هل كان يوحنا مارون بطريركا لانطاكية ؟

Posted by on Aug 16, 2012 in Library, الموارنة في التاريخ - الدكتور متي موسى, الموارنة في التاريخ -2 | Comments Off on هل كان يوحنا مارون بطريركا لانطاكية ؟

16

يـــوحـنـا مــارون    اذا تتبعنا المصادر المارونية نجدها تدعي بأن يوحنا مارون الذي كان مطراناً منذ عام 676 قد اعتلى السدة البطريركية في أنطاكية خلفاً للبطريرك الخلقيدوني ثيوفانس (ت 687). يدعي البطريرك الدويهي أنه عندما توفي ثيوفانس، قام البابا كونون ( 68ـ687) بتنصيب قسطنطين، وهو شماس من كنيسة سيراكوز، ليحل محله دون استشارة الكهنة الرومان. غير ان قسطنطين هذا لم يسئ استخدام منصبه فحسب بل سبب بلبلة بين الناس مما دفع البابا إلى توجيه أوامر إلى ممثلي الإمبراطور في أنطاكية للقبض على قسطنطين وزجّه في السجن. ثم كتب البابا إلى كهنة أنطاكية لاختيار بطريرك يحل محله. ومن ثم اجتمع الكهنة واختاروا يوحنا مارون ليكون بطريركهم الجديد خلفاً لثيوفانس .

 

    يدّعي الكاهن الملكي يوحنا عجيمي أن مكاريوس، بطريرك أنطاكية المونوثيلي رسم يوحنا مارون مطراناً لأبرشية البترون حماية لمصلحة المونوثيليين. ويمضي عجيمي قائلاً بأن يوحنا مارون استغلّ رسامته كمطران ليُعلن نفسه لا بطريركاً على أنطاكية بل بطريركاً على الموارنة . ان رواية عجيمي هذه تفتقر الى سند تاريخي.

 

    لو تصـفحنا تاريخ هذه الفترة، لوجدنا أن البطاركة الخلقيدونيين أو الملكيين كانوا قد أقاموا في القسطنطينية منذ 640، لأن معظمهم كانوا مونوثيليين يعتنقون نفس الإيمان الذي اشاعه الإمبراطور هرقل. ومن المحتمل أن يكون هؤلاء البطاركة قد فقدوا حظوتهم بسبب ارتباطهم بهرقل والدولة البيزنطية خاصة بعد ان احتل العرب سوريا في اواسط القرن السابع. صحيح ان ثيوفانس صار بطريركاً في عام 681 ولكن ليس من المؤكد إن كان قد أقام في القسطنطينية أم عاد إلى أنطاكية. لقد حضر بالفعل الجلسة الرابعة عشرة من المجمع السادس المنعقد في أيار من عام 681 وساعد في اختبار صحة قوانين المجمع الخامس. وليس في المصادر التاريخية ما يشير إلى أن يوحنا مارون خلف ثيوفانس الملكي على كرسي أنطاكية. والاكثر من ذلك فإن البطريرك الدويهي يناقض نفسه بقوله أن كهنة أنطـاكية اختاروا المطران يوحنا مارون “ورسموه بطريركاً خلفاً لثيوفانس”، بينما نراه يقول في نفس الصدد بأن البابا هونوريوس هو الذي رسم يوحنا مارون بطريركاً. وتأييداً لفكرته، يبلغنا الدويهي بأنه اعتمد على ” قصة قديمة ” إلا أنه لا يكشف عن مرجعها. واستناداً الى هذه ” القصة القديمة ” فإن يوحنا مارون ذهب إلى أنطاكية، حيث انخرط في جدل حاد مع تلامذة مكاريوس، بطريرك أنطاكية “الهرطوقي”. ونتيجة لهذا الجدل اعتنق يوحنا مارون ” هرطقة ” مكاريوس “المونوثيلية” معترفاً بأنه لم تكن في المسيح سوى طبيعة واحدة وبأنه لم تكن له روح عاقلة لأن الوهيته قد حلّت محلها. إن ما يحاول الدويهي قوله هو أن يوحنا مارون تبنى عقيدة أبوليناريوس، مطران اللاذقية (ت 390)، ومفادها ان الوهية المسيح اخذت مكان روحه العاقلة، وهي الفكرة التي أُدين أبوليناريوس بسببها. بعبارة أخرى، كان يوحنا مارون قد أصبح مونوفيزياً أبولينارياً، ثم اصبح مطراناً على أنطاكية ولكن دون أبرشية معينة، لأن البابا أباغريو، كما يؤكد الدويهي، كان قد أدان مكاريوس وكرسي أنطاكية. يتابع الدويهي هذه ” القصة القديمة ” قائلاً أن يوحنا مارون غادر أنطاكية إلى طرابلس، حيث التقى صدفةً بمندوب البابا هونوريوس وناقش معه مسائل تتعلق بالإيمان. وعندئذ أخذ المندوب البابوي مارون إلى روما حيث قام مجمع للأساقفة باختبار إيمانه وتبيّن بأن إيمانه كان ” أرثودكسياً “. ثم رسمه البابا بطريركاً على أنطاكية وأنعم عليه بتاج الأسقفية والخاتم والعكاز.

 

    ومع أن الدويهي لا يكشف هوية هذه ” القصة القديمة ” إلا أننا نعلم أنه استقاها من رواية المطران الماروني جبرائيل القلاعي (ت 1516). مرّ بنا سابقاً أن القلاعي أدعى بأنه استقى هذه القصة من المخطوطة الكرشونية الموجودة في كنيسة السيدة في دمشق دون أن يُـشير إلى المخطوطة. إلا أن الدويهي في محل آخر يعطي الانطباع بأنه استقاها من مصدر غير مصدر القلاعي، ولكنه لا يحدد مرة أخرى هوية هذا المصدر . اما فيما يخص ” أباغـريو “، فيقـول الدويهي بأنه في الأصل هو “أغاثون” وهو اسم البابا الذي تمت من خلال جهوده الدعوة إلى عقد المجمع السادس . ولكن احد النسّاخ اخطأ فكتب أبا غريو عوضاً عن اغاثون.

    ان التناقض في روايات الدويهي عن يوحنا مارون واضح جداً. فهو يجعل مارون، اعتماداً على الكتاب الذي يسميه معتقد اليعاقبة، مطراناً للبترون في لبنان، بينما يجعله في مكان آخر مطراناً لأنطاكية. وتراه يدّعي، مرة أخرى، في أحد مؤلفاته بأن كهنة أنطاكية انتخبوا مارون ورسموه في ذلك المنصب، وفي نفس الوقت يدّعي بأن ناسخ المخطوطة ظن خطأ أن هونوريوس هو سرجيوس .

    يقول العلامة يوسف السمعاني، الذي يسير على خطى الدويهي، بأن الدويهي اعتمد في روايته عن رسامة يوحنا مارون بطريركاً على التقليد الذي يقبله الموارنة بشكل عام والذي ورد بوضوح في معتقد اليعاقبة، وفي مقدمة يوحنا مارون لكتابه شرح الإيمان. ولكن السمعاني لا يوافق الدويهي في الرأي بأن يوحنا قد رُسم بطريركاً من قِِـبَـل كهنة انطاكية أو من قِِـبَـل مجمع أنطاكية الكنسي. فهو يقول لو انّ كهنة أنطاكية اختاروا يوحنا مارون للمنصب البطريركي لكان المؤرخون البيزنطيون واللاتين ذكروا اسمه في قائمة بطاركة أنطاكية، سواء أكان “هرطوقياً” (مونوثيلياً) أو أرثودكسياً. وفي الوقت الذي تبدو فيه حجة السمعاني منطقية ، نجده يواجهنا برأي آخر يفتـقر إلى البرهان التاريخي. ففي الوقت الذي يقول فيه انه من غير المحتمل أن يكون كهنة أنطاكية، بالرغم من خنوعهم للإمبراطور يوسطينيان الثاني راينوتميتوس (685ـ695) قد انتخبوا يوحنا مارون ورسموه بطريركاً لأنطاكية، يعود فيؤكد بأن ” أساقفة المردة الذين لم يكونوا سوى أساقفة الموارنة أنفسهم “، هم الذين انتخبوا يوحنا مارون بطريركاً. الامر الذي يؤكد عادة الموارنة في اختيار بطاركتهم بشكل منفصل عن الملكيين واليعاقبة والنساطرة. وتبريراً لفكرته، يحاجج السمعاني بقوله انه من غير المحتمل الا يكون لمثل هذا العدد الكبير من الناس (يقصد المردة) ” الذين هم الموارنة انفسهم ” والذين كانوا قد احتلوا بلداً يمتد من الجبل الأسود إلى أورشليم والذين كانت لهم عادات وقوانين وطقوس متميزة، قائد أو سلطة. ويستطرد قائلاً بما أن فعّاليات يوحنا مارون ورسامته بطريركاً قد حصلت في لبنان، فلم يكن هناك سبيل أمام المؤرخين اللاتين والبيزنطيين لتدوين هذه الفعّاليات. ويختتم السمعاني قوله بأن الحادثة التي رواها ب. فرنسيسكو كاريزميو في كتابه عن سيرة حياة يوحنا مارون، والتي تؤكد بأن مارون رحل إلى روما ورسامة البابا سرجيوس اياه بطريركاً لأنطاكية تقوم على الاعتقاد بأن يوحنا مارون والموارنة بخلاف بقية السريان كانوا متـشبثين على الدوام بكرسي روما الرسولي.

 

    لا يترك السمعاني مجالاً للشك بأن يوحنا مارون أصبح بطريركاً لأنطاكية قبل الحادثة التي رواها الدويهي عن يوحنا مارون معتبراً اياها حادثة حقيقية. لكن السمعاني يختلف مع الدويهي حول مسألة من الذي رسم يوحنا مارون بطريركاً. وهنا نجد السمعاني الذي يسير على خطى الدويهي، الذي ابتدع صفةً جديدة ليوحنا مارون واعتبره نفس يوحنا السرميني، يبتدع أساقفة جدداً يدعوهم ” أساقفة المردة ” مدعياً بأنهم رسموا يوحنا مارون بطريركاً . ولكن ما هو مرجع السمعاني ؟ إن مرجعه هو سيرة حياة يوحنا مارون غير الموثوقة بها التي كتبها القلاعي وأرسلها إلى القس جرجس بشارة عام 1495. وقد ترجم هذه السيرة إلى اللاتينية فرانسيسكو كاريزميو ونشرت عام 1634 . أما المرجع الثاني للسمعاني فهو الدويهي، ومما يجب ملاحظته في هذا الشأن هو لو أن أساقفة المردة، كما يدّعي السمعاني بأنهم الموارنة، كانوا قد رسموا يوحنا مارون بطريركاً على أنطاكية لذكرت المصادر البيزنطية واللاتينية والسريانية حدثاً خطيراً كهذا ولأعتبر مؤرخوا الكنيسة يوحنا مارون في عداد بطاركة أنطاكية. ولكننا لا نجد أية إشارة الى يوحنا مارون هذا  كمطران أو بطريرك إلا في المصادر المارونية بدءاً بالقلاعي، في الربع الأخير من القرن الخامس عشر، والتي لا تـقوم على أساس تاريخي. والتناقض بين الدويهي والسمعاني واضح. فبينما يقول الدويهي بأن يوحنا مارون خلف ثيوفانس على السدة البطريركية عام 686، فإن السمعاني يؤكد بأن أساقفة المردة انتخبوه بطريركاً عام 685 وهو العام الذي توفي فيه ثيوفانس. وهذه نقطة جديرة بالذكر لأن ثيوفانس كما يقول أسد رستم، وهو كاتب معاصر بيزنطي من طائفة الروم، توفي عام 687 ( فكيف يُنتخب يوحنا مارون خلفاً له وهو بعد على قيد الحياة.

 

    يلقي السمعاني مزيداً من الضوء على الأسباب التي دعت الاساقفة المردة إلى انتخاب يوحنا مارون بطريركاً لأنطاكية أو كما يدعوهم السمعاني، الأساقفة الموارنة. يقول السمعاني في مكتبته عن القوانين والشرع المدني الشرقي أنه في الوقت الذي سيطر فيه المردة (الموارنة) على سائر البلاد من أنطاكية وحتى أورشليم، كان مطارنتهم مستائين من البطاركة “المونوثيليين الهراطقة” من أمثال مقدونيوس، وغريغوريوس ومكاريوس لأنهم شغلوا كرسي أنطاكية، وخاصة ان اختيارهم تمّ من قِـبَـل إمبراطور ” مونوثيلي هرطوقي “. ولهذا السبب اختار أساقفة المردة، بعد موت البطريرك الشرعي ثيوفانس عام 685، يوحنا مارون ليكون بطريركاً خلفاً له، بموافقة يوحنا مطران فيلادلفيا الموفد البابوي إلى بطريركيتي أنطاكية وأورشليم .

 

    تمت الإشارة سابقاً إلى مهمة يوحنا مطران فيلادلفيا هذا، الذي لم يمكث في الشرق مدة طويلة حتى عام 685 لكي تتاح له الفرصة بالمصادقة على رسامة يوحنا مارون بطريركاً. إن النقطة التي يطرحها السمعاني بمثل هذه الثـقة الظاهرية هي أن الأساقفة المردة أصبحوا مستائين من حكم البطاركة ” المونوثيليين الهراطقة ” الذين شغلوا كرسي أنطاكية فقرروا انتخاب شخص “أرثودكسي” (مؤمن بمشيئتين في المسيح) ليكون بطريركاً عليهم، وقد وقع اختيارهم على يوحنا مارون. إن ما يحاول السمعاني تأكيده هو أن هؤلاء الأساقفة المردة (الموارنة) قرروا أن يكون لهم بطريرك خاص بهم لأسباب دينية اخصها ان يكون هذا البطريرك متمسكاً بنفس المعتقد الذي تمسكوا به، أي مشيئتين لا مشيئة واحدة في المسيح، وهو الإيمان الذي تتمسك به كنيسة روما. ويستطرد السمعاني قائلاً بأن هؤلاء المطارنة ” الأرثودكس ” استاءوا جداً من ” الهرطقة ” المونوثيلية (مشيئة واحدة في المسيح) التي كانت قد تـفشت في أنطاكية بحيث أرادوا أن يكون لهم بطريركهم الخاص، بمصادقة كنيسة روما عن طريق الموفد البابوي إلى الشرق ـ يوحنا مطران فيلادلفيا. مجمل القول، هو أن المونوثيلية كانت السبب الوحيد الذي دفع هؤلاء المطارنة لانتخاب يوحنا مارون بطريركاً. ومع ذلك، فإن المجمع اللبناني الماروني المنعقد في لبنان عام 1736، بتوجيه السمعاني، نفسه الذي كان حاضراً فيه قرر بأن الموارنة أسسوا بطريركيتهم لأسباب علمانية بحتة لا لأسباب دينية . واذا رجعنا الى مناقشات هذا المجمع نجد ان اعضاءه، واخصهم السمعاني، يقولون بأن الصراع المستمر بين الملكيين والموارنة هو الذي دفع الموارنة في النهاية إلى فصل أنفسهم عن الملكيين وتـنصيب بطاركة تخصهم. نتيجة لذلك، دُعي أتباع الإمبراطور البيزنطي (ملكوي بالسريانية) ملكيين (أنصار الإمبراطور)، ودُعي أولئك الذين تمردوا على الإمبراطور وتخلصـوا من نيره بالمردة (المتمردين). ويمضي أعضاء المجمع بادعائهم بأن هؤلاء المـردة دُعوا بعدئذ بالموارنة.

 

    مجمل افتراض السمعاني، على ما يبدو، هو أن الملكيين والموارنة كانوا متمسكين بإيمان خلقيدونية، ولكن بعد أن تبنى عدة بطاركة ملكيين الهرطقة المونوثيلية، المضادة إلى حد كبير للإيمان الذي حدده مجمع خلقيدونية، انتهز الموارنة فرصة وفاة البطريرك ثيوفانس عام 685  فنصبوا بطريركهم الخاص بهم خلفاً له. إلا أنه ليس هناك من دليل على أن ثيوفانس كان قد اعتـنق العقيدة المونوثيلية. من المدهش حقاً أن الذين يدعون بالأساقفة المردة (الموارنة) قد انتظروا طويلاً لتـنصيب بطريرك غير مونوثيلي وهم يعلمون بأن المونوثيلية كانت قد تغلغلت منذ زمن بعيد في بطريركية أنطاكية الخلقيدونية، اي منذ عام 629ـ630 عندما فرض الإمبراطور هرقل هذه العقيدة على الكنيسة في سورية، ونجم عن ذلك تبني رهبان دير مارون لها. لم يكن هناك من سبب يدعو الأساقفة المردة (الموارنة) لاعتبار عقيدة المشيئة الواحدة في المسيح (المونوثيلية) هرطقة، بينما كانوا هم أنفسهم مونوثيليين. إضافة إلى ذلك، من الصعب التصديق أن مجمع مطارنة يلتئم لانتخاب بطريرك ولا نجد اثراً لمداولاته وقراراته في حوليات الكنيسة المارونية أو أية كنيسة أخرى. وبناء على ذلك يمكننا أن نستـنتج بأن هذه الفرضيات التي وضعها السمعاني وموارنة آخرون لا أساس لها من الصحة تاريخياً. واذا عدنا إلى رواية التلمحري، وهو أول من روى بأن رهبان دير مارون نصبوا أول بطريرك لهم من بين صفوفهم عام 745، لا نجد ما يدل على هذا الحدث. فلو كان الأمر صحيحاً لأشار اليه التلمحري، وهو نفسه بطريرك أنطاكية ورجل علاّمة متضلع في قوانين الكنيسة، ولذكر بأن يوحنا مارون خلف ثيوفانس على كرسي أنطاكية البطريركي الخلقيدوني. بالطبع كان التلمحري يعلم أن الملكيين أو بطريركية أنطاكية الخلقيدونية، هي البطريركية الوحيدة في القرن الثامن التي تـنافست على كرسي أنطاكية مع الجزء المناوئ للخلقيدونية أو “المونوفيزي” من تلك البطريركية والتي كان التلمحري وأسلافه بطاركةً لها. ولو كانت هناك بطريركية ” مارونية ” موجودة في ذلك الحين، فإن من المدهش إلى حدٍّ كبير أن تبقى المراجع التاريخية صامتة حول تأسيس هذه البطريركية، وفعالياتها، وشؤونها وبطاركتها. وفي هذا الصدد يبدي المطران أقليميس يوسف داود بحق ملاحظة مهمة فيقول بأن الدويهي كان عاجزاً، رغم الجهد الذي صرفه في كتابة سير حياة البطاركة الموارنة، عن تقديم أية معلومات ثابتة حول البطاركة “الموارنة” الأوائل الذين جاءوا قبل البطريرك يوسف الجرجسي في نهاية القرن الحادي عشر (أو على الأصح القرن الثاني عشر). اما بالنسبة للفترة السابقة للقرن الثاني عشر، يؤكد المطران داود بأن الدويهي كان قادراً فقط على تخمين أسماء اثنين وعشرين بطريركاً لكنه لا يقدم دليلاً حول حياتهم ونشاطهم . ومما يثير للاهتمام أن الدويهي نفسه خامرته شكوك كبيرة حول هوية أربعة عشر من هؤلاء البطاركة. اذ يقول ، بعد ذكر أسماء هؤلاء البطاركة، بأنه يشك في هويتهم لسببين: أولاً، أن الطقس الماروني مشابه جداً لطقس اليعاقبة بحيث يعترف الدويهي بأن هؤلاء البطاركة كانوا بطاركة ” يعاقبة “. ثانياً، كان أحد هؤلاء البطاركة يُدعى يشوع، وهو اسم يعتقد الدويهي بأنه لم يكن شائعاً بين الموارنة بل كان شائعاً بين السريان الأرثوذكس “اليعاقبة” . بيد أن الدويهي يعترف بأنه عندما حصل على قائمة بأسماء البطاركة من الكنائس السريانية الأرثوذكسية في حلب ودمشق لم يستطع العثور على أسماء هؤلاء البطاركة مدرجة فيها واستـنتج بأنهم لا بد ان كانوا ” من أمتنا المارونية ” . ليست لدينا في الحقيقة معلومات ذات قيمة تاريخية حول البطاركة الموارنة الأوائل حتى القرن الثالث عشر، عندما رُسم إرميا العمشيتي بطريركاً في دير السيدة في يانوح . لذا تبدو أسماء البطاركة التي يذكرها الدويهي قبل هذا القرن أسماءً من نسج الخيال.

 

    لا يقدم المطران الماروني يوسف الدبس معلومات جديدة حول هذه المسائل بل يكـرر بالأحرى الآراء السابقة حول الكيفية التي صار فيها يوحنا مارون بطريركاً، منتهياً إلى القول بأن كل هذه الآراء ممكنة. وينوّه بأنه رغم عدم ثـقة السمعاني بشأن الآراء السابقة وعدم قدرته على  تقديم دليل قاطع بأن يوحنا مارون أصبح بالفعل بطريركاً، فليس هناك  من سبب يدعو أنتفاء آراء السمعاني حول بطريركية يوحنا مارون لمجرد أن المؤرخين اللاتين والبيزنطيين لزموا الصمت حول المسألة. يحاجج الدبس، سياقاً على نهج الدويهي والسمعاني، بأنه مما لا يصدق او من غير الممكن ان يظل قوم اشاوس كالمردة (الموارنة) والذين احتلوا البلاد بأسرها من أنطاكية إلى أورشليم دون بطريركية. ويستـشهد الدبس بالبابا بندكتس الرابع عشر ليؤيد الادعاء بأن الموارنة كان لهم بالفعل بطريرك وبأن الحبر الروماني قام بتـثبيته. ويبيّن الدبس أن البابا بندكتس الرابع عشر قال للكرادلة مخاطباً إياهم في 13 تموز 1744: ” انه عندما انتـشرت الهرطقة المونوثيلية في نهاية القرن السابع وأفسدت رعايا بطريركية أنطاكية قرر الموارنة، حفاظاً على سلامة طائفتهم، اختيار بطريرك خاص بهم يقوم الحبر الروماني بتـثبيته “. يُـشير الدبس إلى أن الكتّاب الذين سجلوا هذه الأحداث ” يذكرون بالإجماع أن البطريرك الذي اختاره الموارنة كان يوحنا  مارون “.

 

    لم يكن البابا بندكتس الرابع عشر مؤرخاً دقيقاً يتوقع منه إثبات صحة مصادره وتوثيقها. ولكن بندكتس، كرئيس لكنيسة روما، كان يود ان يرى الموارنة متحدين تماماً مع كرسي روما الرسولي، وان بضع كلمات من المجاملة ستؤدي بالتأكيد الى تحسين موقف الموارنة، الذين كانوا قد حاولوا منذ القرن السادس عشر، عندما جاء الطلاب الموارنة لأول مرة إلى روما، البرهان على صحة ايمان كنيستهم وطائفتهم. من المدهش حقاً أن الدبس يستـشهد بالبابا بندكتس كمرجع بينما لم يقم السمعاني، الذي كان أكثر تبحراً في تاريخ الباباوات وكنيسة روما، بالاستـشهاد بهؤلاء الباباوات للبرهان على أصل الكنيسة المارونية وطائفتها. فضلاً عن ذلك، لم يذكر البابا بندكتس الرابع عشر في خطابه اسم الشخص الذي انتخبه الموارنة أول بطريرك لهم. بل ان ذريعة ” الهرطقة المونوثيلية ” التي يقدمها البابا كسبب لاختيار هذا البطريرك تتعارض في الحقيقة مع بيان المجمع اللبناني الماروني المذكور أعلاه بأن الموارنة اختاروا أول بطريرك لهم لأسباب علمانية لا لأسباب دينية. من الواضح أن البابا بندكتس عندما قام بهذا التصريح كان واقعاً تحت تأثير الطلاب الموارنة في روما الذين كانت غايتهم، كما يقول المطران أقليميس داود، هو “تحريف الحقيقة التاريخية للبرهان على ادعاءاتهم الخاصة بهم”.

 

    يدّعي الموارنة ان يوحنا مارون خلف ثيوفانس بعد موته واصبح أول بطريرك للموارنة. وحجتهم في ذلك هي أن البطاركة الملكيين الخلقيدونيين كانوا يقيمون في القسطنطينية وأن وفاة ثيوفانس خلقت شاغراً في كرسي أنطاكية الخلقيدوني. هذا ما يتطلب بعض التوضيح لقوانين الكنيسة. من المعلوم ان قوانين الكنيسة التي ثبتتها مجامع الكنيسة المختلفة وخاصة المجامع المسكونية الثلاثة الأولى تنص على انه لا يحق لأي مطران رسامة كاهن من أبرشيته دون مصادقة رئيسه. كان المقصود من هذا العرف الحؤول دون الفوضى والشغب بخصوص السلطة الروحية للكنائس المختلفة وكهنتها. والنقطة الأساسية هي أن الادعاء بأن يوحنا مطران فيلادلفيا كانت له السلطة لرسامة الكهنة من كل الرتب لبطريركية أنطاكية الخلقيدونية هو خرق صريح للقوانين والتقاليد الكنسية، وعلى الاخص ان كنيسة روما لم تكن لها سلطة على كنيسة أنطاكية، وان القانون السادس لمجمع نيقية 325 يثبت العُرف القديم في تحديد السلطة الروحية لكبار الأساقفة واحترامها في الحكم الكنسي. نتيجة لذلك فإن صحة رسامة يوحنا مارون كبطريرك سواء قام بها مجمع من المطارنة أو البابا لا يمكن الحكم عليها إلا وفق القانون الرابع لمجمع نيقية ذاته والذي تطلب وجوب تثبيت ما يقوم به المطارنة في كل مقاطعة من قِبَل مطران العاصمة. مهما يكن من أمر فإنه ليس هناك من دليل يؤيد رأي المطران يوسف الدبس بأن “خليفة ثيوفانس الشرعي و “الكاثوليكي” كان يوحنا مارون، الذي نصبه المجمع السادس بطريركاً لأنطاكية ” . إن مجرد شغور كرسي أنطاكية الخلقيدوني، كما يزعم الدبس، لا يمنح السلطة لجماعة دينية أخرى، في هذه الحالة، الموارنة، لتنصيب بطريرك لذلك الكرسي. والحقيقة التاريخية تفيد بأن كرسي أنطاكية البطريركي الملكي وان كان قد شغر عدة مرات الا ان الطائفة الملكية وهيئة الكهنوت قامت بتنصيب بطاركة لها كما حافظت على سلسلة بطاركتها حتى هذا اليوم.

 

    إن ادعاء الموارنة يدعو الى السؤال عمن هم المتـنافسون الشرعيون على كرسي أنطاكية. نحن نعلم من تاريخ الكنيسة أن كرسي أنطاكية كان يرأسه بطريرك واحد حتى أوائل القرن السادس. وبعد عام 451 انقسمت كنيسة أنطاكية إلى جماعتين إحداهما خلقيدونية والأخرى مناوئة لمجمع خلقيدونية. إلا أن الوضع تغير عندما أضحى سويريوس الأنطاكي بطريركاً عام 512. فإن هذا الرجل المهيب فقدَ حظوته عندما تقلد يوسطين الأول سلطته الإمبراطورية. كان يوسطين، اللاتيني الأصل، مناصراً غيوراً لمجمع خلقيدونية، وبالطبع فقد ابغض سويريوس الأنطاكي بشدة، وهو معارض غيور لنفس المجمع. ومن ثمّ تحولت كراهية الإمبراطور لسويريوس إلى عداء وانتقام صريحين. وقد سعى يوسطين وقائد جيشه فيتاليان معاً لقتل سويريوس وتهديده بقطع لسانه مما اضطره على الهرب إلى مصر عام 518، فشغل كرسي أنطاكية بعده بطريرك خلقيدوني عيّنه الإمبراطور. إلا أن سويريوس كان في أعين غالبية السريان بطريركهم الشرعي. ولم يبدل موت يوسطين الأول عام 527، وارتقاء ابن أخته يوسطنيان الأول العرش وضع بطريركية أنطاكية. فقد كان يوسطنيان الأول، وهو الخلقيدوني، كسلفه متذبذباً في محاولته مصالحة الخلقيدونيين مع المعارضين لهم. صحيح أنه دعا سويريوس الأنطاكي وآباء آخرين مناوئين للخلقيدونيين إلى القسطنطينية لمناقشة وحدة الكنائس، إلا أنه كان عازماً بكل وسيلة على التمسك بقرارات مجمع خلقيدونية واعتباره الايمان الخلقيدوني هو الايمان ” الوحيد المقبول “، إلا أن سويريوس رفض ايمان خلقيدونية بشدة. ومنذ عام 518، عندما أُكره على التخلي عن منصبه، وحتى وفاته عام 538، لم يتوقف عن إدارة كنيسة أنطاكية من منفاه الطوعي في مصر. وفي خلال هذه الفترة جلس على سدة أنطاكية ثلاثة بطاركة خلقيدونيين وهم ـ بولس “اليهودي”، ويوفراسيوس وأفرام الآمدي، إلا أن سويريوس ظل بالنسبة للحزب المناوئ لمجمع خلقيدونية بطريرك أنطاكية الشرعي. وبعد وفاته انتخب أعضاء حزبه، الذي كان يشكل غالبية السريان، سرجيوس ليكون خلفاً له. وفي ذلك الحين تـنافس على بطريركية أنطاكية الخلقيدونيون والمعارضون لهم. ولم يكن للموارنة اثر في هذا المضمار، بل لم يظهر الموارنة على مسرح الأحداث حتى عام  745، عندما قام رهبان دير مارون بتـنصيب بطريرك من ديرهم لأول مرة. فضلاً عن ذلك، ليس هناك من دليل بأن البطاركة الموارنة الأوائل سموا أنفسهم ” بطاركة أنطاكية “. في الحقيقة، لم يحدث ذلك إلا في أواسط القرن الثالث عشر اي سنة 1256 عندما سمح البابا إسكندر الرابع لشمعون الماروني بتسمية نفسه ” بطريرك أنطاكية ” . كما ان الباباوات الذين تعاقبوا بعده لم يستعملوا هذه الصفة للبطاركة الموارنة إلا أنهم أشاروا إليهم فقط باسم البطاركة الموارنة. ولم يقم الباباوات وخاصة البابا بندكتس الرابع عشر أخيراً بتـثبيت عادة تسمية البطاركة الموارنة بـ ” بطاركة أنطاكية ” إلاّ في القرن الثامن عشر .

 

    ناقشنا سابقاً قصة يوحنا مارون كما رواها القلاعي وتوسع فيها البطريرك اسطفان الدويهي إلا أن الدويهي لا يسهب في شرح سيرة يوحنا مارون بعد عودته من روما إلى أنطاكية؛ بل يروي فقط أن البابا رسم مارون في روما بطريركاً وأنه أنعم عليه ببردة الأسقفية محذراً إياه من الملكيين واليعاقبة والأقباط. كما أمر البابا حسب هذه الرواية يوحنا مارون بأن يهتم بمشورته وبالتالي سيكون جبل لبنان تحت ولايته. وينتهي القلاعي إلى القول بأن ” المنتخب ” يوحنا مارون توفي في كفرحي . أما بقية القصة فقد تركت لمخيلة الدويهي الخصبة الذي زاد في تنميقها. وسوف نرى عما قريب أن مارون قد تلبسه شيطان وأنه رُجم بالحجارة في كفرحي.

 

    اذا عدنا الى الدويهي نجده يقول بأن يوحنا مارون عاد إلى أنطاكية بعد أن أقسم الولاء لكنيسة روما. وبدأ بتعليم ” الإيمان الصحيح ” وبهداية أولئك الذين ضلوا عن هذا الإيمان. إن ما يعنيه الدويهي “بالإيمان الصحيح” هو الإيمان بطبيعتين ومشيئتين في المسيح كما عرفه مجمع خلقيدونية وكما تمسكت به كنيسة روما. بعبارة أخرى، إن ما ينوي الدويهي قوله هو أن يوحنا مارون لم يكن “هرطوقياً” مونوثيلياً يلتزم عقيدة المشيئة الواحدة في المسيح، وهي العقيدة التي أدانتها كنيسة روما. ويستطرد الدويهي قائلاً انه عندما وصلت الأنباء إلى القسطنطينية بأن يوحنا مارون كان يبشر ” بالإيمان الصحيح “، حرَّض الأساقفة المونوثيليون في تلك المدينة الإمبراطور يوسطنيان الثاني راينوتميتوس (الاشرم)، لإجبار البابا سرجيوس ويوحنا مارون على اعتناق عقيدة المونوثيليين وقوانينهم. بعبـارة أخرى حاولوا إجبارهما على قبول “الهرطقة” المونوثيلية. وعندما رفض البابا ويوحنا مارون الإذعان “للهرطقة” المونوثيلية والقوانين المونوثيلية، أو التخلي عن عقيدة المشيئتين في المسيح، هددهما الإمبراطور بإرسالهما إلى المنفى. إلا أن البابا ويوحنا مارون بقيا صامدين كالصواَّن في مقاومة الإمبراطور مما حدا بالإمبراطور الى انفاذ قائدي جيشه زكريا ولاون لإحضار البابا ويوحنا مارون مقيدين بالاصفاد . ولما علم يوحنا مارون بأن حياته اصبحت في خطر هرب إلى دير مارون على نهر العاصي قرب أفاميا وهناك كتب مقالة حول الإيمان أرسلها إلى شعب لبنان. وفي الوقت نفسه أرسل الإمبراطور قائديه إلى لبنان للقبض على يوحنا مارون والمجيء به إلى العاصمة مقيداً بالسلاسل. تردد أحد هذين القائدين وهو لاون بالقيام بذلك معتذراً وموضحاً بأن اللبنانيين كانوا يحترمون يوحنا مارون احتراماً جمّاً وأنهم لن يسمحوا له أبداً بأسره. وعندئذ ثار غضب الإمبراطور فألقى بلاون في السجن ثم أرسل قائدين آخرين، هما موريس وموريسيان، للقبض على يوحنا مارون. ولكي يهدئ روعة اللبنانيين، نشر الإمبراطور شائعة بأن غرضه من إرسال الجيش إلى سورية لم يكن القبض على يوحنا مارون بل لقتال العرب. إلا أن خدعة الإمبراطور لم تـنطل على يوحنا مارون فطلب من ابن أخيه ابراهيم تزويده برجال شجعان للدفاع عنه. وفي وقت قصير تمكن ابراهيم من تعبئة اثني عشر ألفاً من الرجال المسلحين ونقل يوحنا مارون من أنطاكية إلى سمار جبيل في  لبنان .

 

    وفي صيف عام 694 وصل موريس وموريسيان إلى سورية وهاجما دير مارون فقتلا خمسمائة من رهبانه وهدما مبنى الدير. ثم هاجما أماكن أخرى كقنسرين ومدن الثغور عاملين بها هدماً وسلبا.ً كما اعملا السيف في اتباع البطريرك يوحنا مارون. وعندما زحف الجيش البيزنطي إلى لبنان ارسلت أنباءُ تحركه موجة ذعر بين الناس. وفي هذه الآونة تمكن القائد لاون من الهرب من السجن، وقبض على الإمبراطور يوسطنيان راينوتميتوس، فجدع أنفه وأعلن نفسه إمبراطوراً. وكان أول عمل قام به الإمبراطور الجديد هو السماح ليوحنا مارون وحاكم لبنان سمعان بالقيام بهجوم مضاد للجيش البيزنطي في موضع يُدعى اميون، حيث قتلوا العديد من المحاربين وتعقبوا الباقين . اما فيما يتعلق بمعركة اميون ومواجهة اللبنانيين للجيش البيزنطي يستـشهد الدويهي بالكتاب الذي يسميه عقيدة اليعاقبة. كما يلي:

عندما وصل الملكيون، أي البيزنطيون، إلى قرية اميون، فصل مُوَيرين (وهو تصغير لاسم مارون، واستعمل هنا بمعنى تحقيري) وابن أخيه بريهم (وهو تصغير لابراهيم، واستعمل هنا بمعنى تحقيري) نفسيهما عن الملكيين وذهبا إلى سمار جبيل لحماية أهلها من الجزية التي فرضها الملكيون على أولئك الذين رفضوا قبول إيمانهم. ثم تبع مارون كل السريان وأهالي جبال كسروان ولبنان. حصل هذا في زمن سويريوس بطريرك أنطاكية وسائر المشرق.

 

    يعلق الدويهي على هذه الحادثة بأن الانفصال بين الملكيين والموارنة أصبح، بسبب هذا الهجوم على يوحنا مارون والحرب الدائرة بين اللبنانيين والبيزنطيين والتي وصلت إلى الذروة في معركة اميون، انفصالاً نهائياً. موجز القول، كما يقول الدويهي، أن أولئك الذين حاربوا البيزنطيين واعترفوا بمشيئة واحدة في المسيح سمّوا ملكيين، أي انصاراً للإمبراطور يوسطنيان الثاني راينوتميتوس، الذي تمسك بهذه العقيدة ذاتها في المشيئة الواحدة (المونوثيلية). أما أولئك الذين بقوا صامدين في الإيمان الذي تمسك به يوحنا مارون، أي المشيئتين في المسيح، وكانوا مطيعين له فقد دعوا بالموارنة (33). يبدو أن الدويهي يغفل حقيقة أن معركة اميون حصلت وفقاً لعقيدة اليعاقبة كما يزعم، في عهد الإمبراطور يوسطنيان الأول (483ـ565)، لا في عهد يوسطنيان الثاني (669ـ711). فضلاً عن ذلك يقول مؤلف عقيدة اليعاقبة أن هذا الحدث حصل في عهد سويريوس بطريرك أنطاكية (ت 538)، قبل أن يهرب سويريوس إلى مصر في عام 518، ولا بد أن هذه المعركة قد حصلت قبل هذا التاريخ. إن القصة برمتها، في الحقيقة، عديمة الاساس التاريخي.

 

    ادرج الدويهي القصة السابقة في الفصل العاشر من كتابه تاريخ الطائفة المارونية  كما اضاف في الفصل الحادي عشر المزيد من الأحداث إلى روايته. يقول الدويهي بأن البطريرك يوحنا مارون قام، بعد أن هدَّم القائدان موريس وموريسيان دير مارون، ببناء دير آخر إلى الشرق من قرية كفرحي في مقاطعة البترون ونقل جمجمة ناسك القرن الخامس مارون إلى ذلك الموقع . وقد حدد يوحنا مارون أيضاً الخامس من كانون الثاني عيداً تذكارياً للناسك السابق لكي يكون اسم ” هذا القديس المتميز ” معروفاً في جميع أنحاء سورية. يتابع الدويهي قائلاً: ” وجد يوحنا مارون أنه من المناسب أن يسمي سكان تلك الأقاليم أنفسهم بالموارنة تكريماً لهذا الرجل (ناسك القرن الخامس مارون) ” . ويستمر قائلاً أن الجيوش العربية قامت في عام 694، وهو العام الذي تمت فيه الحملة البيزنطية ضد لبنان، بالهجوم على شمال أفريقيا. مما حدا بالقائد لاون الى ارسال جيشه عن طريق البحر لصد العرب إلا أن جيشه هُزم وعاد مخزياً إلى القسطنطينية. وخوفاً من احتمال أن يقوم الإمبراطور بتـقريع لاون وجيشه على هزيمتهم، هاجم الجنود البيزنطيون الإمبراطور وجدعوا أنفه ونصبوا طيباريوس إمبراطوراً بدلاً عنه. كتب طيباريوس إلى سمعان حاكم جبل لبنان طالباً منه إرسال “الجيش الماروني” لقتال العرب ففعل سمعان ذلك . والتقى ” الجيش الماروني ” آنذاك بالجيوش العربية في معركة خسر فيها العرب مئتي ألف رجل. ولما وصلت أنباء هذا النصر إلى طيباريوس سر جداً ورفع مقام سمعان وأرسل وردة ملكية رمز محبة إلى البطريرك يوحنا مارون. كما كتب رسالة إلى يوحنا مارون يمتدح فيها قداسته ويطلب منه ” إرسال ثلاثة رجال اشتـهروا بالاستقامة والولاء لكي يصبحوا حملة مظلة العرش الإمبراطوري “. ولما تلقي يوحنا مارون رسالة الإمبراطور اختار ثلاثة رجال مشهود لهم بالثقة وأرسلهم إلى القسطنطينية. وبمرور الزمن، تزوج هؤلاء الرجال الثلاثة نساء من العائلة الإمبراطورية وأصبح العديد من نسلهم ملوكاً وقادة للشعب الماروني . وأصبح هؤلاء الملوك أقوياء وقاموا بحماية سورية وساحل البحر من غزوات العدو كما أجتاحوا الأرض المقدسة واستولوا على أورشليم وشجعوا المسيحيين على زيارتها، ولهذا السبب وشى بعض المغرضين البيزنطيين بيوحنا مارون عند مطران أورشليم فدمروا بذلك العلاقات الودية بين الرجلين .

 

    هذه الحادثة التي يرويها الدويهي هي برمتها من نسج الخيال إذ لا يوجد لها ذكر في أي مرجع تاريخي متوفر. بل نجدها لأول مرة في كتابات الدويهي، الذي لا يورد مصدراً صحيحاً أو موثوقاً به. لقد ناقش كتّاب قدامى ومعاصرون بشكل وافٍ الحروب التي جرت بين البيزنطيين والعرب بعد أن اصبحت سورية مقاطعة عربية في القرن السابع. ولكن لم يُعرف ان واحداً منهم (حتى المؤرخ البيزنطي ثيوفانس) ذكر بأنه كان هناك بطريرك لأنطاكية يُدعى يوحنا مارون أو أن الإمبراطور البيزنطي أرسل جيشاً بقيادة موريس وموريسيان للقبض عليه وإرساله إلى القسطنطينية مقيداً بالسلاسل. لا يذكر ثيوفانس أن الجيش البيزنطي هدم دير مارون وقتل خمسمائة من رهبانه لأن الموارنة تمسكوا بعقيدة الطبيعتين والمشيئتين في المسيح. كما أنه لا يقول بأنهم كانوا مونوثيليين “هراطقة ” يؤمنون بمشيئة واحدة في المسيح. علاوة على ذلك، لا نجد في التاريخ ذكراً لمعركة جرت في اميون بين الجيشين البيزنطي و”الماروني”. ومما يصعب تصديقه إلى حد كبير أن ثلاثة موارنة تمَّ اختيارهم لحمل مظلة الإمبراطور وأنهم تزوجوا نساءً من البلاط الإمبراطوري، وأنجبوا في نهاية الأمر العديد من الملوك والحكام للموارنة كما يدّعي الدويهي. ولدى قراءة رواية الدويهي لهذه الحادثة بإمعان يبدو بجلاء أنه قد خلط بين المردة والموارنة دون تمييز. ومع أن الحادثة التي يرويها لا أساس لها من الصحة التاريخية، إلا أن علينا ألا ندعها تمر بدون تمعن، لسببٍ بسيط وهو أن المؤرخ المعاصر فيليب حتي قبلها دون ان يشك بصحتها .

 

    إن ادعاء الدويهي بأن الإمبراطور يوسطنيان الثاني، الاشرم، استـشاط غضباً من الموارنة فأرسل جيشاً هدم دير مارون هو ادعاء لا يستند الى أساس تاريخي. فالمعروف ان دير مارون مازال موجوداً في القرن التاسع. وهنا نعود مرة أخرى إلى شهادة التلمحري، الذي توفي عام 845، فهو يقول أن الموارنة كانوا حتى زمنه ينصبون بطريركاً من ديرهم . ويروي المؤرخ العربي ابو الحسن المسعودي، الذي توفي عام 956، بأن دير مارون صار أطلالاً بسبب الغزوات المتعاقبة التي قام بها العرب البدو وبسبب طغيان السلطان . كما نعلم أيضاً من التلمحري أن الجيش البيزنطي توغل عام 695 في سورية حتى وصل إلى أنطاكية فصدّ العـرب وقتلوا معظم جنوده أما الباقون فقد ركنوا إلى الفرار. هذا ما يدل على أن الجيش البيزنطي وصل أنطاكية ليقاتل العرب، لا ليقبض على يوحنا مارون أو يهدم ديره في عام 694 كما زعم الدويهي . علاوة على ذلك، لا يوجود دليل على أن الجيش البيزنطي بقيادة المزعومين موريس وموريسيان قد دخل لبنان والتحم بالموارنة في معركة اميون. أما الادعاء بأن الموارنة والمردة كانوا نفس الشعب فهو ادعاء يتعذر الدفاع عنه. واذا رجعنا الى ثيوفانس نجده يقول بأن الامبراطور يوسطنيان الثاني راينوتميتوس اغتنم فرصة المشاكل التي كان يعانيها الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان فنقض معاهدة الصلح التي عقدها والده قسطنطين الرابع بوغوناتس (ذو اللحية) قبل وفاته عام 685 مع الخليفة عبدالملك. وفي عام 689 نجح عبدالملك في عقد معاهدة صلح مدتها عشر سنوات مع يوسطنيان الثاني، الاشرم، اوجبت أن يدفع المزيد من الجزية والأكثر من ذلك اشترط عبدالملك في هذه المعاهدة أن يخرج الإمبراطور البيزنطي المردة الذين كانوا يضايقون العرب من لبنان. ووافق الإمبراطور على هذا الشرط وأمر المردة بالخروج من لبنان واسكنهم في أرمينيا وتراقية وقبرص. وبهذه العملية ارتكب الإمبراطور هفوة كبيرة لأنه كما يقول المؤرخ ثيوفانس هدم ” بيديه هذا السور النحاسي المنيع الذي فصل الحدود البيزنطية مع المسلمين ”  والمراد قوله هو إن كان المردة الذين تمَّ إجلاؤهم من لبنان هم الموارنة انفسهم فمن هم الذين حاربهم الجيش البيزنطي في معركة اميون ؟ وكيف يمكننا أن نصدق أن الإمبراطور البيزنطي عبّأ جيشاً بأكمله تحت قيادة قائدين للقبض على رجل واحد، يوحنا مارون، والمجيء به إلى القسطنطينية مقيداً بالسلاسل ؟ لا بد من الاشارة هنا بأن لبنان كان في ذلك الحين تحت حكم العرب، لا الحكم البيزنطي، وإن كان البيزنطيون قد خاضوا حرباً ما فقد كانت حرباً مع العرب لا مع اللبنانيين. من الواضح أن الدويهي قد خلط بين البطريرك يوحنا مارون، ويوحنا قائد المردة الذي يحمل نفس الاسم، كما خلط بين سمعان ابن أخ الأخير وسمعان ابن أخ يوحنا مارون، فجعل من سمعان هذا حاكماً للبنان .

 

    من الممكن أن نستـنتج من الرواية السابقة أن يوحنا مارون أصبح بطريركاً بمباركة كنيسة روما، وبأن الكنيسة المارونية لم تكن كنيسة مونوثيلية هرطوقية، بل كنيسة كاثوليكية وأرثوذكسية على غرار كنيسة روما، وبأن الإمبراطور البيزنطي يوسطنيان الثاني كان عازماً على معاقبة يوحنا مارون وتلامذته لأنهم تمسكوا بإيمان كنيسة روما. والحقيقة هي ان هذه الامور لم تكن كذلك. ففي مجمع ترولاّن الثاني، والذي يعرف اعتباطاً بالمجمع الخامس-السادس المنعقد عام 692، صادق الإمبراطور يوسطنيان الثاني راينوتميتوس فيه رسمياً على إدانة المونوثيلية . ولم يكن غرض المجمع الرئيسي هو ابتداع عقيدة جديدة أو شرحها؛ فقد كان المجمع السادس قد ثبَّت عقيدة المشيئتين في المسيح. أما مجمع ترولاّن الثاني فقد صدّق فقط على بعض المبادئ أملاً في استرجاع بعض النظام إلى الحياة المسيحية والتي اعتقد ذلك المجمع أنها أصبحت خارجة عن القانون. بعبارة أخرى، كان الإمبراطور يوسطنيان الثاني، إذا صدقنا الدويهي، على نفس إيمان يوحنا مارون ولذلك لم تكن هناك حاجة للجدل معه حول هذه النقطة. بالإضافة إلى ذلك، إذا كان الاختلاف في الإيمان هو العامل الوحيد الذي اثار الإمبراطور لمطاردة يوحنا مارون ومعاقبته ومحاربة اعوانه فسيبدو بأن الموارنة قد تمسكوا بإيمان مغاير لإيمان الإمبراطور (في هذه الحالة المونوثيلية) وبأن الإمبراطور لاشك قد اعتبرهم هراطقة يتحتم إرجاعهم إلى ” الإيمان الصحيح ” عن طريق الحرب إذا دعت الضرورة .

 

    وبالإشارة مرة أخرى إلى الحدث الذي يرويه الدويهي عن الحرب المزعومة بين الجيش البيزنطي والموارنة، نجده يستـشهد بعقيدة اليعاقبة. فهو يستقي في الحقيقة اسم المعركة التي يُدعى بأنها معركة اميون من هذا الكتاب. وبالرجوع الى هذا الكتاب نجد انه عندما وصل البيزنطيون (الملكيون) إلى قرية اميون غادرها يوحنا مارون وابن أخيه متوجهين إلى سمار جبيل لحماية أهاليها من دفع الجزية التي فرضها الملكيون على من رفض الإذعان لإيمانهم . وهذا ما اعتبره الدويهي بداية الانفصال بين الملكيين والموارنة. إن ما يعنيه الدويهي في هذا السياق هو أن الذين قبلوا إيمان البيزنطيين (مشيئة واحدة في المسيح) كانوا يدعون بالملكيين والذين اعترفوا بإيمان يوحنا مارون (مشيئتين في المسيح كما يزعم) كانوا يدعون بالموارنة . بعبارة أخرى، يرمي الدويهي إلى القول أن الموارنة أصبحوا طائفة منفصلة بعد المعركة المسماة بمعركة اميون عام 694 ولكن الحقيقة هي كما أوضحنا سابقاً بأن الموارنة ظهروا لأول مرة ككيان منفصل في منتصف القرن الثامن. ومع ذلك، فان ادعاء الدويهي يثير سؤالين وهما: هلى ظهر مصطلحح ملكي في وقت متأخر اي عام 694، وما مدى الصحة التاريخية لعقيدة اليعاقبة؟

 

    ستتم مناقشة أصل كلمة ملكي وصلتها بالموارنة فيما بعد. أما بالنسبة لصحة كتاب عقيدة اليعاقبة كمرجع تاريخي، فقد تمت مناقشة ذلك في الفصل 15. ولكن تقتضي هنا ايراد ملاحظات اخرى حول الكتاب. فالكتاب بجملته بحثٌ مستـفيض من القرن الخامس عشر كتبه رجل عالم لعله الكاتب السرياني الأرثوذكسي موسى بن عطشة الذي عاش في لبنان. وكانت غاية المؤلف ان يبرهن للموارنة بأن إيمان الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، أي الإيمان بطبيعة متجسدة واحدة للوغوس الإلهي، هو الإيمان الصحيح. ولأجل الدفاع عن هذا الإيمان، حاول المؤلف أن يظهر أصل الطوائف المسيحية المختلفة في زمانه، من ضمنهم الموارنة، الذين اعتبرهم مونوثيليون اي من اصحاب المشيئة الواحدة في المسيح. ويبيّن المؤلف في نقاشه بأن يوحنا مارون وابن أخيه غادرا سمار جبيل لحماية أهاليها من الجزية التي فرضها الملكيون (البيزنطيون) على الذين رفضوا عقيدتهم في المشيئة الواحدة في المسيح. وبما أن المؤلف لا يكشف عن مرجعه، وبما أننا لا نعثر على إشارة إلى هذه الحادثة المعينة في أي مصدر آخر، فاننا نميل إلى الاعتقاد بأن قول المؤلف هذا هو محض اختلاق. ومما يجعل قول المؤلف عرضة للمزيد من الشك هو أن لبنان في عام 694، عندما جرى ما يُسمى بمعركة اميون لم يكن تحت الحكم البيزنطي بل تحت الحكم الأموي. وملخص القول هو انه لا يمكن اعتبار كتاب عقيدة اليعاقبة مصدراً تاريخياً موثوقاً به وخاصة المعلومات التي اوردها عن يوحنا مارون .

 

    هناك مصدر آخر يضم حدثاً مماثلاً عن هوية يوحنا مارون وهو البحث المعنون: حول شهادات آبائنا الأوائل قبل انقسام الإيمان والموجود في المخطوطة العربية 74 في مكتبة الفاتيكان.

 

    مؤلف هذا البحث هو بغير شك سرياني أرثوذكسي تقي جداً ومناهض لمجمع خلقيدونية وللإمبراطور يوسطنيان الأول الذي تمسك بإيمان هذا المجمع. يسهب الكتاب في الحديث عن حياة يعقوب البرادعي ونشاطه في سورية ومصر ورسامته الالوف من الكهنة ومن جملتهم بطريركاً لتقوية الكنائس السـريانية المناوئة لمجمع خلقيدونية في سورية ومصر، والتي كان اضطهاد الإمبراطور الخلقيدوني يوسطين الأول قد أضعفها للغاية. يقول المؤلف أن يوسطنيان الأول ” الشرير ” عندما سمع بظهور طائفة اليعاقبة زحف على رأس جيش إلى البلاد التي كان قد انتـشر فيها اسم يعقوب (ويقصد به يعقوب البرادعي) آمراً رجاله بقتل تلامذة يعقوب وإبادتهم دون رحمة. وعندما وصل الإمبراطور إلى مدينة آمد لنهبها، وجد فيها ناسكاً متوحداً اسمه مارون. وفي الحين تلبس الشيطان مارون هذا وحرّضه على مقابلة الإمبراطور وإخباره كذباً بأنه كان من قنسرين وبأن سكان الساحل، وكذلك حاكم مدينة أنطاكية قد أرسلوه لاسترحام الإمبراطور لكي يمنحهم الأمان. وفي مقابل ذلك فانه سيمنع اسم يعقوب البرادعي من اجتياز المنطقة الساحلية والوصول إلى أنطاكية. وافق الإمبراطور على ذلك وأعطى مارون راية كتب عليها ما يلي: ” كل ما يأمركم هذا الأبُ بفعلهِ فافعلوه ” . وحمل مارون الراية إلى أنطاكية وأخبر حاكم تلك المدينة بأنه كان يحمل أخباراً سارة وهي انه قد فاتحَ الإمبراطور يوسطنيان الأول وأخبره بأن الحاكم كان مخلصاً له ولإيمان مجمع خلقيدونية. كما أخبر الحاكم ايضاً كيف أعطاه الإمبراطور هذه الراية علامة للأمان له ولشعب أنطاكية. إلا أن مارون كان عاجزاً عن تغيير صيغة الإيمان، وهي طبيعة واحدة متجسدة للوغوس الإلهي التي كان يعقوب البرادعي يبشر بها، فلجأ إلى الحيلة قائلاً ” سوف أرسم إشارة الصليب بأصبعين واعترف بطبيعتين ومشيئة واحدة في المسيح بعد اتحادهما ” . ولما سمع الحاكم هذا القول وضع تاجاً على رأس مارون وأخذه إلى المدن الساحلية. وعندئذ كتب مارون إلى يوسطنيان بأن شعب المدن الساحلية قد قبل صيغة إيمان خلقيدونية. ولكن عندما اكتشف يوسطنيان الأول بعدئذ بأن مارون قد كذب عليه، طرده كما طرد تلامذته وأمر برجمه بالحجارة قرب قرية في منطقة سمار جبيل في لبنان، حيث ترقد رفاته حتى هذا اليوم. ولهذا السبب تُدعى هذه القرية كفرحي، اي موضع الحي. ومنذ ذلك الحين، رفض الملكيون و”اليعاقبة” معاً قبول الموارنة. كما ان الموارنة ظلوا حتى القرن السادس عشر يرسمون إشارة الصليب كالملكيين بأصبعين، ويرسمون نفس إشارة الصليب ” كاليعاقبة ” بأصبع واحدة عند تلاوة الصلوات الابتهالية اليومية “البوعوثو” بالسريانية. ولذلك فهم يعتقدون أيضاً بقوة واحدة، وقدرة واحدة، وإله واحد حق مع أنهم يقرون بطبيعتين ومشيئة واحدة في المسيح. اما الأب ” اليعقوبي” الوحيد الذي أدان هؤلاء الموارنة فهو كيواركي (جورج) مفريان “جاثليق” تكريت .

 

    نستدل من هذه الحادثة بأنه من غير الممكن لمارون هذا أن يكون ناسك القرن الخامس الذي يحمل نفس الاسم بل كان يوحنا مارون الذي يجعله المؤلف خطأً معاصراً للإمبراطور يوسطنيان الأول. كان يوحنا مارون هذا وتلامذته مونوثيليين يعترفون بمشيئة واحدة في المسيح. ولا بد ان اعتناقهم المونوثيلية حصل في القرن السابع عندما كان يوحنا مارون، على ما يزعم، ما يزال راهباً، لا في القرن السادس. ومما يزيد القضية تعقيداً هو ان المؤلف لا يورد المرجع الذي اعتمد عليه فيما يتعلق باللقاء بين مارون والإمبراطور. مما يجعلنا نخلص الى النتيجة بأن الحادثة كلها من نسج الخيال، إلا أن مؤلف العقيدة على صواب في القول بأن الموارنة، لكي يميزوا أنفسهم عن ” اليعاقبة “، بدأوا برسم إشارة الصليب بأصبعين كالملكيين، بينما كان ” اليعاقبة ” يرسمون إشارة الصليب بأصبع واحدة فقط. كما أنه على صواب في القول بأن مارون وتلامذته، على خلاف الملكيين، الذين كانوا يعترفون بطبيعتين ومشيئتين في المسيح، كانوا في الوقت نفسه يقرون بطبيعتين ومشيئة واحدة في المسيح الأمر الذي يتفق مع ما جاء في زجلية القلاعي بأن الموارنة كانوا يرسمون إشارة الصليب بإصبعين .

 

    مما يُـثير الاهتمام أيضاً في هذه الحادثة هو أن المؤلف يجعل قرية كفرحي المكان الذي رُجم فيه مارون ودُفن؛ لكننا رأينا الموارنة يدعون أن يوحنا مارون انتقل، بعد أن طارده الجيش البيزنطي، إلى كفرحي حيث بنى ديراً آخر باسم دير مارون الذي نقل إليه جمجمة ناسك القرن الخامس مارون . وفي هذا الصدد يقول البطريرك الدويهي ان يوحنا مارون، بعد ان قضى حياة نشيطة جداً وتقية توفي ودُفن في دير القديس مارون إلى الشرق من قرية كفرحي . إلا أن الكنيسة المارونية لم تبدأ بإحياء ذكراه حتى عام 1624. يقول الدويهي أن كتاب الصلوات السرياني على مدار الأسبوع (الاشحيم) قد تُرجم في هذا العام من السريانية إلى اللاتينية بأمر من البابا. وبعد ان قام العلماء بدراسة الكتاب بشكل وافٍ قرروا بأنه لا بد من إحياء ذكرى هذا القديس العظيم (يقصدون يوحنا مارون) في 9 شباط من كل عام . وهنا يورد الدويهي النص السرياني للنشيد الذي يُرنم في الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في بداية كل عام لإحياء ذكرى آباء الكنيسة الذين أسسوا الإيمان الأرثوذكسي. ويضم النشيد قائمة بأسماء هؤلاء الآباء، ومنهم الذين رفضوا مجمع خلقيدونية وأدانوه مثل، ديوسقورس الاسكندري وسويريوس الأنطاكي. والغريب جداً هو ان أسماء هؤلاء الآباء حذفت من النسخة التي استتشهد بها الدويهي واستبدل عوضها اسم مارون . ان الدويهي لا يذكر تاريخ وفاة يوحنا مارون لكن السمعاني يحدد وفاته في التاسع من شباط عام 707، مع أنه يخفق في البرهان على صحة ذلك . واذا عدنا الى الدويهي نجده يقول أن كبار الكهنة ورؤساء الأديرة اجتمعوا بعد وفاة  يوحنا مارون بتسعة أيام وانتخبوا قورش، ابن أخيه ” بطريركاً  لأنطاكية ” وابلغوا البابا في روما بالانتخاب فأرسل البابا إلى البطريرك الجديد بردة الأسقفية مع رسالة تثبته في منصبه. ويختتم الدويهي بالقول أنه منذ ذلك الحين ” بدأ البطاركة بارتداء تاج الأسـقفية والخـاتم حسب عادة كنيسة روما العظمى ” . وهنا نجد العلامة السمعاني يخالف الدويهي بقوله ان إرميا العمشيتي كان أول بطريرك ماروني قد تلقى تاجاً وخاتماً من البابا عام 1216 . والظاهر ان الدويهي، كما فعل القلاعي سابقا،ُ خلط ما بين يوحنا مارون وهذا البطريرك الماروني من القرن الثالث عشر. أما بالنسبة لإحياء ذكرى مارون فسوف نرى بعدئذ أن تحديد تاريخ إحياء ذكرى يوحنا مارون لم يبدأ حتى التئام المجمعُ اللبناني بعدئذ عام 1736 .