المؤامرة لقتل يسوع – سكب العطر على يسوع – خيانة يهوذا – عشاء الفصح مع التلاميذ – عشاء الرب – يسوع ينبئ بانكار بطرس له –
يسوع يصلي في جثيماني – القبض على يسوع – المحاكمة أمام المجلس اليهودي – بطرس ينكر يسوع
المؤامرة لقتل يسوع
عدد 1 : ولما أكمل يسوع هذه الأقوال كلها قال لتلاميذه :
عدد 2 : “ تعلمون انه بعد يومين يكـون الفصح وابن الانسـان يسـلّم ليصلب “ .
قال سيدنا هذا الكلام وهو في جبل الزيتون . وفي لوقا يقول قد قرب عيد الفطير وفي يوحنا يقول قبل الفصح بستة أيام . وتفصيل ذلك انه جاء يسوع الى بيت عنيا في يوم السبت واقام لعازر وصنع له وليمة فكانت مرثا تخدم ومريم تدهن رجليه . وفي يوم الاحد دخل اورشليم في وسط هتاف الشعب على ما جاء في يوحنا . وفي يوم الاحد بعينه خرج الى بيت عنيا وبات هناك كما قال متى وفي الغد خرج الى جبل الزيتون كقول متى وجلس على الجبل وعلم تلاميذه كثيراً وفي يوم الثلاثاء وهم بعد في الجبل قال لهم انه بعد يومين يكون الفصح اي ليلة الجمعة . وفي يوم الثلاثاء بعينه مسح في بيت سمعان الابرص في بيت عنيا كما قال متى ومرقس . ومن هنالك ارسل التلميذين بطرس ويوحنا الى اورشليم في يوم الخميس ليعدا الفصح كما قال لوقا . ولما كانت ليلة الجمعة جاء الى اورشليم واتكأ في العلية مع تلاميذه كما قال متى وكان عيد الفصح والفطير يوم الجمعة . واذا حسبنا الايام من السبت الذي فيه أقام لعازر الى الجمعة تجدها ستة أيام كما قال يوحنا . ومن هذه يتضح لنا اتفاق الانجيليين . وقد ذكر المسيح خبر الفصح أولاً ليخفي الخبر المؤلم أي الصلب .
عدد 3 : حينئذٍ اجتمع رؤساء الكهنة والكتبة وشيوخ الشعب الى دار رئيس الكهنة الذي يدعى قيافا ،
بموجب الناموس الموسوي كان للكهنة رئيس واحد . وكان الذي يقتل قتيلاً عن غير عمد ويهرب الى مدينة الملجأ لا يستطيع ان يرجع الى حين موت الكاهن المذكور ( عدد 25: 28 ) على ان هذا الناموس بطل فعوض رئيس كهنة واحد كانوا يقيمون كثيرين ويجعلون عليهم رئيسي كهنة فاذا عرض لاحدهما احتلام وهو نايم أو شهوة بأية علة كان يعتبر متنجساً فيقوم الآخر بالخدمة عوضه حتى لا يبطل العيد . فلما ملك هيرودس أخذ يقيم رئيس كهنة جديد كل سنة وذلك حذراً من ازدياد سطوتهم فكانوا يخدمون سنين معلومة .
عدد 4 : وتشاوروا لكي يمسكوا يسوع بمكر ويقتلوه .
بعدد ان أقام لعازر بأربعة ايام اي يوم الاربعاء تشاوروا على قتله لذلك جعل في قانون الرسل يومي الاربعاء والجمعة للصوم ويوم الاحد لتقديس الاسرار . ويوم الاحد لانه فيه قام من القبر . وقد ذهب البعض الى ان الحيوانات في تلك الجمعة اكرمت الصيام .
عدد 5 : ولكنهم قالوا : “ ليس في العيد لئلا يكون شغب في الشعب “ .
تأمل انهم لم يكونوا يخافون من الله بل من الشعب . وقد اعتمدوا على يهوذا الخائن فاسلمه لهم . وجرت المشاورة في دار قيافا لانه كان رئيس كهنة تلك السنة . وقد زعم قوم ان قيافا هذا هو يوسيفوس فبعد زمان ندم وتاب وآمن بالمسيح ولكن يوسيفوس الذي حارب الرومانيين وكتب تاريخ المقابيين وخراب أورشليم هو غير . وقد ذكر اوسابيوس القيصري في تواريخ الكنيسة . بانه دعي يوسيفوس أي يوسف الثاني من الرومانيين لاجل حكمته .
سكب العطر على المسيح
عدد 6 : وفيما كان يسوع في بيت عنيا في بيت سمعان الابرص ،
بيت عنيا هذه هي وطن مريم ومرثا ولعازر الذي أقامه فيها المسيح . وتفسيرها بيت المجد . وتبعد نحو ثلاثة أرباع ساعة من أورشليم . وبعد ان دهنت مريم المجدلية قدميه هنالك قال لتلميذيه امضيا الى المدينة واعدا لنا الفصح ويظهر من هذا ان المسيح ارسل الرسل الى اورشليم من بيت عنيا وكان سمعان المذكور أبرص وبعد ان شفي ظل يلقب بالابرص . وربما انه برص بفكره وشكّ في المسيح .
عدد 7 : تقدمت اليه امرأة معها قارورة طيب كثير الثمن ، فسكبته على رأسه وهو متكئ .
تشجعت المرأة لتدنو من سيدنا لما رأته قد طهر برص سمعان ومنح الشفاء لنساء كثيرات منهن السامرية والكنعانية وذات النزيف . ولم تدن منه كمن يدنو الى انسان بل كمن يدنو الى اله متأنس . وقد زعم البعض ان هنالك تناقضاً بين اقوال الانجيليين لان لوقا ذكر انها كانت خاطئة وانها دنت من المسيح في نايين . وقال متى انها كانت في بيت عنيا في بيت سمعان الابرص . وقال يوحنا ان اسمها مريم . وقد ذهب البعض الى ان الاشارة الى امرأتين مختلفتين . وقال آخرون انها واحدة وهي بعينها مسحته مرتين . وقال بعضهم ان سمعان الفريسي هو سمعان الابرص ابو لعازر ومريم . وقال الذهبي الفم ان المسيح مسح مرتين . اما القديس ساويرس ونحن على رأيه فانه يقول ان المسيح مسح ثلاث مرات وذلك في نايين وفي بيت عنيا قبل الفصح بستة ايام وفي بيت عنعيا أيضاً قبل الفصح بيومين . فيستنتج من قول يوحنا ان امرأة مسحت قدميه في بيت عنيا قبل الفصح بستة ايام ومن قول لوقا انه مسح في نايين ومن قول متى ان امرأة افاضت قارورة طيب على رأسه قبل الفصح بيومين ان المسيح مسح ثلاث مرات وقد مسحته ثلاث نساء وان الخاطية التي كانت في نايين هي التي اتت قبل الفصح بيومين ومسحت قدميه فيكون الماسح امرأتين كما قال الذهبي الفم وعدد المسحات ثلاثاً كقول القديس ساويرس . اما قارورة الطيب هي الناردين وقال آخرون انها بلسم وزعم بعضهم انها كانت مركبة من عقاقير طبية وقال آخرون ان ذلك الطيب لبان ومثقال واحد منه يكفي لمسح كل الجسم وذلك لان رائحته طيبة وقد ازدادت طيباً من جسد ربنا . ثم ان المجدلية استعملت شعرها عوضاً عن المنديل لكي تبقى معها رائحة جسد المسيح بعد موتها . وقد قال بعضهم انها منذ ذلك اليوم حتى موتها ما غسلت رأسها ولا تمسحت وان رائحة جسمها كانت عابقة . وكانت العادة ان يمسحوا الرجلين من تعب الطريق .
عدد 8 : فلما رأى تلاميذه ذلك اغتاظوا قائلين : “ لماذا هذا الاتلاف ؟
عدد 9 : لأنه كان يمكن ان يباع هذا الطيب بكثير ويعطى للفقراء “ .
غضبوا أي اغتاظوا وتذمروا قائلين كان يجب ان يباع . ولكن أي أفضل ان يمسح به ربنا ام يباع ويعطى للمساكين نعم ان سيدنا غني وغير محتاج . ورب سائل يقول من اين توصل التلاميذ الى هذا الفكر؟ فنجيب انهم تعلموه من قول السيد ” رحمة أريد لا ذبيحة ” . اما قول مرقس انه كان يمكن ان يباع بأكثر من ثلثمئة دينار( مر 14: 5 ) فالمفهوم منه انه دراهم كثيرة ثم وقد أشار الى كرمها وطيبة نفسها . ورضي المسيح ان تمسحه لاجل خلاصها وكانت العادة ان يمسح الناس الافاضل من ضعف الزهد . حتى ان القرابين التي كانوا يقدمونها الى الله كانوا يمسحونها . وكهنة الناموس والملوك ايضاً كانوا يمسحون .
عدد 10 : فعلم يسوع وقال لهم : “ لماذا تزعجون المرأة ؟ فانها قد عملت بي عملاً حسناً !
تعنفونها اي تزيدون تعبها وألمها . فلا تلمسوا بغتة ما هو ثقيل على الناس بل رويداً رويداً . ولو سألته قبل ان تفعل لنهاها عن مسحه . قال الذهبي الفم ان السيد يعلمنا هنا انه متى رأينا احداً قد صنع اواني كهنوتية او زينة أخرى للكنيسة لا يجب ان نقول له بعها لئلا يضعف ايمانه بل يجب ان نمدحه . فان سألنا قبل ان نصنع الاواني نشير عليه ان يعطي للمساكين ثمن ذلك .
عدد 11 : لأن الفقراء معكم في كل حين ، وأما انا فلست معكم في كل حين .
قال الذهبي فمه لاجل هذا يجب ان نترحم لان الفقراء ليسوا بيننا في كل حين الا في هذا العالم . ثم قال المسيح ذلك لكي يطيب خاطر المرأة .
عدد 12 : فانها اذ سكبت هذا الطيب على جسدي انما فعلت ذلك لاجل تكفيني .
أي بواسطة الدهن الذي دهنتني به اشارت الى موتي ودفنتي . فلخوفكم من اليهود لم تقدروا ان تحنطوا وتطيبوا جسدي فسبقتكم هذه المرأة .
عدد 13 : الحق اقول لكم : حيثما يكرز بهذا الانجيل في كل العالم ، يخبر ايضاً بما فعلته هذه تذكاراً لها “ .
عزى تلاميذه بانه سوف تكرز بشارته في كل العالم . ومدح المرأة لئلا يضعف يقينها عند سمعها خبر موته . فيذكر اسمها في كل الامم بكل اللغات ويذاع فعلها الجميل . وهنا مغزى روحي وهو ان البيت عبارة عن العالم والمرأة عبارة عن الخطاة التائبين ورائحة الطيب رمز الى البشارة التي طيبت رائحتنا النتنة .
خيانة يهوذا
عدد 14 : حينئذٍ ذهب احد الاثني عشر ، الذي يدعى يهوذا الاسخريوطي الى رؤساء الكهنة
حينئذٍ أي لما رأى ان سمعان قد طهر والمرأة أفاضت عليه الطيب . مضى أحد الاثني عشر أي احد اولئك المختارين الاولين الذين كان لهم الدالة عند سيدهم . وقد دعاه بالاسخريوطي باسم أسخريوط قريته ثم تمييزاً له عن يهوذا الغيور .
عدد 15 : وقال : “ ماذا تريدون ان تعطوني وأنا أسلمه اليكم ؟ فجعلوا له ثلاثين من الفضة .
ان السماء والارض لا تعادلان ثمن بيع السيد لانه خالق . والخليقة لا تباع بالخالق . فتأمل كيف خان يهوذا سيده بعد ان احيا امامه ثلاثة موتى . ولو لم يشأ ما قدروا ان يصلبوه . الا انه أسلم ذاته للصلب لاجل خلاص البشر فاما اليهود ويهوذا فانهم لم يسمعوا في هلاكه لاجل خلاص البشر بل ليموت ويهلكاسمه لذلك هم ملومون ومدينون . فدخل الشيطان في يهوذا لا في رفقته لانه وجدت فيه محبة الفضة . ويستفاد من قول لوقا ” ان يهوذا تكلم مع … قواد الجند ( 4 : 22 ) ان رياسة اليهود كانت قد بطلت وبما ان رؤساء الكهنة كانوا يتخاصمون دائماً الرومانيون وضع معهم في الهيكل قواد الجند منعاً للشغب وقوله ثلاثين من الفضة أي ثلاثين ديناراً لان الفضة تدل أحياناً على الذهب واحياناً على الفضة والدراهم والدنانير .
عدد 16 : ومن ذلك الوقت كان يطلب فرصة ليسلمه .
أي كان يطلب زماناً خالياً من الضجة ووقتاً لا يكون مع المسيح جماعة وشعب يعلمهم لان يهوذا كان يخاف من الشعب .
عشاء الفصح مع التلاميذ
عدد 17 : وفي اول أيام الفطير تقدم التلاميذ الى يسوع قائلين له : “ اين تريد ان نعد لك الفصح ؟ “ .
قال التلاميذ ذلك في يوم الخميس . وقال الذهبي الفم ان كثيرين كانوا معتادين ان يعددوا الفصح من المساء ويحسبونه ليوم الجمعة لانه عند انقضاء الخميس ودخول الجمعة كان الخروف يذبح لاجل ذلك سمي يوم الخميس يوم الفطير اذ من المساء والغروب سمي اليوم يوماً . فتأمل ايها القارئ في شهادة القديس الذهبي الفم عن ابتداء اليوم من المساء كما هو الحساب عندنا نحن السريان لا كما يحسب اليونانيون والارمن اليوم من الصباح فيجب اذاً اعتبار النهار من المساء كما سنبين فيما بعد عند الكلام على بقاء سيدنا في قلب الارض ثلاثة أيام وثلاث ليال . ويتضح من سؤالهم ” أين نعد الفصح ” انهم لم يكن لهم بيت لتركهم الاهل والبيت .
عدد 18 : فقال : “ اذهبوا الى المدين، ة الى فلان وقولوا له : المعلم يقول : ان وقتي قريب . عندك أصنع الفصح مع تلاميذي “ .
المقصود من المدينة أورشليم وكان اليهود يصعدون الىأورشليم من جميع الاقطار لاجل الفصح . ونظراً لضيق المدينة طلب سيدنا في هذا العيد بيتاً ليأكل فيه الفصح . وقال القديس كيرلس ان المسيح لم يذكر لهم اسم الرجل لان يهوذا كان عارفاً بالعلية وربما كان يمضي فيأتي بالصالبين وهكذا يمنع الحوادث المزمع وقوعها حينئذٍ في العلية كغسيل ارجل التلاميذ واعطاء الاسرار المقدسة وغير ذلك . وكان المسيح قد اوحى الى انسان لا يعرف سيدنا ولا رسله فأعدد عليه مخصوصة لسيدنا غير خائف من اليهود . وقد زعم البعض انه يوسف بولوطي وقال آخرون انه نيقوديموس وآخرون انه لعازر وآخرون انه سمعان القيرواني الذي سخروه ليحمل صليبه مستخفين به قائلين مثلما تلذذت معه بأكل الفصح اشترك معه في آلامه . قال ” زماني قد اقترب ” اي زمن آلامي وبهذاأعلن انه باختياره تألم . ثم قال ” مع تلاميذي ” لكي يعدد صاحب العلية شيئاً يكفى لجميعهم . ” الفصح ” أي فصح الناموس الذي كان يجب ان يوكل باعشاب مرة وبخبز فطير وغير ذلك .
عدد 19 : ففعل التلاميذ كما أمرهم يسوع واعدوا الفصح .
عدد 20 : ولما كان المساء اتكأ مع تلاميذه الاثني عشر .
كان يجب ان يؤكل الفصح في ليلة الجمعة من تلك السنة لان الجمعة كانت اول يوم الفطير وكان وقوعها في الخامس عشر من القمر . والناموس كان يأمر بذبح الفصح في الرابع عشر وهكذا اكل السيد الفصح في مساء الخميس اي ليلة الجمعة اما اليهود فتركوه الى ليلة السبت حتى يقتلوا المسيح ويتضح حقيقة ذلك من قول يوحنا انهم ما دخلوا الديوان لئلا يتنجسوا وهذا يدل على انهم لم يكونوا قد اكلوا الفصح بعدد . ثم ان سيدنا أكل اولاً الفصح الناموسي كما يجب هو وتلاميذه وبعد ذلك اتكأ على المائدة للعشاء وقال لهم ان واحداً منكم يسلمني وقال ايضاً اشياء كثيرة كما جاء في يوحنا ويوافق رأينا في ذلك القديس الذهبي الفم ولوسابيوس وموسى ابن الحجر ويوحنا اسقف دارا . اما ايفوليطوس الروماني ومار اسحق يقولان ان سيدنا ماأكل الفصح الناموسي في ذلك المساء لانه هو كان لهم فصحاً . فنجيب اذا كان ذلك كذلك كان الواجب على التلاميذ ان يسألوا سيدهم هل يريد ان يأكل الفصح فيتضح من عدم سؤالهم انه كان يأكل الفصح كل سنة
فبقوله ( الاثني عشر ) صار معلوماً ان يهوذا كان معهم وكان قد ذهب ليشترك بالاسرار . فوبخه السيد على المائدة ليندم ويرجع لذلك يقول متى ” فيما هم يأكلون قال …. ان واحداً منكم سيسلمني ” وكان قد غسل رجلي يهوذا قبل العشاء كما يقول الذهبي الفم
لوص 22: 15 فقال لهم لقد اشتهيت شهوة ان آكل هذا الفصح معكم قبل ان أتألم .
قوله هذا يدل على انه كان مزمعاً ان يبطل الناموس ويعطي فصحاً روحانياً ذاك يزول وهذا يبدأ .
لوص 22:16 فاني اقول لكم اني لا آكله بعد حتى يتم في ملكوت الله
المراد بالملكوت هنا عمل الانجيل فكأن السيد يقول انني لا آكل من هذا الفصح الناموسي حتى يكمل الفصح الحقيقي الجسد والدم بواسطة الانجيل . ومتى اعطيكم هذا الفصح آكل منه اولاً وبعد ذلك أعطيكم لتأكلوه . وحتى هنا هي للقطع كقوله في اشعيا 22: 14 لا يغفرن لكم هذا الاثم حتى تموتوا.
عدد 21 : وفيما هم يأكلون قال : “ الحق أقول لكم : ان واحداً منكم سيسلمني “ .
كان الخروف يذبح عند غروب الشمس لان السماء والارض والعناصر خلقت قبيل دخول الاحد أي وقت غروب الشمس ومع خلقتهم ابتدأ الليل وبعد ان لبث الليل اثني عشر ساعة قال الله ليكن نور فكان النور فعبر عن المساء بالليل وعن الصباح بالنهار . ففي وقت غروب الشمس الذي فيه ابتدأ هذا العالم . فيه أمر الله الاسرائيليين ان يذبحوا الخروف الذي كان سر حمل الله . فتبع في عيد الفطير لذلك الفصح لانهم بالفطير اكلوا الخروف مستعجلين ولم ينتظروا ليختمر عجينهم وكان اليهود بحسب ناموس الفصح يأخذون خروفاً ابن سنة ويبقونه الى الرابع عشر من شهر نيسان فيذبحونه في غروب الشمس ويأكلونه مشوياً واحقاؤهم مشدودة واحذيتهم في ارجلهم وعصيهم في ايديهم وكانوا يأكلونه باستعجال . سبعة ايام اي الى الحادي والعشرين من الشهر كانوا يأكلون فطيراً وكل من كان ياكل خميراً كان يقتل . ثم ان المسيح بعد ان أكل مع تلاميذه الخروف مع الفطير غسل ارجلهم كما قلنا ثم ناولهم السر وبدأ يقول ” ان واحداً منكم سيسلمني ” الى هنا تكلم عن تسليمه من الخائن بالتلميح اما من هنا فظاهراً . وبقوله ” ابتدأ كل واحد منهم يقول لعلي انا هو يا رب ” جعل كل فرد منهم خائفاً لئلا يكون هو المقصود وكان ذلك الواحد معروفاً عند السيد الا انه لم يصرح باسمه وذلك لانه كان منتظراً رجوعه نادماً .
عدد 22 : فحزنوا جداً وابتدأ كل منهم يقول له : “ هل انا هو يا رب ؟ “.
كان التلاميذ يصدقون كلام المسيح ويعلمون انه عارف بهم اكثر من معرفتهم بأنفسهم وكانوا ينظرون بعضهم الى بعض ( يو 13: 22 ) لانهم ما كانوا يعرفون عمن يتكلم فكل فرد منهم كان يسأل ويستخبر عن نفسه .
عدد 23 : فأجاب ، وقال : “ الذي يغمس يده معي في الصحفة هو يسلمني !
كشف السيد أمر الخائن لئلا يموتوا من الحزن والخوف ولعله ( اي الخائن ) يندم . قال الذهبي الفم ان يهوذا بلغ من الوقاحة حتى انه لم يكن يعنيه امر المعلم واكرامه فغمس معه . ولعل السيد قصد ان يجتذبه الى المحبة فقال للتلاميذ ان واحداً منكم خائن اي ليس من الغير بل من الذين يغمسون معه في الصحفة . قال القديس فيلكسينوس انه ولو كان الجميع يمدون ايديهم مع المسيح الا ان سيدنا عندما كان يمد يده كان التلاميذ يقصرون ايديهم اما يهوذا فكان يمد يده مع السيد بوقاحة ولما لم يفهم التلاميذ الخائن فيهم من قوله ” الذي يمد يده معي في الصحفة ” بل خبزاً وناوله وفي الحال عرفوه . وقد قال آخرون انه كان امام التلاميذ صحفتان . فكان كل ستة تلاميذ يغمسون في واحدة وكان يهوذا يغمس مع سيدنا لاجل ذلك قال ان الذي يغمس معي الخ . وزعم البعض ان السيد لم يظهر شيئاً عن يهوذا حتى غسل ارجلهم وناولهم الاسرار وهذا القول غير صحيح .
عدد 24 : ان ابن الانسان ماض كما هو مكتوب عنه ، ولكن الويل لذلك الذي به يسلم ابن الانسان . كان خيراً لذلك الرجل لو لم يولد ! “ .
رب معترض يقول بانه اذا كان المسيح ماضياً ليموت كما هو مكتوب عنه فلماذا يلام يهوذا اذ كمل المكتوب ؟ فنجيب انه لم يسلم السيد لاجل تكميل المكتوب كما ان الصالبين لم يصلبوه لاجل تكميل النبوة بل بنية شريرة لان يهوذا فعل ما فعله باختياره لذلك كان مسؤلاً لان المكتوب عن المسيح لم يسلب اختياره ( أي حرية ارادته ) أي لم يجبره على الفعل . ثانياً انه فعل كل ما فعله بقصدٍ شرير لانه خالف ضميره وشريعة الله ورفض نصائح المسيح وربى في فؤاده الرذائل كالطمع والخيانة والكنود اي كفر النعمة وارتكب شر الاثام بتسليمه سيده لا زهد غاية وهي الحصول على ثلاثين من الفضة وربما يعترض قائل انه لو لم يسلمه يهوذا لسلمه غيره فان لم يسلمه غيره فسدت خطة المسيح ؟ فنقول حاشا ما كانت تفسد أبداً لان الحكيم والعارف بكل شيء قادر ان يدير ما يخصه لانه حكمته فائقة الادراك . وقد جعل الويل للرجل الذي صار آلة لاتمام سياسته وفي الوقت نفسه حذر التلاميذ الا يظنوا انه من الضعف أسلم . وبقوله ” قد كان خيراً لذلك الرجل لو لم يولد ” بين ان يهوذا بحريته أسلمه ولذلك أعدد له عذاب أليم . ولو لم يولد ما كان يتعذب بلا نهاية . ورب معترض يقول لماذا خلق الله يهوذا اذا كان خيراً له لو لم يولد . فنجيب ان الله خلقه ليعمل خيراًً لكنه انصرف الى عمل الشر بحريته . وقد خلق الله أيضاً الشياطين والناس والاشرار ليعملوا الصالحات ولكنهم انصرفوا الى عمل الطالحات بارادتهم . ثم ان خلق يهوذا متعلق بالخالق تعالى . اما العمل صالحاً وطالحاً فمتعلق بالشيطان والانسان . وليت شعري هل نلوم الله لان بعض الناس صاروا اشراراً . ان الله بريء من الملامة . ومن هو الانسان حتى يعترض على الله . هل تقول الجبلة لجابلها لماذا جبلتني هكذا ثم نقول ان يهوذا انتخب ليكون رسولاً مثل بطرس ويوحنا والشيطان خلق ليقف في الخدمة مثل جبرائيل فكما ان الله الآب لا يلام بسقوط الشيطان كذلك الابن لا يلام بانتخابه يهوذا لئلا يكون له سبب للتذمر فيقول ان المسيح ما كان يحبني مثل رفقائي ولو غسل رجلي ما اسلمته ولا خنته . على ان السيد عرف بمحبته للفضة فسلطه على صندوق النفقة ليتصرف بالفضة كما يشاء ويريد . ولم يشاء ويريد . ولم يشأ ان يفضحه بل فضل ان يوبخه فقط فلم يرعو.
عدد 25 : فاجاب يهوذا مسلمه قائلاً : “ لعلي انا هو يا سيدي ؟ “ فقال له : “ انت قلت “ .
كان يهوذا واثقاً بصلاح السيد وان المسيح لا يفضحه وكذلك السيد لم يجب أنت هو بل قال له أنت قلت . وبما ان التلاميذ ما سمعوا الحديث اضطر السيد ان يناوله خبزاً مبلولاً ليعرفوه . وقد ذكر لوقا ان الفصح اي عيد الفطر كان قريباً لما دخل الشيطان في يهوذا . وقد ذكر يوحنا ان الشيطان دخل يهوذا بعدما تناول الخبز . والاثنان صادقان لان الشيطان لا يدخل في الانسان بغتة لكن يستعمل التجارب أولاً ثم يدخل فيه . وقد صادق يوحنا على الكلام الذي قاله لوقا فقال انه في وقت العشاء دخل الشيطان في قلب يهوذا الاسخريوطي وبعد الخبز تمكنه .
عشاء الرب
عدد 26 : وفيما هم يأكلون اخذ يسوع خبزاً ، وبارك وكسر وأعطى التلاميذ وقال : “ خذوا كلوا . هذا هو جسدي “ .
عدد 27 : واخذ الكأس وشكر واعطاهم قائلاً : “ اشربوا من هذا كلكم ،
كما كما ان السيد له المجد في النهر أبطل معمودية اليهود وكمل معمودية يوحنا وفتح باباً لمعموديتنا كذلك على المائدة خدم فصحين لذلك النهاية ولهذا البداية . أولاً خدم الناموس وغسل ألرجل التلاميذ وبعدد ذلك اتكأ وأعطاهم سر جسده ودمه . ولسائل ماذا كانوا يأكلون لان الفصح الناموسي كان قد اكل كما يؤخذ من قول مرقس ” فيما هم متكئون يأكلون ( 14: 18 ) مع ان بني اسرائيل أكلوا الفصح وقوفاً مستعجلين ؟ فالجاب انهم كانوا قد انتهوا من أكله وكانوا ياكلون عشاءً اعتيادياً متكئين . وقد ذكر متى ان المسيح بارك الخبز لكنه لم يذكر باي كلمات باركه وسبب البركة ابطال اللعنة الاولى اذ قال لآدم انك بعرق جبينك تأكل خبزك نعم قد باركه ليجعل فيه قوة غفران الخطايا للذين يتناولونه بايمان حي . ومعنى باركه قدسه وعمله جسده . ثم ان البركة هنا هي الشكر وهكذا في أمر الكأس . ولسائل كيف يسمي الخبز جده اذ ان جسده لحم وهو ذو نفس عاقلة ؟ الجواب ان قوة الروح القدس الذي حل في البتول وطهرها وقدسها وجبل منها جسداً وقدسه وجعله جسد الله الكلمة هو اليوم يحل على الخبز الذي يوضع على المذبح ويقدسه ويجعله جسد الله . كيف لا والمسيح نفسه قد سماه جسده فمن هو الذي لا يؤمن أننا ننظر باعين الجسد الخبز الموضوع على المذبح بايدي الكهنة والشمامسة وباعين الروح ننظره قد صار جسداً لكلمة الله الحي المتجسد من البتول وهكذا يجب ان نفهم وهكذا يجب ان نؤمن .
عدد 28 : لان هذا هو دمي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا .
العهد العتيق هو الناموس الذي اعطي في جبل سينا والعهد الجديد هو الانجيل . اما الدم العتيق فهو دم الخروف الذي ذبح في مصر وكان يدعى الفصح واما الدم الجديد فهو دم المسيح المذبوح على الصليب . وبتسميته اياه جديداً ميزه عن الدم العتيق . ان الخروف في الناموس الموسوي لم يكن مستوجباً للقتل ولكنه كان يقتل عوضاً عمن يستوجب القتل . لهذا السبب سمى يوحنا المعمدان السيد حمل الله حامل خطايا العالم وقد قيل عن دمه انه يسفك عوض كثيرين فاذا كان جسده قد كسر لاجلنا ودمه قد سفك عوضنا فلماذا يلومنا الخلقيدونيون لاننا نصلي اليه قائلين يا من صلبت عوضننا ارحمنا لان الذين يصلون هكذا يكفرون اذ يجعلون المسيح كأنه لم يمت لاجلنا وهذا كفر واضح ورب سائل يسأل لماذا لم يعطنا المسيح سر جسده ودمه تحت عوارض كثيرة الثمن . الجواب اولاً لسهولة وجود هاتين المادتين ثانياً لئلا يحسب خلاصنا لشرف المواد وقيمتها الثمينة وبما ان فرض السر لاجل خلاص بني البشر فلذلك أسلم اسراره تحت عوارض قوت بني البشر .
عدد 29 : واقول لكم : اني من الآن لا اشرب من نتاج الكرمة هذا الى ذلك اليوم حينما اشربه معكم جديداً في ملكوت ابي “ .
ان ابن الله أكل وشرب بعد القيامة وهو امر غريب وخارج عن العادة ولاجل ذلك سماه جديداً . وقد شهد الرسل ان السيد اكل وشرب . قال بطرس اننا اكلنا وشربنا معه بعد قيامته . ومعنى قول السيد لا اشرب اي لا اتلذذ معكم بهذا التعليم الذي تسمعونه مني حتى تبلغوا العالم الجديد وتجلسوا على اثني عشر كرسياً حينئذٍ اتنعم معكم بهذا التعليم وأظهر لكم ما قد خفي عليكم . اما قوله جديداً فيدل على ان التعليم هنا انما هو مثال التعليم هناك . وقد أعلن ان الذي يعلم كما يجب يلتذ بتعليمه كالذين يتعلمون . ثم ان الله الكلمة منح لجسده قبل القيامة ثلاثة أمور تفوق الطبيعة البشرية . فمكث أربعين يوماً في البرية صائماً لم يجع الا بعد ما انتهت فسمح لجسده فجاع بخلاف موسى وايليا اللذين صاما ولكنهما جاعا حالة صيامهما . ثم انه مشى على امواج البحر وأضاء وجهه في الجبل اكثر من الشمس . وبعد القيامة ايضاً منح لجسده ثلاثة أمور تحت الطبيعة . فانه أكل وشرب بعدد القيامة وابقى بجسمه جروح المسامير والحربة وكان يترآءى للتلاميذ بلون جسده الذي مات فيه . أما نحن فمتى قمنا من بين الموتى فلا تحتاج أجسادنا الى أكل وشرب ولا تبقى في أجسادنا اثار الجروح وطعنات الرماح بل نقوم بلا عيب وبلا طوارئ ولا تبان فينا الوان الاجساد الميتة . فالثلاثة امور التي منحها لجسده قبل القيامة بين بها انه جسد الهي والثلاثة التي بعدد القيامة خمراً ليسد فم ماني ومرقيان وسورس ويبكم الذين يقدسون سر دمه بالماء وقد اختلف المعلمون في هل اشرك السيد يهوذا بالاسرار ام لا ؟ فالذهبي الفم في مقالته عن خيانة يهوذا وفي مقالته الحادية والثمانين من تفسير انجيل متى وساويرس في المغيث الثاني والقديس افرام في تفسير الانجيل ويعقوب السروجي في ميمر الآلام ويعقوب الرهاوي في كتاب القوانين وغيرهم يقولون ان المسيح أشرك يهوذا في الاسرار . أما القديس فيلكسينوس في تفسيره بشارة متى فيقول انه لم يشركه لان الشيطان كان قد سبق واستولى على يهوذا ومن فيلكسينوس هذا قد جرت العادة في الكنيسة الا يعطى القربان للممسوسين من الشياطين . أما القديس افرام ويعقوب السروجي فقالا بان السيد اشرك يهوذا في الاسرار ولكنه بل الجسد بالماء فزالت منه القداسة غير ان معلمين آخرين يقولون ان الجسد الملول بالماء لا تزول منه القداسة وان الماء لا يقدر ان يزيل القداسة والروح الذي فيه قال داود الراهب ابن بولص الموصلي محب موسى ابن الحجر ان سيدنا وان لم يبل جسده الذي ناوله ليهوذا بالماء لكنه أزال قداسته خفية لعددم استحقاق يهوذا الخائن له ولا يخفى ان الحنفي اذا اكل القداس يأكله خبزاً بسيطاً لانه يأكله بدون ايمان ويعقوب الرهاوي يقول ان السيد ناول يهوذا خبزاً يابساً كانوا يغمسونه في الاطعمة ويأكلونه فمن هذا الخبز غمس غمس سيدنا وناوله لا من خبز الاسرار الذي قدس جسده منه .
عدد 30 : ثم سبحوا وخرجوا الى جبل الزيتون .
سبح سيدنا ليعلمنا انه عندما نأكل يجب ان نعطي التسبيح لله ونشكره على احساناته الينا لاننا نرى سيدنا انه شكر قبلما ناول التلاميذ جسده ودمه ثم بعدما ناولهم سبح . فهكذا يجب علينا ان نشكر قبلما نأكل الاسرار ونمجد بعدما نشترك . ثم انه شكر ليعلمنا ان نشكر الله صابرين محتملين عندما نتألم كما احتمل هو الآلام لاجلنا والموت عوضنا ويعلمنا انه عندما نتناول الاسرار يجب ان نمكث حتى تكمل صلاة الشكر الاخيرة ويختم الكاهن . على ان السيد لم يمكث في العلية لئلا يحدث ضجيج عند القبض عليه . قال يوحنا الانجيلي ان المسيح خرج الى وادي قدرون ( 18: 1 ) لربما صاحب الوادي اسمه قدرون او ان الترعة التي كانت تمر فيه تدعى قدرون والعبر هو معبر من جانب الى جانب آخر . فكلام الانجيليين يتفق هكذا . فأتى يسوع الى موضع يدعى الجتسمانية ويقال انه كان فيه ترعة ماء تدعى الجتسمانية . وقد دعاها يوحنا جنينه ولكن متى ورفقاؤه سموها الجتسمانية معناها جنينة الاكابر ولعله خرج من الجنينة وجاء الى مكان آخر في جبل الزيتون يدعى الجتسمانية .
يسوع ينبئ بانكار بطرس له
عدد 31 : حينئذٍ قال لهم يسوع : “ كلكم تشكون فيّ في هذه الليلة، لانه مكتوب : اضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية .
قال سيدنا هذا الكلام وهم صاعدون الى الجبل او عند دخولهم البستان وكأنه قال ان يهوذا يسلمني لرداوته وأنتم تهربون من الضعف وتشكون . اما الراعي هو المسيح اذ قال انا هو الراعي الصالح . والخراف المبددون هم الرسل . ترى من ضرب الراعي المسيح ؟ الجواب ليس ابليس ولا يهوذا ولا صالبوه بل الآب كما قال زكريا اضرب الراعي فتبدد خراف الرعية ( 7 : 13 ) . فبارادة الآب ضرب الابن متألماً بالموت لاجل خلاص العالم .
عدد 32 : ولكن بعد قيامي اسبقكم الى الجليل “ .
انبأ بقيامته ولم يقل متى أقامني الآب حتى يخزي النساطرة الذين يعوجون الكلام ليجعلوا الابن أحط منزلة من الآب وقال ( الى الجليل ) لا الى مكان بعيد لان البلاد التي فيها صلب فيها يظهر نفيه لهم . والجليل موضع لم يكن فيه خوف من اليهود .
عدد 33 : فاجاب بطرس وقال له : “ وإن شك فيك الجميع فأنا لا أشك فيك أبداً “ .
ان الذهبي الفم يلوم سمعان مرتين الاولى اذ وقف ضد كلمة المسيح والانبياء والثانية اذ جعل نفسه أعلى من رفقائه . وقال مار كيرلس انه من حرارة محبته للمسيح قال انه لا يشك ولا يكفر فيه ولم يكن ذا لسانين ينطق بفمه عكس ما في قلبه لكنه كان ساذجاً لا غش فيه ولشدة محبته قال اني لا أشك فيك .
عدد 34 : فقال له يسوع : “ الحق أقول لك انك في هذه الليلة قبل ان يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات “ .
اي اني انبئك بالحق واقول لك يا بطرس انك لست تشك وتهرب فقط مع باقي رفقائك لكنك تزيد عليهم انك تكفر بي وهذا ليس بعيداً عنك بل ان في هذه الليلة نفسها ستتممه .
عدد 35 : قال له بطرس : “ لو اضطررت ان اموت معك لا أنكرتك . هكذا قال ايضاً جميع التلاميذ .
حقاً ان بطرس نطق بما في قلبه من نحو سيده اذ كان يحبه محبة شديدة ولذلك قال انه اذا الزم ان يحتمل الموت عوضه لا يمتنع . وهكذا باقي التلاميذ . الا ان السيد لكي يعرفه رحمته قال : سمعان سمعان هوذا الشيطان سأل ان يغربلكم مثل الحنطة ( لو 22: 31 ) اي ان الشيطان يظنكم نظيره مملوئين شراً فيسأل ان اتخلى عنكم كما قصد في ايوب . ومعنى يغربلكم اي يجربكم ويقلقكم ويفزعكم ويسقطكم كما يغربل القمح فيسقط من الغربال متفرقاً . وقد تخليت عنكم لحظة لكي يعلم ان هربكم ليس عن خبث طوية فيكم بل لان الانسان ضعيف وانه لا يستطيع الثبات ما لم تسنده النعمة الالهية . وطلب الشيطان هذا كما طلب ان يدخل في الخنازير ( مر 5 : 12 ولو 8 : 33 )
لو 22: 32 لكني صليت من اجلك لئلا ينقص ايمانك وانت متى رجعت فثبت أخوتك
اي وان تخليت عنكم لحظة فهربتم وانت كفرت لكني لست أتخلى عنك مطلقاً لئلا تبتعدد اكثر بالكفر وتتجرد من الايمان بي وكان يتكلم تارة بصوت منخفض وتارة بصوت منكسر لاجل ضعف السامعين لانهم كانوا يظنون فيه ملا يجب ويليق . وقال ( متى رجعت ) اي بعدد توبتك ارجع الى رفقائك وثبتهم في الايمان بي . وقال التلاميذ ( يا رب ههنا سيفين لو 22 : 38 ) قد يستغرب الانسان وجود سيفين في علية اجتماعهم . قال الذهبي الفم انه كان هنالك سكاكين معدة لاجل الفصح فلما احس التلاميذ بمجئ الاعدداء للقبض على سيدهم اخذوها معهم . وقال آخرون ان التلاميذ لما بلغهم مجييء الاعداء سبقوا وحضروا السيوف والسكاكين .
يسوع يصلي في جثيماني
عدد 36 : حينئذٍ جاء معهم يسوع الى ضيعة تدعى جتسيماني ، فقال للتلاميذه : “ اجلسوا ههنا حتى امضي وأصلي هناك “ .
سمّى يوحنا هذا المكان جنينة ولم يكن التلاميذ معتادين فراق سيدهم ومع هذا قال لهم امكثوا ههنا .
عدد 37 : ثم أخذ معه بطرس وابني زبدى وابتدأ يحزن ويكتئب .
لم يأخذ باقي التلاميذ معه لئلا يضعف ايمانهم به عند رؤيتهم اياه يحزن ويكتئب . لكنه أخذ أولئك الذين عاينوا مجده الالهي في الجبل معه وقيامة ابنة يلبراس . ثم ابتعد عن هؤلاء أيضاً نحو رمية حجر كما قال لوقا 22: 41 وطفق يحزن ويكتئب . ولم يكفه ظهور الحزن والكآبة على وجهه فقط حتى قال .
عدد 38 : فقال لهم : “ نفسي حزينة جداً حتى الموت . امكثوا ههنا واسهروا معي “ .
ذكر لوقا سبب ذلك : اما متى ومرقس فذكرا انه طفق يحزن ويكتئب وذكر يوحنا نتيجة ذلك وهو قوله ( الآن نفسي قد اضطربت يو 12: 27 ) . انه متى استولى على الانسان خوف يدركه الحزن والكآبة وبعد ذلك تضطرب نفسه . قال الهراطقة ان المسيح من خوفه من الموت حزن واكتئب ولكنهم كذبوا لانه اذا كان الموت قد اخافه فما المانع له من ان ينجو بنفسه بقدرته الالهية كما كتب عنه انه كان يجتاز في وسطهم ويختفي واذا كان يخاف الموت فلماذا مضى الى المكان الذي كان يعرفه الخائن بل كيف يخاف من الموت ذاك الذي قال للذين أتو للقبض عليه اني انا هو الذي تطلبونه ( يو 18 : 4 ) واني انا هو الراعي الصالح والراعي الصالح يبذل نفسه عوض خرافه ( يو 10 : 11 و 3 ) وقال انقضوا هذا الهيكل وانا أقيمه في ثلاثة ايام ( يو 2 : 19 ) واعطاهم آية يونان ( مت 12 : 40 ) وقال انا هو القيامة والحياة ( يو 11: 25 و36 ) ولا تخافوا ممن يقتل الجسد ( مت 10 ك 28 ) وانبأ التلاميذ انه سيتألم ويموت ( مت 16: 31 ) . ولما لامه سمعان على ذلك سماه شيطاناً وقد كتب عنه انه تعب مرة ( يو 4: 6 ) وعطش مرة واحدة ( يو 19: 28 ) وخاف واحدة ( عب 5: 7 ) ونام واحدة ( لو 8 : 23 ) واكتئب واحدة ( مت 27 : 38 ) واضطرب واحدة ( يو 11 : 34 ) وجاع مرتين ( مت 4 : او 21: 18 ) وبكي مرتين ( لو 19 : 41 ) و( يو 11 : 36 ) فكل هذه الامور بين بها انه احتملها لاجلنا نحن لا لاجل نفسه لان المسيح منها حسب مقتضى الطبيعة أي ان له نفساً وجسداً مثلنا وحبل به في البطن تسعة اشهر . ومنها بمقتضى الناموس كقوله اختتن وتمم ما كان واجب علينا تتميمه نحن في الناموس كتقديم قرابين وحفظ طقوس وما شاكل . ومنها سياسية فانه جاع وتعب وعطش واكتأب فبالحقيقة كان يحتمل هذه لا خيالاً واضطراراً لكن بارادته . ومنها فوق الطبيعة كالحبل به في البطن بلا زواج وولد والختومات محفوظة . ثم ان المسيح قال نفسي حزينة كما قبل عن الآب ( حزن الرب انه عمل الانسان في الارض وتأسف في قلبه تك 6: 6 ) وليس حزن وتأسف من اجل الخليقة بل لان البشر فسدوا واخطأوا . فكذلك قال الابن ان نفسي حزينة من أجل خطية يهوذا واليهود لانه نظرهم قد أذنبوا بقتلهم اياه بعد ما عمل قدامهم العجائب العظيمة فليس انهم ما استفادوا فقط بل تواعددوا على قتله .
عدد 39 : ثم تقدم قليلاً وخرّ على وجهه وكان يصلي قائلاً : “ يا ابتاه، ان أمكن فلتعبر عني هذه الكأس . لكن ليس كما اريدأنا بل كما تريد أنت “ .
اراد المسيح بقوله للتلاميذ ( امكثوا ههنا واسهروا معي ) ان لا يخفي عنهم شيئاً مما نظروه ومما سمعوه وان يتعلموا ان يسألوا الصلوة من تلاميذهم كما فعل بولس ( تس 2 : 1 ) ثم ان كلما ذكر للمسيح صلاة نراه كان يصليها منفرداً لكي يعلمنا ان نصلي بتعقل وبقلب مبتهل غير مضطرب حتى نستطيع ان نكلم الله في الصلوة . وقد ذكر يوحنا ان المسيح صلى في الجنينة ( 18 : 1 ) وذكر لوقا انه ابتعد عنهم نحو رمية حجر 22 : 41 وتفصيل ذلك انهم خرجوا اولاً كلهم الى جبل الزيتون ودخلوا البستان كما قال يوحنا ثم أخذ معه ثلاثة منهم وتكلم معهم قائلاً نفسي حزينة كما قال متى ثم ابتعد عن هؤلاء ايضاً نحو رمية حجر كما قال لوقا . وما قاله المسيح هنا في الصلاة كان نيابة عن آدم فكأنه يقول ان آدم ولو لم يعمل ارادتك فبما اني لبست جسده وعملت ارادتك فاغفر له ذنبه وأقول عوضه لا كما أريد أنا لكن كما تريد أنت . ان ارادة آدم كانت صيرورته الهاً مع انه انسان فلاجل محو ذنب آدم هذا جاء سيدنا وكونه الهاً حقاً قد صار انساناً حقاً ووفى الدين الذي كان على آدم وعليه فقد صار معلوماً ان ارادة الآب والابن واحدة . وبقوله ( يا أبت ) وليس يا الهي اظهر جلياً انه ابن الآب طبيعياً لا ابن النعمة اي ان نبوته ليست اكتسابية . وما قال يا أبانا كما ندعوه نحن في الصلاة لاننا قد اعطينا البنوة بالنعمة . فاذاً ان الذي صلى ودعا الله اباه هو الابن الطبيعي لا كما يقول النساطرة والخلقيدونيون ان الذي صلى هو انسان وان الطبع البشري خاف من الموت . فلو كان المسيح ابناً بالنعمة وكلمة الله ابناً طبيعياً للاب فيكون لنا ابنان واحد طبيعي وواحد ابن النعمة والنتيجة يكون لنا ربان وهذا باطل وقد صلى المسيح لاجلنا حتى يجيز الموت عنا وثم صلى لاجل صالبيه لانه لا يشاء هلاك احد من قتلته . ولم يصل كالمحتاج والضعيف لانه قوة الاب وحكمته وهو الغني وغير المحتاج لكنه علمنا باقنومه كيف يجب ان نصلي واذا عرضت علينا التجارب نصبر ونصلي ونقول نجنا من التجارب وليبين انه بالحقيقة قد صار انساناً لانه لو لم يصل لتشبه لابيه فقط بل صلى لكي يظهر انه يشبهنا ايضاً . وزعم قوم انه كان يجهل هل تعبر عنه الكأس ام لا فنقول كيف يجهل ذلك وهو حكمة الاب فان حكمة الله تعلم كل شيء ( ام 8 : 14 ) كيف لا وقد قال ايضاً كما يعرفني الاب اعرف ابي وقد سبق وأنبأ تلاميذه مراراً بانه سيسلم الى اليهود فيصلبوه . وقال آخرون ان كان يعلم كل شيء فلماذا كان يهرب من الموت فنقول انه لو أحب الهرب لم يكن له مانع عن ذلك كيف لا وهو الذي مراراً كثيرة جاز في وسطهم واختفى ( لو4 : 30 ويو 8: 59 ) فاذاً لم يخف من الموت لكنه أراد ان يعلمنا ان لا نسارع بارادتنا الى الآلام لعلة ضعف طبيعتنا . وان الصلوة نافعة . وعلمنا الرأفة على المتألمين وعرفنا محبته الشديدة للبشر حتى انها اوصلته الى ان يموت عنهم ليخلصهم نعم كان قادراً ان يحيي البشر بقدرته دون ان يموت لكن ذلك يخالف عددله فلو لم يمت ما ظهرت محبته في خلاص البشر . وبقوله ( ليس كمشيئتي بل كمشيئتك ) علمنا ان نسلم كل شيء لارادة الله .
عدد 40 : ثم جاء الى التلاميذ فوجدهم نياماً . فقال لبطرس أهكذا ما قدرتم ان تسهروا معي ساعة واحدة ؟ .
اي لم تقدروا ان تسهروا معي ساعة واحدة فكيف تسلمون انفسكم عوضي . وفي هذا الكلام اشارة الى بطرس حيث قال سأضع نفسي عنك فانه وهو بعد مع المسيح ما استطاع ان يسهر معه ساعة واحدة .
عدد 41 : اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة . أما الروح فنشيط وأما الجسد فضعيف “ .
ولسائل لماذا لم يصل التلاميذ مع انه اوصاهم بالصلوة ؟ فالجواب من الحزن الذي اعتراهم ثم لانهم لم يكونوا يعلمون ماذا يقولون فان بطرس الذي قال حاشاك يا سيد ان تموت سمّاه شيطاناً . والروح هنا ليس اللاهوت حسب زعم الهراطقة لكن النفس الناطقة وأراد باستعداد الروح اظهاراً انه بنفسه قهر كل الآلام النفسانية والجسدانية . ثم بقوله الجسد ضعيف برهن ان من جهة ضعف الجسد تدخل التجارب والاحزان والخوف على النفس . ثم نقول ان ظن احد انه مقتدر على اقتحام التجارب والموت فلا يستطيع ذلك ما يطلب من الله ويعينه ويمسك بيده انبأ المسيح قبلاً تلاميذه بانهم سيشكون فيه فأجابوه مع سمعان انه اذا لزم الامر سيموتون معه ولا يشكون فيه . فقال لهم المسيح صلوا لئلا تدخلوا في تجربة . فكأنه يقول ولو ارواحكم اي أنفسكم مستعدة لاتمام ما تعدونه لكن اذا تذكرتم ان الجسد ضعيف امتنعتم حباً بالحياة حتى انه يحدث ان خوفكم من الموت يجعلكم تكفرون كما سيعرض بعد قليل لسمعان فهذا معنى قوله الجسد ضعيف .
عدد 42 : فمضى ايضاً ثانية وصلى قائلاً : “ يا ابتاه ، ان لم يمكن ان تعبر عني هذه الكأس الا ان أشربها ، فلتكن مشيئتك “ .
عدد 43 : ثم جاء فوجدهم نياماً ، إذ كانت اعينهم ثقيلة .
مضى ثانية وغير الصلوة لانه كان عالماً ان عبور شربه الكأس مستحيل .
عدد 44 : فتركهم ومضى أيضاً وصلّى ثالثة قائلاً ذلك الكلام بعينه .
احتمل المسيح في كل وقت من الصلاة ألماً عن جنسنا الضعيف . اولاً حكم الموت . ثانياً الخوف من الموت . ثالثاً الموت عينه وبصلاته صار مثالاً الى أولاد الكنيسة يصلوا ثلاث مرات في الليل .
عدد 45 : ثم جاء الى تلاميذه وقال لهم : “ ناموا الآن واستريحوا ! هوذا الساعة قد اقتربت ، وابن الانسان يسلم الى أيدي الخطاة .
بقوله استريحوا أظهر انهم كانوا حزانى معذبين وانه غير محتاج الى معونتهم وبقوله قد اقتربت الساعة اي التي فيها كان سيسلم بين انه لم يخف عنه شيئاً . وأبان بقوله ( ابن البشر يسلم الى ايدي الخطاة ) ان لا حق للموت عليه لكن شرهم وخبثهم أماته .
عدد 46 : قوموا ننطلق ! هوذا الذي يسلمني قد اقترب ! “ .
قوموا لننطلق اي من موضع الذي كان يصلي فيه الى الموضع الذي يعرفه يهوذا وروحانياً قوموا لننطلق من الجسديات والارضيات الى السماويات والروحيات .
القبض على يسوع
عدد 47 : وفيما هو يتكلم ، اذا يهوذا احد الاثني عشر قد جاء ومعه جمع كثير بسيوفٍ وعصي من عند رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب .
عدد 48 : والذي اســلمه اعطاهم علامة قائلاً : “ الذي أقبله هو هو . امسكوه “ .
القبلة عادة كل البشر وزادها اليهود عند رؤية بعضهم بعد فراق وقتي انظر ( لو 7 : 45 ) . واما الآن فقد جعلها يهوذا علامة بينه وبين اليهود لالقاء القبض على المسيح . وقد ظن يهوذا انه بالقبلة يغش سيدنا فكأنه قال اذا رآني أقبله يظن ان ذلك من محبتي له مع كونه يعرف ان سيدنا يعلم الخفيات وعلاوة عليه ان اتيان الشرط واليهود وعلامة يهوذا والجمع الكثير لم تكن تمنع المسيح لو أراد ان يختفي عنهم لان له القدرة ان يترآءى في كل حين كالشكل الذي يختار ومتى أراد ان يكون غير معروف فما كان يعرف لا من صوته ولا من رؤيته كما فعل مع المجدلية يوم قيامته من القبر وبعدد ذلك عرفها نفسه بواسطة صوت لهجته المعهودة لديها لما دعاها مريم ( يو 10 : 16 ) والظاهر من قوله ( من تطلبون يو 18: 4 ) وجوابهم يسوع الناصري انهم ما عرفوه فربما غير شكله وكان يمكنه ان يتوارى عنهم لو أراد ولكنه أظهر نفسه لهم وقال انا هو وقد سر اليهود اتفاق يهوذا معهم على تسليمه لتكن لهم حجة للقول ان المسيح لو لم يكن شريراً ما أسلمه تلميذه .
عدد 49 : فللوقت تقدم الى يسوع وقال له : “ السلام يا سيدي ! “ وقبله .
رضي المسيح ان يقبله يهوذا لانه صبر عليه ليرجع عن شره . ثم نقول ان السلطان الذي اعطاه اياه ليشفي به المرضى ويقيم الموتى ويعمل الآيات نزعه عنه وعراه من الهبة الالهية والسلطة الرسولية عندما قبله قبلة الخيانة .
عدد 50 : فقال له يسوع : “ يا صاحب، لماذا جئت ؟ “ . حينئذٍ تقدموا والقوا الايادي على يسوع وامسكوه .
ان معنى قول السيد له يا صاحب اي لست الآن تلميذي لكنك مقاوم ومضاد بل لك معلم أخر هو الشيطان والصالبين وأراد بذلك نصحه عساه يرعوي . وسماه باسمه يهوذا ( لو 12: 48 ) ليذكره بالرتبة والتعليم والالفة والدالة التي كانت له عنده لكي يرجع عن شره . ولما كان المسيح قد اكمل كل سياسته ولم يبق له الا الآلام والموت والقيامة فسلم نفسه لاعدائه .
عدد 51 : واذا واحد من الذين مع يسوع مد يده واستل سيفه وضرب عبد رئيس الكهنة ، فقطع اذنه .
اراد بطرس ان يقطع عنق العبد لا أذنه لان الذي يريد ضرب العنق فيضرب بالسيف يمين عنق المضروب لكن العناية الالهية أمالت السيف فقطع الاذن دلالة على ان الانبياء نادوا كثيراً في اذان الشعب اليهودي ليؤمنوا بالمسيح فرفضوه وسدوا آذانهم عن صراخ الانبياء وأخيراً قطع مسمعهم .
عدد 52 : فقال له يسوع : “ ردّ سيفك الى مكانه . لان كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون !
توبيخ سيدنا لسمعان كان تعليماً لنا على انه يجب التسليم لمشيئة الله ولكن بما ان سمعان لم يكن قد حصل على موهبة الروح ضرب بالسيف وارفاقه ساعددوه بانواع أخر . لكن لما كمل بالروح اهين وضربولم يغضب ولا اغتاظ . قال الذهبي الفم ان العبد الذي قطع أذنه بطرس هو الذي لطم المسيح على خده واياه يسمي يوحنا ملخوس . وقال ( ان من يأخذ بالسيف بالسيف يهلك ) اي كما ان اليهود جاءوا بسيوفهم وعصيهم فهكذا سيأتيهم اسباسيانوس وتيطس بسيوفهم فيقتلونهم وقال آخرون انه بعد ان صلب بطرس منكس الرأس قطع رأسه وكمل فيه كلام سيدنا . وبقوله ( الكأس التي اعطاني الآب ألا اشربها يو 18: 11 ) منع بطرس من القتال مع الاعدداء . فكأنه يقول لو كنت اريد قتالهم لحاربتهم الملائكة وفعلت بهم كما فعلت بأهل سدوم .
عدد 53 : أتظن اني لا استطيع الآن ان أطلب الى أبي فيقدم لي في الحال أكثر من اثنتي عشرة جيشاً من الملائكة ؟
أي لكل سبط من اسباط اسرائيل جوقة والجوقة عشرة آلاف فيكون مجموع الجوقات مئة وعشرون الفاً ملاكاً وقال ( اسأل من أبي ) اولاً لاجل ضعف السامعين لانه لم يكن له عندهم شأن يذكر لاسيما وانهم قبل قليل رأوه يحزن ويكتئب ورأوا فيه ما يدل على انه لا يقدر ان يهلك الصالبين لذلك قال اسأل .
عدد 54 : فكيف تكمل الكتب : انه هكذا ينبغي ان يكون ؟ “ .
عدد 55 : في تلك الساعة قال يسوع للجموع : “ كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصي لتاخذوني ! كل يوم كنت أجلس معكم أعلم في الهيكل ولم تمسكوني .
اي ان افعالي ليست كأفعال اللصوص والسراق لتمسكوني ليلاً لاني بالنهار كنت اعلم بينكم . وليكن عندكم معلوم اني لو لم ارد تسليم نفسي لكم فسيوفكم وعصيكم لا تستطيع امساكي .
عدد 56 : وامّا هذا كله فقد كان لكي تكمل كتب الانبياء “ . حينئذٍ تركه التلاميذ كلهم وهربوا.
بقوله ( لتتم كتب الانبياء ) لم يترك حجة لليهود ولا عذر برفضهم اياه لانه كمل الناموس وتمم اقوال الانبياء . ثم ان اليهود لما أمسكوا المسيح لبث التلاميذ عنده يدافعون عنه لكنهم لما رأوا انه هو باختياره اسلم ذاته فكروا ان بقائهم معه زائد لذلك هربوا . وتمت فيهم نبوة زكريا القائلة . أضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية ( زك 13: 7 ) .
المحاكمة أمام المجلس اليهودي
عدد 57 : والذين أمسكوا يسوع مضوا به الى قيافا رئيس الكهنة ، حيث اجتمع الكتبة والشيوخ .
ان الامكنة او المراحل التي أخذوا اليها سيدنا هي اولاً بيت حانان ومن هناك الى بيت قيافا ثم الى مجمعهم فبيلاطوس فهيرودس فديوان بيلاطس فالجلجلة حيث صلبوه . وهذه عوض المراحل التي عملها لاجدادهم لما خرجوا من مصر .
عدد 58 : واما بطرس فتبعه من بعيد الى دار رئيس الكهنة ، فدخل الى داخل وجلس بين الخدام لينظر النهاية .
كان سمعان يخاف ان يتقدم . ولم يهرب من كثرة محبته . ودخل وجلس لينظر ماذا تكون نتيجة محاكمته .
عدد 59 : وكان رؤساء الكهنة والشيوخ والمجمع كله يطلبون شهادة زور على يسوع لكي ليقتلوه .
عدد 60 : فلم يجدوا ، ومع أنه جاء شهود زور كثيرون ، ولم يجدوا . ولكن أخيراً تقدم شاهدا زور .
عدد 61 : وقالا : “ هذا قد قال : “ اني اقدر ان انقض هيكل الله ، وفي ثلاثة أيام أبنيه “ .
دعي شاهدا زور لان السيد قال ذلك هن هيكل جسده اذا نقضوه هم لا اذا نقضه هو والشهود شهدوا انه قال ذلك عن هيكل الحجارة . وان قال قائل ان الشهود لم يكونوا عارفين بمراد المسيح والتلاميذ أيضاً ما كانوا عارفين حتى قام من القبر وعليه فالشهود معذورون ؟ الجواب ان شهادتهم تظهر زوراً من أمر واحد فقط وهو تحريفهم قول سيدنا . فانه له المجد لم يقل انه هو ينقض الهيكل ويقيمه بل ان نقضوه هم أي يقتلون المسيح ويدفن وبعد ثلاثة أيام هو يحيي جسده ويقيمه وعليه فهم شهود زور .
عدد 62 : فقام رئيس الكهنة وقال له : “ اما تجيب بشيء ؟ ماذا يشهد به هذان عليك ؟ “ .
عدد 63 : وأما يسوع فكان ساكتاً . فأجاب رئيس الكهنة وقال له : “ استحلفك بالله الحي ان تقول لنا : هل انت المسيح ابن الله ؟ “ .
استخدم رئيس الكهنة هذا القسم بمكر ليقضي على المسيح ومراده اذا سمع المسيح هذا القسم وسكت فيبكته ويشكوه كأنسان مذنب سمع قسم الله ولم يعتد به بل سكت . وان قال هو فيشكوه ويدينه من فمه بلا شهود لانه جعل نفسه ابن الله وهو انسان . وعلى فرض المستحيل ان المسيح انكر وقال اني لست ابن الله فيعرف انه مضل وكذاب فيحكم عليه بالموت .
عدد 64 : قال له يسوع : “ انت قلت ! وأيضاً اقول لكم : من الآن تبصرون ابن الانسان جالساً عن يمين القوة ، وآتياً على سحاب السماء “ .
أجابه المسيح بحكمة فانه لم يسكت سكوتاً غير مكترث بالقسم ولا أجاب كما اراد ولا انكر شيئاً . بل اجابه ( انت قلت ) اي آمن وصدق بما قد قلت اني انا هو المسيح ابن الله . وبقوله ( جالس عن يمين القدرة ) بيّن انه مساوٍ لابيه في الجلوس . فكأنه يقول لست ابن الله فقط بل الديان المزمع ان ياتي ويدين المسكونة بالعددل .
عدد 65 : فمزّق رئيس الكهنة حينئذٍ ثيابه قائلاً : “ قد جدف ! ما حاجتنا بعد الى شهود ؟ ها انتم قد سمعتم تجديفه !
عدد 66 : ماذا ترون ؟ “ . فأجابوا وقالوا : “ انه مستوجب الموت “ .
لم تكن الثياب عادية بسيطة بل كانت ثياب الكهنوت لانه كان عيد الفصح وكان لابساً ليخدم الخدمة الكهنوتية . وقد تم هذا الامر بتدبير الهي حتى يرفض من الكهنوت . كانت العادة عند اليهود انه متى جدف أحد على الله فيما بينهم شقوا ثيابهم على المجدفين . وهذه لم تكن مفروضة في الناموس لان يوئيل النبي قال قلوبكم لا ثيابكم ( يؤ 2: 12 ) .
عدد 67 : حينئذٍ بصقوا في وجهه ولكموه ، وآخرون لطموه
لم يبصق اليهود بوجهه ولم يضربه العبد بما انه اله لانه عال بطبعه عن الآلام والسخرية بما انه صار انساناً .
عدد 68 : قائلين : “ تنبأ لنا ايها المسيح من الذي ضربك ؟ “ .
اوضح مرقس هذا بانهم غطوا وجهه ولكموه ( 14 : 65 ) . وبما انه عرف افكارهم ونياتهم مرات شتى فاستهزأوا به قائلين ما دمت تعرف الخفايا تنبأ لنا من الذي ضربك .
بطرس ينكر يسوع
عدد 69 : اما بطرس فكان جالساً خارجاً في الدار ، فجاءت اليه جارية قائلة : “ وانت كنت مع يسوع الجليلي ! “ .
عدد 70 : فانكر قدام الجميع قائلاً : “ لست ادري ما تقولين ! “
لم يكن سؤال الجارية لبطرس في معرض كلام جار صدفة أو اتفاقاً بل بتدبير من الله . وكأن لسان حالها يقول كيف لم تكن معه وكيف لا تدريه ففي الحالتين انت كاذب لانك كنت معه وتدريه وانت رفيقه .
عدد 71 : ثم اذ خرج الى الدهليز رأته أخرى ، فقالت للذين هناك : “ وهذا كان مع يسوع الناصري ! “
عدد 72 : فانكر ايضاً بقسم : “ اني لست أعرف الرجل ! “ .
عدد 73 : وبعد قليل جاء القيام وقالوا لبطرس : “ حقاً انت أيضاً منهم ، فان لغتك تظهرك ! “ .
عدد 74 : فابتدأ حينئذٍ يلعن ويحلف : “ اني لا اعرف الرجل ! “ وللوقت صاح الديك .
خرج الى الباب لئلا يرى فرأته أخرى . ولما امسك به هؤلاء الرجال وقالوا له وانت أيضاً منهم ازداد نكراناً وأقسم بلعنات انه لا يعرفه . زعم قوم ان بطرس انكر ان المسيح انسان ولكنه عارف به انه اله . وهذا الزعم باطل اذ لو صح لكان تانس المسيح خيالاً . لان بطرس ما اعترف به انه ذو جسد متنفس فقط بل كذب ايضاً انباء سيدنا القائل له انك تنكرني والحقيقة هي انه كفر وجدف حقاً لخوفه من الموت لان الموت كان وقتئذٍ صعباً جداً . وعلة كفره ترك المسيح اياه لحريته ليظهر انه حر في كفره ليس مرغماً ولكي يختبر ضعف نفسه ولكي لا يتكبر فيما بعد عند صنعه العجائب الباهرة . ان الفضيلة تقوم من شيئين من ارادتنا ومن معونة الله وعليه فلا يجوز ان نلقي كل شيء على الله ولا ان نتكل على قوتنا وارادتنا في تكميل الفضائل بل علينا ان نبتدي قاصدين اتمامها ومن الله القوة والعون
ذكر متى ومرقس ولوقا ان بطرس انكر سيده في بيت قيافا وذكر يوحنا ان كفر بطرس للمرة الاولى كان في بيت حانان . اما نحن فنقول ان كفره المثلث كان ما بين بيت حنان لبيت قيافا . ثم ان متى يقول ان بطرس سئل من الجاريتين ولوقا يقول انه سئل من الجارية الواحدة ومرقس يقول انه سئل من الجارية الواحدة مرتين . ثم ان متى ومرقس يقولان انه سئل في المرة الثالثة من الذين كانوا واقفين . ولوقا يقول انه سئل في المرة الثالثة من آخرين ويوحنا يقول انه سئل في المرة الاولى من الفتاة الجارية وانه في المرة الثانية سئل من آخرين والمرة الثالثة سئل من احد عبيد رئيس الكهنة نسيب الذي قطع بطرس اذنه . أما نحن فنقول ان لفظة آخرين تطلق احياناً على الفتاة اي الجارية. وعليه فان قول لوقا ويوحنا الذين قالا انه قيل له من آخرين هو الذي ذكره متى ومرقس اذ قالا انه في المرة الثانية سئل من الجارية . وكذلك قول يوحنا انه قيل له من العبد هو الذي ذكره متى ومرقس اذ قال انه سئل من اولئك الواقفين . ويتضح من قول لوقا ( ان المسيح التفت ونظر الى بطرس ) ان بطرس نسي انباء سيدنا اياه بالانكار حتى ان صياح الديك لم يذكره ولكن التفات المسيح عندما نظر اليه جعله يتنبه ويبكي وكأن لسان حال ذلك الالتفات يقول له تذكر ما انبأتك به فانه قد تم فعليك ان تفوز بنفسك وتتوب .
عدد 75 : فتذكر بطرس كلام يسوع الذي قال له : “ انك قبل ان يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات “ . فخرج الى خارج وبكى بكاءً مراً .
يسأل البعض لماذا قال مرقس انه قبل ان يصيح الديك مرتين تنكرني ثلاث مرات ؟ الجواب ان صياح الديك الاول كان بعد نكران بطرس الاول وصياحه الثاني كان بعد نكرانه ثلاث مرات . لان كل ما يصيح الديك يصيح صيحتين أو ثلاثاً . فقال القديس متى انه قبل ان يصيح الديك المرة الاولى أي ويكمل كل صيحاته تنكرني ثلاث مرات . وكيفية ذلك انه لما انكره سمعان المرة الاولى صاح الديك وقبل ان يكمل صياحه للمرة الثانية من الصيحة الاولى أنكر سمعان المسيح المرة الثانية والثالثة . فعلى هذا المنوال اتفق الانجيليون . قال آخرون انه في تلك الليلة صاح ذلك الديك مرتين الاولى طبيعية والثانية خلافاً لعادته . وذلك بتدبير رباني سبق وجعله ان يصيح أولاً لكي يمنع بطرس من الكفر به مع ان ذلك لم يفده شيئاً بل ازداد اثماً وكفر مرتين أخريين وكل ذلك من خوفه وحينئذٍ صاح الديك . وقد سمى مرقس وحده هذه الصيحة ثانية نسبة للاولى التي كانت بالهام السيد المسيح لانه كتب عن كفر معلمه بالتفصيل لان بطرس كان قد اوصاه ان يكتب عن الخوف والكفر بالتدقيق لاجل ذلك كتب عنه كما حدث فسمى هذه الملهمة أولى وتلك الطبيعية ثانية . اما متى ولوقا ويوحنا فذكروا المرة الطبيعية فقط . وأراد المسيح ان يعترف سمعان بضعفه ويتوب راجعاً اليه فلم يتب لا بصياح الديك كعادته ولا بصياحه خارجاً عن عادته المالوفة . ولم يخجل من نفسه عما أتاه من النكران الى ان التفت اليه السيد المسيح فحينئذٍ خرج خارجاً وبكى وببكائه فتح باب التوبة للتائبين وبقوله بكاء مراً اوضح انه من كل قلبه يبكي . وكما قلنا آنفاً كفره صدر عن خوفه وعن سماح ربنا وليس من شره أو بغضه للمسيح . وبكاؤه برهن شدة محبته أمانته لسيده .