعنا الإيمان بصحة هذه المناظرة كما كتبها أحد الرهبان الموارنة الموالين، فإننا نعلم بأن أسقفين سريانيين أرثوذكسيين “يعاقبة” هم ثيودوريطس وسابوخت، قد مثلا أمام معاوية، حاكم سورية، في دمشق في حزيران من عام 970 بحسب التقويم اليوناني، والموافق لـ 659 بحسب التقويم الميلادي. وكانت غايتهما المناظرة مع جماعة من رجال الدين الموارنة حول مسائل تمس الإيمان. وتنصّ هذه المناظرة بكل وضوح بأن اليعاقبة خسروا الجدل مما جعل معاوية يفرض عليهم جزية مقدارها عشرين ألف دينار ويأمرهم بالسكوت. وكما يقول كاتب المناظرة بأن الأساقفة اليعاقبة منذ ذلك الوقت دفعوا إلى معاوية سنوياً مبلغاً من الذهب مقابل حمايتهم من الاضطهاد. ومهما يكن من امر فإن هذه المناظرة تميط اللثام عن وضع الكنيسة المسيحية الذي يرثى له في سورية في القرن السابع؛ وما اصدق المستشرق الألماني ثيودور نولدكة حيث قال في هذا الصدد ” استباح أفراد هذه الكنائس أنفسهم أمام حكامهم المسلمين الجدد بقبولهم لهم كمحكمين في مسائل الإيمان ” . والذي يبدو بشكل واضح أن المشاجرات العقائدية التي يؤسف لها بين المسيحيين الشرقيين في القرنين الخامس والسادس لم تخمد أبداً في عهد حكامهم المسلمين الجدد الذين لم يعيروا اي اهتمام بشأن هذه العقائد أو الإيمان بل كان جلّ همهم هو أن يدفع المسيحيون الجزية أو يعتـنقوا الإسلام.

 

إن ادعاء الاب لامنس، بأن ” اليعاقبة ” كانوا السبب في تخريب دير مارون لا أساس له من الصحة. فهو يتناقض مع قول الموارنة بأن هذا الديـر هدمه الجيش البيزنطي عام 694 لأسباب قام الدويهي بمناقشتها . كما يتـناقض مع قول الاب لامنس نفسه بأن الدير هدم في القرن التاسع مما أجبر رهبانه وجيرانهم، كما يدّعي، على الهجرة إلى لبنان. وفي نفس المضمون يستـشهد لامنس بأبي الحسن المسعودي، الذي قال بأن دير مارون هُدم نتيجة غزوات العرب البدو المستمرة وطغيان السلطان . أما بالنسبة للأنباط الذين تبعوا جيش المردة، فلا يمكننا أن  نتـفق مع لامنس بأنهم كانوا هم نفس الموارنة. بل نجد لامنس يتكهن في ادعائه بأن البلاذري كان يعني بأن الأنباط كانوا الموارنة. والحقيقة هي أن الأنباط أو النبطيين كانوا فرعاً من الشعب الآرامي ويتكلمون لهجة من لهجات اللغة السريانية الآرامية، أما انهم كانوا والموارنة شعباً واحداً فهذا ما لم يقل به ايّ مؤرخ . ولكن طالما لا يوجد دليل بأن الموارنة هاجروا إلى لبنان افراداً او جماعات فكيف يمكن أن نبرهن صحة شهادة مفريان المشرق السرياني غريغوريوس ابن العبري (ت 1286)، الذي يقول، وهو يكتب عن ثيـوفيل ابن توما، كبير منجمي الخليفة العباسي المهدي (775ـ785)، بأن ثيوفيل كان مارونياً وبأن الموارنة كانوا يمثلون أحد المذاهب المسيحية (الملل) في لبنان اي في القرن الثامن . لا بد وأنه كانت هناك طائفة مارونية منفصلة في لبنان في القرن الثامن والتي كان ثيوفيل ينتمي إليها. وليس من الصعب شرح كيفية وصول الموارنة إلى لبنان إذا أدركنا بأن التحول من جماعة دينية إلى أخرى ضمن الكنيسة السريانية كان النتيجة المألوفة للنزاعات العقائدية منذ القرن الخامس حيث أصبح العديد من السريان نساطرة وخلقيدونيين وملكيين أو خلافه. بل ليس من المدهش أن نجد جماعة من اللبنانيين من أهل البلاد ومن الكنيسة السريانية الأرثوذكسية تتحول إلى جماعة مارونية بقبول أعضائها العقيدة المونوثيلية، التي هي جزء أساسي من إيمانهم بالطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي، مع أن هذه العقيدة لم يعترف بها رسمياً كعقيدة منفصلة قبل النصف الأول من القرن السابع. كما أنه ليس من غير المحتمل أن يكون بعض الملكيين قد قبلوا المونوثيلية وأصبحوا موارنة. لأن اللغة والطقوس الكنسية والتقاليد الدينية لكل السريان كانت متشابهة جداً حتى أواسط القرن الخامس عندما برزت الانقسامات نتيجة تعريف الإيمان في مجمع خلقيدونية. اما في الزمن الذي تلا المجمع، فقد اصبح من السهل تحديد هوية الطقوس المختلفة للجماعتين الخلقيدونية واللاخلقيدونية. سوف نرى بعدئذ بأن الأدلّة تُـشير إلى أن غالبية أهالي لبنان كانوا من السريان الأرثوذكس وكانوا يتكلمون اللغة السريانية ـ الآرامية. ولهذا فإن الاعتقاد بأن قسماً من هذه الكنيسة السريانية الأرثوذكسية أصبح مارونياً وشكل الكنيسة المارونية وجماعتها في لبنان يعتبر من الوجهة المنطقية اكثر قبولاً من ادعاء الاب لامنس بأن الموارنة هاجروا إلى لبنان هرباً من اضطهاد ” اليعاقبة “.

لكن المشكلة الرئيسة هنا ليست في تكهن الاب لامنس بأن الموارنة هاجروا إلى لبنان واصطدموا هناك بالسكان الأصليين الآراميين الذين استوعبهم مجتمع الموارنة سريعاً نظراً لأنهم كانوا من نفس الأصول الاتـنية . إنما المشكلة هي فيما إذا كان الموارنة والمردة هم نفس الشعب ويشكلون ” الأمة المارونية “، كما يدّعي الموارنة، وفيما إذا كان هؤلاء المردة والجراجمة (حسب تعبير البلاذري) هم نفس الشعب. من السهل طبيعياً ان نتبع نتائج مستـشرفين مرموقين كثيودور نولدكة والأب هنري لامنس وكتّاب شرقيين كالأب أناستاس ماري الكرملي (ت 1947) ونعتبر مردة المؤرخ البيـزنطي ثيوفانس وجـراجمة البلاذري نفس الشعب. بل من الأسهل كذلك الاتـفاق مع البروفسور م. كانارد الذي يتبع، في مقاله المعنون الجراجمة في الطبعة الجديدة من دائرة المعارف الإسلامية ، النظرية المعترف بها تقليدياً وهي أن المردة والجراجمة هم نفس الشعب. والحقيقة هي ان هذه القضية لن تكون بهذا التعقيد لولا النظرية التي روجها الكتّاب الموارنة (ومنهم العلامة يوسف السمعاني الذائع الصيت) منذ القرن السابع عشر : وهي أن المردة كانوا أجداد أهالي لبنان الموارنة الحاليين . إلا أنه ما من ماروني آخر دافع بحماس كبير عن النظرية القائلة بأن المردة والموارنة شعب واحد كما فعل المطران الماروني يوسف الدبس، مع أنه ينكر أن المردة والجراجمة هم نفس الشعب .

 

القضية اذن معقدة وتتطلب تحديد هوية هذه الجماعات الثلاث لتقرير فيما إذا كانت جماعة واحدة. ان أول مؤرخ يذكر المردة هو ثيوفانس، اذ يقول بأن المردة قاموا في عام 669 بمهاجمة لبنان واحتلال أجزاء من البلاد تمتد من الجبل الأسود (اللكام) إلى المدينة المقدسة (أورشليم). وقد احتل هؤلاء المردة أعالي الجبال في لبنان وأنضم إليهم العديد من العبيد ومن الأسرى، وأهالي البلاد معاً، وخلال فترة قصيرة جداً من الزمن ازداد عددهم إلى عدة آلاف . يتابع ثيوفانس قائلاً بأن معاوية (الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان) ومستـشاريه أصيبوا بالذعر عندما سمعوا بهؤلاء المردة. واعتقاداً منهم بأن العناية الإلهية كانت تحمي الدولة البيزنطية، أرسلوا موفدين إلى الإمبراطور قسطنطين الرابع، بوغوناتس (668ـ685)، لاجراء الصلح معه والوعد بدفع جزية سنوية له . استقبل الإمبراطور الموفدين، على ما يبدو بحبور وأرسل شيخاً، نبيلاً، غنياً، محنكاً يُدعى يوحنا للتـفاوض مع معاوية. اجتمع يوحنا بمعاوية والمجمع الذي كان معاوية قد دعا إلى عقده لهذا الغرض وتمَّ التوصل إلى تسوية سلمية. ونصت معاهدة الصلح التي كتبت وتمَّ تثبيتها بالقسم، أن يدفع معاوية للدولة البيزنطية جزية سنوية مقدارها 3000  قطعة ذهبية و 8000  من الأرقاء و 50 من الخيول الأصيلة. وأخيراً يخبرنا ثيوفانس بأن الطرفين أبرما سلاماً ثابتاً لمدة ثلاثين عاماً، يتبادل فيه الطرفان المعاهدات، وأن يوحنا عاد إلى الإمبراطور بهدايا فاخرة . قد يكون هذا صحيحاً إلا أن ثيوفانس لا يقول شيئاً بخصوص من هم المردة، ومن أين جاءوا أو لماذا سُموا بالمردة. وكل ما يمكننا فهمه من قول ثيوفانس هو أن المردة كانوا قوماً أشداء شجعان حاربوا في صفوف الإمبراطور البيزنطي وسيطروا على المنطقة الممتدة من الجبل الأسود (اللكام أو جبل الأمانوس) إلى أورشليم، وإن ما من قوة كانت لتردعهم أو تعارضهم، وبأن العبيد الهاربين وحتى أهل البلاد أنضموا إليهم طلباً للحماية والمساعدة. سنرى اهمية هذا القول عندما نناقش الجراجمة. كما اننا نعلم بأنه كان في استطاعة المردة احتلال معظم سورية وربما جزء كبير من الشرق الأدنى في ذلك الحين لو لم يأمرهم الإمبراطور البيزنطي يوسطنيان الثاني راينوتميتوس (685ـ695)، بالجلاء عن لبنان والاستقرار في أرمينيا. هناك صورة واضحة عن كيفية حصول هذا الحدث كما يلي:

 

عندما أصبح عبدالملك بن مروان خليفة عام 685، كانت سورية تعاني من المجاعة والطاعون. وقد زادت غزوات المردة في لبنان من حدة المجاعة، ونتيجة لذلك برزت الى الوجود فئات عديدة من المتمردين، تحاول كل منها الإطاحة بعبدالملك. ولما اصبح عبدالملك محاطاً بالعصيان ومضطرباً من هجمات المردة ، حذا حذو معاوية في طلب الصلح بإرسال مبعوث للتـفاوض مع الإمبراطور قسطنطين الرابع بوغوناتس. واسفرت المفاوضات عن موافقة عبدالملك على دفع 365  قطعة ذهبية سنوياً وما يماثل هذا العدد من العبيد والخيول الأصيلة. إلا أن المردة استمروا، بتشجيع من الإمبراطور الجديد يوسطنيان الثاني راينوتميتوس في إزعاج العرب في سورية، بحيث اكرهوا عبدالملك بإرسال مبعوث لتعزيز السلام المبرم سابقاً بينهما. وتم عقد معاهدة صلح جديدة لمدة عشر سنوات تعهد فيها الإمبراطور البيزنطي بإجلاء جيش المردة عن لبنان والحؤول دون غزو يقومون به في المستقبل، وهو ما يأسف له ثيوفانس بالقول ” بأن الامنراطور هدم بيديه السـور النحاسي المنيع الذي كان يقوم في لبنان” . اما عبدالملك فكان عليه أن يزود الإمبراطور بعبد واحد يومياً وحصان وألف دينار. علاوة على ذلك، اتـفق الطرفان على اقتسام دخل الضريبة في قبرص وأرمينيا وأيبريا بالتساوي. اما الإمبراطور فأنه أنجز شروط الاتـفاقية واخرج اثني عشر ألفاً من المردة من لبنان. وهنا يبدو أن غزو المردة لسورية كان ولا شك مدمراً لأن الأرض الممتدة من مدينة المصيصة إلى أرمينيا الرابعة أصبحت على حد تعبير ثيوفانس، قفراء بسبب الغزو . ومهما كان الامر فان السلام المعقود مع الإمبراطور البيزنطي، وعلى الأخص إجلاء المردة عن لبنان، منح عبدالملك فترة من السلام اخذ يتعامل فيها مع المتمردين واحداً فواحداً إلى أن تمَّ في النهاية إخضاعهم جميعاً .

يدرك الأب لامنس ان مشكلة تحديد أصل المردة معقّدة. ففي مقالاته عن المردة، يورد الآراء المختلفة التي تلقي الضوء على أصل هؤلاء القوم. فهو يستـشهد بقول ثيوفانس بأن المردة هاجموا لبنان واحتلوه، ويستـنتج بأنهم لهذا السبب لم يكونوا لبنانيين بل أجانب. ويقول، مستـشهداً مرة أخرى بثيوفانس، بأن أهالي البلاد أنضموا إلى هؤلاء المردة ويعزز مرة أخرى استـنتاجه بأن المردة لم يكونوا لبنانيين.

 

ويستطرد لامنس قائلاً أن المؤرخين الذين ذكروا المردة عرفوهم دائماً على أنهم Tagmata أو فوج من الجند، وهذا ما يبرهن على أنهم لم يكونوا مدنيين بل مجموعة عسكرية، ذات تنظيم وانضباط عسكريين. كان هؤلاء القوم يكسبون عيشهم في زمن السلم من أعمال الزراعة، مع أنهم كانوا دائماً على استعداد لخوض غمار الحرب. لذلك فهم يشبهون الكرواتيين في القرن الثامن عشر الذين قاموا بحماية الحدود الجنوبية للنمسا. كما يشبهون قوى Limitanei (جنود الحدود) التي وضعها الرومان عند الحدود لحماية إمبراطوريتهم. كانت تعبئة قوى (Limitanei) هذه تتم من بين الجنود المحترفين الذين كانوا يعطون في زمن السلم أرضاً يقومون بزراعتها. وعند وفاة الجندي كانت ملكية الأرض تـنتقل إلى أبنائه، الذين كانوا يسيرون على خطى والدهم فيتطوعون في ” Limitan. يستـشهد لامنس أيضاً بكتّاب فرنسيين أمثال انكوتيل دوبيرون ورامبو، اللذين تمسكا بالقول أن المردة كانوا إما قوماً قدامى هاجروا في عدة اجيال من مكان إلى آخر حتى استقر المقام ببعضهم أخيراً على الحدود الشمالية من لبنان، أو أنهم كانوا أصلاً قبيلة إيرانية امتزجت بمرور السنين مع العناصر السريانية والأرمنية (28). يرفض لامنس الفكرة التي روَّجها الأب مارتان في تاريخه الذي كتبه عن لبنان بأن المردة كانوا عرباً وأن اسمهم اشتـق من (تمرد)؛ ويقيم الحجة بأن المردة لم يجيئوا من شبه الجزيرة العربية ولا من الشرق بل دخلوا لبنان من الشمال، وربما جاءوا من آسيا الوسطى. كما يقول أيضاً بأنه لا يوجد دليل على أن العرب دخلوا لبنان في القرن السابع. مع ذلك، فان الاب لامنس يتبع كتّاباً معاصرين باللغة العربية، فيكتب مثلهم اسم هؤلاء الناس على أنهم مردة بفتحة فوق الحرف (ر) . ان الكتّاب العرب القدامى لم يعرفوا مصطلح مردة، وفي اعتقادنا أنه مجترح من أصل سرياني كما سنرى بعدئذ.

 

أدعى الكتّأب الموارنة، منذ القرن السابع عشر، بأن المردة والموارنة هم نفس الشعب. ويستـشهدون دليلاً على ذلك بأن المردة كانوا مسيحيين يعيشون في لبنان في القرن السابع وبأنهم المسيحيون الوحيدون الذين عاشوا هناك في ذلك الزمن. ويورد كتّاب الموارنة دليلاً آخر وهو ان المردة كانوا يحاربون الملكيين في القرن السابع، ولم يكن في لبنان أحداً يحارب الملكيين في ذلك الوقت سوى الموارنة، لذلك كان الموارنة هم المردة. اما فيما يخص الاعتراض بأن المردة كانوا جماعة عسكرية أرسلها الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الرابع، بوغوناتس، لمهاجمة المسلمين في سورية، يجيب الكتّاب الموارنة بأنه لو كان المردة جماعة عسكرية لغادروا لبنان حالاً بعد إبرام السلام مع المسلمين في عام 677. غير أن المؤرخين يذكرون أن المردة استمروا في غزواتهم في سورية، بالرغم من اتـفاقية السلام هذه حتى عام 685 عندما التمس عبدالملك الصلح ووافق يوسطنيان الثاني، راينوتميتوس، مع بعض الشروط، على إجلاء المردة عن لبنان واسكنهم في أرمينيا . ولأجل تأييد الرأي المعارض بأن المردة كانوا أجانب لا موارنة، نُـشير إلى ديونيسيوس التلمحري، الذي يبيّن بأن ” هؤلاء المردة جاءوا دائماً للنهب وان البيزنطيين ارسلوهم لهذا الغرض ” . ومما يزيد هذه القضية تعقيداً هو ان الأب لامنس توصل ، بعد دراسة فعاليات الجراجمة، إلى الاعتقاد بأنهم كانوا المردة انفسهم. وهو في ذلك يتـفق مع المستشرق الالماني ثيودور نولدكة بقوله أن المـؤرخين العـرب أطلقوا على المردة اسم “الجراجمة” وينتهي الى النتيجة بأن المردة لم يكونوا بالموارنة . تكفي الملاحظة هنا بأن أول من عارض رأي الكتّاب الموارنة بأن المردة كانوا أجداد الموارنة هو المطران السرياني الكاثوليكي أقليميس يوسف داود حيث يقول في كتابه: جامع الحجج الراهنة في إبطال دعوى الموارنة .

 

ذكر المؤرخون الاقدمون أنه في اثناء القرن السابع انتشر في جهات سورية الغربية قوم من المقاتلين سماهم المؤرخون مردائت (مردة) جاءوا من بلاد الروم ليناهزوا العرب المسلمين المتملكين في بلاد سورية ويحاربوهم ويمنعوهم من غزو البلاد. فزعم علماء الموارنة من مرهج نيرون الى السيد يوسف الدبس أن هؤلاء المردائت هم أجـداد الموارنة وان المردة اسم مشتـق من المرودة بالسريانية أو بالعربية وأنهم كـانوا اعداء لملوك الروم وضداً لهم في سورية. وان أتباع ملوك الروم سُموا ملكيين لمقابلة المردة. وقد أدعى بذلك السمعاني نفسه بكل جدية في مواضيع شتى من مؤلفاته تبعاً لمن سبقه إلا أنه قد خالف مرهج نيرون والذين بعده في امر. وذلك ان هؤلاء جعلوهم شيعة دينية أرثودكسية واعتبروا خصومهم الملكيين مونوثيليين هراطقة، واما السمعاني فزعم ان سبب النزاع بين المردة وخصومهم لم يكن سبباً دينياً بل مدنياً. واسم هذا العلاّمة السامي خدع كثيراً من علماء أوربا الذين لم يتكلفوا تحقيق هذا الامر حتى ارتأوا رأيه.

 

بعد الاستـشهاد برواية ثيوفانس عن المردة، يستـنتج داود بأن المردة لم يكونوا هم الموارنة بدليل أنهم هاجموا لبنان من الخارج ولذلك كانوا غرباء، لا لبنانيين من أهل البلاد. ويُـضيف بأن الموارنة دائماً عُرفوا بهذا الاسم بسبب عقيدتهم الدينية، التي كانت تختلف عن عقيدة جيرانهم . إن ما يعنيه المطران يوسف داؤد بالعقيدة الدينية المارونية هو تمسكهم بعقيدة المشيئة الواحدة في المسيح (المونوثيلية) والتي روجها كما اسلفنا الإمبراطور هرقل للتوصل إلى تسوية الخصام بين المتـنازعين في الإمبراطورية حول ” الطبيعتين ” و ” الطبيعة الواحدة ” للمسيح. وكما هو معروف جيداً، ان هذا الخصام لم يزعزع فقط أساس الكنيسة بل زعزع أيضاً أساس الدولة. علاوة على ذلك، يحاجج داؤد بقوله بأن المردة آُجلوا عن لبنان عام 685 واستقروا في أرمينيا، ولكن لا دليل على وجود سكان موارنة يوماً ما في أرمينيا. ويستمر داؤد برفض الرأي القائل بأن المردة كانوا هم الموارنة أيضاً بسبب عدائهم للأباطرة البيزنطيين. ان الحقيقة اللاهبة هي أن المردة لم يكونوا أعداءً لهؤلاء الأباطرة، بل كانوا رعاياهم وجنودهم، ولذا كان أحد شروط الخليفة الاموي عبدالملك في ابرامه الصلح مع يوسطنيان الثاني، راينوتميتوس هو أن يقوم رجال الإمبراطور بإجلاء المردة عن لبنان. هذا ما يدل بوضوح على أن المردة كانوا رجال الإمبراطور وخاضعين لسيطرته. ويمضي داؤد في تأييد المزيد لرأيه بقوله ان المردة لم يكن لهم خصوم يدعون بالملكيين وأن المؤرخين الذين بحثوا في المردة لم يذكروا أبداً ارتباطهم بالملكيين أو الموارنة. وبناء على هذا الرأي فاننا وان اتفقنا مع الكتّاب الموارنة بأن المردة قاتلوا العرب المسلمين دفاعاً عن المسيحية لوجب ان تكون مصدر العداء بينهم وبين العرب المسلمين دينياً وحسب، أو بعبارة أكثر تحديداً، لوجب أن تكون حرباً بين المسيحية والإسلام، وهو ليس كذلك . من الواضح أيضاً أنه لم يكن في زمن الفتح العربي لسورية عام 636 قوم محاربون في ذلك البلد معادون للدولة البيزنطية، ويستطرد داؤد قائلاً انه لا توجد إشارة معاصرة لفعاليات الموارنة في ذلك التاريخ حتى القرن الثامن عندما كتب ثيوفانس (وهو أول راوية) بأن المردة هاجموا لبنان عام 669. والاكثر من ذلك يقول داؤد فاننا اعتباراً من هذا التاريخ وحتى إجلائهم عام 685 لا نسمع بجماعة عسكرية خاضعة للأباطرة البيزنطيين حاربت المردة. من الظاهر، أن آراء الكتّاب الموارنة في هذا الصدد هي مجرد أوهام . وأخيراً، يوحي داود بأن اسم ” المردة ” مشتـق على الأرجح من الكلمة الفارسية مَرْدْ (رجل أو شجاع). وان هؤلاء الرجال الشجعان، المردة، قاموا بحماية حدود الإمبراطورية البيزنطية من الغزوات الفارسية؛ وحاربوا الفرس بضراوة بحيث أطلق عليهم الفرس اسم مردان، أو الرجال الشجعان. وفي الختام ينحي داود باللائمة على العلامة يوسف السمعاني لكتمانه الحقيقة في ادعائه بان الموارنة هم المردة. ويستهجن داود رأي السمعاني في هذا قائلاً ” أليس من المدهش أن يتـفق السمعاني، بالرغم من معرفته بأوضاع المردة، مع أولئك (الكتّاب) الذين يدّعون ان المردة كانوا في الأصل موارنة أو لبنانيين وكانوا خصوماً للملوك (الأباطرة) البيزنطيين ” .

 

يرى الأب انستاس ماري الكرملي (ت 1947) أن المردة لم يكونوا الموارنة كما جاء في مقاله بعنوان : المردة والجراجمة، الذي ظهر في مجلة المشرق البيروتية عام 1903. يبدأ الكرملي بالقول بأنه ماروني أصيل وعلى أهبة الاستعداد باستخدام ما بوسعه للدفاع عن ملته. ويمضي قائلاً بأنه منذ زمن طويل كان لديه الانطباع بأن المردة والموارنة هم نفس الشعب ، إلا أنه عندما قرأ مقال الأب لامنس عن المردة في مجلة المشرق أدرك بأن الأب لامنس هدم بجرة قلم ” صرحاً لا سبيل إلى هدمه انشأه أجدادنا بكثير من العرق والجهد ” . يعترف الكرملي أنه أصيب بالخيبة إلى حد كبير واحتدم غضباً بسبب آراء لامنس، لكنه عندما هدأ واستعاد رشده بدأ بالبحث حول هذه المسألة بشكل موضوعي. بدأ بقراءة مؤلفات كتّاب عرب قدامى، آملاً في أن يكونوا قد وصفوا أوضاع البلاد التي قهروها والشعوب التي سيطروا عليها بشكل وافٍ. غير أنه اكتشف بأن المؤلفين العرب لم يقولوا شيئاً عن المردة. هذا ما أدهشه طالما أن المؤلفين العرب، كما يعتقد الكرملي بشكل صحيح، قد ذكروا العديد من الشعوب الأخرى، مثل الأكراد الذين حاربهم العرب والذين وصف الكتّاب العرب قبائلهم وتـنظيمهم القبلي بالتفصيل. اما الكتّأب الفرس فانهم لم يذكروا هذه المعلومات، مع أنهم كانوا جيران الأكراد. اكتشف الكرملي ايضاً أن المؤلفين العرب كتبوا عن قوم سموهم الجراجمة، تعتبر ظروفهم وشؤونهم مماثلة جداً لظروف وشؤون المردة. وقد قاده هذا البحث بعدئذ إلى رواية ثيوفانس عن المردة، ومن ثم انتهى باستخلاص نتائج لا تختلف كثيراً عن نتائج الأب لامنس. ويختتم الكرملي بالقول بأن أهالي سورية في زمن الفتح العربي لم يعرفوا شيئاً عن المردة (يكتب الاسم متبعاً التهجئة العربية التي استعملها لامنس أيضاً؛ وبأن مصطلح المردة (Mardaites) ابتكره المؤلفون البيزنطيون؛ وأن المؤلفين السريان والعرب، علاوة على ذلك، أخذوا هذا الاسم عن البيزنطيين؛ وأن الكتّاب المعاصرين سموهم المردة. فضلاً عن ذلك، فإن هؤلاء المردة، الذين كانوا أصلاً ميديين، عاشوا، قبل مجيئهم إلى لبنان بأجيال عديدة في الأرض الواقعة إلى الجنوب من بحر قزوين وكانوا رعايا الدولة الميدية الفارسية ورعايا الاسكندر الكبير فيما بعد. ويستطرد الكرملي قائلاً بأن موطن هؤلاء القوم يمتد ليغطي تقريباً ارض مازانداران الحالية، أي المنطقة الواقعة بين جيلان وطبرستان في إيران. كانوا رجالاً مقاتلين، مولعين بالحرب، اعتادوا الغزو والنهب؛ ومن هنا فإن اسمهم بالفارسية هو مردان (المفرد مَرْدْ). وأخيراً يعتقد الكرملي بأن المردة والجراجمة هما نفس الشعب. كما أنه يتوصل، ولكن بشكل مستقل، إلى نفس النتيجة التي توصل إليها المطران أقليميس يوسف داود، بأن المردة ليسوا بالموارنة . بيد أن الكرملي، ليس على صواب، في التمسك بأن أهالي سورية في زمن الفتح العربي لتلك البلاد لم يعرفوا شيئاً عن المردة. ويبدو أنه يناقض نفسه حول هذه النقطة عندما يورد في نهاية مقاله، ملاحظة للمؤرخ السرياني ابن العبري، الذي يُظهر بوضوح أن السريان عرفوا المردة، ودعوهم ماريدويي (Mardaites أو مردة) وجرجوموي (جراجمة)، كما سنرى بعدئذ .

 

بيّنا حتى الآن الآراء المختلفة فيما يتعلق بالمردة والنتائج التي توصل اليها كتّاب معاصرون بأن المردة لم يكونوا موارنة لبنان. كما أظهرنا أيضاً أن بعض الكتّاب المعاصرين يعتبرون الجراجمة، الذين كانت أوضاعهم وفعالياتهم مماثلة لأوضاع وفعاليات المردة، ولذلك نجد من الأهمية بمكان تحديد هوية الجراجمة والدليل الذي يورده الكتّاب المعاصرون لدعم آرائهم.

 

اذا عدنا الى البلاذري (ت 892)، في كتابه فتوح البلدان نجده يقول ان الجراجمة هم أهالي جرجومة، وهي مدينة في جبل اللكام (الجبل الأسود، أو الأمانوس) بين بيّاس وبوقا ( لكن الاب لامنس يحدد هوية جرجومة على أنها مملكة صغيرة وُجدت في القرن التاسع قبل الميلاد في الجزء الشمالي الغربي من سورية، وكانت عاصمتها مرعش (جرمانيسيا). كما يتمسك بالقول بأن شعب هذه المملكة لم يكن آرامياً لأن الدولة الآرامية لم تمتد لتشمل منطقة هذه المملكة. ويُـضيف بأن كلمة “جراجمة ” مذكورة في الكتابات الآشورية، الزاخرة بمعلومات عن أحوال هؤلاء القوم. ويتابع الاب لامنس، قائلاً بأنه منذ الحقبة السريانية، لم تكن هناك اشارة إلى الجراجمة حتى القرن الثامن عندما ذكر المؤرخون المردة لأول مرة . إلا أن الأب لامنس اكتشف بعد دراسته لرواية البلاذري عن الجراجمة أن هناك تشابهاً بين أحوال المردة وأحوال الجراجمة. يتفق الى حد ما مع ما رواه ثيوفانس عن انتـقال المردة من شمال سورية إلى جنوبها، وفتحهم للبنان، واستقرارهم قرب حمص وبعلبلك ودمشق في الوقت الذي كان فيه الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان على وشك المغادرة إلى العراق لقتال مصعب بن الزبير. يقول البلاذري أنه عندما كان عبدالملك على أهبة المغادرة، زحفت جماعة من الفرسان البيزنطيين ( يدعوها خيل الروم ) مع قادتها نحو جبل اللكام ومن ثم إلى لبنان، حيث أنضم إليهم حشد غفير من الجراجمة والأنباط (النبطيين) والأرقاء الذين كانوا قد فروا من المسلمين. لذا قام عبدالملك، خوفاً من احتمال قيام الإمبراطور البيزنطي باغتنام الفرصة لمهاجمة سورية، بإبرام صلح مع الإمبراطور أسوة بما فعله بمعاوية سابقاً وكانت النتيجة ان تشتت الجراجمة في مدينتي حمص ودمشق، بينما عاد عدد غفير منهم إلى مدينتهم في جبل اللكام . هنا نجد إن رواية البلاذري شبيهة جداً برواية ثيوفانس عن المردة، الذين عادوا بعد إبرام هذا الصلح إلى وطنهم في سورية. إلا أن هذا التشابه لا يدل على أن المردة والجراجمة هم نفس الشعب. إضافة إلى ذلك، نعلم من رواية البلاذري، أن الجراجمة كانوا مسيحيين وبأنهم منذ الفتح العربي لسورية أحدثوا الكثير من المشاكل للعرب، ولكن ليس هناك من معلومات تتعلق بكنيستهم أو طائفتهم.

 

لا بد أن العرب الفاتحين قد أدركوا أهمية هؤلاء الجراجمة في صراعهم مع البيزنطيين ولهذا السبب حاولوا مسالمتهم. وعندما فتح القائد العربي حبيب بن مسلمة الفهري الجرجومة، طلب أهلها منه الصلح فمنحهم إياه بشرط أن يقوموا، مقابل إعفائهم من دفع الجزية، بالتجسس لصالح المسلمين. إلا أن الجراجمة لم يكونوا مخلصين كلياً للمسلمين؛ حيث وقفوا أحياناً مع المسلمين وأحياناً أخرى مع البيزنطيين. في عهد الخليفة عبدالملك انضموا إلى المردة ضد العرب لكنهم لزموا الهدوء عندما وقَّع عبدالملك معاهدة صلح مع البيزنطيين كما أسلفنا. وفي عام  89 هجرية (707 م) أراد الخليفة الأموي الوليد، ابن عبدالملك  (705ـ715) إخضاع الجراجمة الذين استمروا على عدم ولائهم للعرب. أرسل أخاه مسلمة، فاحتل مدينة جرجومة لكنه منح سكانها حرية الاستقرار في أي مكان في سورية. وضماناً لولائهم تكفل بعدم فرض جزية عليهم، وبعدم إكراههم هم أو زوجاتهم أو أولادهم على التخلي عن المسيحية، لكنه طلب منهم بالفعل أن يحاربوا إلى جانب المسلمين. كما زودهم مع عائلاتهم بالطعام وبثمانية دنانير لكل واحد منهم. وأخيراً، يقول البلاذري أن مسلمة هدَّم مدينة جرجومة، بعد أن أجلى عنها سكانها ووطّنهم في جبل حوَّار فيما يُعرف اليوم بكيليكيا، اللولون (تهجئة البلاذري)، وفي الأرض المنخفضة في تيزين. استقر بعضهم في حمص، بينما ذهب شريف القوم فيهم وجماعة من رجاله إلى أنطاكية  حيث هرب بعدئذ إلى بلاد البيزنطيين.

 

لا يذكر البلاذري ما الذي دعا مسلمة إلى تخريب جرجومة، إلا أنه يمكن الاستـنتاج بأن أهالي تلك المدينة كانوا ما يزالون غير موالين للمسلمين، بالرغم من المعاملة الطيبة التي عاملهم بها مسلمة، وهذا ما أدى به إلى تهديمها وتحرير المسلمين من مصدر يسبب لهم المشاكل. إلا أن البلاذري يستـشهد بقول للواقدي (ت 822)، الذي يعطي الانطباع بأن بعض الجراجمة استقروا في لبنان. يروي الواقدي أن جماعة من الناس من جبل لبنان تذمروا من جامع الضرائب في بعلبك، مما دعا صالح بن عبدالله بن عباس إلى إرسال رجل لقتل بعض منهم. وقد سمح لمن اختاروا البقاء على معتقدهم الديني بأن يفعلوا ذلك وأعاد توطينهم في قراهم. كما أجلى بعض الناس عن لبنان . يعتقد الأب لامنس بأن هذا ما يبين بوضوح وجود بعض الجراجمة في لبنان. وان هذا الأمر ليس بمسألة تخمين بل هو حقيقة ، ثبتتها رواية للبلاذري التي تتعلق بأحدهم ويُدعى ميمون الرومي (البيزنطي)، الذي يدل لقبه ـ الجرجماني ـ على أنه كان ينتمي إلى الجراجمة. يقول البلاذري بأن ميمون كان عبداً بيزنطياً من قبيلة أم الحكم (شقيقة الخليفة معاوية بن أبي سفيان). وانه التحق بالجراجمة عندما غادروا لبنان . يستـنتج لامنس أيضاً أن المردة لم يكونوا هم المورانة، وبأن الجراجمة والموارنة لم يكونوا نفس القوم. إلا أنه يجزم بوجود رابطة قوية بين المردة والموارنة . اما الاب انستاس الكرملي فانه يصل إلى نتيجة مماثلة، إلا أنه يقدم ثلاثة شواهد جديدة : إحداها من المعجم العربي تاج العروس؛ الذي يعرِّف الجراجمة بأنهم فرس من شبه الجزيرة العربية ويساويهم بأنباط سورية؛ والثاني مستمد من كتاب الكامل في التاريخ (ج 4، ص 118) لابن الأثير، الذي يذكر تمرد الجراجمة في سورية؛ والثالث مستمد من معجم البلدان (11، 55)، لياقوت الحموي، الذي لا يُـضيف معلومات هامة أكثر من التي أوردها البلاذري .

 

ليس هذا كل ما قيل عن الجراجمة والمردة. فقد استاء بعض الكتّاب الموارنة المعاصرين من رواية الكتّاب العرب القدامى والبيزنطيين عن الجراجمة والمردة ومن ملاحظات لامنس والكرملي. هذا ما حدا بالمطران الماروني يوسف الدبس ان يكتب مقالين في مجلة المشرق البيروتية أحدهما بعنوان : المردة والموارنة حاول فيه دحض رأي لامنس فيما يتعلق بالمردة والجراجمة . والآخر بعنوان : ليس المردة الجراجمة سعى فيه إلى البرهان بأن المردة لم يكونوا الجراجمة ولا كانوا فرقة فرسان من البيزنطيين التي ذكرها البلاذري. بل إن المردة والجراجمة كانوا موارنة.

 

نجد من الممل ومن غير الضروري عرض مناقشة الدبس بكاملها. ولكن ما عدا قوله بأن المردة والجراجمة لم يكونوا نفس الشعب، فإن أكثر النقاط التي يثيرها للبرهان على أن المردة والموارنة هم نفس الشعب ليست سوى تأويلات تافهة للحقائق التاريخية المتوفرة حول الموضوع أو لا موجب لها.

بما أن كل الكتّاب المذكورين أعلاه يسندون نتاج بحوثهم بأن مردة ثيوفانس وجراجمة البلاذري هم نفس القوم نظراً لتشابه فعالياتهم، فمن المناسب المزيد من تقصّي ابعاد هذه المسألة. وهنا يتعين على مؤلف هذا الكتاب أن يقرَّ بأنه حين كتب حول هذا الموضوع في عام 1969 استـنتج بأن مردة اليونانيين وجراجمة الكتّاب المسـلمين كانوا نفس الشعب (51). إلا أنه بعد قيامه بدراسة الموضوع بأكثر دقة للمرجع السرياني وهو تاريخ ديونوسيوس التلمحري، وكذلك رواية البلاذري عن الجراجمة، رأى من المناسب تغيير موقفه وذلك بالاتـفاق مع رأي المطران يوسف الدبس بأن المردة والجراجمة ليسوا نفس القوم . إلا أن هذا المؤلف لا يستطيع الاتـفاق مع الدبس بأن الجراجمة لم يكونوا فرقة فرسان من البيزنطيين أو بأنهم كانوا الموارنة أنفسهم. والظاهر ان مصطلحي: “جرجومويي ” التي (استعملها التلمحري) والـ ” جراجمة ” التي (استعملها البلاذري) اربكت معظم الكتّاب الذين تناولوا هذا الموضوع بسبب تـشابه الكلمتين في اللغتين العربية والسريانية. ومما زاد في هذا الإرباك هو اكتشاف الكتّاب بعض التـشابه بين فعاليات مردة ثيوفانس و “جرجومويي” التلمحري وجراجمة البلاذري. إن هذا التـشابه في روايات هؤلاء الكتّاب أمر واضح، إلا أن هناك خلافات أيضاً، مع أنها ليست واضحة.

 

حدد البلاذري، على خلاف التلمحري هوية الجراجمة بأنهم أهالي مدينة تُدعى جرجومة في جبل اللكام (الجبل الاسود عند ثيوفانس وجبل أوكومو عند التلمحري)، مشيراً بوضوح إلى أنهم كانوا مواطنين سرياناً من أهل البلاد، وليسوا بأجانب. يدّعي البلاذري بأن هؤلاء الجراجمة كانوا مسيحيين موالين للدولة البيزنطية وأن المسلمين حاولوا كسب ولائهم إلا أنهم فشلوا وأخيراً هدموا مدينتهم. اما ثيوفانس فانه لا يذكر الجراجمة أو مدينتهم بل جلّ ما يقوله هو أن قوماً ما يدعون بالمردة هاجموا لبنان واحتلوا البلد بأجمعه. والى هنا فان روايتي ثيوفانس والبلاذري لاتتفقان إلا أنهما تتفقان على ما جرى بعد ذلك. يقول ثيوفانس أن العديد من الأرقاء والأسرى ومن أهل البلاد انضموا الى هؤلاء المردة بحيث ازداد عددهم خلال فترة قصيرة ليصل إلى الآلاف. اما البلاذري فيقول بأن جماعة من الفرسان البيزنطيين زحفت مع قائدها إلى جبل اللكام (الأسود) ومن ثم الى لبنان. وانضم إليهم عدد كبير من الجراجمة الأنباط، والأرقاء الذين كانوا قد هربوا من سادتهم المسلمين. هنا نلاحظ إن نقاط التـشابه بين الروايتين واضحة، ويمكننا الاستخلاص على أن مردة ثيوفانس هم نفس الفرسان البيزنطيين (خيل الروم) لدى البلاذري. ومن هذا الرأي المطران يوسف دريان الذي انخرط مع زميله المطران يوسف الدبس في نقاش حاد حول أصل المردة والموارنة والجراجمة. وبعد ان استشهد دريان بروايتي ثيوفانس والبلاذري توصـل الى النتيجة بأنـه من الممكن أن يكون مردة (Mardaites) ثيوفانس وفرسان البلاذري هم نفس الشعب إن كان الكاتبان يتحدثان عن نفس الأحداث ونفس القوم .

 

لقد رأينا حتى الآن توافقاً جزئياً بين أقوال ثيوفانس والبلاذري، وأنه كما يظهر من كتابة هذا الاخير ان الجراجمة ليسوا المردة وانهم انضموا إلى المردة في زحفهم على لبنان خلال سائر المنطقة الممتدة من جبل اللكام إلى أورشليم. إلا أن هناك مشكلة تتعلق بالمصدر السرياني للتلمحري حيث يذكر المردة والجراجمة في سياق مماثل يعطي الانطباع في بادئ الأمر بأنهم نفس الشعب، يقول التلمحري : في السنة التاسعة من عهد قسـطنطين (بوغـوناتس)، جاء رومـويي (جنود) عرفوا بـ ماريدويي (المردة)، أي قطاع الطرق، والذين سماهم السريان جرجومويي (جراجمة بالعربية)، إلى جبل لبنان واحتلوا المنطقة الممتدة من جبل الجليل حتى جبل أوكومو (الكلمة السريانية لأسود، أي الجبل الأسود أو جبل اللكام). وانهم خرجوا دائماً للنهب ولهذا الغرض أرسلهم الرومان (البيزنطيون) إلى لبنان. وفي نهاية الأمر هزمهم العرب، فقتلوا البعض، واقتلعوا أعين الآخرين .

 

بناءً على هذا القول فان السريان، لا البيزنطيين أو العرب، هم الذين دعوا هؤلاء القوم ماريدويي (مردة أو Mardaites) وجرجومويي (جراجمة). وان هؤلاء المردة لم يكونوا أمة ذات صفات أثنية محددة ولا كانوا رومانيين أو بيزنطيين بل كانوا (رومويي) وحسب، وهي كلمة تبدو للسمع وكأنها رومان لكنها كانت تعني بالسريانية المحكية “جنوداً”. في الواقع، يستعمل الناس الناطقون باللغة السريانية في طورعبدين حتى هذا اليوم تعبيري رومويو (بالمفرد) ورومويي (بالجمع) بذلك المعنى . وقد استخدم الأباطرة البيزنطيين هؤلاء الجنود في غزواتهم ضد العرب في سورية. واذا اتّبعنا رواية التلمحري، نجد أن أهالي سورية، من ضمنها لبنان، قد عرفوهم بهذين الاسمين، مع أن التلمحري لا يقول شيئاً عن أصلهم. كما انه لا يذكر شيئاً عن مدينة جرجومة التي يُـشير إليها البلاذري أو عن أهلها. يبقى السؤال قائماً فيما إذا كان (جرجومويي) التلمحري هم نفس جراجمة البلاذري. الجواب هو أنهم على الأرجح لم يكونوا كذلك. ولكن بما أن أهالي الجرجومة كانوا معروفين لدى بقية السريان وأنهم، وفقاً للبلاذري، أنضموا إلى الفرسان البيزنطيين الذين ليسوا سوى ماريدويي التلمحري ومردة (Mardaites) ثيوفانس فقد ذكرهم السريان ارتباطاً بهؤلاء المردة. وبعبارة أخرى ان السـريان حسب رواية للتلمحري سمّوا القـومَ الذين هاجموا لبـنان وأعمـلوا فيه نهباً ماريدويي (Mardaites) وكذلك “جرجومويي” (جراجمة) خاصة عندما رأوا أناساً من أهالي مدينة الجرجومة من جملة الذين يقومون بالنهب والسلب والذين كانوا يحاربون العرب. من المحتمل أيضاً أن يكون ثيوفانس، وهو أول من ذكر مصطلح ” Mardaites ” قد أخذه عن السريان لأنه كان اسماً شائعاً في ذلك الوقت في سورية. من المؤكد أن مصطلح ” Mardaites ” ليس يونانياً، ولا يظهر في الكتابات اليونانية التي سبقت كتابات ثيوفانس. وليس من الصعب بيان لماذا استعمل ثيوفانس مصطلح ” Mardaites “. ولم يستعمل ” ماريدويي ” كما فعل السريان. هناك شرح واحد قابل للتصديق وهو أن مصطلح ” الجراجمة ” (جرجومويي) كان أكثر شيوعاً في سورية ذاتها ـ وخاصة في الشام، حيث كان العرب على اتصال باالسريان اكثر منهم مع أهالي جبال لبنان حيث كان مصطلح “ماريدويي” أو “Mardaites” أي (قطاع الطرق) أكثر شيوعاً بسبب الغزوات وأعمال النهب والسلب المستمرة. من الممكن أيضاً أن يكون ثيوفانس قد دعاهم ” Mardaites ” لأنهم كانوا من أصل فارسي، أو أنهم أعطوا هذا اللقب بسبب سلوكهم الذي يميل إلى الحرب وطريقتهم في الحياة التي تعتمد على السلب والنهب وهذا من باب التخمين فقط.

 

مهما يكن من أمر، وبالرغم من أن التلمحري يذكر بأن السريان عرفوا الماريدويي (Mardaites) على أنهم جرجومويي (جراجمة)، إلا أنه لم يعن بأنهم كانوا نفس الشعب. فان السريان، الذين لم يحددوا أصل هؤلاء القوم المحاربين الذين أرسلهم الإمبراطور البيزنطي لمحاربة العرب، اطلقوا عليهم اسم ماريدويي بسبب ما قاموا به من تخريب ونهب. كما أشاروا إليهم على أنهم جرجومويي عندما رأوا بأن أهالي الجرجومة انضموا إليهم في اعمالهم الهمجية. كما أنه من الواضح أن هؤلاء المتمردين (Mardaites) والجراجمة كانوا في المصادر اليونانية والسريانية والعربية التي بحثناها جنوداً في خدمة الأباطرة البيزنطيين وأنهم حاربوا العرب. المهم في الامر هو ان هذه المصادر لا تذكر شيئاً عن الموارنة أو اي ارتباط بهم. ربما كانت المشكلة العظمى التي تواجه المؤرخ الذي يـعالج هذا الموضوع هي ضآلة المصـادر حول المـردة (Mardaites) والجراجمة. ان بعض المصادر العربية تشير الى ان الجراجمة استقروا في العديد من أرجاء العالم العربي إلا أنها لا تعطي شرحاً عن كيفية حصول هذا الاستقرار أو زمنه. كما أن هذه صامتة فيما يخص أصل هؤلاء الجراجمة. لذلك ما من سبيل إلى معرفة فيما إذا جاءوا أصلاً من مدينة جرجومة في جبل اللكام أو الجبل الأسود. لكننا نجد في كتاب الأغاني (ج 6، ص 76) أن الجراجمة كانوا من أصل فارسي: ” بنو الأحرار او أبناء الأحرار ” الذين يقصد بهم الشـاعر أمية بن أبي السلط (ت حوالي 630) في قصيدته، الفرس الذين جاءوا مع سيف بن ذي يزن. إنهم يدعون اليوم بني الأحرار في صنعاء، الأبناء في اليمن، الأحامرة في الكوفة، الخضارمة في الجزيرة والجراجمة في الشام (سورية).

 

مما لا ريب فيه أن المصادر التي قمنا بمناقشتها لا تُـشير إلى الموارنة كما أنها لا تعتبرهم من المردة أو الجراجمة؛ ومع ذلك يصر الموارنة على أن المردة (Mardaites) كانوا موارنة. يؤمن المطران يوسف الدبس، أكثر من أي شخص آخر، بهذه النظرية ويدافع عنها بشكل جاد. فهو يقول بأن اسم ” Mardaites ” (مستعملاً التعبير العربي المردة، كما فعل لامنس والكرملي) أطلقه على الموارنة خصومهم في القرن السابع ، وبأن المردة والموارنة هم نفس الشعب. ويُـضيف قائلاً أن بعض أهالي لبنان المسيحيين كانوا يدعون بالمردة بعد أن تمردوا على الإمبراطور البيزنطي لأنه لم يمتـثل للإيمان الكاثوليكي. يجادل الدبس بالقول أن مصطلح ” مردة ” أطلق على الموارنة الذين حاربوا ضد هؤلاء الملكيين، وخاصة الإمبراطور يوسطنيان الثاني، راينوتميتوس، الذي انزلق الى ” الهرطقة ” المونوثيلية. ويمضي الدبس في القول بأنه في البدء استعمل التعبيران بالتـناوب للدلالة على غرض معتاد بنفس الطريقة التي كان فيها مصطلحا ” قيسي ” و ” يماني ” يدلان على الانقسام المدني بين هاتين القبيلتين العربيتين. بمعنى آخر، كان الموارنة والملكيون شعبين ينتميان إلى نفس الكنيسة لكنهما اصبحا جماعتين منفصلتين في عهد الإمبراطور هرقل الذي روج على ” الهرطقة ” المونوثيلية في سورية. وان هذه الهرطقة وصلت إلى ذروتها في عهد يوسطنيان الثاني، راينوتميتوس، الذي اعتـنق تلك العقيدة. ومن ثم تمرد الموارنة الذين رفضوا هذه ” الهرطقة ” على الإمبراطور وعلى العرب ولهذا السبب أطلق عليهم جيرانهم وأعداؤهم اسم المتمردين (مردة) من الفعل السرياني “مْراد” (تمرّد). وينتهي الدبس الى القول بأن اعتبار هؤلاء المردة أو Mardaites ومردان الفرس القدماء نفس القوم كما فعل بعض الكتّاب هو محض خيال .

 

إن ما يرمي اليه المطران الدبس هو أن أهالي لبنان الموارنة كانوا سرياناً (آراميين) تمسكوا بالإيمان ” الكاثوليكي ” الذي صاغه مجمع خلقيدونية (451). واصبحوا لذلك دعاة أرثوذكسيين لتبنيهم لهذا الإيمان نفسه الذي اعتـرفت به كنيسة رومـا ولم يكن بالإمكان أتهامهم بأنهم “هراطقة” أو متمسكين ” بالهرطقة ” المونوثيلية. هذا الإيمان “الكاثوليكي” هو الذي عرّض أول بطريرك ماروني، وهو يوحنا مارون، لاضطهاد الإمبراطور البيزنطي. ان ما يقوله الدبس ليس الا ترديداً للنظرية التي روَّج لها المطران الماروني جبرائيل القلاعي وتوسع فيها الكتّاب الموارنة من القرن السابع عشر فصاعداً لتبرير ارتباط الموارنة بكنيسة روما وهي نظرية تفتقر الى أساس تاريخي. وقد قمنا بمناقشتها سابقاً في الفصلين الخامس عشر والسادس عشر في بحثنا عن يوحنا مارون . سوف نرى أيضاً، عندما نناقش علاقة الموارنة بكنيسة روما أن كنيسة روما لا تتـفق مع هذا الرأي. يقول يوسف السمعاني الذي يكرر آراء كتّاب موارنة كمرهج نيرون واسطفان الدويهي، بأن هذين الكاتبين يدعيان بأن مصطلح ” ملكي ” كان مضاداً لكلمة متمردين (مردة). ويعلق قائلاً أن الحقيقة هي أن هذين المصطلحين لا يدلان على جماعتين دينيتين، بل الاحرى على جماعتين محاربتين. ويشرح بأن أولئك الذين حاربوا في صفوف الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الرابع، بوغوناتس، كانوا يدعون بالملكيين (بالسريانية ملكويي، أي الحـزب الإمبراطوري)، وأولئك الذين حاربوا ضده كانوا يدعـون (Mardaites) بالمردة (أي المتمردين) . إنها حقاً نظرية خيـالية جاء بها السـمعاني. فقد رأينـا سـابقاً أن المردة (Mardaites) حاربوا في صفوف الإمبراطور قسطنطين الرابع، بوغوناتس، الذي أبرم معه الخليفتان الأمويان معاوية وعبدالملك بن مروان معاهدتي صلح. وأنه ليس هناك من دليل تاريخي على أن الملكيين كانوا يُعتبرون ” هراطقة ” مونوثيليين أو أن المردة اعتبروا يوماً أرثوذكسيين. من الواضح أن الموارنة بناءً على شهادة السمعاني لم يكونوا طائفة علمانية بل طائفة دينية. ولكن السمعاني يناقض نفسه عندما يقول أن مصطلح ملكيين لم يذكره الرومان القدامى حتى القرن العاشرالميلادي؛ ويؤكد أن نفس الملكيين حاربوا في صفوف الإمبراطور قسطنطين الرابع، بوغوناتس، في القرن السابع. والحقيقة هي أنه ما من مؤرخ قديم ربط المردة بالملكيين أو بالموارنة. وقد رأينا من الشهادات المختلفة التي اوردها بطريرك أنطاكية السرياني ديونيسيوس التلمحري أن الموارنة كانوا جماعة من الرهبان ينتمون إلى دير مارون. وكانوا يدعون بالموارنة لا بسبب أية عقيدة دينية أو انتماء ولا بسبب جهادهم ضد الأباطرة البيزنطيين ولكن لسبب بسيط هو أنهم كانوا رهباناً ينتمون الى دير مارون. لذا فإن ربط الموارنة بالمردة هو أمر لا يمكن الأخذ به من الناحية التاريخية. إن عملية الربط هذه هي نظرية حديثة العهد نسبياً قام بها كتّاب موارنة معاصرون. بيد أنه من الممكن، أن يكون بعض المردة، بل حتى بعض الجراجمة قد اختلطوا بالموارنة وأخيراً أصبحوا مندمجين بهم، لكن هذا محض تكهن لا دليل تاريخي يؤيده. ان بعض الكتّاب المعاصرين كالمؤرخ فيليب حتي، الذين توصلوا الى هذه النتائج، اخفقوا في اثباتها تاريخياً . ان الرأي القائل بأن المـردة والجراجمة كانوا الموارنة انفسهم يتحدى البيّنات التاريخية. هذا صحيح خاصة فيما يتعلق برواية التلمحري التي تدل على أن الموارنة كانوا في الاصل رهباناً صاروا مونوثيليين في القرن السابع. اي انهم لم يكونوا طغمة من الرجال المحاربين وانهم وجدوا في البداية في سورية بالذات لا في لبنان . وكما تدل عليه رواية المفريان ابن العبري فان الموارنة لم يصبحوا ملّة دينية متمبزة حتى القرن الثامن.