قيام الموارنة ككنيسة منفصلة

Posted by on Aug 16, 2012 in Library, الموارنة في التاريخ - الدكتور متي موسى, الموارنة في التاريخ -2 | Comments Off on قيام الموارنة ككنيسة منفصلة

14

    إن إخفاق الدولة والكنيسة البيزنطيتين في إدخال عقيدة المشيئتين في المسيح إلى سورية لا يعني أن الأباطرة البيزنطيين لم يبذلوا جهداً للقيام بذلك. فنحن نعلم من الفصول العشرة لتوما، أسقف كفرطاب الماروني عن جهود كهذه بُذلت في هذا الشأن. وتعتبر الفصول العشرة مرجعنا الرئيسي عن توما الذي كان أسقفاً مارونياً لكفرطاب قرب حلب. وفي عام 1089 كتب توما رسائل إلى بطريرك أنطاكية الخلقيدوني يوحنا السابع (1088ـ1106)؛ تحتوي على الفصول العشرة للدفاع عن عقيدة المشيئة الواحدة إزاء عقيدة المشيئتين في المسيح والتي كان البطريرك يعتنقها. وقد بلغنا أن البطريرك أحرق رسائل توما إلا أن توما كتب نسخة جديدة منها. وقبيل نهاية القرن الحادي عشر، عندما كان توما يعظ في لبنان، عمل نسخة أخرى من الفصول بناء على طلب كاهن من قرية فرشا اللبنانية في قضاء جبيل. يقدم توما في هذه الفصول جدلاً لاهوتياً ثاقباً يكشف عن معرفته الوافية بالنزاعات العقائدية حول وحدانية مشيئتي المسيح أو ثنائيتهما. ولكن يبدو أنه يعامل مكسيموس الذي نافح عن عقيدة المشيئتين في المسيح باحتقار في فصوله. يدّعي توما بأن مكسيموس ترعرع في طبريا، وهو ابن غير شرعي لامرأةٍ أممية وأبٍ سامري، وهو ادعاء لا يستند على اساس تاريخي. بل تعتبر هذه الاتهامات من الاباطيل والتي كان يلجأ إليها أحياناً المتنازعون حول العقيدة المسيحية (كما فعل خصوم سويريوس الأنطاكي.

 

    لكن اهتمامنا ينصب على ذاك الجزء من فصول توما الذي يبين بأن إمبراطوراً بيزنطياً اتصل بالفعل مع بعض السريان لإقناعهم بالاعتراف بعقيدة المشيئتين في المسيح. يفيدنا توما في ” الفصل الرابع ” عن وجود إمبراطور بيزنطي، في عهد مكسيموس، يدعوه ” مرقيان “، والذي حكم بالاشتراك مع أخيه . هذا خطأ تاريخي إذ لم يكن هناك إمبراطور اسمه ” مرقيان ” حكم بالاشتراك مع أخيه في زمن مكسيموس، الذي توفي عام 662. لكن المطران أقليميس يوسف داؤد يرتأي بأن “مرقيان” في هذا السياق يعني الإمبراطور قسطنطين الرابع بوغوناتس، الذي هتف له اعضاء المجمع السادس في الجلسة السادسة عشرة بأنه “مرقيان الجديد” . إن المطران داؤد يخطئ بدوره لأن مكسيموس، الذي يصله توما بقسطنطين الرابع باعتبار أنه ” مرقيان الجديد ” كان قد أُضطهد ومات قبل ست سنوات من ارتقاء هذا الإمبراطور العرش عام 668. ومهما يكن الأمر فان توما يستطرد قائلاً بأن مكسيموس استطاع إقناع الإمبراطور وأخيه بأنه من الاصح التمسك بمشيئتين لا بمشيئة واحدة في المسيح بحجة أنه إذا كانت للمسيح طبيعتان متحدتان في شخص واحد، فلا بد أن تكون له مشيئتان متحدتان في نفس الشخص. كما ان مكسيموس نصحهما أيضاً بكتابة رسائل إلى أهالي سورية ولبنان، لدعوتهم إلى الاعتراف بعقيدة مكسيموس هذه. وقد استجاب أهالي سورية ولبنان بإعلان عزمهم على أتباع الإيمان الذي يعترف به رهبان دير ماران (وهي كلمة سريانية تعني المسيح الرب) وهو الدير المشرف على نهر العاصي خارج مدينة حماه، ويضم ثمانمائة راهبٍ. ولما وصلت رسائل مكسيموس إلى الدير، نفر منها الرهبان وأجابوا بأنهم لا يستطيعون قبول سوى الإيمان الذي وضعه الآباء في مجمع نيقية (325) والمجامع الأربعة التالية التي ثبتّت ذلك الإيمان، ولذلك فإنهم لن يقبلوا عقيدة مكسيموس في المشيئتين للمسيح، ولو أُكرهوا على ذلك. وفي نفس الوقت اعتزموا الدخول في جدال مع مكسيموس في أنطاكية وإذا وجدوا أن الروح القدس كان معه فسيقبلون عقيدته. ثم اودعوا جوابهم إلى رسول ليحمله إلى الإمبراطور. وفي الوقت الذي اوفد الرهبان رسالتهم إلى الإمبراطور كانت الجيوش العربية الغازية قد فتحت لتوها سورية (بما فيها أورشليم) ومصر حيث فصمت بذلك العلاقات بين البيزنطيين وسكان هذه البلاد. ومن ثم أصبح السريان مثبّتين بالإيمان المقدس الذي وضعه الرسل الاثنا عشر والمجامع الخمسة. تتضمن بقية ” الفصل الرابع ” من فصول توما سرداً لرفض الامبراطور هرقل عقيدة مكسيموس، وكيفية نشر تلامذة مكسيموس عقيدة المشيئتين في المسيح في الغرب عن طريق الرشوة. غير أن الأسقف توما يقول ” نحن في الشرق (سورية) ومن ضمنهم أهالي حلب، حماه وحمص وكذلك جبل لبنان، بقينا أوفياء لعقيدة المجامع الخمسة بينما ظل تلامذة مكسيموس منفصلين عنا “

 

    يمكننا أن نستخلص من رواية توما هذه وجود صلة ما بين الأباطرة البيزنطيين والمقاطعات الشرقية في سورية ومصر تتعلق بعقيدة المشيئة الواحدة في المسيح. ولكن ما يجب الانتباه اليه هو أن عقيدة المشيئة الواحدة في المسيح هذه، متفقة مع عقيدة القديس كيرلس الاسكندري، إلا أنها لم تصبح موضع جدل حتى بداية القرن السابع عندما تسلم الامبراطور هرقل السلطة عام 610. كما نعلم أيضاً أن مكسيموس كان قد اجتذب انتباه هرقل اليه ومن ثم اصبح كبير أمناء سره. غير ان مكسيموس، الذي كان شديد الميل للحياة النسكية منها الى خدمة الإمبراطور، تخلى عن هذا المنصب عام 630 وأصبح راهباً في دير كريسوبوليس (سكوتاري حالياً) على الشاطئ الموازي للقسطنطينية. وفي عام 633، نجده في الاسكندرية بصحبة سوفرونيوس (الذي سيصبح بعدئذ بطريرك أورشليم الخلقيدوني)، يناقش عقيدة المشيئة الواحدة في المسيح (المونوثيلية) . وفي السنة الثانية كما يقول توما الكفرطابي فتحت الجيوش العربية سورية وبذلك قطعت العلاقة بين الأباطرة البيزنطيين ورعاياهم السريان ورؤساء كنائسهم. ومع أن بعض أهالي سورية كانوا خلقيدونيين إلا أنهم استمروا على الاعتراف بمشيئة واحدة في المسيح. بعبارة أخرى اعترفوا هم ونظراؤهم من المناوئين لمجمع خلقيدونية “المونوفيزيين” بمشيئة واحدة في المسيح. ومما يجب ذكره أيضاً أنه بالرغم من وجود جدل في اوقات مختلفة حول المشيئة الواحدة أو المشيئتين في المسيح (وخاصة في أورشليم كما رأينا سابقاً)، فإن غالبية أهالي سورية لم يكونوا قد اطّلعوا على التعليم الجديد بالمشيئتين في المسيح. في الواقع، لم يصبح هذا التعليم جزءاً من عقيدة الكنيسة الخلقيدونية حتى عام 680، عندما التأم المجمع السادس لإدانة عقيدة المشيئة الواحدة وتثبيت عقيدة المشيئتين في المسيح. ربما كان نشر العقيدة الجديدة في سورية قد تمَّ بعد هذا العام عن طريق الأسرى البيزنطيين واللاجئين الذين استقروا في سورية نتيجة الحرب الدائمة بين العرب والبيزنطيين. ومن المحتمل ايضاً أن هؤلاء اللاجئين المقيمين في سورية الذين نشروا عقيدة المشيئتين بين الملكيين الخلقيدونيين قد أبلغوا الملكيين بأن المجمع السادس قد ايّد عقيدة المشيئتين وادان عقيدة المشيئة الواحدة في المسيح؛ وبالنتيجة، اخذ الملكيون بالاعتراف بعقيدة المشيئتين الجديدة. لا بد أن نشر هذه العقيدة قد خلق صدعاً بين الملكيين والموارنة لأن الموارنة بالرغم من انهم كانوا كالملكيين خلقيدونيين، فإنهم آمنوا بمشيئة واحدة في المسيح. ويفصل التلمحري هذا النزاع الناشيء بين الجماعتين حول هذه القضية كما يؤكد توما الكفرطابي هذا النزاع أيضاً، مع أنه لا يُـشير إلى التلمحري . يمكننا إذاً الافتراض بأن الموارنة اصبحوا مميزين عن الملكيين لاعترافهم بمشيئة واحدة في المسيح (المونوثيلية). إن توما الكفرطابي يبين بوضوح الفرق بين الجماعتين عندما يخبر بطريرك الملكيين الخلقيدوني، يوحنا السابع، أن الملكيين باعترافهم بمشيئتين في المسيح قد قسموا المسيح نفسه إلى مسيحين. لذا، نجد قوله أكثر غرابة، سيما وهو الماروني، يعترف على غرار خصومه الملكيين بطبيعتين منفصلتين في المسيح. فإن كان الاعتراف بمشيئتين منفصلتين في المسيح يعني انقسامه إلى مسيحين منفصلين، فلمَ لا يعتبر إذاً الاعتراف بطبيعتين في المسيح ذاته، انقسامه إلى مسيحين ؟ والاكثر من ذلك فإن توما يبدي مشاعر مضادّة لمجمع خلقيدونية في ” الفصل الثالث ” من فصوله العشرة، عندما يورد في معرض تأييده لعقيدة المشيئة الواحدة في المسيح، تعليق أحد آباء الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، يعقوب السروجي، حول قول المسيح: ” يا أبتاه إن أمكن فلتعبـر عني هذه الكأس ولكن لا كما أريد أنا بل كما تريد أنت ” (متى 26: 39). نحن نعلم أن يعقوب السروجي كان مناهضاً للخلقيدونية ومدافع عن عقيدة كيرلس الاسكندري الأرثودكسية، أي طبيعة متجسدة واحدة للوغوس الإلهي . لذلك فإن استشهاد توما الكفرطابي بيعقوب السروجي للبرهان على عقيدة المشيئة الواحدة في المسيح (المونوثيلية)، يؤكد قولنا بأن الموارنة كانوا جزءاً من الكنيسة السريانية الأرثوذكسية وبأنهم بجّلوا آباءها وقبلوا تعليمهم كتعليم رسمي. اما رأي جبرائيل القلاعي الماروني بأن توما كان أحد أساقفة الكنيسة السريانية الأرثوذكسية (كنيسة اليعاقبة) فليس له سند تاريخي .

 

    يجب ألا نضل بقول توما الكفرطابي بأن الانفصال بين الملكيين والموارنة كان انفصالاً فعلياً جعل الجماعة الأخيرة كنيسة مميزة لها بطريركيتها الخاصة بها. علينا أن نتذكر بالأحرى أن الموارنة في الجزء الأخير من القرن السابع كانوا ما يزالون فرقة دينية لم تكن لها مراتب كهنوتية كنسية مميزة، بينما كان الملكيون طائفة مؤسسة لها بطريركيتها ومراتبها الكهنوتية، وتشكل ذلك الجزء من بطريركية أنطاكية الذي قبل الانقسام الذي احدثه مجمع خلقيدونية. ومنذ عام 638، عندما اعلن هرقل مرسومه (Ecthesis) والذي ايّد المونوثيلية، وحتى عام 680، عندما أدان المجمع السادس هذه العقيدة كان هؤلاء الملكيون الخلقيدونيون مونوثيليين يتمسكون بعقيدة المشيئة الواحدة في المسيح. ومنذ عام 680 وحتى القرن السادس عشر ظلَّ الموارنة مونوثيليين بالرغم من قبولهم مجمع خلقيدونية.

 

    إذا كان الموارنة مازالوا جماعة دينية في الجزء الأول من القرن الثامن، كما تدل عليه خصوماتهم مع الملكيين (خاصة في حلب حيث قسّمت الجماعتان، حسب قول التلمحري بناء الكنيسة بينهما)، فمتى أصبح الموارنة طائفة متميزة ذات بطريركية؟ مرة أخرى لا بد لنا من الرجوع إلى التلمحري الذي يقول :

في عام 745 سمح مروان ملك (خليفة) العرب للخلقيدونيين (الملكيين) برسامة بطريرك لطائفتهم هو ثيوفيلاكت بن قنبرة من حران. كان ثيوفيلاكت صائغ الخليفة مروان. وقد حصل على أمر من الخليفة وعلى قواتٍ لاضطهاد الموارنة. وعندما وصل إلى دير مارون ضايق رهبانه لكي يحملهم على قبول عقيدة مكسيموس (مشيئتان في المسيح) والامتناع عن تلاوة التقديسات الثلاث مع عبارة يا من صُلبت من أجلنا. وعـد ثيوفيلاكت الـرهبان، وقد أمضهم البلاء، بأنهم سـوف يرضخون لأمره في اليوم التـالي. وكان في صحبته راهب عجوز كان ثيـوفيلاكت يحبه. دخـل هذا الراهب كنيسة الدير وصرخ وهو يضـرب المـذبح بقبضته ” أيها المذبح الدنس، غداً تصبح مقدساً ” . في تلك اللحظة ضربته العدالة الإلهية واصبح ممسوكاً بشيطان وبقي يتعذب طوال الليل قبل أن مات في النهاية. حزن ابن قنبرة جداً على وفاة الراهب فتملكه الخوف. ثم بارح الدير مخلفاً جثمان الراهب الراحل لرهبان الدير لدفنه دون أن يحقق غرضه. وبقي الموارنة كما هم اليوم يرسمون لأنفسهم بطريركاً وأساقفة من ديرهم. إنهم يتميزون عن تلامذة مكسيموس بإيمانهم بالمشيئة الواحدة في المسيح وتلاوتهم التقديسات الثلاث مع عبارة يا من صُلبت لأجلنا. إلا أنهم يقبلون مجمع خلقيدونية.

 

إثر ذلك ذهب ابن قنبرة إلى منبج وحاول إجبار الخلقيدونيين في تلك المدينة على قبول عقيدة المشيئتين في المسيح والإمتناع عن تلاوة التقديسات الثلاث مع عبارة يا من صُلبت لأجلنا. ثم وشى بهم عند الخليفة مروان الذي الزمهم بدفع غرامة قدرها أربعة آلاف دينار. والمشكلة التي كانت قد جرت في حلب حدثت في هذه المدينة أيضاً. وأخيراً حصل أندراوس الماروني على أمر من الخليفة وبنى كنيسةً للموارنة في منبج. حينئذٍ أصبحوا (أي الموارنة) منفصلين عن تلامذة مكسيموس. وحصل العديد من الأمور البغيضة التي تشمئز لها النفس بين هاتين الجماعتين .

 

    لا بد أن هذه الحادثة حصلت في السنة الثانية من عهد الخليفة الأموي مروان الثاني ( 744ـ750 ). فقد كان الملكيون في سورية دون بطريرك لمدة أربعين عاماً ربما بسـبب الصـراع الداخلي في كنيستهم أو بسبب تردي أوضاعهم الكنسية. وربما كان السبب كما يكتب العلامة يوسف السمعاني أن المسـلمين منعوهم من أن يكون لهم بطريرك خاص بهم . لذلك فإن ادعاء اسـد رسـتم ان السـبب هو مكـائد “اليعاقبة” لا يستند على اساس تاريخي . لكن في عام 742، سمح الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك للملكيين بتنصيب بطريرك على جماعتهم. فاختاروا أحد الرهبان ويدعى اسطفان، الذي اصبح اسـطفان الرابع في 19 نيسان 742 . وبعد ثلاث سنوات فقد اسطفان حظوته لدى الخليفة الأموي الوليد الثاني (743ـ744) الذي أمـر بقطع لسانه ولسان بطرس، أسـقف دمشق، ثم نفاهما إلى اليمن . وعندما تقلد مروان الثاني السلطة مال إلى ثيوفيلاكت واستحسـنه ان يكـون بطـريركاً للملكيين عام 745. والسبب الذي حدا بالخليفة لتفضيل ثيوفيلاكت هو انه كان صائغه ولأن الخليفة كان، كما يقول التلمحري، شخصاً جشعاً يحب الذهب . وبينما لا يذكر التلمحري شيئاً عما إذا كان ثيوفيلاكت قد شغل منصباً كنسياً قبل أن يتم اختياره بطريركاً من قِـبَـل الخليفة، فإن ثيوفانس يذكر بأنه كان كاهناً في الرها قبل أن يصبح بطريركاً .

 

    نعلم من رواية التلمحري هذه أن الملكيين والموارنة، مع أنهم خلقيدونيون، كانوا جماعتين منفصلتين. فبينما كان للملكيين بطريرك، لم يكن للموارنة رئيس أو بطريرك. ولو كان للموارنة بطريرك لكان التلمحري، وهو نفسه بطريرك وعارف بالشؤون الكنسية ذكر ذلك. كما كان ثيوفانس ومؤرخون آخرون كانوا ذكروا هذه الحقيقة أيضاً. يظن المطران الماروني يوسف دريان بأنه كان للموارنة بطريرك. ويشير الى أن التلمحري سبق أن ذكر بأنه كان لدير مارون أسقف يدّعي دريان بأنه كان ” جاثليقاً ” أو رئيساً للموارنة وأنه نظراً لمنصبه الجليل دعاه الموارنة ” بالبطريرك ” . والحقيقة هي أنه في عام 745، عندما زحف ثيوفيلاكت الى دير مارون، لم يكن للموارنة بطريرك، مع أنه كان لديهم رئيس وأساقفة في ذلك الدير . ليس هناك من دليل بأنه كان لديهم “جاثليق” أصبح بطريركاً. لأنه حسب الرتب الكنسية كان منصب الجاثليق أعلى من منصب المطران وأدنى من منصب البطريرك ولأجل رسامة جاثاليق يقتضي وجود بطريرك وثلاثة مطارنة ولم يكن لدير مارون بطريرك كي يرسم هذا ” الجاثليق ” الماروني المزعوم. هنا يتكهن المطران أقليميس يوسف داود بأن الموارنة كانوا في هذا الوقت تحت سلطة البطريرك الملكي وأن التلمحري عندما سمّى ثيوفيلاكت ببطريرك الخلقيدونيين فإنه كان يعني بالتعبير الأخير الملكيين والموارنة؛ وإلا لقال بأن ثيوفيلاكت كان بطريرك الملكيين فقط. إن ما ينوي داود قوله هو أن الكهنة الموارنة تلقوا رسامتهم من البطريرك الملكي  وهو مجرد افتراض يفتقر الى اساس تاريخي. ولكن الرأي الأكثر قبولاً هو انه لم يكن للموارنة بطريرك حتى أواسط القرن الثامن وانهم بدأوا بتـنصيب بطاركة من ديرهم الخاص فقط بعد تجربتهم المريرة مع ثيوفيلاكت. من الصحيح أن الملكيين والموارنة معاً كانوا خلقيدونيين في القرن الثامن، إلا أن الحقيقة التاريخية لا تـنم على أن الموارنة كانوا خاضعين لسلطة البطاركة الملكيين، أو أنه كانت لديهم أية شخصية كنسية تشغل منصب “جاثليق”. يفيدنا التلمحري، وهو مرجعنا التاريخي الوحيد حول هذه القضية، أن رهبان دير مارون قرروا تـنصيب بطريرك خاص بهم بعد أن اضطهدهم ثيوفيلاكت، الذي كان يدعمه الخليفة الأموي. ربما فعلوا ذلك لأنهم أرادوا أن تكون لهم قيادتهم ورتبهم الكنسية الخاصة بهم لكي يحصلوا على نفس الاعتبار والمعاملة التي حصل عليها الملكيون من السلطة الحاكمة خاصة وان عدد الموارنة في مدينة حمص وحماه وحلب ومنبج وغيرها كان قد تزايد إلى درجة تستوجب وجود ذاتية مارونية مستقلة عام 745. من الواضح أن الموارنة ما كانوا ليتجرأوا على تأكيد هذه الذاتية عندما فرض الإمبراطور هرقل مونوثيليته عليهم لأن الظروف لم تساعدهم على ذلك. اما الآن وقد ازداد عددهم وشعروا بما يكفي من القوة فراحوا يؤكدون وجودهم. ولكن كيف قام هؤلاء الرهبان الموارنة بتـنصيب بطريرك من ديرهم ؟ لا بد من التذكر بأنه وفقاً للقانون الكنسي يمكن لثلاثة مطارنة رسامة بطريرك ، ولا بد أنه كان هناك أكثر من ثلاثة مطارنة في دير مارون قاموا برسامة بطريرك. وسوف نعالج مسألة البطريركية المارونية بعدئذ.

 

    أخطأ المطران يوسف دريان فهم قول التلمحري بأن الموارنة ظلوا كما هم عليه اليوم يرسمون بطريركاً ومطارنة من ديرهم يعني بأنهم قاموا برسامة بطريرك لهم قبل عام 745، محققين بذلك استقلالاً كنسياً في ذلك الحين. ويخمن دريان قائلاً لو لم يكن هذا ما يقصده التلمحري لما قال بأن ” الموارنة بدأوا منذ ذلك الحين برسامة بطريرك لديرهم ” . إن ما يعنيه التلمحري في الحقيقة هو أن الموارنة بدأوا بتـنصيب بطريرك من ديرهم في عام 745، وليس قبل هذا التاريخ. لأن التلمحري لم يكن يعني بكلمة ” اليوم ” عام 745، بل كان يعني العـام الذي كان يكتب فيه تاريخه، حوالي 843 اي قبل عامين من وفاته . إن ما يقوله التلمحري في الحقيقة، هو أن الموارنة استمروا منذ عام 745 وحتى عام 843 عندما انتهى من تاريخه، في تـنصيب بطاركة من ديرهم. ومنذ هذا التاريخ فصاعداً استطاعوا الادّعاء بامتلاك رئاسة كنيسة خاصة بهم. يُعتبر التاريخ السرياني الذي كتبه راهب مجهول من دير قرتمين في القرن الثامن واستـشهد به الأب بطرس ضو للبرهان على أن الموارنة ظهروا ككنيسة ومراتب كهنوتية منفصلة خلال الربع الأخير من القرن السابع، خارجاً عن السياق ولا علاقة له بهذا الموضوع. كما أن ملاحظات الاب ضو حول هذا الموضوع بدورها خارجة عن السياق. يوضح هذا التاريخ المجهول المؤلف فقط أن الموارنة مازالوا في نهاية القرن السابع جماعة دينية مونوثيلية . بيد أنه يمكننا القول بكل تأكيد أن مؤرخي الكنيسة القدماء لم يُـشيروا إلى الموارنة كطائفة دينية مسيحية متميزة إلا في القرن الثامن. يقول المفريان غريغوريوس ابن العبري وهو يكتب عن الخليفة العباسي المهدي (775ـ785) أن كبير علماء الفلك عند الخليفة، ثيوفيل بن توما الرهاوي كان يعتـنق نفس إيمان موارنة لبنان، وهم إحدى الجماعات الدينية المسيحية (المذاهب) في ذلك البلد .