21
يعتقد الكتّاب الموارنة وكذلك بعض الكتّاب الكاثوليك بأن الكنيسة المارونية كانت متحدة مع كنيسة روما منذ العهود القديمة. يقول كاتب معاصر هو الأب ج. س. قنواتي بأن ” الكنيسة المارونية ظلت متحدة مع روما منذ تأسيسها في القرنين الخامس والسادس ” . هذا الادعاء لا صحة له من الناحية التاريخية، لأن الكنيسة المارونية في هذين القرنين لم تكن قد ظهرت الى الوجود ولم تكن هناك علاقة كنسية بين الموارنة كطائفة دينية، أو حتى بين رهبان دير مارون في سورية الجنوبية وبين كنيسة روما. اما الرسالة المزعومة التي وجهها رهبان سورية الجنوبية، ومنهم بعض الرهبان من دير مارون إلى البابا هرمزدا، كما تمَّ تبيانه سابقاً، فهي عرضة للانتقاد إلى حد كبير، بل تعتبر زائفة في رأي مؤلف هذا الكتاب. فالحقيقة التاريخية تدل على أن الموارنة لم يصبحوا على اتصال لأول مرة مع شخصيات من كنيسة روما في الشرق حتى الحروب الصليبية في القرن الحادي عشر.
أول من أشار إلى هذا الاتصال هو وليم الصوري. وُلد وليم، على الأرجح من أصل افرنجي أو جرماني، في أورشليم عام 1130 ودرس في أوروبا. وفي عام 1167، عندما رسم أرخدياقوناً للكنيسة اللاتينية في صور، كان الجزء الأكبر من سورية وفلسطين في أيدي الافرنج او الصليبيين. وفي عام 1174 رسم ايمري أو ايمريك، بطريرك أنطاكية اللاتيني، وليم مطراناً على كنيسة صور اللاتينية بموافقة الملك الافرنجي بولدوين الرابع. عاش وليم فترة في أنطاكية واكتسب معرفة وافية بأحوال سورية في عهد الصليبيين. ويعتبر التاريخ الذي كتبه عن الصليبيين في سورية في القرن الثاني عشر سجلاً تاريخياً مهماً لتلك الفترة.
يُـشير وليم الصوري إلى الموارنة في شهادة مطولة في سياقين. ويصفهم بأنهم جزء من الأمة السريانية وأنهم كانوا مونوثيليون ( يدينون بعقيدة المشيئة الواحدة في المسيح ) منذ خمسمائة عام، وأنهم نبذوا هذه الهرطقة بفضل العناية الإلهية وذلك بالاعتراف بالإيمان الصحيح بحضور ايمري وبإظهار استعدادهم لقبول تعليم كنيسة روما. ويستطرد وليم الصوري قائلاً بأن عدد هؤلاء الموارنة كان قرابة أربعين ألفاً وأنهم كانوا قوماً اشداء قدموا خدمة جلى ” لنا فيما يتعلق بمصالحنا العديدة والهامة مع أعدائنا. ولهذا السبب غمر الفرح شعبنا (الصليبيين اللاتين) عندما عاد هؤلاء الموارنة إلى الإيمان الصحيح ” . اي إيمان كنيسة روما.
قام كتّاب موارنة، كالبطريرك الدويهي وبعض كتّاب غربيين أيضاً بتوجيه النقد الى وليم الصوري لأنه نسب المونوثيلية إلى الموارنة. يدعي هؤلاء الكتّاب بأن وليم الصوري، في عزوه الهرطقة المونوثيلية إلى يوحنا مارون أو إلى الموارنة قد انتحل رواية سعيد بن بطريق المغلوطة والمنطوية على مفارقة تاريخية . ومن هؤلاء الكاتب روبرت و. كروفورد، الذي اراد ان يظهر ان وليم الصوري كان على خطأ في عزو المونوثيلية إلى الموارنة أو إلى مؤسسهم. لكنه بدأ بالفرضية المغلوطة وهي أن وليم الصوري هو المرجع الرئيسي للكتّاب الغربيين الذين جاءوا بعدئذ. كما انتهي كروفورد بالنتيجة الخاطئة وهي ان وليم الصوري طالما عزا المونوثيلية الى الموارنة استناداً الى كتابات سعيد ابن البطريق فان مارون الهرطوقي المونوثيلي الذي ذكره وليم الصوري لم يكن سوى أحد الرهبان النساطرة من الرها واسمه يوحنا مارون وهو غير يوحنا مارون الذي يعتقد الموارنة بأنه أول بطريرك لهم، والذي توفي عام 707 . هنا يبدو تهافت كروفورد وغيره من الكتّاب حول هذه المسألة. لأنه حتى اذا افترضنا أن وليم الصوري قد إنتحل ما كتبه ابن بطريق عن يوحنا مارون، فمن الثابت بأنه لم ينتحل إشارته إلى الموارنة بأنهم مونوثيليون عن ابن بطريق، لأن هناك اختلافاً شديداً بين روايته ورواية ابن بطريق حول هذه النقطة. فمن الامور المسلم بها ان وليم الصوري، وهو كاهن وكاتب، قضى معظم حياته في سورية وقام بالترحال هناك، قد حصل على بعض المعرفة عن إيمان الموارنة. ومن المؤكد أيضاً بأن وليم الصوري ما كان ليسمي الموارنة مونوثيليين لو أنهم لم يكونوا كذلك في الزمن الذي عاش فيه وهو القرن الثاني عشر. اضف الى ذلك ان وليم الصوري عندما قال بأنه يمكن معرفة هرطقة يوحنا مارون، التي هي عقيدة المشيئة الواحدة في المسيح، وتلامذته من قرارات المجمع السادس الذي انعقد ضدهم وأدانهم، فقد كان يعني بالتأكيد المونوثيليين بصورة عامة الذين تبنى الموارنة عقيدتهم، لا يوحنا مارون شخصياً أو الموارنة كجماعة معينة. ولكن لسوء الحظ أساء الكتّاب الموارنة فهم هذا القول كما أساء فهمه كروفورد، الذي وصل إلى النتيجة وهي أن المجمع السادس لم يُـعقد ضد الموارنة وبأنه لا توجد دلالة على أن ذلك المجمع ادانهم. والحقيقة هي ان المجمع قد ادان المونوثيلية. ومن المنطقي أن الذين تمسكوا بهذه العقيدة ومنهم الموارنة قد أدينوا ايضاً لتبنيهم هذه العقيدة. وسواء أنقل وليم الصوري عن سعيد ابن بطريق أم لا، تبقى الحقيقة قائمة وهي أن الموارنة كانوا مونوثيليين كما أوضحنا سابقاً. ولسوء الحظ، لم يكن في متناول يد كروفورد مصادر سريانية وعربية أصلية، ولهذا كانت فرضيته خاطئة والنتيجته التي توصل اليها خاطئة مثلها.
يقول وليم الصوري بأن الموارنة وبطريركهم وعدد من المطارنة قدموا خضوعهم للكنيسة الكاثوليكية بوساطة البطريرك اللاتيني ايمريك. وليس من الصعب تعليل هذا الخضوع. فإن الموارنة، على غرار الأقليات المسيحية الأخرى، عانوا من الإرهاق والاضطهاد أولاً من الفاطميين في مصر، الذين احتلوا سورية، وبعدئذ من الأتراك السلاجقة الذين طردوا الفاطميين من سورية عام 1071، بعد أن هزم ألب أرسلان الجيش البيزنطي في مالازكرد (مانزيكرت). وعندما جاء الصليبيون إلى سورية، واحتلوا مدنها الرئيسية ووصلوا إلى عرقا قرب طرابلس في لبنان في ربيع عام 1099، خرج الموارنة للترحيب بهم اذ وجدوا في هؤلاء الذين يدينون بمثل دينهم حليفاً كانـوا يأملون أن يزيح نير المضطهدين عن رقابهم . من الممكن ايضاً ان يكون الدافع الاساسي الذي حدا بالموارنة لتقديم خضوعهم لكنيسة روما هو املهم في الاحتماء بالصليبيين. لكن اعترافهم بإيمان مجمع خلقيدونية لم يكن دافعاً قوياً لخضوعهم، لأن الموارنة، كما يبلغنا وليم الصوري، كانوا هراطقةً.
جرى أول اتصال للموارنة مع الصليبيين في عام 1099. ولكنهم كما يقول وليم الصوري لم يقدموا خضوعهم لكنيسة روما حتى عام 1182. ومن سوء الحظ، لا يقدم وليم الصوري من المعلومات إلا اشارة عامة بأن الموارنة وبطريركهم وبعض أساقفتهم اعلنوا ولاءهم لكنيسة روما. كما أنه لا يعطي معلومات تتعلق بهوية هذا البطريرك أو الدوافع التي حدت بالموارنة إلى تقديم مثل هذا الولاء أو الظروف التي دفعتهم إلى القيام بذلك. بل اننا لا نملك في الواقع دليلاً أو وثيقة بشكل رسالة أو مرسوم بابوي، يؤيد فكرة خضوع الموارنة لكرسي روما. بيد أننا نعلم من رسالة وجهها المطران جبرائيل القلاعي إلى البطريرك الماروني شمعون (سمعان) الحدثي عام 1494، يقول فيها أن خضوع الموارنة لباباوات روما يرجع إلى عام 1100. ويستمر القلاعي قائلاً بأنه عندما وصل الصليبيون إلى المنطقة المجاورة لطرابلس أرسل البطريرك الماروني يوسف الجرجسي، عند سماعه بنبأ وصولهم، وفداً إلى روما طالباً من الحبر الروماني تـثبيته بطريركاً. وتدّعي الرسالة انضمام وفود أخرى أرسلها غودفري، ملك أورشليم اللاتيني إلى الوفد الماروني، ربما لدعم التماس البطريرك للتثبيت. ونتيجة لذلك أرسل البابا باسكال الثاني في عام 1100 تـثبيته للبطريرك الماروني وأنعم عليه بعكاز وتاج . ليس لما يدعيه القلاعي هذا أساس من الصحة تاريخياً. لأننا نكتشف عند قراءة رسالته بأنه لم يبيّن بأن البطريرك الجرجسي تلقى تثبيتاً من البابا، بل كل ما هنالك انه طلب التثبيت من البابا وحسب. وليس هناك من دليل بأن البابا باسكال الثاني تلقى يوماً طلباً كهذا من هذا البطريرك الماروني أو أنه ثبته في منصبه كبطريرك.
ان القلاعي يناقض نفسه في الرسالة ذاتها الموجهة إلى البطريرك شمعون الحدثي عندما يخبر البطريرك بأن خمس عشرة رسالة مودعة في أرشيف البطريركية المارونية تـشهد على إيمان الموارنة القدماء. ويؤكد القلاعي بأن هذه الرسائل كانت قد حفظت على مدى مئتين واثنين وثمانين عاماً خلت. إن ما يريد القلاعي إثباته هو أن إيمان الموارنة قد تمَّ البرهان عليه في رسائل باباوات سابقين، قبل مئتين واثنين وثمانين عاماً من الزمن الذي كتب فيه رسالته إلى البطريرك سمعان الحدثي عام 1494. هذا ما يحدد التاريخ بعام 1212، اي قبل سنة واحدة من زيارة البطريرك ارميا العمشيتي لروما لتقديم خضوعه للبابا . وتوضحه بجلاء رسالة البابا بولس الثاني إلى البطريرك الماروني بطرس الحدثي في آب عام 1469، والتي استـشهد بها القلاعي نفسه. يبيّن بولس في هذه الرسالة بأن أول حبر روماني منح تثبيتاً لبطاركة موارنة تمَّ انتخابهم حديثاً هو البابا اينوسنت الثالث (1198-1216) في القرن الثالث عشر. لكنه لا يذكر البابا باسكال الثاني . كما أن لدينا أيضاً شهادة البطريرك الماروني ميخائيل الرزي، الذي اعلن عام 1578 أنه إذا جرى انتخاب بطريركٍ ماروني جديد فلا بد له من أن يطلب مباشرة من الحبر الأقدس تـثبيته كما جرت العادة عند ” أسلافنا منذ أيام ارميا ” . هذا ما يؤيده أيضاً البطريرك اسطفان الدويهي، الذي يبيّن بأن الكنيسة المارونية كانت ذات صلة وثقى بكنيسة روما منذ زمن البطريرك ارميا العمشيتي في بداية القرن الثالث عشر.
ليس هناك من دليل على قيام أي من الباباوات كاينوسنت الثالث بإنشاء علاقات مع الكنيسة المارونية وجماعتها لغرض اجتذابهم الى حظيرة الكثلكة. ولكنه عندما أصبح اينوسنت الثالث بابا عام 1198 حاول إجراء العديد من الإصلاحات في الكنيسة آملاً ان تمتد سلطة كنيسة روما إلى كنائس الشرق، ومنها الكنيسة المارونية . من الواضح أن الكنيسة المارونية كانت أول هدف للبابا لأنها كانت قد قامت ببعض التلميحات للاعتراف بسلطة كنيسة روما منذ عام 1099. وتفيدنا رسالة البابا اينوسنت الثالث، المؤرخة في 1 شباط عام 1216 بأنه كان على معرفة بأن الموارنة كانوا قد توقفوا عن الاعتراف بسيادة روما، وانهم مازالوا مقيمين على إيمانهم المونوثيلي ويدينون بعقائد أخرى مخالفة للعقائد التي تعترف بها كنيسة روما . لذا، أرسل البابا الكاردينال بطرس من رهبنة القديس مرسيلوس لتحري إيمانهم وإعادة تـثبيت ولائهم القديم لروما. لا ندري متى وصل الكاردينال بطرس إلى لبنان، ولكن لا بد أن يكون ذلك قد حصل في عامي 1203ـ1204 أو قبلهما اي قبل سنوات من مغادرة البطريرك العمشيتي إلى روما. وكما جاء في الرسالة التي بعث بها اينوسنت الثالث إلى هذا البطريرك، أن الكاردينال بطرس وصل إلى طرابلس واستقبله البطريرك الماروني ارميا العمشيتي وعدة أساقفة وكهنة وشمامسة وحشد من العلمانيين الذين أخذوا على أنفسهم عهداً بالولاء لكنيسة روما وللبابا اينوسنت الثالث وخلفائه من الباباوات. كما لفت الكاردينال نظرهم إلى أمور عديدة في إيمانهم لا تتفق مع ايمان كنيسة روما وطلب منهم تصحيحها . ان هذه الزيارة التي قام بها الوفد البابوي، إلى جانب دعوة اينوسنت الموجهة الى العمشيتي لحضور مجمع لاتران في نيسان 1213 كانت أحد الأسباب التي حثت هذا البطريرك الماروني على زيارة روما وتقديم الولاء شخصياً للبابا. اما الحجة التي أوردها القلاعي ونقلها مرهج نيرون وهي أن سبب هذه الزيارة كان انتقال البطريرك الماروني لوقا البنهراني (1300 ؟) وجماعة من الموارنة إلى المونوفيزية (اي اليعاقبة)، فانها تنطوي على مفارقة تاريخية ( لأن الدويهي ينوه، بحق، بأن حادثة البنهراني هذه لا يمكن أن تكون قد حصلت في زمن البطريرك العمشيتي بسبب الاختلاف في الزمن بين هذين البطريركين . ومن الواضح ان القلاعي قد خلط، على ما يبدو، بين ارميا العمشيتي وبطريرك آخر، هو ارميا الدملصاوي (1272ـ1297) الذي يُقال أيضاً بأنه زار روما وقدم الولاء للبابا .
غادر ارميا العمشيتي لبنان عند تلقيه دعوة البابا في نيسان 1213 لحضور مجمع لاتران ووصل إلى روما في نفس العام. مثل أمام البابا وانحنى أمامه، طالباً بتواضع كبير البركة له ولشعبه. وطمأنه البابا وأنعم عليه بالعديد من الامتيازات الكنسية . حضر البطريرك مجمع لاتران الذي انعقد في تـشرين الثاني عام 1215، إلا أنه لا يوجود دليل بأنه شارك في مداولاته. وقبل انفضاض المجمع غادر العمشيتي روما في كانون الثاني عام 1216، ووصل إلى طرابلس في آذار من نفس العام. كان برفقته الكاردينال وليم، الموفد البابوي الذي أرسله البابا لإعادة اختبار إيمان الموارنة وولائهم لكنيسة روما. وحسبما يقول القلاعي، فقد قام باستقبال البطريرك والكاردينال في طرابلس نائب البطريرك المطران ثيودور ومطارنة آخرون وكهنة وحشد من الناس. وبعد أن نقل البطريرك إليهم بركات البابا عرض المنشور البابوي الذي كان قد تسلمه وسأل الناس فيما إذا كانوا على استعداد لقبول ما جاء فيه. أجاب الحاضرون ومن بينهم مئتان وخمسون من الموارنة العلمانيين بصوت واحد، ” مستعدون، مستعدون، هذا هو إيماننا الذي نموت من أجله “. وعندما شرح المترجم الذي كان بصحبة الكاردينال هذه الاحداث، أمر الكاردينال بأن يؤتى بالإنجيل والأسرار المقدسة وطلب من الحاضرين القسم عليها بالولاء لكنيسة روما. وعندما جيء بها أقسم الناس في حضرة الكاردينال على وحدتهم مع كنيسة روما وطاعتهم لها ولأحبارها. وبعد أداء القسم قدم الكاردينال إلى البطريرك الخاتم والباليوم ( درع التثبيت ) اللذين أنعم بهما البابا عليه. كما تعهد الناس بأن يقوم كل بطريرك جديد يجري انتخابه بالتوجه شخصياً إلى روما أو إرسال مبعوث نيابةً عنه للحصول على تـثبيت منصبه من البابا .
تعتبر الرسالة التي وجهها البابا اينوسنت الثالث إلى البطريرك ارميا العمشيتي بعد مغادرته روما بنفس الأهمية التي كانت لرحلة البطريرك إلى روما. ولا ندري السبب الذي دعا البابا إلى كتابه الرسالة ولكن يستفاد من مضمونها ان البابا ربما اراد ان يجلب انتباه البطريرك الى العقائد المناوئة التي كان الكاردينال بطرس من رهبنة القديس مارسيلوس (وهو موفد البابا) قد اكتشف وجودها في تعاليم الكنيسة المارونية، وإرشاده مع كهنته لأتباع قوانين وتقاليد كنيسة روما. تعتبر هذه الرسالة، وهي الأولى التي وجهها حبر روماني إلى بطريرك ماروني، ذات أهمية كبرى في إظهار علاقة كنيسة روما مع الكنيسة المارونية بحيث تستحق إيضاحاً كاملاً. إنها وثيقة هامة تلقي الضوء أيضاً على إيمان الموارنة وموقف كنيسة روما منهم. وقد قام بتوقيع الرسالة البابا واثنا عشر كاردينالاً وخمسة أساقفة.
أول ما يلفت النظر في الرسالة هو أن البابا اينوسنت الثالث يخاطب ارميا كبطريرك أو ككبير أساقفة حيث يقول: ” من اينوسنت، خادم خدام الله، إلى الأخوة المبجلين ارميا البطريرك أو الحبر وكبار الكهنة والأساقفة والإكليروس والوجهاء والشعب الماروني ” ( لم يكن في نية البابا عند ذكره لقبي بطريرك أو حبر، الاعتراف بارميا أكثر من كونه رئيس أساقفة. إذ أن تعبير الحبر الذي يستعمله مساو لتعبير مفريان، وهي رتبة كنسية أقل من رتبة البطريرك. علاوة على ذلك، لم يخاطب البابا ارميا بأنه بطريرك أنطاكية وهو دحض لزعم البطريرك الماروني بولس مسعد (ت 1890) الذي يدّعي بأن البطريرك الماروني هو ” البطريرك الوحيد الحقيقي لأنطاكية ” . سوف نرى بعدئذ أن لقب ” بطريرك أنطاكية ” الذي يضيفه البطاركة الموارنة إلى أسمائهم لا تدعمه القوانين أو التقاليد الكنسـية. والمهم هنا هو ان البابا اينوسنت الثالث يقرّ بأن الموارنة، رغماً عن ولائهم الماضي لكنيسة روما، مازالوا مونوثيليين يتمسكون بعقيدة مخالفة لعقيدة كنيسة روما، وأنهم قد ضلوا عن الإيمان الصحيح (بمعنى إيمان كنيسة روما) ولكنهم عادوا إلى الطريق الصحيح بفضل العناية الإلهية. يقول البابا :
إذ أنكم كنتم سابقاً كخراف تائهة، لا تـفهمون بشكل صحيح أنه لم يكن للمسيح سوى عروس واحدة وحمامة مقدسة واحدة أي الكنيسة الكاثوليكية، وأن المسيح هو الراعي الحقيقي الوحيد ، ومن بعده وبواسطته صار بطرس رسوله ونائبه الذي كان الرب قد كلفه ثلاث مرات برعي خرافه وان ايمان بطرس هذا وايمان الاحبار الرومان خلفائه لا يمكن ان يفشل لان الرب كان قد وعد بأنه سيثبت أخوته في إيمانهم .
لا يترك البابا مجالاً للشك بأن الموارنة كانوا على خطأ في اعتناق المونوثيلية وان حكمه هذا يبدو اكثر وضوحاً عندما يمضي في اعلام البطريرك بأن الموارنة اهتدوا إلى الراعي الحقيقي عندما كان الكاردينال بطرس من رهبنة القديس مارسيلوس في ديار ارميا العمشيتي، معترفين بالبابا بأنه الحبر الأعظم في الكنيسة الجامعة (اي الكنائس المسيحية قاطبة) ونائب يسوع المسيح. كما يُعلن أيضاً بأن البطريرك مع عدد من مطارنته وكهنته والعلمانيين من شعبه اقسموا، في حضرة الكاردينال بطرس، على الطاعة لكنيسة روما وللبابا وخلفائه. كما يعلم البابا البطريرك ايضاً بالأخطاء والشوائب التي وجدها الكاردينال في إيمانهم ويأمرهم من الآن فصاعداً بالتمسك بإيمان كنيسة روما. يؤكد البابا بأن الكاردينال أمرهم بالإقرار بأن :
الروح القدس ينبثـق من الابن كما ينبثـق من الآب، وبأن عليهم أن يقوموا بالعماد باسم الثالوث القدوس، مرة واحدة فقط، لا ثلاث مرات، وبأن للمطارنة وحدهم الحق بإعطاء التثبيت، وبأن عليكم، عند تحضير الميرون المقدس ألا تضيفوا مواداً أخرى سوى البلسم وزيت الزيتون… وأن تؤمنوا بمشيئتين في المسيح ـ مشيئة إلهية ومشيئة بشرية .
وأخيراً منح البابا البطريرك الباليوم (درع التثبيت) لا بشكل مباشر، بل بتفويض بطريرك أنطاكية اللاتيني الذي انعم به عليه .
ليس من شك بأن كنيسة روما في القرن الثالث عشر، عندما كُتبت هذه الرسالة، اعتبرت الكنيسة المارونية ” هرطوقية مونوثيلية ” وأنها اهتدت إلى الكثلكة بفضل العناية الإلهية. وان عقيدة المشيئة الواحدة في المسيح فقط ليست وحدها التي فصلت الكنيسة المارونية عن كنيسة روما بل العديد من العقائد والتقاليد التي أوردها البابا في رسالته. ولدى التمعن في هذه العقائد والتقاليد نجد انها متّفقة تماماً مع عقائد وتقاليد الكنيسة السريانية الانطاكية الارثودكسية والتي تُدعى اعتباطاً بالكنيسة ” المونوفيزية ” أو ” اليعقوبية “. إذ أن عقيدة المشيئة الواحدة في المسيح وانبثاق الروح القدس من الآب وحده هما العقيدتان الأساسيتان لهذه الكنيسة. كما انه وفقاً لطقس المعمودية لهذه الكنيسة، يغطس الكاهن الذي يقوم بالعماد المعتمد ثلاث مرات بالماء ويتلو في كل مرة قائلاً ” أعمدك باسم الآب، والابن والروح القدس “. لكن البابا اينوسنت الثالث أمر البطريرك الماروني بوجوب تلاوة هذه العبارة مرة واحدة فقط. علاوة على ذلك، فإن كهنة الكنيسة السريانية الانطاكية الارثودكسية لهم الحق في تتثبيت المعتمد بالميرون المقدس وهو أحد الأسرار المقدسة السبعة. وأخيراً، فإن مركب الميرون المقدس في هذه الكنيسة لا يحتوي على مواد سوى البلسم وزيت الزيتون اللذين حددهما البابا. والحقيقة التي لا يمكن انكارها هي ان هذه التقاليد والعقائد تؤيد بأن الكنيسة المارونية، من الناحية التقليدية على الاقل، كانت جزءاً من كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية وأن اعترافها بالإيمان الخلقيدوني كان في الظاهر فقط، ولم يكن تبنياً أصيلاً لذلك الإيمان.
تمثل رسالة اينوسنت الثالث بداية سياسة روما في تحويل تلك الكنائس الشرقية الى كنائس لاتينية خاضعة لسلطة الأحبار الرومان. وبالإضافة إلى العقائد والتقاليد التي تمَّ ذكرها، أبلغ البابا اينوسنت الثالث البطريرك الماروني بأن موفده الكاردينال بطرس قد أمر الكنيسة المارونية أيضاً بأتباع عوائد لاتينية اخرى كاستعمال الحلل الكهنوتية اللاتينية وإعلان التحريم ثلاث مرات قبل الاحتفال بمراسيم الزواج، واستعمال الخبز الفطير في القربان، والاعتراف مرة واحدة في السنة على الأقل لدى الكاهن وتناول القربان المقدس مرة واحدة في السنة على الأقل، واستبدال الأجراس الخشبية بأجراس من النحاس أو الفولاذ، واستعمال كؤوس فضية بدلاً من الكؤوس النحاسية أو الخشبية، وضم قديسين جدد إلى تقويم الكنيسة، وتبني طقوس المعمودية وغيرها من طقوس كنيسة روما وأخيراً استعمال ليتورجية روما اللاتينية . والخلاصة فان هذه الرسالة تفند مزاعم الموارنة بتمسكهم الدائم بإيمان كنيسة روما.
كانت هذه الرسالة مصدر أسى للموارنة على الدوام ولذلك حاولوا إما إغفال القسم الأعظم منها أو تقديم تعليلات جديدة لنوايا كاتبها. يدّعي البطريرك اسطفان الدويهي بأن سياق الرسالة يدل على ان البابا اينوسنت الثالث كان يقصد توجيهها إلى اليونانيين (البيزنطيين الملكيين) لا إلى الموارنة. ويقول بأن هؤلاء اليونانيين هم الذين قدموا خضوعهم للحبر الروماني بواسطة الكاردينال بطرس من رهبنة القديس مارسيلوس لأنهم لم يعترفوا بأن الروح القدس ينبثـق من الابن. ويضيف الدويهي بأن البابا تلقى معلومات محرفة لأن الكاردينال لم يكن على معرفة باللغات الشرقية لذا وصف الموارنة خطأً بأنهم مونوثيليون. وأخيراً يجزم الدويهي أن البابا عندما كتب ” كنتم سابقاً كخراف ضالة ” إنما كان يُـشير إلى خضوع موارنة لبنان وأورشليم فقط إلى كنيسة روما، والذي تمّ بواسطة امريك، البطريرك اللاتيني، لا إلى سائر الموارنة. ويصر الدويهي بأن الموارنة لم يسقطوا أبداً في الهرطقة، وأن أولئك الذين يدّعون بأن الموارنة سقطوا فيها أو أنهم أعيدوا إلى الإيمان ” الكاثوليكي ” الحق فهم إنما يكذبون . من الواضح أن الدويهي ينكر أن الموارنة كانوا مونوثيليين ضالين كالخراف وأنهم اهتدوا إلى الكثلكة بفضل العناية الإلهية. لكن نص رسالة اينوسنت ، الذي استـشهد بها باباوات آخرون بعده للبرهان بأن ما قاله عن الموارنة كان صحيحاً، هو دليل كافٍ على صدقه. لم يكن لدى اينوسنت الثالث ما يدعوه إلى تحريف الحقيقة بشأن الموارنة. والاكثر من ذلك من الصعب الاعتقاد بأن الكاردينال بطرس قدم اليه معلومات زائفة. فلو كان قد فعل ذلك، لما ابدى الكاردينال وليم، الذي أرسله البابا اينوسنت إلى الموارنة بصحبة البطريرك العمشيتي مثل هذا الشك الكبير بمعتقدات الموارنة ونواياهم تجاه كنيسة روما.
رافق الكاردينال وليم مترجمون شرحوا له محاضر اجتماعه بالبطريرك الماروني ومطارنته والكهنه والعلمانيين لأخذ العهد على أنفسهم بالولاء للبابا. ولهذا فانه لم يطلب إحضار الإنجيل والأسرار المقدسة لكي يدعم الموارنة ولائهم بقسم إلهي إلا بعد أن وثق من نوايا الموارنة الطيبة تجاه كنيسة روما. إن من غير اللائق اتهام الكاردينال بطرس والحبر الروماني بالتحريف والكذب . فاننا لا نجد مارونيا قطً يتهم هؤلاء الباباوات بالكذب أو الجهل. بل على النقيض نجد أمين سر البابا اينوسنت الرابع (1353ـ1361) في رسالته الموجهة إلى البطريرك الماروني، يقتطف من رسالة البابا اينوسنت الثالث وينصح البطريرك ومطارنته وكهنته والعلمانيين في كنيسته ” الذين اهتدوا حديثاً إلى الإيمان ” باتباع إرشاداته والعمل بمقتضى معتقدات كنيسة روما . وفي 3 تموز من عام 1526، كتب البابا اقليميس السابع إلى البطريرك الماروني ينصحه من كل قلبه بإبقاء نفسه وشعبه على نقاء الإيمان “الكاثوليكي” والالتزام بخضوعهم لكنيسة روما الذي استمر منذ عهد سلفيه اينوسنت الثالث ويوجين الرابع. كما وجه البابا غريغوريوس الثالث عشر رسالة بنفس الغرض في عام 1577 إلى البطريرك الماروني، يُـشير فيها إلى رسائل الباباوات السابقين بدءاً باينوسنت الثالث
ان المعلومات التاريخية حول الكنيسة المارونية وعلاقاتها مع كنيسة روما، منذ وفاة البطريرك ارميا العمشيتي عام 1230 وحتى أواسط القرن الرابع عشر، غير وافية. أما المرجع الرئيسي حول هذه الفترة فهو مديحة كسروان المعروفة عموماً بـ زجلية القلاعي. وبالرغم من مفارقات الاحداث التاريخية التي ترويها الزجلية، فان الكاتب الماروني الأب بولس قـراألي يعتبرها ” صفحة مجيـدة في تـاريخ لبنان والطائفة المارونية “، ويعتبر مؤلفها ” أول مؤرخ ماروني .”
يفيدنا القلاعي في هذه الزجلية بأن الشعب الماروني بقي في سلام إلى أن قام راهبان بإزعاجه : أحدهما من دير يانوح، والآخر من دير نبوح. ويمضي في القول بان هذان الراهبان تبرءآ من إيمانهما الكاثوليكي وبدأ بالتبشير بالعقيدة المونوفيزية اي عقيدة الطبيعة الواحدة “اي عقيدة اليعاقبة” بين الموارنة بحيث تبع العديد منهم عقيدتهما. كانت جهود هذين الراهبين فعّالة جداً بحيث كان أحد المهتدين إلى عقيدتهم هو البطريرك الماروني لوقا البنهراني (ت 1300)، من أهالي قرية بنهران. ثم أنضم إليهم فيما بعد العديد من الموارنة، بحيث أصبحت الجماعة المارونية منقسمة إلى فئتين : إحداهما اتبعت البطريرك، والأخرى بقيت على الإيمان الكاثوليكي. ولما سمع البابا بارتداد البطريرك والعديد من الموارنة إلى المونوفيزية أرسل موفداً إلى البطريرك لكي يتخلى عن إيمانه الجديد. لكن البطريرك رفض الاجتماع بالموفد البابوي لأنه كان قد اعترف بإيمان الكنيسة السريانية الأرثوذكسية الذي ينعته الاب قراألي دون مبرر بـ ” الهرطقة اليعقوبية ” . أما الطرف الذي بقي على ولائه للكنيسة المارونية فقد انتخب بطريركاً جديداً، هو ارميا الدملصاوي عام 1282، والذي يخلط القلاعي بينه وبين ارميا العمشيتي. وكان من جراء هذا الانقسام أن عانت الكنيسة المارونية انشقاقاً خطيراً في صفوفها. وفي نفس السنة (1282) غزت لبنان قوات من الجنود التركمان بأمر من الدولة المملوكية في مصر وهاجمت جهات بشري أو أهدن، وهدمت قلعة أهدن. وفي آب من ذلك العام احتلت قرية الحدث وأخذت البطريرك لوقا البنهراني أسيراً . وفي هذا الوقت، على الأرجح، أقنع حاكم جبيل البطريرك الدملصاوي بالسفر إلى روما لطلب الحلٍّة من البابا للشعب الماروني . ولا بد أن يكون الحاكم قد شعر بأن الموارنة ارتكبوا بارتدادهم إلى المونوفيزية (اليعقوبية)، خطيئة تتطلب صفحاً من البابا .
ليس من الصعب تعليل اهتداء البطريرك لوقا البنهراني والعديد من الموارنة إلى المونوفيزية. ففي القرن السابع بدأ رهبان دير مارون في سورية الذين كانوا قد تبنوا المونوثيلية بتحويل العديد من المونوفيزيين السريان، المؤمنين بطبيعة متجسدة واحدة للوغوس الإلهي إلى عقيدتهم. كما امتدت المونوثيلية إلى لبنان، حيث شكل المرتدون جماعة مارونية متميزة. وكان ارتداد هؤلاء المونوفيزيين سهلاً لأن المونوثيلية (الإيمان بمشيئة واحدة في المسيح)، على غرار الإيمان بطبيعة واحدة فيه، كانت عقيدة أساسية يؤمن بها هؤلاء المرتدون. فضلاً عن ذلك، لم يشكل الموارنة في لبنان سوى أقلية ضئيلةالى جانب السريان الأرثوذكس، الذين كاانوا يشكلون السواد الأعظم من السكان في لبنان قبل رفضهم لمجمع خلقيدونية 451 وبعده. وهذا ما يدل عليه العدد الكبير من أسقفياتهم وأبرشياتهم وكنائسهم وأديرتهم وعائلاتهم في لبنان. وقد بذل الكاتب السرياني الكاثوليكي الفيكونت فيليب دي طرازي جهداً كبيراً في وصف هذه المؤسسات والتي تدل على عدد المونوفيزيين في لبنان ونفوذهم . وكما يقول الأب هنري لامنس، ان الطائفة المارونية لم تحصل على درجة كبيرة من الأهمية حتى أواسط القرن الخامس عشر في لبنان. فقد كان السواد الأعظم من الموارنة مازالوا يعيشون في مقاطعتي جبيل والبترون في شمال لبنان. لذا، لا يمكن أن يكون جميع هؤلاء المسيحيين الذين لا يحصى عددهم، والذين رآهم لودولف دو سوشيم (استـشهد به لامنس) في مدن لبنان وقراها في القرن الرابع عشر، موارنة . كان عدد كبير من هؤلاء اللبنانيين يعيشون في قرية يانوح، حيث كان الموارنة قد بنوا ديراً سمي باسم العذراء القديسة مريم، وقد اتخذه مقراً البطريرك ارميا العمشيتي وبعده البطريرك شـمعون (سـمعان) الثاني في القرن الثالث عشر . إن دير يانوح هذا هو نفسه الذي يُـشير إليه القلاعي في زجليته، معلناً أن أحد رهبانه بدأ بالتبشير بالمونوفيزية. إلا أنه، يرتكب خطأً فادحاً في ادعائه بأن هذا الراهب وآخرون من نبوح قد بشروا بأنه لم تكن للمسيح روح عاقلة لأن طبيعته الالهية حلّت محل روحه العاقلة . لقد خلط القلاعي، على ما يبدو، بين عقيدة ابوليناريوساللاذقي (ت–390) الذي ادعى بأن المسيح كان دون روح عاقلة لأن طبيعته الالهية حلت محلها، وبين عقيدة كيرلس الاسكندري وهي الطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي. لا بد أن العقيدة الأخيرة هي التي تبناها البطريرك لوقا البنهراني، لا عقيدة أبوليناريوس الهرطوقية . واذا تتبعنا قصة القلاعي الى مدى أبعد لأتضح لنا بأن عقيدة الكنيسة السريانية الأرثوذكسية قد انتشرت في العديد من أرجاء لبنان، وخاصة في شمال البلاد حيث تحولت عدة قرى إلى هذه العقيدة. علاوة على ذلك، ذهب العديد من الرهبان السريان الأرثوذكس للعيش في وادي قاديشا ودير الفراديس قرب قرية بان. وفي عام 1242 كان عدد هؤلاء الرهبان حوالي أربعين راهباً فقط، ولكن لا بد أنهم كانوا ذوي تأثير في الوعظ بإيمان كنيستهم بحيث أنضم إلى الكنيسة السريانية الارثودكسية في السنوات التالية البطريرك لوقا البنهراني وكثيرون غيره . ويرى الأب قراألي أن لوقا لم يكن أحد المهتدين الموارنة إلى إيمان الكنيسة السريانية بل كان ” على نحو نوح البقوفاوي واحداً من البطاركة السريان اليعاقبة في لبنان ” . ولكن القلاعي على صواب في قوله بأن لوقا البنهراني كان بطريركاً مارونياً، لان الكنيسة السريانية الأرثوذكسية لم يكن لها بطريرك بهذا الاسم .
رأينا فيما سبق نشوء بعض العلاقة بين الكنيسة المارونية وأحبار كنيسة روما. لكن من الصعب تحديد مدى هذه العلاقة وتأثيرها لأنها اعتمدت إلى حد كبير على موقف بعض الباباوات. كما أن تعامل الباباوات مع الكنيسة المارونية وجماعتها على الأقل حتى نهاية القرن السادس عشر لم يكن تعاملاً متسقاً. وذلك لان معرفة الباباوات بالكنائس الشرقية، وبضمنها الكنيسة المارونية كانت ضئيلة. بل كانت تعتبر هذه الكنائس منفصلة تجب اعادتها إلى كنيسة روما وإخضاعها لسيادة البابا. لهذا السبب نجد البابا اينوسنت الثالث يهيب بالبطريرك الماروني ارميا العمشيتي لاتباع العادات اللاتينية لكنيسة روما. وقد استمرت عملية تحويل الكنيسة المارونية الى كنيسة لاتينية وإخضاعها لسيادة روما طوال القرن الرابع عشر ولا ادلّ على ذلك ما اعلنه لودولف دو سوشيم، الذي زار سورية ولبنان عام 1336، بأنـه رأى مطـارنة لاتين يرسمون مطـارنة للموارنة . ولكن لم يصل الدفاع عن تقاليد الكنيسة المارونية لدى كرسي روما الرسولي ذروته حتى أواسط القرن الخامس عشر عندما حاول الأخ غريفون، الراهب الفرنسيسكاني، إنقاذ المورانة من أن يصبحوا لاتينيين تماماً . سنشرح فعّاليات غريفون في الفصل التالي.
بالرغم من العلاقة القائمة بين الكنيسة المارونية وكنيسة روما ومساعي هذه الاخيرة في صيرورة الكنيسة المارونية لاتينية فقد احتفظت الكنيسة المارونية بإيمانها الأصلي بالمونوثيلية. كما احتفظت بمبادئ أخرى في الإيمان والطقوس كانت نفس إيمان وطقوس الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، كانبثاق الروح القدس من الآب، تلاوة التقديسات الثلاث مع عبارة يا من صُلبت لأجلنا، وإجراء المعمودية باسم الآب والابن والروح القدس مرات ثلاث بدلاً من واحدة، وتبجيل قديسي الكنيسة السريانية. ولا نجد في هذه الفترة من تاريخ الكنيسة المارونية ما ما يدل بأن كنيسة روما قد حصلت على أي شيء من هذه الكنيسة سوى اعتراف الموارنة بسيادة البابا. في الواقع، ليس هناك من دليل بأن كرسي روما الرسولي قد أنعم على البطريرك الماروني بأي امتياز ينفرد فيه عن بطاركة آخرين في الشرق الذين قبلوا سيادة روما. وعندما زار ارميا العمشيتي روما لتقديم آيات الطاعة اعتبره البابا اينوسنت الثالث مفرياناً فقط يلي البطريرك في المرتبة. بل ان البطريرك الماروني لم يتخذ ولم يمتلك الحق في اتخاذ لقب ” بطريرك أنطاكية “. إلا أن البابا اسكندر الرابع أنعم في عام 1268 بلقب ” بطريرك أنطاكية ” على البطريرك الماروني شمعون الثاني مكافأة له على خدماته في تقديم الملجأ للرعايا اللاتين الذين نجوا من دمار الحرب من جراء غزوات السلطان المملوكي الظاهر بيبرس (1223ـ1277) على سورية، والذي دحر الصليبيين والمغول في عين جالوت (نبع جوليات) قرب الناصرة . والحقيقة هي ان البابا اسكندر لم ينعم على البطريرك الماروني بأكثر من لقب شرف مكافأة له على مساعدته.
أدى سقوط سورية بيد بيبرس وبداية طرد الصليبيين منها إلى بتر العلاقات تقريباً بين كنيسة روما والموارنة. ولم تبدأ كنيسة روما بإعادة إحياء فعالياتها بين الكنائس الشرقية حتى النصف الأول من القرن الخامس عشر بواسطة جهود الرهبان الفرنسيسكان وهذه المرة بعزم شديد لارجاعها إلى أحضان الكنيسة الرومانية. لا بد أن ضعف الكنيسة والدولة البيزنطيتين والخطر العثماني الدائم قد حث البابا يوجين الرابع (1431ـ1447) والإمبراطور البيزنطي يوحنا الثامن (1425ـ1448) على التفكير معاً بقيام اتحاد بين كنيستي روما والقسطنطينية. ولا بد أن الأحداث السياسية التي جرت في البلقان، وخاصة احتلال السلطان العثماني مراد الثاني لسالونيك في أيار من عام 1430 قد أقلقت البابا إذ أنه طلب اجتماعاً عاجلاً بالامبراطور يوحنا الثامن. استجاب يوحنا الثامن لهذا الطلب فانعقد مجمع في فيرارا إيطاليا، في آذار من عام 1438 إلا انه اضطر الى الانتقال إلى فلورنسا في 10 كانون الثاني 1439 بسبب انتـشار الطاعون في فيرارا. وبعد عدة أشهر من المداولات حول نقاط رئيسية أربع ـ وهي انبثاق الروح القدس واستعمال الخبز الفطير في القربان المقدس والعذاب في المطهر وسيادة البابا ـ أعلن المجمع اتحاد كنيستي روما والقسطنطينية في 6 تموز 1439 . وحث انعقاد المجمع في فلورنسا البطريرك الماروني يوحنا الجاجي ( ت 1445 ) على تعيين الأخ جوان من رهبنة الفرنسيسكان الصغار، والذي كان قد أتمَّ خدمته في الشرق وكان على وشك المغادرة إلى أوروبا، كموفد إلى البابا. كانت مهمة جوان الحصول من الحبر الروماني على باليوم البطريرك وتثبيته كبطريرك للكنيسة المارونية. كما حمل جوان ايضاً رسائل إلى البابا من البطريرك ومن وجهاء موارنة اخذوا على عاتقهم العهد بالولاء للبابا والرغبة في الموافقة على أية قرارات يتخذها مجمع فلورنسا. وحسبما يقول القلاعي، عاد الأخ الفرنسيسكاني جوان إلى لبنان يحمل تاجاً ورسالة من البابا تثبت يوحنا الجاجي ” بطريركاً على أنطاكية ” . وعندما وصل الأخ جوان إلى طرابلس في تشرين الأول من عام 1439، خرج العديد من الموارنة للترحيب به. غير أن الحشود المرحبة أثارت ريبة المسلمين، الذين اعتقدوا بأن أهالي لبنان المسيحيين تواطؤوا مع اليونانيين واللاتين لاسترداد سورية من سلطان مصر المملوكي. ولذلك ألقت السلطات الإسلامية القبض على الأخ جوان ورفاقه وزجت بهم في السجن، لكنهم أطلقوا بكفالة بمساعي بعض الموارنة من ذوي النفوذ. وبعد اطلاق سراحه زار الأخ جوان البطريرك وقلده الباليوم الذي أرسله البابا ثم توجه إلى بيروت، حيث اختفى. وقد أثار اختفاؤه واختفاء رفاقه حنق حاكم طرابلس الذي أرسل رجاله في الحال للقبض على الذين أطلقوا سراح السجناء بكفالة. وعندما أخفقوا في العثور عليهم، أحرقوا بيوتهم وقتلوا العديد من الناس، من ضمنهم بعض رهبان كانوا في خدمة البطريرك، وساقوا آخرين مقيدين بالسلاسل إلى طرابلس. وفي تلك الآونة غادر البطريرك مقر إقامته في دير ميفوق ليقيم في دير قنوبين في وادي قاديشا في جبة بشري تحت حماية المقدم (حاكم) يعقوب البشراّني .
بعد اختفاء الأخ جوان، بدأ البطريرك الماروني يوحنا الجاجي بالبحث عن رسول آخر يوفده إلى البابا للإشعار باستلام رسالته، والتعبير عن امتـنانه لتثبيته كبطريرك والإعلان مجدداً عن طاعته لسلطة البابا. وبعد البحث وجد البطريرك فرنسيسكانياً آخر، هو الأخ بيتر (بطرس) دي فيرارا أوفده إلى البابا مع رسالة في آب عام 1440 كرر فيها الإعراب عن طاعته وقبوله لقرار مجمع فلورنسا. كما أبلغ البطريرك البابا بما عاناه هو وشعبه من عذاب وإهانة من خصومهم عندما تلقى التثبيت الذي كان البابا قد أرسله مع الأخ جوان. وقد أكَّد للبابا بأنه سيسعى هو وشعبه لطاعته وطاعة كنيسة روما حتى وإن أدى ذلك إلى إراقة دمائهم. وأخيراً، استعطف البطريرك البابا لكي يرسل أناساً علماء إلى شعبه لتعليمهم الإيمان الصحيح، ويعني بذلك إيمان كنيسة روما. أجاب البابا في رسالة مؤرخة في 12 كانون الأول 1441 مؤكداً للبطريرك ثـقته بولاء الموارنة للكرسي الروماني. كما ابلغه بأنه قد أوفد الأخ بطرس دي فيرارا وفرنسيسكاني آخر، هو أنطونيوس دي ترويا، لشرح تعاليم كنيسة روما للموارنة . وفي عام 1444 عاد دي ترويا إلى روما، وبعد ان أبلغ البابا عن حاجة الموارنة الشديدة للأساتذة، قرر البابا توسيع الإرساليات الكاثوليكية في سورية. وفي نفس العام تمَّ تعيين بطرس دي فيرارا ممثلاً باباوياً لدى الموارنة والملكيين بشكل رسمي .
يدلُ رجاء البطريرك الماروني من البابا بإرسال متبحرين في العلم إلى الموارنة لتعليمهم الإيمان ” الصحيح ” على أن علاقة كرسي روما الرسولي مع الموارنة فيما يخص إيمانهم كانت سطحية، وأن هدف الباباوات الرئيسي هو وضع الموارنة تحت سلطتهم والاعتراف بسيادتهم. وليس هناك من دليل بأن الكنيسة المارونية قد عمدت، نتيجة للإرساليات التبشيرية المتفرقة التي أرسلها الباباوات إليها، إلى تغيير معتقدها المونوثيلي او تغيير عقائد وطقوس رئيسية أخرى. فقد كان الموارنة مونوثيليين وبقوا كذلك حتى نهاية القرن السادس عشر. ولكن مع أن موارنة لبنان وأورشليم كانوا قد قبلوا السيادة البابوية دون تغيير إيمانهم منذ بداية القرن الثالث عشر، إلا أن موارنة قبرص لم يخضعوا لسلطة روما إلا في أواسط القرن الخامس عشر، بحسب منشور باباوي أصدره البابا يوجين الرابع، عام 1445 . يُعلن البابا في هذا المنشور بأنه أوفد أندراوس رئيس أساقفة رودوس، إلى قبرص وأنحاء أخرى من البلاد الشرقية لإقناع الطوائف الملكية والأرمنية و ” اليعقوبية ” بقبول وحدة الكنائس اللاتينية واليونانية التي تمت في مجمع فلورنسا والانضمام إليها. بعبارة أخرى، اعتبر البابا هذه الكنائس كنائس ” منفصلة ” ورغب في أن تعود للاتحاد مع روما، إلا أن ذلك لم يحصل إلا في القرن السابع عشر حينما شرعت بعض الكنائس الشرقية بالاتحاد مع روما . إن أهم جزء في هذا المنشور البابوي هو إعلان البابا أن رئيس الأساقفة أندراوس تمكن بعد جهد كبير من إعادة المطران النسطوري طيمثاوس والمطران الماروني الياس وهو من ” تلطخ بشوائب تعليم مكاريوس، الذي اعترف بمشيئة واحدة فقط في الرب ” مع أفراد أبرشيته، الى حظيرة الإيمان. يروي البابا أيضاً بأن المطران الياس وكهنته وشعبه قد اعترفوا علناً بإيمان كنيسة روما في كنيسة القديسة صوفيا في قبرص بحضور طوائف أخرى. ومن ثم قام رئيس الأساقفة أندراوس بإرسال اسحق، وهو قسيس وتلميذ المطران الياس، إلى روما حيث تبرأ من تعليم مكاريوس (المونوثيلية) علناً في كنيسة لاتـران في روما واعترف بتعليم كنيسة روما .
يتضح من هذه الشهادة أن الموارنة كانوا مونوثيليين. وبسبب مونوثيليتهم أتهمهم العديد من الكتّاب اللاتين (وخاصة هوراس جوستنيان، الذي قام بجمع قرارات مجمع فلورنسا)، بالهرطقة . لكن البطريرك الماروني اسطفان الدويهي حاول جهده في دحض اتهامات هؤلاء الكتّاب، إلا أن دحضه لم يكن مقنعاً. لا ينكر الدويهي بأن مطران قبرص الماروني الياس وقسيسه، اسحق، قد اعلنا براءتهما من المونوثيلية، لكنه يتهم الموفد البابوي، أندراوس ، رئيس أساقفة رودس، بعدم إخبار البابا بالحقيقة حول إيمان موارنة قبرص. فهو يدّعي بأن هؤلاء الموارنة كانوا تحت سلطة البطريرك يوحنا الجاجي في لبنان، وهو أرثوذكسي الإيمان (اي ايمان الكنيسة الكاثوليكية) .
إن ما يعنيه الدويهي هو أن هذا البطريرك وشعبه لم يكونوا مونوثيليين أي هراطقة. لكن الأمر ليس كذلك، لأن الموارنة ظلوا مونوثيليين بعد ذلك ما يربو عن قرن من الزمن. والذي يبدو أن الدويهي خلط في دفاعه عن أرثوذكسية شعبه، بين العناصر الخارجية للعرف الكنسي والمبادئ الجوهرية للإيمان.ويستـشهد برسالة للأخ غريفون (ستتم مناقشتها في الفصل التالي)، كتبت في عام 1469 والتي جاء فيها بأن الكهنة الموارنة في قبرص ورودس وبيروت وأورشليم، منذ الأزمنة القديمة، ويعني بذلك القرن الثالث عشر، كانوا يرتدون حللاً كهنوتية لاتينية، ويرسمون إشارة الصليب بالطريقة اللاتينية ويحتفلون بالقربان المقدس كما تحتفل به الكنائس اللاتينية . بيد أن ممارسة هذه الطقوس لا تعني أن الموارنة قد تبنوا تماماً إيمان كنيسة روما أو أنهم تخلوا عن إيمانهم المونوثيلي أو عقائدهم المونوفيزية (السريانية الأرثوذكسية). وعلى حد تعبير أحـد الكتّأب المعـاصرين، كان الموارنة ما يـزالون مونوثيليين .