تفسير انجيل متى الاصحاح العشرون

Posted by on Aug 17, 2012 in Library, -الدر الفريد في تفسير العهد الجديد ـ تفسير انجيل متى - مار ديونيسيوس ابن الصليبي | Comments Off on تفسير انجيل متى الاصحاح العشرون

مثل العمال في الكرم – يسوع ينبئ مرة ثالثة بموته – طلب أم يعقوب ويوحنا – شفاء أعميين في أريحا

مثل العمال في الكرم

عدد 1 : “ فإن ملكوت السماوات يشبه رجلاً رب بيت خرج مع الصبح ليستأجر فعلة لكرمه ،

عدد 2 : فاتفق مع الفعلة على دينار في اليوم ، وارسلهم الى كرمه .

يسمي المسيح نفسه رب بيت لانه تجسد والملكوت البشارة والعملة بني البشر ويسمي الكرم الوصايا التي وضعها وزمان العمل مدة حياة هذا العالم ودينار كل يوم هو سيدنا الذي يلذذ العملة في ملكوته . والعملة الذين استأجرهم وقت الصباح هم الذين منذ نشأتهم يبتدون بعمل البر .

                                                               

عدد 3 : ثم خرج نحو الساعة الثالثة ورأى آخرين قياماً في السوق بطّالين ،

عدد 4 : فقال لهم : اذهبوا انتم أيضاً الى الكرم فأعطيكم ما يحق لكم . فمضوا .

عدد 5 : وخرج أيضاً نحو الساعة السادسة والتاسعة وفعل كذلك .

عدد 6 : ثم نحو الحادية عشرة خرج ووجد آخرين قياماً بطّالين ، فقال لهم : لماذا وقفتم ههنا كل النهار بطالين ؟

عدد 7 : قالوا له : لأنه لم يستأجرنا احد . قال لهم : اذهبوا انتم ايضاً الى الكرم فتأخذوا ما يحقّ لكم .

العملة الذين استأجرهم في الساعة الثالثة هم الذين يتتلمذون في الشبيبة وعملة الساعة السادسة هم البالغين . وعملة التاسعة هم منتصفوا الاعمار وعملة الحادية عشرة هم الشيوخ . وهناك شرح آخر مؤداه ان عملة الصباح هم آدم وشيت وغيرهما . وفعلة الثالثة الذين جاءوا بعدد الطوفان كابرهيم واسحق ويعقوب وعملة الساعة السادسة هم موسى وهارون ويشوع والانبياء الى سيدنا . وفعلة التاسعة هم الاثنا عشر رسولاً والاثنان والسبعون مبشراً وغيرهم من الذين آمنوا به من ميلاده الى صلبوته . وفعلة الحادية عشرة هو لص اليمين ومن تبعه من فاعلي البر الى الآخرة مثل الشهداء والمعترفين . ثم شرح آخر مفاده ان الكرم كناية عن المؤمنين . والرجل عن الله والعملة عن الناس الفضلاء . والصباح عن بدء البشارة . والشرط مع الفعلة عن مدة الحياة . والارسال الى الكرم عن الخدمة المعينة لكل واحد . واليوم عن زمن مجيئه في الآخرة . وفعلة الصباح عن الذين آمنوا في زمن وجود ربنا بالجسد على الارض . وفعلة الثالثة عن الذين آمنوا بعدد صعوده . وفعلة الساعة السادسة والتاسعة عن الذين آمنوا جيلاً بعدد الجيل . وفعلة الحادية عشرة هم الذين سوف يؤمنون في آخر العالم .

 

عدد 8 فلما كان المساء قال رب الكرم لوكيله ، ادع العملة واعطهم الاجرة مبتدئاً من الآخرين الى الاولين .

 يراد بالمساء انتهاء العالم الذي به تكون القيامة العامة وبالوكيل عددل الله تعالى الذي يجازي كل واحد حسب اعماله وبالاجرة والدينار مكافأة الابرار في الملكوت . ثم ان المسيح يأمر باعطاء الاجرة مبتدئاً من الآخرين اولاً لصعوبة الأزمنة الاخيرة كقوله تأتي أيام صعبة ( 2 تي 3 : 1 ) . وثانياً لان المدعوين في الاخير يبقون أحياء دون ان يذوقوا الموت كقول بولس ( 1 تس 4 : 15 ) وثم لانه لا حسد في جهنم ولا تعمل عجائب في الازمنة الاخيرة كما كان في الازمنة الاولى .

عدد 9 : فجاء اصحاب الساعة الحادية عشرة وأخذوا ديناراً ديناراً .

عدد 10 : فلما جاء الاولون ظنوا انهم يأخذون اكثر . فاخذوا هم ايضاً ديناراً ديناراً .

عدد 11 : وفيما هم يأخذون تذمروا على رب البيت .

عدد 12 : قائلين : هؤلاء الآخرون عملوا ساعة واحدة ، وقد ساويتهم بنا نحن الذين احتملنا ثقل التهار والحرّ !

يراد بالساعة قصر الزمان او آخر ساعة من حياة الانسان أوشهر او يوم كما وقع للص ولمريم الخاطية الذين تبررا في ساعة واحدة ويراد بالمساواة في الاجرة دخول جميع المؤمنين الى الملكوت لا المساواة في المكافاة لان كل واحد سيجازى حسب اعماله . وقول الاولين “ اننا حملنا ثقل النهار وحره “ يشير الى الاتعاب والشرور الكثيرة التي احتملوها من اليهود . ولسائل يسأل لماذا لم يستاجر الجميع معاً . فنجيب ان المسيح استاجر الجميع معاً فان لم يسمعوا معاً فالعلة في اختلاف ارادتهم . ثم نقول انه دعاهم في خمسة أوقات ولان الانسان ذو خمس حواس ولانه يتدرج في خمسة أدوار وهي الطفولة والصبوة والشبيبة والكهولة والشيخوخة . ولان التوراة خمسة اسفار ولان عهود الله لبني البشر عن ابنه الحبيب كانت مع آدم ونوح وابرهيم وموسى وداود . كقول الرسول بولس ان ليس مكان لعهد آخر لان العالم بلغ الى المنتهى .

عدد 13 : فاجاب وقال لواحد منهم : يا صاحب ، ما ظلمتك ! أما اتّفقت معي على دينار ؟

عدد 14 : فخذ الذي لك وأذهب ، فاني اريد ان اعطي هذا الآخير مثلك .

عدد 15 : او ما يحلّ لي ان أفعل ما أريد بما لي ؟ ام عينك شريرة لاني انا صالح ؟

عدد 16 هكذا يكون الآخرون اولين والاولون آخرين ، لان كثيرين يدعون وقليلين ينتخبون “ .

حسب  ظني ان اليهود كانوا اولين وشعباً مختاراً ولكنهم لما لم يؤمنوا بالانجيل صاروا آخرين . والآخرون الذين صاروا اولين هم الشعوب الذين رجعوا من الضلالة وأمنوا بالانجيل فصاروا اولين . وقد ضرب هذا المثل تشويقاً وتشجيعاً للذين هم في الشيخوخة ليقبلوا الى الصلاح . ولكي لا يظنوا انهم ينقصهم شيء يشجعهم بانهم سيتنعمون مع الاولين في الملكوت حيث لا حسد ولا غيرة .

 

يسوع ينبئ مرة ثالثة بموته                                                      

عدد 17 : وفيما كان يسوع صاعداً الى اورشليم اخذ الاثني عشر تلميذاً على انفراد في الطريق وقال لهم  :

عدد 18 : “ ها نحن صاعددون الى اورشليم ، وابن الانسان يسلم الى رؤساء الكهنة والكتبة ، فيحكمون عليه بالموت ،

لم يصعد من فوره الى اورشليم بل بعدما شفى المرضى وعمل الآيات امام الجموع . وقد انفرد بالتلاميذ ليحدثهم عن آلامه وموته حتى لا يعتريهم الشكوك عند وقوعها . بل يعلموا انه انما يتألم بارادته .

عدد 19 : ويسلمونه الى الامم لكي يهزأوا به ويجلدوه ويصلبوه ، وفي اليوم الثالث يقوم “ .

أي انه يقوم بنفسه لا بقوة آخر يقيمه .

 

طلب أم يعقوب ويوحنا                                  

عدد 20 : حينئذٍ دنت اليه أم ابني زبدى مع ابنيها ، وسجدت وطلبت منه شيئاً .

يقول الانجيليون الاخرون ان ابني زبدى هما اللذان تقدما اليه . والقولان صحيحان . لانهما قد أخذا امهما معهما كي يعززا طلبهما حتى يحوز القبول وربما استحيا من تفردهما بتقديم الطلب . اما السبب في طلبتهما هذه فلانهما كانا مكرمين اكثر من رفاقهما لذلك قصدا ان ينالا هذه الطلبة بواسطة كرامتهما .

عدد 21 : فقال لها : “ ماذا تريدين ؟ “  قالت له : “ قلْ ان يجلس ابناي هذان واحد عن يمينك والآخر عن اليسار في ملكوتك “ .

لا لانه كان يعلم مرادها سألها ولكنه تشبه بأبيه الذي سأل آدم اين انت . وطلبت لابنيها التقدم في الجلوس على الكرسي مع كون ابناها يعلما انهما مكرمان اكثر من غيرهم من الرسل ولكنهم خشوا تقديم بطرس عليهما . وكانوا يظنون ان ملكوت الله محسوسة وانها ستظهر في الحال كقول لوقا ( 19 : 11 ).

 

عدد 22 : فاجاب يسوع وقال : “ لستما تعلمان ما تطلبان . اتستطيعان ان تشربا الكأس التي سوف أشربها انا ، وأن تصطبغا بالصبغة التي أصطبغ بها أنا ؟ “ قالا له : “ نستطيع “ .

ابان بقوله “ لا تعلمان “ انهما يطلبان هذه الطلبة عن غيرة انسانية وان ملكوت السماوات تفوق افكارهم وانها اسمى شرفاً وأجل قدراً وان عقول العلويين لا تقدر ان تحدها. وقد سمى الموت معمودية تنويهاً عن التطهير والغفران المزمع ان يظهر من موته للخلائق أجمع . وقد سماه كأساً لان الكأس يسكر أولاً ولكنه يفرح أخيراً . والمعمودية هي التغرب عن العالميات .

 

عدد 23 : فقال لهما : “ اما كأسي فتشربانها ، وبالصبغة التي أصطبغ بها أنا تصطبغان . واما الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي ان اعطيه الا للذين أُعدّ لهم من أبي “ .

( كأسي تشربانها ) اي ستقتلان من اجل بشارتي فتموتا لاجلي وبهذه تتشبهون بي مستحقين الشهادة عني . وقد أشركهم معه بقوله كأسي تشربانها . فاني مزمع ان اموت وأشرب الكأس فكونوا مستعددين انتم ايضاً لشربه . وكانه يقول لهما انكما تطلبان مني مكافأة الجلوس في اكرم موضع واما انا فاتكلم عن الجهاد والموت الذي سيتصادفانه لان هذا الزمان ليس زمان المكافأة بل زمان الخوف والمخاطرات ز وقوله “ اما جلوسكم عن يميني “ اي ان هذه الموهبة لا تعطى بالطلب ولا تمنح على سبيل الاطلاق . لكنها تعطى مكافأة للذين نالوا اتعاباً ومشقات في هذا العالم من اجل اسمي وليس المراد بقوله “ ليس لي ان اعطيه “ انه عاجز عن ذلك بل المراد هنا ان هذه العطية لا تعطى عددلاً الا للذين استحقوها بالاعمال الصالحة . ثم نقول لا يجلس احد عن يمينه و شماله لا الرسل والقديسين ولا الملائكة لان الجلوس خاص به وحده ويتضح ذلك من قول بولس الرسول مشيراً الى اكرام المخلص “ لمن من الملائكة قال قط اجلس عن يميني حتى اضع اعدداءك موطئاً لقدميك ( عب 1: 13 ) . وأما عن الابن كرسيك يا الله الى دهر الدهور ( عب 1: 8 ) فاذاً ليس من يجلس ولكنه جارى ابني زبدى حسب ظنهما وهما لا يعرفان ذلك الكرسي الشريف ولا يدركان الجلوس عن يمين الآب . وانما غاية ما أراد ان يكون لهما الاكرام الاول فافهمهم المسيح ان قتلهما وموتهما لاجله ليسا بكافيين ان يحلاهما في المحل الاول لان قد يوجد من يحوز مع الاستشهاد فضائل اوفر منهما . وان مجرد محبته لهما اكثر من رفقائهما لا تجيز لهما التقدم على من يفوقهما بالفضائل . ولم يقل ذلك ظاهراً لكن رمزاً لئلا يكدرهم . وقوله “ للذين اعدد لهم من قبل أبي “ أي للذين قد اظهروا ذواتهم مستحقين بواسطة الاعمال الصالحة كقول القديس تاولوغوس فاعدد لهم من الآب مقابل اعمالهم . وقوله من ابي لا ينفي انه من الابن لان الاعطاء مخصوص به واضح من قوله “ لان مهما عمل الآب … يعمله الابن كذلك ( يو 5 :19 ) ومن قوله “ قد اعطى كل الدينونة للابن ( يو 23 : 5 ) ومن قول بولس الرسول “ فقد اعدد لي اكليل يكافيني به سيدي ( تي 4 : 8 ) وقال له المجد ( ليس لي ان اعطيه ) لكي يشوقهم ان يكونوا مجتهدين في الاعمال الصالحة . فمثل المسيح مثل قائد الجيش مع عساكره حيث يعد المجاهدين المنتصرين بأكاليل الشرف وعنده اثنان من المخلصين له ويطلبان منه الخلع وهما لم يخوضا غمار الحرب بعدد فيجيبهم اني لست انا  المكلل اياكما لكن الذين قد اعد لهم من المنصورين في القتال فهو لا يحجم عن تتويجهما عجزاً بل عددلاً . هكذا السيد المسيح عمل مع ابني زبدى  . وليس من شأن الابطال الجلوس مع الملك المنتصر عن يمينه وشماله ولكن الاكاليل محفوظة للغالبين والمنصورين .

 

عدد 24 : فلما سمع العشرة اغتاظوا من أجل الاخوين .

غضبوا عليهما لما سمعوا توبيخ المسيح لهما . ولان الرسل جميعهم لم يكونوا كاملين قبل الصليب فيعقوب ويوحنا ابتليا بمرض الكبرياء والمجد الباطل والعشرة ابتلوا بمرض الحسد ولكنهم شفوا بعدد الصليب من تلك الامراض . فيوحنا سمح لبطرس بالدخول الى القبر أولاً وغير هذه أشياء كثيرة مذكورة في كتاب الابركسيس .

 

عدد 25 : فدعاهم يسوع وقال لهم : “ انتم تعلمون أن رؤساء الامم يسودونهم ، والعظماء يتسلطون عليهم .

قوله دعاهم يفيد انه دعاهم للمصالحة . لان الاخوين كانا يسألانه وهما متجنبين عن البقية . وبقوله رؤساء الامم الخ . نبههم تنبيهاً ان ل ايطلب احدهم التصدر في مقدمة الاخرين كما يجري عند الامم .

 

عدد 26 : فلا يكون فيكم . بل من اراد ان يكون فيكم عظيماً فليكن لكم خادماً ،

عدد 27 : ومن اراد ان يكون فيكم اولاً فليكن لكم عبداً ،

هنا يعرفهم ان الكبير هو من يخدم الصغير كما فعل واقام نفسه قدوة لهم .

 

عدد 28 : كما ان ابن الانسان لم يأت ليخدم بل ليخدم ، وليبذل نفسه فدية عن كثيرين “ .

كأنه يقول لهم أنا ملك القوات العلوية قد صرت انساناً وقبلت الحقارة والآلام والموت فدية لخلاص اعدائي افلا تقبلون انتم ان تضعوا انفسكم لا فدية من اجل الغير بل لتكسبوا الرفعة لانفسكم .

 

شفاء أعميين في أريحا

عدد 29 : وفيما هم خارجون من اريحا تبعه جمع كثير ،

اريحا رمز عن هذا العالم واورشليم عن العالم المزمع ومعناها المزمع .

 

عدد 30 : واذا اعميان جالسان على الطريق . فلما سمعا ان يسوع مجتاز صرخا قائلين : “ ارحمنا يا سيد ، يا ابن داود ! “

يظهر ان الاعميين لم يكن لهما مرشد لذلك جلسا في الطريق . ذكر مرقس انه اعمى واحد واسمه طيمى ابن طيمى اي عيناه مطموستان فهو أعمى ابن أعمى . ومتى يذكر أعميين فيستنتج من ذلك ان طيمى الذي ذكره مرقس كان احد هذين الاعميين أو ان المسيح عمل آيتين في ذلك الطريق ففتح اعين الاعميين كما ذكر متى وعيني طيمى ابن طيمى الذي ذكره مرقس . وقد اعترفا هذان الاعميان بانه الرب الاله وان كان ابن داود بالجسد .

 

عدد 31 : فانتهرهما الجمع ليسكتا فكانا يصرخان اكثر قائلين : “ ارحمنا يا سيد ، يا ابن داود ! “

ترك المسيح الجمع ان يزجرهما لكي يظهر إيمانها الكثير .

 

عدد 32 : فوقف يسوع وناداهما وقال : “ ماذا تريدان ان افعل بكما ؟ “

عدد 33 : قالا له : “ يا سيد ، ان تفتح أعيننا ! “.

لم يكن يجهل غرضهما ولكنه تشبه بابيه حين سأل آدم اين انت . وقابين اين هابيل أخوك . وموسى ما هذه في يدك ( خر 4 : 2 ) . وثم لكي تظهر امانتهما وعدم أمانة اليهود  وحتى لا يظن اليهود ان الاعميين كانا يطلبان شيئاً وهو اعطاهما شيئاً آخر .

 

عدد 34 : فتحنن يسوع ولمس أعينهما ، فللوقت أبصرت اعينهما فتبعاه .

اثنتان أظهرتا انه اله الاولى منح الشفا بسلطانه لا بالصلاة والثانية سرعة قوته في شفائهما في لحظة . وكثيرون بعدد ان شفوا انكروا احسانه . اما هذان الاعميان فقبل الشفاء اظهرا الصبر وبعدد الشفاء اعترفا بفضله ومضيا وراءه .