11
رفضت الغالبية العظمى من الكنائس في مصر وسورية تعريف إيمان مجمع خلقيدونية (451) ، بأنّ طبيعتي المسيح اتحدتا بالتجسد في شخص واحد مع بقائهما منفصلتين ومتمايزتين بعد الاتحاد . مما سبب صدعاً بليغاً ضمن الكنيسة الجامعة وزاد هذا الصدع تفاقماً بتدخل الأباطرة البيزنطيين في النزاع اللاهوتي والانحياز إلى جانب الخلقيدونيين أو معارضيهم . إن ما بدأ كاختلاف حول تعريف الإيمان والعقيدة بالكتابة او تبادل الرسائل استحال للأسف إلى مهاترات وتجريح واضطهادٍ . فقد اصرّ الذين رفضوا مجمع خلقيدونية بأن صيغة العقيدة التي جاء بها ما هي الاّ بدعة تـنتهك قرارات مجمع أفسس (431) الذي قرر في جلسته السادسة المنعقدة في 22 تموز أن من يثـبّتون إيماناً مغايراً للإيمان الذي وضعه مجمع نيقية (325) سيكونون عرضة لطائلة الحرمان من عضوية الكنيسة وفقدان المرتبة اللاهوتية . كما اصرّ معارضوا مجمع خلقيدونية بأن في التجسّد صار كلمة الله (اللوغوس) جسداً وأنه لا يمكن اعتبار طبيعتي المسيح بعد اتحادهما منفصلتين بل اصبحتا بالنتيجة طبيعة واحدة متجسدة للوغوس الإلهي إنسجاماً مع عقيدة القديس كيرلس الاسكندري .
كان المجمع اذن سبب الخلاف . فقد وصم الذين قبلوا المجمع بأنهم ” ديوفيزيون اي اصحاب الطبيعتين ” كما وصم هؤلاء الآخرين بدورهم الذين رفضوا إيمان هذا المجمع ” بالمونوفيزيين اي اصحاب الطبيعة الواحدة ” . إن مصطلحي ديوفيزيين والمونوفيزيين غير وافيين ولا يمثلان بدقّة المعتقد الذي دافع عنه الفريقان . ونحن نفضل أن نُـشير إلى هذين الفريقين باسم الخلقيدونيين والمناوئين لمجمع خلقيدونية . والذي زاد من بلبلة هذه التعابير ان المناوئين لمجمع خلقيدونية اطلقوا اسم “الملكيين” (من كلمة ملكو السريانية ، وتعني ” ملك “) ، على المعارضين لهم ، مشيرين بذلك إلى أنهم كانوا أتباع الإمبراطور مرقيان ، الذي قام بعقد مجمع خلقيدونية وصادق على تعريفه المبتدع للإيمان . كما أطلق الخلقيدونيون بدورهم ، على معارضيهم اسم ” السويريين ” نسبة إلى سويريوس بطريرك أنطاكية؛ و ” عديمي الرأس ” بمعنى من لا رئيس لهم؛ وأخيراً أطلقوا عليهم اسم ” اليعاقبة ” في الفرن السادس نسبة إلى يعقوب البرادعي (ت 578) . وهكذا انقسمت كنيسة سورية الانطاكية إلى معسكرين متخاصمين ، المعسكر الخلقيدوني والمعسكر المناوئ لمجمع خلقيدونية . وليس من قبل المبالغة او تشويه الحقائق القول بأنه لم تكن هناك بعد عام 451 ثمة مجموعة من الكهنة أو العلمانيين في سورية ما عدا بعض النساطرة الذين كانوا يعيشون في تلك البلاد ، لم ترتبط إما بالخلقيدونيين أو بالمعارضين لهم . فالحياد أو عدم الانحياز في المسائل العقائدية لم يكن معروفاً . ومتى تمّ وضع هذه الحال من الأوضاع في نصابها التاريخي يصبح من السهل عندئذ تحديد الانتماء العقائدي والطائفي لرهبان دير مارون.
يمكننا حينئذٍ السؤال ماذا كان الانتماء الديني لرهبان دير مارون هؤلاء ؟ يؤكد كتّاب موارنة وغيرهم مثل الأب نو على أن رهبان دير مارون كانوا خلقيدونيين ومدافعين عن إيمان خلقيدونية . أما الدليل الوحيد الذي يقدمونه فهو بضعة رسائل ، خاصة تلك المقدمة إلى المجمع المنعقد في القسطنطينية عام 536؛ والأكثر من ذلك ، أن الرسائل التي قدمها الاب نو لا تغير من الوضع أو تنفي الحقيقة وهي أن هؤلاء الرهبان لم يكونوا خلقيدونيين . فلو كانوا خلقيدونيين ، أو ملكيين ، لكان عليهم ، أن يخضعوا كما تقتضيه القوانين الكنيسة لسلطة بطريرك أنطاكية الخلقيدوني ، الذي كان في زمن المنازعة بين رهبان مارون والرهبان السريان في أنطاكية على الأرجح هو أنستاسيوس الأول السينائي 593 ـ 698 . لكن لا يوجد دليل على أن رهبان مارون كانوا يوماً خاضعين لسلطة بطريرك خلقيدوني أو ملكي لأنطاكية . فالرسالة الموقّعة في الحقيقة من قِـبَـل اسكندر رئيس دير مارون ، عام 518 ، لم تكن موجهة إلى بطريرك أنطاكية الخلقيدوني بل إلى البابا هرمزدا . ولهذا فإن محاولة الأب سيمون فايهي (Simeon Vailhe) البرهان على أن رهبان دير مارون هؤلاء كانوا ” ملكيين ” ، أي إمبراطوريين… وكانوا يمثلون في سورية العنصر الأجنبي أو فريق الغرباء ، أي اليونان الذين كان ” اليعاقبة ” يبغضونهم لا تـتسم بالصفة التاريخية . لأن رهبان دير مارون لم يكونوا يونانيين بل سرياناً . بل لم يمثلوا مجموعة من الغرباء اليونانيين . كانوا مواطنين من سورية يتكلمون اللغة السريانية ، مستخدمين إياها أيضاً في صلواتهم اليومية . إن توقيع بعضهم للرسالة باليونانية لا يجعلهم يونانيين ، كما جزم بذلك Vailhe خطأً . في الحقيقة ، لا نجد اتصالاً ، ولا حتى رسالة واحدة متبادلة بين هؤلاء الرهبان وبطريرك أنطاكية الملكي منذ أواسط القرن الخامس وحتى نهاية القرن السادس . إضافة إلى ذلك ، لا نجد رسالة كتبها أي من البطاركة خلال هذه الفترة يمتدح فيها رهبان دير مارون لدفاعهم عن إيمان مجمع خلقيدونية . إن من الصعب التصور أن يكون هؤلاء البطاركة قد أغفلوا ديراً عظيماً كدير مارون ، الذي آوى أكثر من ثمانية الف راهبٍ وكان واقعاً بالضبط في مقاطعة أفاميا المكتظة على بعد بضع مئات من الأميال من أنطاكية . كما أن مما لا يمكن تصوره أن يكون “ديراً عظيماً” ، كهذا ، يعتقد الموارنة بأنه في مقدمة سائر الأديرة في سورية الجنوبية ، قد اصبح طي النسيان خاصة في الفعاليات الدينية ، بحيث لا نسمع شيئاً عن نشاطه الفكري ـ اذ لم يقم فيه علاّمة أو كاتب أو شاعر أو باحث متبحّر ـ في الوقت الذي كانت الأديـرة في سـورية كدير تلعدا وقنسرين وسينون والمعلق في شمال بلاد ما بين النهرين تتباهى بالعديد من العلماء والمتبحّرين المتميزين في المعرفة . وإذا التـفتنا إلى ضروب نشاط الرهبان السريان المناوئين للخلقيدونية ، نجد بأنه كانت بينهم وبين بطاركتهم علاقة متينة فيما يتعلق بمسائل الإيمان أو مراعاة القانون الكنسي . وهكذا نجد أن بعض آباءً كنيسة أنطاكية مثل سويريوس الانطاكي ويعقوب السروجي وفيلكسينوس المنبجي ويعقوب الرهاوي والعديد غيرهم يوجهون رسائلهم إلى أديرة كدير تلعدا وسينون ورومانوس وخاصة إلى دير مار باسوس في سورية الجنوبية الذي لا يبعد كثيراً عن دير مارون وبطريركيته . إلا أننا لا نجد دليلاً على أن رهبان دير مارون قد دافعوا عن مجمع خلقيدونية خلا رسالة أو رسالتين مريبتين . بل لدينا في الواقع دليل بأن الخلقيدونيين في سوريا اضطهدوا رهبان دير مارون . ففي عام 745 سار بطريرك أنطاكية الخلقيدوني أو الملكي ، ثيوفيلاكت بن قنبرة الحرّاني بصحبة ثلة من الجنود الى دير مارون لاضطهاد رهبانه . لا بد من وجود سبب لهذا الاضطهاد ، وها هو المؤرخ التلمحري يعطينا الجواب . فهو يقول أن ابن قنبرة حاول إجبار رهبان دير مارون على قبول عقيدة المشيئتين في المسيح وعلى الكف عن تلاوة التقديسات الثلاث مع عبارة يا من صًلبت لأجلنا . هذا دليل واضح على أن رهبان دير مارون كانوا مونوثيليين يعترفون بمشيئة واحدة في المسيح ، وأنهم كانوا ، خلاف كنيسة روما والكنائس الخلقيدونية الأخرى ، يتلون التقديسات الثلاث مع العبارة التي كانت تستعملها الكنائس المناوئة لمجمع خلقيدونية فقط . بعبارة أخرى ، لم يكن اعتراف هؤلاء الرهبان بإيمان خلقيدونية يعني شيئاً لبطريرك خلقيدوني اضطهدهم لأنه لا بد انه اعتبرهم هراطقة مونوثيليين . إضافة إلى ذلك ، فإن دفاع هؤلاء الرهبان عن إيمان خلقيدونية لم يؤدِ إلى علاقة متينة دائمة بين ديرهم وبين الكنائس الخلقيدونية الأخرى ، وخاصة كنيسة روما . اذاً ليس هناك من دليل تاريخي يؤيد وجود أية علاقة كهذه قبل القرن الثالث عشر . ومن الغريب جداً أن هؤلاء الرهبان ، الذين يُزعم بأنهم دافعوا عن إيمان مجمع خلقيدونية ، قد اعتبرهم غالبية الكتّاب الخلقيدونيين هراطقة ( وسوف نرى بعدئذ انه وحتى أواخر القرن السادس عشر ظلت كنيسة روما مرتابة إلى حد كبير بإيمان الموارنة ولذلك قامت بإرسال العديد من الارساليات إلى لبنان للتأكد من صحة ذلك الإيمان . حتى الرسالة التي قدمها هؤلاء الرهبان إلى مجمع القسطنطينية الذي التأم عام 536 لم تجنبهم من أن يوصموا بكونهم هراطقة . والحقيقة هي ان الرهبان الموارنة استمروا في استعمال التقديسات الثلاث مع عبارة يا من صُلبت لأجلنا فترة طويلة بعد انعقاد ذلك المجمع ، بالرغم من إدانة المجمع بطرس القصّار بطريرك أنطاكية على أنه ” هرطوقي ” بعد أن أُتهم بإضافة هذه العبارة إلى التقديسات الثلاث . يمكننا إذاً أن نستـنتج بأن رسالة رهبان دير مارون إلى الرهبان المناوئين لمجمع خلقيدونية في أنطاكية لم تكن ذات أهمية؛ فهي لم تبرئهم من ” الهرطقة ” ولم تعزز مركزهم في أعين الكنائس الخلقيدونية ، ككنيسة روما أو تخلق لهم علاقة أفضل مع هذه الكنائس . فضلاً عن ذلك ، من الصعب التحديد بدقة تاريخ الجدل الذي جرى بين جماعتي الرهبان الموارنة والسريان الارثودكس ، بل تُـلقى مسؤولية القول ، بأن تاريخ المخطوطة التي احتوتها رسالة رهبان دير مارون هذه والرد عليها يعود إلى القرن الثامن ، على المستشرق الانكليزي وليم رايت ، الذي يقنعنا بأن الجدل قد حصل ولا بد في وقت ما في النصف الأول من القرن الثامن عندما كان رهبان دير مارون يتبادلون الجدل بشأن العقائد مع جماعات مسيحية أخرى . والأهم من ذلك هو أن الجدل حصل بين رهبان دير مارون في أرمناز والرهبان السريان في أنطاكية ، وبأن هذا الدير في ارمناز ليس دير مارون في أفاميا ، الذي يدّعي موارنة معاصرون بأنه أصل كنيستهم وجماعتهم.
السؤال هو متى أصبح رهبان دير مارون خلقيدونيين ؟ يدّعي الكتّاب الموارنة وغيرهم بأن هؤلاء الرهبان تبنوا صيغة إيمان مجمع خلقيدونية عندما اجتمع ذلك المجمع في عام 451 وأن تلك الصيغة كانت إيمان الموارنة منذ ذلك الحين . بيد أن الشهادات التي يقدمونها ليست حاسمة ولا مقنعة . وبالقدر الذي يمكنُ لمؤلف هذا الكتاب أن يؤكده هو ما من مؤرخ في تلك الفترة ، ولا حتى المؤرخ الخلقيدوني أيفاغريوس الذي عاش في افاميا ، ذكر شيئاً عن رهبان مارون هؤلاء ولا عن ديرهم أو إيمانهم . لذلك لا بدّ من الرجوع إلى رواية ديونيسيوس التلمحري للبرهان على إيمان هؤلاء الرهبان لأنه أول من ألقى الضوء على الهوية الدينية لرهبان دير مارون.
يذكر التلمحري اللقاء الذي جرى بين الإمبراطور هرقل وبطريرك أنطاكية السرياني ، أثناسيوس الجمّال عام 629 ، ومحاولة الإمبراطور إقناع البطريرك واثني عشر أسقفاً في رفقته على تصديق صيغة الإيمان التي كان قد اعلنها والتي يعترف فيها بطبيعتين للمسيح متحدتين وارادة واحدة وفعل واحد طبقاً لعقيدة القديس كيرلس في الإيمان بالطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي . رفض البطريرك وأساقفته القيام بذلك ، معترضين بأن هذه الصيغة لا تختلف عن عقيدة نسطور ، بأن طبيعتي المسيح ظلتا منفصلتين بعد اتحادهما في التجسد . إن ما كان البطريرك واساقفته يحاولون القول هو أنهم لم يجدوا فرقاً بين عقيدة نسطور والعقيدة التي عرّفها مجمع خلقيدونية ، وأن كلتا العقيدتين تناقضان ايمان مجمع أفسس (431) . ولما رفض البطريرك وأساقفته تصديق صيغة الإمبراطور في الإيمان غضب الإمبراطور وأصدر أمراً بتعذيب أي امرئ يرفض قبول الصيغة واضطهاده . وسوف نشرح بالتـفصيل هذه النقطة وعلاقاتها بالعقيدة المونوثيلية لاحقاً . يكفي أن نلحظ هنا وقع هذا المرسوم الإمبراطوري .
: يقول التلمحري
نتيجة اضطهاد الأرثوذكس (أولئك الذين آمنوا بطبيعة واحدة متجسدة للوغوس الإلهي ورفضوا مجمع خلقيدونية) قام العديد من الرهبان بقبول مجمع خلقيدونية بمن فيهم رهبان بيث مارون (دير مارون) مع أهالي منبج وحمص
من الثابت أن رهبان دير مارون ، كما نعلم من هذه الرواية ، قبلوا إيمان مجمع خلقيدونية واعتنقوه في عام 629 ، عندما بدأ اضطهاد من رفضوا المجمع . يبيّن التلمحري المزيد بالقول أن رهبان دير مارون كانوا أرثوذكسيين يتمسكون بالعقيدة الكيرلسية التي تؤمن بطبيعة متجسدة واحدة للوغوس الإلهي ، إلا أنهم اعترفوا بمجمع خلقيدونية تحت الإكراه . لو كان هؤلاء الرهبان خلقيدونيين ، لما قال التلمحري بأنهم كانوا قد قبلوا مجمع خلقيدونية . إن ما يقنعنا بشكل أكبر أنهم لم يكونوا خلقيدونيين هو عدم وجود سبب يحدوهم إلى قبول إيمان هذا المجمع مرة أخرى لو كانوا خلقيدونيين اصلاً . فضلاً عن ذلك ، ما كان تهديد الإمبراطور باضطهاد أولئك الذين رفضوا المجمع ليمتد إليهم لو أنهم كانوا خلقيدونيين في ذلك الحين . تدل الحقائق على أنهم لم يكونوا خلقيدونيين وانهم قبلوا مجمع خلقيدونية من أجل النجاة من الاضطهاد . إن ما يُضفي المزيد من الأهمية على رواية التلمحري هو أن هذا الاضطهاد لم يكن موجهاً بشكل أساسي ضد هؤلاء الرهبان؛ بل موجهاً ضد كل الذين رفضوا في سورية قبول مجمع خلقيدونية ، والذين يدعوهم التلمحري أرثودكسيين . لا يمكن أن يكون هذا خطأ ارتكبه التلمحري أو ميخائيل الكبير ، الذي ادرج ملخصاً لرواية التلمحري في تاريخه . ومع ذلك ، اذا اخذنا بنظر الاعتباروجود الوف الرهبان في سورية ، فمن غير المحتمل أن يكون التلمحري قد اختار رهبان دير مارون دون غيرهم على أنهم قبلوا مجمع خلقيدونية . ومما يجعل روايته أكثر قابلية للتصديق هو أنه يذكر ، من بين كل سكان سورية ، فقط أهالي منبج وحمص وسكان جنوب سورية الذين قبلوا مجمع خلقيدونية .
يمكننا ان نستخلص من قول التلمحري أن دير مارون الذي يذكره لم يكن غير واحد من الأديرة الأقل أهمية في سورية والتي تقع تحت سلطة بطريركية أنطاكية المناوئة لمجمع خلقيدونية ، وأن رهبانه صاروا خلقيدونيين خوفاً من الاضطهاد . ومنذ ذلك الحين فصاعداً انفصلوا عن هذه البطريركية المناوئة لمجمع خلقيدونية وبدأوا بعدئذ بتـنصيب بطاركة من ديرهم ليصبحوا بذلك طائفة دينية مستقلة . يجزم المطران أقليمس يوسـف داود بأن رواية التلمحري أقنعته بأن رهبان مارون كانوا يعاقبة” ، أي مناوئين لمجمع خلقيدونية . ويقـول بأنه في مطلع مجمع القسـطنطينية (536) هجر هؤلاء الرهبان ، إما خوفاً أو لسبب آخر ، الجماعة الخلقيدونية أو الملكية في كنيسة أنطاكية وانضموا إلى القطاع “اليعقوبي” لتلك الكنيسة . يبدو بأن داود يرتاب بالنزاهة الدينية لهؤلاء الرهبان ويبدي ملاحظته بالقول بأنهم اشتهروا بسمعتهم السيئة في تبديل ولائهم . لا بد أن الخوف الذي يلمّح إليه داود كان نتيجة اضطهاد هرقل ، فليس هناك شواهد تثبت قوى أخرى أجبرت الرهبان على الانضمام إلى جماعة “اليعاقبة” في كنيسة أنطاكية ، وهو ما يدفعنا الى الاعتقاد بأن رهبان دير مارون كانوا “مونوفيزيين” من اصحاب الطبيعة الواحدة يتمسكون بعقيدة القديس كيرلس الاسـكندري . بل ان المطران داؤد نفسه يؤمن بأن هؤلاء الـرهبان والموارنة كانوا في الواقع مونوفيزيين أو ” يعاقبة ” .
هناك دليل يستـند إلى ما كتبه يوحنا مارون ، الذي كان على ما يزعم أول بطريرك ماروني وهو أن الموارنة كانوا “مونوفيزيين” أو سرياناً أرثودكس . ففي الكتاب الذي يحمل عنوان: شرح الإيمان (والذي ستتم مناقشته بعدئذ والموجود في المخطوطة الفاتيكانية 146 ، ص 4) يقول يوحنا مارون:
نؤمن أن واحداً من الثالوث ، الكلمة ، هو من نفس جوهرنا وطبيعتنا ما عدا الخطيئة . إنه في طبيعتين الإلهية والبشرية : ابنٌ واحد ، ربٌ واحد ، مسيحٌ واحد . كما نعترف بطبيعة متجسدة واحدة للوغوس الإلهي كما نادى بها الآباء القديسون.
ان عبارة طبيعة واحدة متجسدة للوغوس الإلهي هي عقيدة القديس كيرلس الاسكندري الذي يعتبره يوحنا مارون أباً قديساً . هذه هي الأرثودكسية التي كانت كنيسة أنطاكية السريانية قد قبلتها والتي دافع عنها سويريوس الأنطاكي حتى الرمق الأخير . لكن الخلقيدونيين يسمون عقيدة كيرلس الاسكندري هذه بالمونوفيزية اي الطبيعة الواحدة ، ويخلطون بينها وبين عقيدة أوطاخي أو عقيدة أبوليناريوس اللاذقي(ت 390) بدون تمحيص .
يمكننا أن نقول ودون حرج بأن رهبان دير مارون لم يكونوا جميعاً خلقيدونيين ومدافعين عن إيمان مجمع خلقيدونية . فقد نبذت غالبية الرهبان الموارنة في الحقيقة مجمع خلقيدونية . هناك شهادة بهذا الخصوص يدلي بها جرمانوس ، بطريرك القسطنطينية (ت 733) ، وهو الذي يصم الموارنة بالهراطقة لأنهم نبذوا المجمع الرابع والخامس والسادس مما لا يترك مجالاً للشك بأن الكهنة الموارنة والعلمانيين لم يقبلوا جميعاً مجمع خلقيدونية . وسوف نشير الى هذه الشهادة بعدئذ .
ومن رواية التلمحري السابقة نصل إلى نهاية المرحلة الأولى من تاريخ الموارنة . وما نخلص إليه هو أن راهباً ناسكاً يدعى مارون عاش في أوائل القرن الخامس وذكره ثيودوريطس ، أسقف قورش بطريقة عابرة . كذلك نخلص الى وجود عدة أديرة باسم مارون في سورية ، ومنها الدير الذي يقع على نهر العاصي ، إلا أننا لا نملك سجلاً يُـشير إلى تاريخ بناء هذا الدير ، أو إلى أن أصل الكنيسة المارونية وجماعتها ينسب إليه . فضلاً عن ذلك ، يختلف الموارنة حول مصدر كلمة ” موارنة ” واشتقاقها . فبينما يدعي العديد منهم بأن هذا المصطلح مشتق من مارون الذي عاش في القرن الخامس أو من دير يدعى دير مارون ، فإن بطريركهم اسطفان الدويهي ، الذي يحذو حذو القلاعي ، يؤكد بأن مصطلح ” موارنة ” مشتق من “المبارك مارون ، بطريرك أنطاكية العظمى ” . ويُـضيف الدويهي بأن “هذا هو الرأي الذي تقبله كنيسة روما ، والذي يتفق مع تقليد الكنيسة المارونية ” . على اية حال ، وبناءً على رواية التلمحري فإن رهبان دير مارون صاروا يُعرفون بالموارنة لأول مرة بعد اضطهاد هرقل عام 629 . وعلى مدى فترة من الزمن بعد عام 629 اصبحوا طائفة منفصلة . مع ذلك ، فإن إيمان هؤلاء الرهبان ومن تبعوهم قبل هذا التاريخ كان نفس إيمان كنيسة أنطاكية السريانية القائم على اساس عقيدة القديس كيرلس الاسكندري.
سوف نرى بعدئذ أن الموارنة لم يصبحوا كنيسة منفصلة متميزة عن غيرها من الكنائس في الشرق حتى القرن الثامن .