مقدمة
قال القاضي صاعد بن أحمد الأندلسي صاحب قضاء مدينة طليطلة : إن العرب فرقتان فرقة بائدة وفرقة باقية. أما الفرقة البائدة فكانت أمماً ضخمة كعاد وثمود وطسم وجديس. ولتقادم انقراضهم ذهبت عنا حقيقة أخبارهم وانقطعت عنا أسباب العلم بآثارهم. وأما الفرقة الباقية فهي متفرعة من جذمين قحطان وعدنان. ويضمها حالان حال الجاهلية وحال الإسلام. فأما حال العرب في الجاهلية فحالٌ مشهور عند الأمم من العز والمنعة وكان ملكهم في قبائل قحطان وكان بيت الملك الأعظم في بني حمير وكان منهم الملوك الجبابرة التبابعة. وأما سائر عرب الجاهلية بعد الملوك فكانوا طبقتين أهل مدر وأهل وبر. فأما أهل المدر فهم الحواضر وسكان القرى. وكانوا يحاولون المعيشة من الزرع والنخل والماشية والضرب في الأرض للتجارة. وأما أهل الوبر فهم قطّان الصحارى. وكانوا يعيشون من ألبان الإبل ولحومها منتجعين بمنابت الكلأ مرتادين لمواقع القطر فيخيمون هنالك ما ساعدهم الخصب وأمكنهم الرعي ثم يتوجهون لطلب العشب وابتغاء المياه فلا يزالون في حل وترحال كما قال بعضهم عن ناقته:
تقول إذا درأت لها وضيني أهذا دينه أبداً وديني
أكل الدهر حلٌّ وارتحالٌ أما يبقي عليَّ ولا يقيني
ذلك دأبهم زمان الصيف والربيع. فإذا جاء الشتاء واقشعرت الأرض انكمشوا إلى أرياف العراق وأطراف الشام. فشتّوا هناك مقاسين جهد الزمان ومصطبرين على بؤس العيش. وكانت أديانهم مختلفة. فكانت حمير تعبد الشمس. وكنانة القمر. وميسم الدبران. ولخم وجذام المشتري. وطيّء سهيلاً. وقيس الشعري العبور. وأسد عطارد. وثقيف بيتاً بأعلى نخلة يقال لها اللات. وكان فيهم من يقول بالمعاد ويعتقد أن من نحرت ناقته على قبره حشر راكباً ومن لم يفعل ذلك حشر ماشياً. فأما علم العرب الذين كانوا يفاخرون به فعلم لسانهم وأحكام لغتهم ونظم الأشعار وتأليف الخطب. وكان لهم مع هذا معرفة بأوقات مطالع النجوم ومغاربها وعلم بأنواء الكواكب وأمطارها على حسب ما أدركوه بفرط العناية وطول التجربة لاحتياجهم إلى معرفة ذلك في أسباب المعيشة لا على طريق تعلم الحقائق. وأما علم الفلسفة فلم يمنحهم الله شيئاً منه ولا هيأ طبائعهم للعناية به. فهذه كانت حالهم في الجاهلية. وأما حالهم في الإسلام فعلى ما نذكره بأوجز ما يمكننا وأقصر إن شاء الله.
“ محمد بن عبد الله عليه السلام “
ذكر النسابون أن نسبته ترتقي إلى إسماعيل ابن إبراهيم الخليل الذي ولدت له هاجر أمة سارة زوجته. وكان ولادته بمكة سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة للاسكندر. ولما مضى من عمره سنتان بالتقريب مات عبد الله أبوه وكان مع أمه آمنة بنت وهب ست سنين. فلما توفيت أخذه إليه جده عبد المطلب وحنا عليه. فلما حضرته الوفاة أوصى ابنه أبا طالب بحياطته فضمه إليه وكفله. ثم خرج به وهو ابن تسع سنين إلى الشام. فلما نزلوا بصرى خرج إليهم راهب عارف اسمه بحيرا من صومعته وجعل يتخلل القوم حتى انتهى إليه فأخذه بيده وقال : سيكون من هذا الصبي أمر عظيم ينتشر ذكره في مشارق الأرض ومغاربها فإنه حيث أشرف أقبل وعليه غمامة تظلله. ولما كمل له من العمر خمس وعشرون سنة عرضت عليه امرأة ذات شرف ويسار اسمها خديجة أن يخرج بمالها تاجراً إلى الشام وتعطيه أفضل ما تعطي غيره. فأجابها إلى ذلك وخرج. ثم رغبت فيه وعرضت نفسها عليه فتزوجها وعمرها يومئذ أربعون سنة. وأقامت معه إلى أن توفيت بمكة اثنتين وعشرين سنة. ولما كمل له أربعون سنة أظهر الدعوة. ولما مات أبو طالب عمه وماتت أيضاً خديجة زوجته أصابته قريش بعظيم أذى. فهاجر عنهم إلى المدينة وهي يثرب. وفي السنة الأولى من هجرته احتفل الناس اليه ونصروه على المكيين أعدائه. وفي السنة الثانية من هجرته إلى المدينة خرج بنفسه إلى غزاة بدر وهي البطشة الكبرى وهزم بثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً من المسلمين ألفاً من أهل مكة المشركين. وفي هذه السنة صرفت القبلة عن جهة البيت المقدس إلى جهة الكعبة. وفيها فرض صيام شهر رمضان. وفي السنة الثالثة خرج إلى غزاة أحد. وفيها هزم المشركون المسلمين وشجُّ في وجهه وكسرت رباعيته. وفي السنة الرابعة غزا بني النضير اليهود وأجلاهم عن الشام. وفيها اجتمع أحزاب شتى من قبائل العرب مع أهل مكة وساروا جميعاً إلى المدينة فخرج إليهم. ولأنه هال المسلمين أمرهم أمر بحفر خندق وبقوا بضعةً وعشرين يوماً لم يكن بينهم حرب. ثم جعل واحد من المشركين يدعو إلى البراز. فسعى نحوه علي بن أبي طالب وقتله وقتل بعده صاحباً له. وكان قتلهما سبب هزيمة الأحزاب على كثرة عددهم ووفرة عددهم. وفي السنة الخامسة كانت غزاة دومة الجندل وغزاة بني لحيان. وفي السنة السادسة خرج بنفسه إلى غزاة بني المصطلق وأصاب منهم سبياً كثيراً. وفي السنة السابعة خرج إلى غزاة خيبر مدينة اليهود. وينقل عن علي بن أبي طالب أنه عالج باب خيبر واقتلعه وجعله مجناً وقاتلهم. وفي الثامنة كانت غزاة الفتح فتح مكة وعهد إلى المسلمين أن لا يقتلوا فيها إلا من قاتلهم وأمن من دخل المسجد ومن أغلق على نفسه بابه وكفَّ يده ومن تعلق بأستار الكعبة سوى قوم كانوا يؤذونه. ولما أسلم أبو سفيان وهو عظيم مكة من تحت السيف ورأى جيوش المسلمين قال للعباس يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً. فقال له : ويحك إنها النبوة. قال نعم إذن. وفي السنة التاسعة خرج إلى غزاة تبوك من بلاد الروم ولم يحتج فيها إلى حرب. وفي السنة العاشرة حج حجة الوداع. وفيها تنبأ باليمامة مسيلمة الكذاب وجعل يسجع مضاهياً للقرآن فيقول : لقد أنعم الله على الحبلى أخرج منها نسمةً تسعى من بين صفاق وحشاً. وفي هذه السنة وعك عليه السلام ومرض وتوفي يوم الاثنين لليلتين بقيتا من صفر. وكان عمره بجملته ثلاثاً وستين سنة منها أربعون سنة قبل دعوة النبوة ومنها بعدها ثلث عشرة سنة مقيماً بمكة ومنها بعد الهجرة عشر سنين مقيماً بالمدينة. ولما توفي أراد أهل مكة من المهاجرين رده إليها لأنها مسقط رأسه. وأراد أهل المدينة من الأنصار دفنه بالمدينة لأنها دار هجرته ومدار نصرته. وأرادت جماعة نقله إلى بيت المقدس لأنه موضع دفن الأنبياء. ثم اتفقوا على دفنه بالمدينة فدفنوه بحجرته حيث قبض. واختلفوا بعدد أزواجه. وأكثر ما قالوا سبع عشرة امرأة سوى السراري. وولد له سبعة أولاد ثلاثة بنين وأربع بنات كلهم من خديجة إلا إبراهيم ابنه فإنه من ماريا القبطية التي بعث بها المقوقس إلى الإسكندرية مع أختها شيرين. ولم يمت من نسائه قبله إلا اثنتان. ولم يعش من أولاده بعده إلا ابنة واحدة وهي فاطمة زوجة علي بن أبي طالب وتوفيت بعد أبيها بثلاثة أشهر.
***
وقد وقع في الإسلام اختلافات شتى كما وقع في غيره من الأديان بعضها في الأصول وهي موضوع علم الكلام وبعضها في الفروع وهي موضوع علم الفقه. والخلاف في الأصول فينحصر في أربع قواعد الأولى الصفات والتوحيد. الثانية القضاء والقدر. الثالثة الوعد والوعيد. الرابعة النبوة والإمامة.
وكبار فرق الأصوليين ست. المعتزلة ثم الصفائية وهما متقابلتان تقابل التضاد. وكذلك القدرية تضاد الجبرية. والمرجئة الوعيدية. والشيعية الخوارج. ويتشعب عن كل فرقة أصناف فتصل إلى ثلث وسبعين فرقة. وأما المعتزلة فالذي يعممهم من الاعتقاد القول بنفي الصفات القديمة عن ذات الباري تعالى هرباً من أقانيم النصارى.
فمنهم من قال أنه تعالى عالم لذاته لا بعلم وكذلك قادرٌ وحيّ. ومنهم من قال أنه عالم بعلم وهو ذاته وكذلك قادر وحي فالأول نفى الصفة رأساً والثاني أثبت صفةً هي بعينها ذاتً.واتفقوا على إن كلامه تعالى محدث بخلقه في محل وهو حرف وصوت وكتب مثاله في المصاحف. وبالجملة نفي الصفات مقتبس من الفلاسفة الذين اعتقدوا أن ذات الله تعالى واحدة لا كثرة فيها بوجهٍ. وبازاء المعتزلة الصفاتيَّة وهم يثبتون الله صفات أزلية من العلم والقدرة والحياة وغيرها. وبلغ بعضهم في إثبات الصفات كالسمع والبصر والكلام إلى حد التجسيم فقال : لا بد من إجراء الآيات الدالة عليها كالاستواء على العرش والخلق باليد وغيرهما على ظاهرها من غير تعرض للتأويل. إلا أن قوماً منهم كأبي الحسن الاشعري وغيره لما بشروا علم الكلام منعوا التشبيه وصار ذلك مذهباً لأهل السنة والجماعة وانتقلت سنة الصفاتية إلى الاشعرية.
وأما القدرية فهم معتزلة أيضاً وإنما لقبوا بالقدرية لنفيهم القدر لا لإثباتهم إياه فإنهم يقولون أن العبد قادر خالق لأفعاله خيرها وشرها مستحق على ما يفعله ثواباً وعقاباً. فالرب تعالى منزه عن أن يضاف إليه شر وظلم. وسموا هذا النمط عدلاً. وحدوه بأنه إصدار الفعل على وجه الصواب والمصلحة لمقتضى العقل من الحكمة. وبازاء القدرية الجبرية الذين ينفون الفعل والقدرة على الفعل عن العبد ويقولون أن الله تعالى يخلق الفعل ويخلق في الإنسان قدرة متعلقة بذلك الفعل ولا تأثير لتلك القدرة على ذلك الفعل. ومنهم من يثبت للعبد قدرة ذات أثر ما في الفعل ويقولون أن الله مالك في خلقه يفعل فيهم ما يشاء ولا يسأل عما يفعل. فلو أدخلوا الخلائق بأجمعهم الجنة لم يكن حيفاً. ولو أدخلهم بأجمعهم النار لم يكن جوراً بل هو في كل ذلك عادل لأن العدل على رأيهم هو التصرف فيما يملكه المتصرف.
وأما المرجئة فهم يقولون بإرجاء حكم صاحب الكبيرة من المؤمنين إلى القيامة أي بتأخيره إليها. فلا يقضون عليه بحكم ما في الدنيا من كونه ناجياً أو هالكاً ويقولون أيضاً أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة. وبازاء المرجئة الوعيدية القائلون بتكفير صاحب الكبيرة وتخليده في النار وإن كان مؤمناً لكن يكون عقابه أخف من عقاب الكفار. وأما الشيعة فهم الذين شايعوا علي بن أبي طالب وقالوا بإمامته بعد النبي. وإن الإمامة لا تخرج من أولاده إلا بظلم. ويجمعهم القول بثبوت عصمة الأيمة وجوباً عن الكبائر والصغائر. فإن الإمامة ركن من أركان الدين لا يجوز للنبي إغفاله ولا تفويضه إلى العامة. ومن غلاة الشيعة النصيرية القائلون بأن الله تعالى ظهر بصورة علي ونطق بلسانه مخبراً عما يتعلق بباطن الأسرار. وقوم منهم غلوا في حق أيمتهم حتى أخرجوهم من حدود الخليقة وحكموا فيهم بأحكام إلاهية. وبازاء الشيعة الخوارج فمنهم من خطّأ علي بن أبي طالب فيما تصرف فيه ومنهم من تخطى عن تخطئته إلى تكفيره ومنهم من جوز أن لا يكون في العالم إمام أصلاً وإن احتيج إليه فيجوز أن يكون عبداً أو حراً أو نبطياً أو قرشياً إذا كان عادلاً. فإن عدل عن الحق وجب عزله وقتله. فهذا اقتصاص مذهب الأصوليين على سبيل الاختصار.
وأما مذاهب الفروعيين المختلفين في الأحكام الشرعية والمسائل الاجتهادية فالمشهورة منها أربعة : مذهب مالك بن أنس. ومذهب أحمد بن إدريس الشافعي. ومذهب محمد بن حنبل. ومذهب أبي حنيفة النعمان بن ثابت. وأركان الاجتهاد أيضاً أربعة : الكتاب والسنة والإجماع والقياس. وذلك لأنه إذا وقعت لهم حادثة شرعية من حلال وحرام فزعوا إلى الاجتهاد وابتدأوا بكتاب الله تعالى. فإن وجدوا فيه نصاً تمسكوا به وإلا فزعوا إلى سنة النبي فإن رأوا لهم في ذلك خبراً نزلوا إلى حكمه وإلا فزعوا إلى إجماع الصحابة لأنهم راشدون حتى لا يجتمعون على ضلال. فإن عثروا بما يناسب مطلوبهم أجروا حكم الحادثة على مقتضاه وإلا فزعوا إلى القياس لأن الحوادث والوقائع غير متناهية والنصوص متناهية فلا يتطابقان فعلم قطعاً أن القياس واجب الاعتبار ليكون بصدد كل حادثة شرعية اجتهاد قياسي. ومن الأيمة داود الأصفهاني نفى القياس أصلاً. وأبو حنيفة شديد العناية به وربما يقدم القياس الجلي على آحاد الأخبار. ومالك والشافعي وابن حنبل لا يرجعون إلى القياس الجلي ولا الخفي ما وجدوا خبراً أو أمراً. وبينهم اختلاف في الأحكام ولهم فيها تصانيف وعليها مناظرات ولا يلزم بذلك تكفير ولا تضليل. وبالجملة أصول شريعة الإسلام الطهارة في حواشي الإنسان وأطرافه لإرسالها وملاقاتها النجاسات. والصلاة وهي خضوع وتواضع لرب العزة. والزكاة وهي مؤاساة ومعونة وافضال. والصيام وهو رياضة وتذليل وقمع الشهوة تحصل به رقة القلب وصفاء النفس. والحج وهو مثال الخروج عن الدنيا والإقبال على الآخرة وأكثر ما فيه من المناسك امتحان وابتلاء العبد بامتثاله ما شرع له وذلك كالسعي والهرولة في الطواف ورمي الجمار. وأما الجمعة والأعياد فجعلت مجمعاً للأمة يتلاقون فيها ويتزاورون ويستريحون فيها عن كد الكدح. وأما الختان فهو سنة فيه ابتلاء وامتحان وتسليم. وأما تحريم الميتة والدم ففي كراهية النفس ونفر الطبع ما يوجب الامتناع منها.
***
” أبو بكر الصديق “
أعظم خلاف بين الأيمة الإسلامية خلاف الإمامة وعليه سل السيوف. وقد اتفق ذلك في الصدر الأول فاختلف المهاجرون والأنصار فيها. فقالت الأنصار : منا أمير ومنكم أمير. فاستدركهم أبو بكر وعمر في الحال. وقبل أن يشتغلوا بالكلام مد عمر يده إلى أبي بكر فبايعه وبايعه الناس وسكنت الثائرة. وبويع له في شهر ربيع الأول في أول سنة إحدى عشرة يوم توفي النبي عليه السلام في سقيفة بني ساعدة. وقيل لما بلغ ذلك علي بن أبي طالب لم ينكره. وأكثر ما روي انه قال : ما شاورتني. فقال له أبو بكر : ما اتسع الوقت للمشورة وانا خفنا أن يخرج الأمر منا. ثم صعد المنبر فقال : أقيلوني من هذا الأمر فلست بخيركم. فقال علي : لا نقيلك ولا نستقيلك. فأجمع المهاجرون والأنصار على خلافته. ولما ذاع خبر وفاة النبي عليه السلام ارتد خلق كثير من العرب ومنعوا الزكاة واشتد رعب المسلمين بالمدينة لإطباقهم على الردة. فأووا الذراري والعيال إلى الشعاب. فأمر أبو بكر خالد بن الوليد على الناس وبعثه في أربعة آلاف وخمسمائة. فسار حتى وافى المرتدة وناوشهم القتال وسبى ذراريهم وقسم أموالهم. وضج أيضاً المسلمون إلى أبي بكر فقالوا : ألا تسمع ما قد انتشر من ذكر هذا الكتاب مسيلمة بأرض اليمامة وادعائه النبوة. فأمر خالد بن الوليد بالمسير إلى محاربته. فسار بالناس حتى نزل بموضع يسمى عقرباء. وسار مسيلمة في جمع من بني حنيفة فنزل حذاء خالد. وكان بينهما وقعات واشتدت الحرب بين الفريقين واقتحم المسلمون بأجمعهم على مسيلمة وأصحابه فقتلوهم حتى احمرت الأرض بالدماء. ونظر عبد أسود اسمه وحشي إلى مسيلمة فرماه بحربة فوقعت على خاصرته فسقط عن فرسه قتيلاً. ومن هناك توجه خالد إلى أرض العراق فزحف إلى الحيرة ففتحها صلحاً. وكان ذلك أول شيء افتتح من العراق. وقد كان أبو بكر وجه قبل ذلك أبا عبيده بن الجراح في زهاء عشرين ألف رجل إلى الشام. وبلغ هرقل ملك الروم ورود العرب إلى أرض الشام فوجه إليهم سرجيس البطريق في خمسة آلاف رجل من جنوده ليحاربهم. وكتب أبو بكر إلى خالد عند افتتاحه الحيرة يأمره أن يسير إلى أبي عبيده بأرض الشام. ففعل والتقى العرب الروم فانهزم الروم وقتل سرجيس البطريق وذلك أنه في هربه سقط من فرسه فركبه غلمانه فسقط فركبوه ثانياً فهبط أيضاً وقال لهم : فوزوا بأنفسكم واتركوني أقتل وحدي. وفي سنة ثلث عشرة للهجرة مرض أبو بكر خمسة عشرة يوماً ومات رحمه الله يوم الاثنين لثمان خلون من جمادى الآخرة وهو ابن ثلاث وستين سنة. وكانت خلافته سنتين وأربعة أشهر إلا ثمانية أيام. وفيها وهي سنة تسعمائة وست وأربعين للاسكندر خالف هرقل الناموس وتزوج مرطياني ابنة أخيه وولدت منه ابناً غير ناموسي وسماه باسمه مصغراً هريقل.
“ عمر بن الخطاب “
ويكنى أبا حفص. قيل أن أبا بكر لما دنا أجله قال لعثمان ابن عفان كاتبه : اكتب بسم اله الرحمن الرحيم. هذا ما عمد عبد الله بن أبي قحافة وهو في آخر ساعات الدنيا وبأول ساعات الآخرة. ثم غمي عليه. فكتب عثمان : إلى عمر بن الخطاب. فلما أفاق قال : من كتبت. قال : عمر. قال : قد أصبت ما في نفسي. ولو كتبت نفسك لكنت أهلاً له. واجمعوا على ذلك. وكان يدعى خليفة خليفة رسول الله. قالوا : هذا يطول. فسمي أمير المؤمنين. وهو أو ل من سمي بذلك. ولما استخلف قام في الناس خطيباً فقال بعد الحمدلة : أيها الناس لولا ما أرجوه من ما أرجوه من خيركم وقوامكم عليه لما أوليتكم إلى غير ذلك. فلما ولي الأمر لم يكن له همة إلا العراق. فعقد لأبي عبيد بن مسعود على زهاء ألف رجل وأمره بالمسير إلى العراق ومعه المثنى بن حارثة وعمرو بن حزم وسليط بن قيس. فساروا حتى نزلوا الثعلبية. فقال سليط : يا أبا عبيد إياك وقطع هذه اللجة فإني أرى للعجم جموعاً كثيرة. والرأي أن تعبر بنا إلى ناحية البادية وتكتب إلى أمير المؤمنين عمر فتسأله المدد. فإذا جاءك عبرت إليهم فناجزهم الحرب. فقال أبو عبيد : جبنت والله يا سليط. فقال المثنى : والله ما جبن ولكن أشار عليك بالرأي فإياك أن تعبر إليهم فلتقي نفسك وأصحابك وسط أرضهم فتنشب بك مخالبهم. فلم يقبل منهما أبو عبيد وعقد الجسر وعبر بمن معه على كره منهما. فعبرا معه. وعبأ أبو عبيد أصحابه ووقف هو في القلب. فزحف إليهم العجم فرشقوهم بالنشاب حتى كثرت في المسلمين الجراحات. فحمل العرب جملة رجل واحد وكشفوا العجم. ثم أن العجم ثابوا وحملوا على المسلمين. فكان أبو عبيد أول قتيل وقتل من المسلمين عالم. فولى الباقون مارين نحو الجسر والمثنى يقاتل من ورائهم لجميعهم حتى عبروا جميعاً وعبر المثنى في آخرهم وقطعوا الجسر. وكتب إلى عمر بما جرى من المحاربة. وكتب إليه عمر أن يقيم إلى أن يأتيه المدد. ثم أن عمر أرسل رسله إلى قبائل العرب يستنفرهم. فلما اجتمعوا عنده بالمدينة ولى جرير بن عبد الله البجلي أمرهم. فسار بهم حتى وافى الثعلبية. وانضم إليه من هناك. ثم سار حتى نزل دير هند. ووجه سراياه للغارة بأرض السواد مما يلي الفرات. فبلغ ذلك ازرميدخت ملكة العجم فأمرت أن ينتدب من مقاتليها اثنا عشر ألف فارس من أبطالهم. فانتدبوا وولت عليهم مهران بن مهرويه عظيم المرازبة. فسار بالجيش حتى وافى الحيرة. ورجعت سرايا العرب واجتمعوا وتهيأ الفريقان للقتال وزحف بعضهم إلى بعض وتطاحنوا بالرماح وتضاربوا بالسيوف. وتوسط المثنى العجم يجلدهم بسيفه. ثم رجع منصرفاً إلى قومه. وصدقهم العجم القتال فثبت بعض العرب وانهزم البعض. فقبض المثنى على لحيته ينتفها. فحملت قبائل العرب وحملت عليهم العجم فاقتتلوا من وقت الزوال إلى أن توارت الشمس بالحجاب. ثم حملوا على العجم. وخرج مهران فوقف أمام أصحابه. فحمل عليه المثنى. فضربه مهران فنبا السيف عن الضربة. وضربه المثنى على منكبه فخر ميتاً وانهزم العجم لاحقين بالمدائن. وثاب المسلمون يدفنون موتاهم ويداوون جرحاهم. فلما نظرت العجم إلى العرب وقد أخذت أطراف بلادهم وشنوا الغارة في أرضهم قالوا : إنما أوتينا من تمليكنا النساء علينا. فاجتمعوا على خلع ازرميدخت بنت كسرى وتمليك غلام اسمه يزدجرد وقد كان نجم من عقب كسرى بن هرمز. فأجلسوه وبايعوه على السمع والطاعة. فاستجاش يزدجرد جنوده من آفاق مملكته وولى عليهم رجلاً عظيماً من عظماء مرازبته له سنٌّ وتجربة يقال له رستم. فوجهه إلى الحيرة ليحارب من ورد عليه هناك من العرب. وعقد أيضاً لرجل آخر من حر سادات العجم يسمى الهرمزان في جنود كثيرة ووجهه إلى ناحية الأهواز لمحاربة أبي موسى الاشعري ومن معه. وعند الالتقاء قتل هاذان المرزبانان العظيمان. ومرت العرب في أثر العجم يقتلون من أدركه منهم.
وفي خلافة عمر عمر فتح أبو عبيده دمشق بعد حصار سبعة أشهر. وصالح أهل ميسان وطبرية وقيسارية وبعلبك. وفتح حمص بعد حصار شهرين. وفيها كتب عمر إلى معاوية بن أبي سفيان بولاية دمشق. وفيها دخل ميسرة بن مسروق العبسي أرض الروم في أربعة آلاف وهو أول جيش دخل الروم. وفيها فتح عمرو بن العاص مصر عنوةً وفتح الإسكندرية صلحاً. وفيها دخل عياض بن غنم سروج والرها صلحاً. وفيها افتتح أيضاً الرقة وآمد ونصيبين وطور وعبدين وماردين صلحاً. وفتح حبيب بن مسلمة قرقيسياء صلحاً. وفيها فتح عتبة بن تغزوان قرى البصرة ثم سار حتى وافى الأيلة فافتتحها عنوة. ثم صار إلى المدائن فحارب مرزبانها وضرب عنقه وقتل من جنوده مقتلة عظيمة. ثم أن عتبة كتب إلى عمر يستأذنه في الحج. فاستعمل عمر على عملة المغيرة بن شعبة. ثم عزله واستعمل على أرض ميسان أبا موسى الاشعري وأمره أن يبتني بأرض البصرة خططاً لمن عنده من العرب ويجعل كل قبيلة في محلة. وابتنوا لأنفسهم المنازل. وبنى بها مسجداً جامعاً متوسطاً. وعند فراغه من بناء مدينة البصرة اسكن فيها ذرية من كان بها من العرب وسار في جنوده إلى جميع كور الأهواز فافتتحها إلا مدينة تستر فإنهم امتنعوا لحصانتها. وفيها رحل هرقل من إنطاكية إلى القسطنطينية وهو يقول باليونانية سوزه سورية. وهي كلمة وداع لأرض الشام وبلادها. ثم مات هرقل وقام ابنه قسطنطين مكانه وبعد أربعة أشهر قتلته مرطياني امرأة أبيه بالسم وأقامت ابنها هريقل وسمته داود الحديث. فنقم أرباب الدولة أمره وخلعوه وملكوا قسطوس ابن القتيل. وفيها افتتح عبد الله بن بديل أصفان صلحاً. وفيها فتح جرير البجلي همذان. وفيها كانت وقعة نهاوند. وفيها افتتح معاوية عسقلان بصلح في شهر رمضان. ومات عمر يوم الأربعاء لخمس بقين من ذي الحجة سنة ثلث وعشرين للهجرة وعمره ثلث وستون سنة. وكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر وسبعة عشر يوماً. قتله أبو لؤلؤة فتى المغيرة بن شعبة في صلاة الفجر. وكان السبب في ذلك أن أبا لؤلؤة جاء إليه يشكو ثقل الخراج وكان عليه كل يوم درهمان. فقال له عمر : ليس بكثير في حقك فإني سمعت عنك أنك لو أردت أن تدير الرحى بالريح لقدرت عليه. فقال : لأديرن لك رحى لا تسكن إلى يوم القيامة. فقال : إن العبد أوعد ولو كنت أقتل أحداً بالتهمة لقتلت هذا. ثم أن الغلام ضربه بالخنجر في خاصرته طعنتين. فدعا عمر طبيباً لينظره فسقا لبناً فخرج اللبن بيناً. فقال له : أعهد يا أمير المؤمنين.
***
وفي هذا الزمان اشتهر بين الإسلاميين يحيى المعروف عندنا بغرماطيقوس أي النحوي. وكان اسكندرياً يعتقد اعتقاد النصارى اليعقوبية ويشيد عقيدة ساوري. ثم رجع عما يعتقده النصارى في التثليث. فاجتمع إليه الأساقفة بمصر وسألوه الرجوع عما هو عليه. فلم يرجع. فأسقطوه عن منزلته. وعاش إلى أن فتح عمرو بن العاص مدينة الإسكندرية. ودخل على عمرو وقد عرف موضعه من العلوم فأكرمه عمرو وسمع من ألفاظه الفلسفية التي لم تكن للعرب بها انسة ما هاله ففتن به. وكان عمرو عاقلاً حسن الاستماع صحيح الفكر فلازمه وكان لا يفارقه.
ومن الأطباء المشهورين في هذا الزمان بولس الاجانيطي طبيب مذكور في زمانه وكان خيراً خبيراً بعلل النساء كثير المعاناة لهنّ. وكانت القوابل يأتينه ويسألنه عن الأمور التي تحدث للنساء عقيب الولادة فينعم بالجواب لهنَّ ويجيبهنَّ عن سؤالهنّ بما يفعلنه. فلذلك سموه بالقوابلي. وله كتاب في الطب تسع مقالات نقل حنين بن اسحق. وكتاب في علل النساء. ومنهم مغنوس له ذكر بين الأطباء ولم نر له تصنيفاً.
***
” عثمان بن عفان “
ويكنى أبا عمرو. بويع له لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلث وعشرين للهجرة. قيل لما ضرب أبو لؤلؤة عمر بالخنجر وشرب اللبن فخرج من جراحه فقالوا له : اعهد إلى من تكون الخلافة بعدك. قال : لو كان سالم حياً لم أعدل به. قيل له : هذا علي بن طالب وقد تعرف قرابته وتقدمه وفضله. قال : فيه دعابة أي مزاح. قيل : فعثمان بن عفان. قال : هو كلف بأقاربه. قيل : فهذا الزبير بن العوام حواري النبي عليه السلام. قال : بخيل. قيل : فهذا سعد. قال : فارس مقنب. والمقنب ما بين الثلاثين إلى الأربعين من الخيل. قيل : فهذا طلحة ابن عم أبي بكر الصديق. قال : لولا بأوٌ فيه أي كبر وخيلاء. قيل : فابنك. قال : يكفي أن يسأل واحد من آل الخطاب عن إمرة أمير المؤمنين. ولكن جعلت هذا الأمر شورى بين ستة نفر وهم عثمان وعلي وطلحة والزبير وأبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص إلى ثلاثة أيام. فلما دفن عمر جاء أبو عبيدة إلى علي بن أبي طالب فقال له : هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وسنة الشيخين. قال : أما كتاب الله وسنة نبيه فنعم. وأما سنة الشيخين فأجتهد رأي. فجاء إلى عثمان فقال له : هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وسنة الشيخين. قال : اللهم نعم. فبايعه أبو عبيدة والجماعة ورضوا به. وأول ما فتح في خلافته ماه البصرة وما كان بقى من حدود أصفهان والري على يد أبي موسى الأشعري. ثم بعث عثمان عبد الله بن عامر إلى اسطخر وبها يزدجرد. فركب المفازة حتى أبي كرمان وأخذ على طريق سجستان يريد الصين. وجاء مجاشع إلى سجستان. ثم انصرف لما لم يدرك يزدجرد وعاد إلى فارس.فاشتد خوف يزدجرد واستمد طرخان التركي لنصرته. ولما ورد استخف به وطرده لكلام تكلم به الترك. وعند انصرافهم أرسل ماهويه مرزبان مرو وكان قد خامر على يزدجرد إلى طرخان أن : كر عليه فاني ظاهرك. فكر طرخان على يزدجرد. فولى يريد المدينة. فاستقبله ماهويه فمزقه كل ممزق. وقيل أن يزدجرد انتهى إلى طاحونة بقرية من قرى مرو فقال للطحان : اخفني ولك منطقتي وسواري وخاتمي. فقال للرجل : إن كرى الطاحونة كل يوم أربعة دراهم. فإن اعطيتنيها عطلتها وإلا فلا. فبينا هو في راجعته إذ غشيته الخيل فقتلوه. وانتزع عثمان عمرو بن العاص عن الإسكندرية وأمر عليها عبد الله بن مسعود أخاه لأمه. فغزا إفريقية وغزا معاوية قبرص وأنقرة فافتتحها صلحاً. ثم أن الناس نقموا على عثمان أشياء منها كلفه بأقاربه. فآوى الحكم بن العاص بن أمية طريد النبي عليه السلام. وأعطى عبد الله بن خالد أربعمائة ألف درهم. وأعطى الحكم مائة ألف درهم. ولما ولي صعد المنبر فتسنم ذروته حيث كان يقعد النبي عليه السلام. وكان أبو بكر ينزل عنه درجة وعمر درجتين. فتكلم الناس عن ذلك وأظهروا الطعن. فخطب عثمان وقال : هذا مال الله أعطيه من شئت وامنعه ممن شئت. فأرغم الله انف من رغم انفه. فقام عمار بن ياسر فقال : أنا أول من رغم أنفه. فوثب بنو أمية عليه وضربوه حتى غشي عليه. فحنقت العرب على ذلك وجمعوا الجموع ونزلوا فرسخاً من المدينة وبعثوا إلى عثمان من يكلمه ويستعتبه ويقول له : إما أن تعدل أو تعتزل. وكان أشد الناس على عثمان طلحة والزبير وعائشة. فكتب عثمان إليهم كتاباً يقول فيه : إني أنزع عن كل شيءٍ أنكرتموه وأتوب إلى الله. فلم يقبلوا منه وحاصروه عشرين يوماً. فكتب إلى علي : أترضى أن يقتل ابن عمك ويسلب ملكك. قال علي : لا والله. وبعث الحسن والحسين إلى بابه يحرسانه. فتسور محمد ابن أبي بكر مع رجلين حائط عثمان فضربه أحدهم بغتةً بمشقص في أوداجه وقتله الآخر والمصحف في حجره وذلك لعشر مضين من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة بالتقريب وعمره نيف وثمانون سنة.
“ علي بن أبي طالب “
لما قتل عثمان اجتمع الناس من المهاجرين والأنصار فأتوا علياً وفيهم طلحة والزبير ليبايعوه. فقال علي لطلحة والزبير : إن أحببتما أن تبايعاني وإن أحببتما بايعتكما. قالا له : لا بل نبايعك. فخرجوا إلى المسجد وبايعه الناس يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة سنة خمس وثلثن للهجرة. وكان أول مبايعيه طلحة. وكان في إصبعه شلل فتطير منه حبيب بن ذؤيب وقال : يد شلاء لا يتم هذا الأمر ما أخلقه أن يتنكث. وتخلف عن بيعة علي بنو أمية ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص والوليد بن عقبة. ولم يبايعه العثمانية من الصحابة وكانت عائشة تؤلب على عثمان وتطعن فيه وكان هواها في طلحة. فبينا هي قد أقبلت راجعة من الحج استقبلها راكب. فقالت : ما ورائك. قال : قتل عثمان. قالت : كأني أنظر إلى الناس يبايعون طلحة. فجاء راكب آخر. فقالت : ما وراءك. قال : بايع الناس علياً. واعثماناه ما قتله إلا علي. لإصبع من عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم. فقال لها الرجل من أخوالها : والله أول من أمال حرفه لأنت. ولقد كنت تقولين : اقتلوا نعثلاً فقد كفر. قالت : إنهم استتابوه ثم قتلوه. ونعثل اسم رجل كان طويل اللحية وكان عثمان إذا نيل منه وعيب شبه به لطول لحيته. ثم انصرفت عائشة إلى مكة وضربت فسطاطاً في المسجد. وأراد علي أن ينزع معاوية عن الشام فقال له المغيرة بن شعبة : اقررمعاوية على الشام فإنه يرضى بذلك. وسأل طلحة وزبير أن يوليهما البصرة والكوفة. فأبى وقال : تكونان عندي أتجمل بكما فإني استوحش لفراقكما. فاستأذناه في العمرة فأذن لهما. فقدما على عائشة وعظما أمر عثمان. ولما سمع معاوية بقول عائشة في علي ونقض طلحة والزبير البيعة ازداد قوة وجراءة وكتب إلى الزبير : إني قد بايعتك ولطلحة من بعدك فلا يفوتكما العراق. وأعانهما بنو أمية وغيرهم وخرجوا بعائشة حتى قدموا البصرة فأخذوا ابن حنيف أميرها من قبل علي فنالوا من شعره ونتفوا لحيته وخلوا سبيله فقصد علياً وقال له : بعثني ذا لحية وقد جئتك أمرد. قال : أصبت أجراً وخيراً. وقتلوا من خزنة بيت المال خمسين رجلاً وانتهبوا الأموال. وبلغ ذلك علياً فخرج من المدينة وسار بتسعمائة رجل. وجاءه من الكوفة ستة آلاف رجل. وكانت الوقعة بالخريبة. فبرز القوم للقتال وأقاموا الجمل وعائشة في هودج ونشبت الحرب بينهم فخرج علي ودعا الزبير وطلحة وقال للزبير : ما جاء بك. قال : لا أراك لهذا الأمر أهلاً. وقال لطلحة : أجئت بعرس النبي تقاتل بها وخبيت عرسك في البيت. أما بايعتماني. قالا : بايعناك والسيف على عنقنا. وأقبل رجل سعدي من أصحاب علي فقال بأعلى صوته : يا أم المؤمنين والله لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون إنه قد كان لك من الله ستر وحرمة فهتكتِ ستركِ وأبحتِ حرمتكِ. ثم اقتتل الناس. وفارق الزبير المعركة فاتبعه عمر بن جرموز وطعنه في جربان درعه فقتله. وأما طلحة فأتاه سهم فأصابه فأردفه غلامه فدخل البصرة وأنزله في دار خربة ومات بها. وقتل تسعون رجلاً على زمام الجمل. وجعلت عائشة تنادي : البقية البقية. ونادى علي : اعقروا الجمل. فضربه رجل فسقط. فحمل الهودج موضعاً وإذا هو كالقنفذ لما فيه من السهام. وجاء علي حتى وقف عليه وقال لمحمد بن أبي بكر : انظر أحية هي أم لا. فأدخل محمد رأسه في هودجها. فقالت : من أنت. قال : أخوك البر. فقالت : عقق. قال : يا أخيّة هل أصابك شيء. فقالت : ما أنت وذاك. ودخل علي البصرة ووبخ أهلها وخرج منها إلى الكوفة. ولما بلغ معاوية خبر الجمل دعا أهل الشام إلى القتال والمطالبة بدم عثمان. فبايعوه أميراً غير خليفة. وبعث علي رسولاً إلى معاوية يدعوه إلى البيعة. فأبى. فخرج علي من الكوفة في سبعين ألف رجل. وجاء معاوية في ثمانين ألف رجل فنزل صفين وهو موضع بين العراق والشام فسبق علياً على شريعة الفرات. فبعث علي الأشتر النخعي فقاتلهم وطردهم وغلبهم على الشريعة. ثم ناوشوا الحرب أربعين صباحاً حتى قتل من العراقيين خمسة وعشرون ألفاً ومن الشاميين خمسة وأربعون ألفاً. ثم خرج علي وقال لمعاوية : علام تقتل الناس بيني وبينك. أحاكمك إلى الله عز وجل فأينا قتل صاحبه استقام الأمر له. فقال معاوية لأصحابه : يعلم أنه لا يبارزه أحد إلا قتله. فأمرهم أن ينشروا المصاحف وينادوا : يا أهل العراق بيننا وبينكم كتاب الله ندعوكن اليه. قال علي : هذا كتاب الله فمن يحكم بيننا. فاختار الشاميون عمرو بن العاص والعراقيون أبا موسى الاشعري. فقال الأحنف : إن أبا موسى رجلٌ قريب القعر كليل الشفرة اجعلني مكانه آخذ لك بالوثيقة وأضعك في هذا الأمر بحيث تحب. فلم يرضى به أهل اليمن. فكتبوا القضية على أن يحكم الحكمان بكتاب الله والسنّة والجماعة وصيروا الأجل شهر رمضان. ورحل علي إلى الكوفة ومعاوية إلى الشام. فلما دخل علي الكوفة اعتزل اثنا عشر ألفاً من القراء وهم ينادونه : جزعت من البلية ورضيت بالقضية وحكمت الرجال والله يقول : أن الحكم إلا الله. ثم اجتمع أبو موسى الاشعري وعمرو بن العاص للتحكم بموضع بين مكة والكوفة والشام بعد صفين بثمانية أشهر وحضر جماعة من الصحابة والتابعين. فقال ابن العباس لأبي موسى : مهما نسيت فلا تنسى أن علياً ليست فيه خلة واحدة تباعده عن الخلافة وليس في معاوية خصلة واحدة تقربه من الخلافة. فلما اجتمع أبو موسى وعمرو للحكومة ضربا فسطاطاً. وقال عمرو :يجب أن لا نقول شيئاً إلا كتبناه حتى لا نرجع عنه. فدعا بكاتب وقال له سراً : ابدأ باسمي. فلما أخذا الكاتب الصحيفة وكتب البسملة بدأ باسم عمرو. فقال له عمرو : امحه وابدأ باسم أبي موسى فإنه أفضل مني وأولى بأن يقدم. وكانت منه خديعة. ثم قال : ما تقول يا أبا موسى في قتل عثمان. قال : قتل والله مظلوماً. قال : أكتب يا غلام. ثم قال : يا أبا موسى إن إصلاح الأمة وحقن الدماء خير مما وقع فيه علي ومعاوية. فإن رأيت أن تخرجهما وتستخلف على الأمة من يرضى به المسلمون فإن هذه أمانة عظيمة في رقابنا. قال : لا بأس بذلك. قال عمرو : اكتب يا غلام. ثم ختما على ذلك الكتاب. فلما قعدا من الغد للنظر قال عمرو : يا أبا موسى قد أخرجن علياً ومعاوية من هذا الأمر فسم له من شئت. فسمى عدة لا يرتضيهم عمرو. فعرف أبو موسى أنه يتلعب به. إليه. قال علي : هذا كتاب الله فمن يحكم بيننا. فاختار الشاميون عمرو بن العاص والعراقيون أبا موسى الاشعري. فقال الأحنف : إن أبا موسى رجلٌ قريب القعر كليل الشفرة اجعلني مكانه آخذ لك بالوثيقة وأضعك في هذا الأمر بحيث تحب. فلم يرضى به أهل اليمن. فكتبوا القضية على أن يحكم الحكمان بكتاب الله والسنّة والجماعة وصيروا الأجل شهر رمضان. ورحل علي إلى الكوفة ومعاوية إلى الشام. فلما دخل علي الكوفة اعتزل اثنا عشر ألفاً من القراء وهم ينادونه : جزعت من البلية ورضيت بالقضية وحكمت الرجال والله يقول : أن الحكم إلا الله. ثم اجتمع أبو موسى الاشعري وعمرو بن العاص للتحكم بموضع بين مكة والكوفة والشام بعد صفين بثمانية أشهر وحضر جماعة من الصحابة والتابعين. فقال ابن العباس لأبي موسى : مهما نسيت فلا تنسى أن علياً ليست فيه خلة واحدة تباعده عن الخلافة وليس في معاوية خصلة واحدة تقربه من الخلافة. فلما اجتمع أبو موسى وعمرو للحكومة ضربا فسطاطاً. وقال عمرو :يجب أن لا نقول شيئاً إلا كتبناه حتى لا نرجع عنه. فدعا بكاتب وقال له سراً : ابدأ باسمي. فلما أخذا الكاتب الصحيفة وكتب البسملة بدأ باسم عمرو. فقال له عمرو : امحه وابدأ باسم أبي موسى فإنه أفضل مني وأولى بأن يقدم. وكانت منه خديعة. ثم قال : ما تقول يا أبا موسى في قتل عثمان. قال : قتل والله مظلوماً. قال : أكتب يا غلام. ثم قال : يا أبا موسى إن إصلاح الأمة وحقن الدماء خير مما وقع فيه علي ومعاوية. فإن رأيت أن تخرجهما وتستخلف على الأمة من يرضى به المسلمون فإن هذه أمانة عظيمة في رقابنا. قال : لا بأس بذلك. قال عمرو : اكتب يا غلام. ثم ختما على ذلك الكتاب. فلما قعدا من الغد للنظر قال عمرو : يا أبا موسى قد أخرجن علياً ومعاوية من هذا الأمر فسم له من شئت. فسمى عدة لا يرتضيهم عمرو. فعرف أبو موسى أنه يتلعب به.
ثم قال عمرو : إن هذا قد خلع صاحبه وأنا أيضاً خلعته كما خلعت هذا الخاتم من يدي. وافترقا. وعزم علي المسير إلى معاوية. وبايعه ستون ألفاً على الموت. فشغلته الخوارج وقتالهم. وأخذ معاوية في تسريب السرايا إلى النواحي التي يليها عمال علي وشن الغارات وبعث جيشاً إلى المدينة ومكة. فبايعه بقية أهلها. ثم تعاقد ثلثة نفر من الخوارج داود والبرك وابن ملجم أن يقتلوا عمرو بن العاص ومعاوية وعلياً ويريحوا العباد من أيمت الضلال. أما داود فإنه أتى إلى مصر ودخل المسجد وضرب خارجة ابن حذاقة فقتله وهو يظنه عمراً. وأخذ داوديه فقتل. وأما البرك فإنه مضى إلى الشام ودخل المسجد وضرب معاوية فقطع منه عرقاً فانقطع منه النسل. فأخذ البرك فقطعت يداه ورجلاه وخلي عنه. فقدم البصرة ونكح امرأة فولدت له. فقال له زياد : يولد لك ولا يولد لمعاوية. فضرب عنقه. وأما ابن ملجم فإنه أتى الكوفة وسم سيفه وشحذه وجاء فبات بالمسجد. فدخل علي المسجد ونبه النيام فركل ابن ملجم برجله وهو ملتف بعباءة وفتح ركعتي الفجر. فأتاه ابن الملجم فضربه على ضلعه ولم تبلغ الضربة مبلغ القتل ولكن عمل فيه السم. فثار الناس إليه وقبضوا عليه. فقال علي : لا تقتلوه فإن عشت رأيت فيه رأيي وإن مت فشأنكم به. فعاش ثلث أيام ثم مات يوم الجمعة لسبع عشرة من رمضان. فقتل ابن ملجم.
” الحسن بن علي بن أبي طالب “
ثم بويع الحسن بن علي بالكوفة. وبويع معاوية بالشام في مسجد ايليا. فسار الحسن عن الكوفة إلى لقاء معاوية. وكان قد نزل مسكن من أرض الكوفة. ووصل الحسن إلى المدائن وجعل قيس بن سعد على مقدمته واثني عشر ألفاً. وقدم معاوية على مقدمته بشر بن أرطأة. فكانت بينه وبين قيس مناوشة. ثم تحاجزوا ينتظرون الحسن. ” قالوا ” فنظر الحسن إلى ما يسفك من الدماء وينتهك من المحارم فقال : لا حاجة لي في هذا الأمر وقد رأيت أن أسلمه إلى معاوية فيكون في عنقه تباعته وأوزاره. فقال له الحسين : أنشدك الله أن تكون أول من عاب أباه ورغب في رأيه. فقال الحسن : لا بد من ذلك. وبعث إلى معاوية يذكر تسليمه الأمر إليه. فكتب إليه معاوية : أما بعد فأنت أولى مني بهذا الأمر لقرابتك وكذا وكذا. ولو علمت أنك أضبط له وأحوط على حريم هذه الأمة وأكيد للعدو لبايعتك. فاسأل ما شئت. فكتب الحسن أموالاً وضياعاً وأماناً لشيعة علي وأشهد على ذلك شهوداً من الصحابة. وكتب في تسليم الأمر كتاباً. فالتقى معاوية مع الحسن على منزل من الكوفة ودخلا الكوفة معاً. ثم قال : يا أبا محمد جدت بشيء لا تجود بمثله نفوس الرجال فقم وأعلم الناس بذلك. فقام الحسن فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إن الله عز وجل هداكم بأولنا وحقن دمائكم بآخرنا. وإن معاوية نازعني حقاً لي دونه فرأيت أن أمنع الناس الحرب وأسلمه إليه. وإن لهذا الأمر مدة. والدنيا دول. فلما قالها قال له معاوية : اجلس. وحقدها عليه. ثم قام خطيباً فقال : إني كنت شرطت شروطاً أردت بها نظام الألفة. وقد جمع الله كلمتنا وأزال فرقتنا. فكل شرط شرطته فهو مردود. فقام الحسن : ألا وأنا اخترت العار على النار. وسار إلى المدينة وأقام بها إلى أن مات سنة سبع وأربعين من الهجرة. وكانت خلافته خمسة أشهر.
” معاوية بن أبي سفيان “
وصار الأمر إلى معاوية سنة أربعين من الهجرة. وكان ولي لعمر وعثمان عشرين سنة. ولما سلم الحسن الأمر إليه ولى الكوفة المغيرة بن شعبة وولى البصرة وخراسان عبد الله بن عامر وولى المدينة مروان بن الحكم. وانصرف معاوية إلى الشام فولى عبد الله بن حازم. ومات عمرو بن العاص بمصر يوم عيد الفطر فصلى عليه ابنه عبد الله ثم صلى بالناس صلاة العيد. وكان معاوية قد أزكى العيون على شيعة علي فقتلهم أين أصابهم.
وفي سنة ست وأربعين من الهجرة وهي سنة تسعمائة وسبع وثمانين للاسكندر أرسل سابور المتغلب على أرمانيا إلى معاوية رسولاً اسمه سرجي يطلب منه النجدة على الروم. وأرسل قسطنطين الملك أيضاً رسولاً إلى معاوية لاندراا الخصي وهو من أخص خواصه. فأذن معاوية لسرجي أن يدخل أولاً فدخل ثم دخل اندراا. فلما رآه سرجي نهض له لأنه كان عظيماً. فوبخ معاوية لسرجي وقال : إذا كان العبد هالك فكيف مولاه. فقال سرجي : خدعت من العادة. ثم سأل معاوية لاندراا : لماذا جئت. فقال : الملك سيوني لئلا تصغوا إلى كلام هذا المتمرد ولا يكون الملك والمملوك عندك بسواء. فقال معاوية : كلكم أعداء لنا. فأيكم زاذ لنا من المال راعيناه. فلما سمع ذلك اندراا خرج. ومن الغد حضر وسرجي قد سبقه بالدخول. فلما دخل اندراا لم ينهض له. فشتمه اندراا فقال له : يا يؤوس استخففت بي. فقذفه سرجي قذف المخانيث. قال اندراا : سوف ترى. ثم أعاد كلامه الأول على معاوية فقال له معاوية : إن أعطيتمونا كل خراج بلادكم نبقي لكم اسم المملكة وإلا أزحناكم عنها. قال اندراا : كأنك تزعم أن العرب هم الجسم والروم الخيال. نستعين برب السماء. ثم استأذن للرحيل وسار مجتازاً على ملطية. وتقدم إلى مستحفظي الثغور أن يكمنوا لسرجي في الطريق ويلزموه ويحملوه إلى ملطية وينزعوا خصيتيه ويعلقوهما في رقبته ثم يسمروه. ففعلوا به كذلك.
وقيل أن معاوية أول من خطب قاعداً لأنه كان بطيناً بادناً. وأول من قدم الخطبة على الصلاة خشية أن يتفرق الناس عنه قبل أن يقول ما بدا له. ثم أخذ بيعة أهل المدينة ومكة ليزيد ابنه بالسيف وبايعه الشاميون أيضاً. ثم مات معاوية بدمشق في رجب سنة ستين وهو ابن ثمانين سنة. وبايع أهل الشام يزيد بن معاوية.
” يزيد بن معاوية “
لما مات معاوية استدعى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وهو على المدينة الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير في جوف الليل ونعى لهما معاوية وأخذهما بالبيعة لابنه يزيد. فقالا : مثلنا لا يبايع سراً ولكن إذ نصبح. وانصرفا من عنده وخرجا من تحت الليل إلى مكة وأبيا أن يبايعا. وبلغ أهل الكوفة امتناعهما عن بيعة يزيد فكتبوا إلى الحسين في القدوم عليهم. فأرسل الحسين مسلم بن عقيل بن أبي طالب إلى الكوفة ليأخذ بيعة أهلها. فجاء واجتمع إليه خلق كثير من الشيعة يبايعون الحسين. وبلغ الخبر عبيد الله بن زياد وهو بالبصرة فتم إلى الكوفة. فسار إليه الشيعة وقاتلوه حتى دخل القصر وأغلق بابه. فلما كان عند المساء وتفرق الناس عن مسلم بعث ابن زياد خيلاً في خفية فقبضوا عليه ورفعوه بين شرف القصر ثم ضربوا عنقه. ولما بلغ الخبر الحسين هم بالرجوع إلى المدينة. وبعث إليه ابن زياد الحر بن يزيد التميمي في ألف فارس. فلقي الحسين بزبالة وقال له : لم أؤمر بقتالك إنما أمرت أن أقدمك إلى الكوفة. فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك إلى الكوفة ولا يردك إلى المدينة حتى أكتب إلى ابن زياد. فتياسر عن طريق التعذيب والقادسية والحر يسايره حتى أنتهى إلى الغاضرية فنزل بها. وقدم عليه عمر بن سعد بن أبي وقاص في أربعة آلاف ومعه شمر ذو الجيوش فنزلوا بين نهري كربلاء وجرت الرسل بينهم وبين الحسين ومنعوه ومن معه الماء أن يشربوا وناهضهم القتال يوم عاشوراء وهو يوم الجمعة ومعه تسعة عشر إنساناً من أهل بيته فقتل الحسين عطشاناً وقتل معه سبعة من ولد علي بن أبي طالب وثلاثة من ولد الحسين. وتركوا علي ابن الحسين لأنه كان مريضاً. فمنه عقب الحسين إلى اليوم. وقتل من أصحابه سبعة وثمانون إنسانا. وساقوا علي بن الحسين مع نسائه وبناته إلى ابن زياد. فزعموا أنه وضع رأس الحسين في طست وجعل ينكت في وجهه بقضيب ويقول : ما رأيت مثل حسن هذا الوجه قط. ثم بعث به وبأولاده إلى يزيد بن معاوية. فأمر نسائه وبناته فأقمن بدرجة المسجد حيث توقف الاسارى لينظر الناس إليهم. وقتل الحسين سنة إحدى وستين من الهجرة يوم عاشوراء وهو يوم الجمعة. وكان قد بلغ من السن ثمانياً وخمسين سنة. وكان يخضب بالسواد. ثم بعث يزيد بأهله وبناته إلى المدينة. وللروافض في هذه القصة زيادات وتهاويل كثيرة. ولما احتضر يزيد بن معاوية بايع ابنه معاوية ومات وهو ابن ثماني وثلاثين سنة. وكان ملكه ثلث سنين وثمانية أشهر.
“ معاوية بن يزيد “
ولما مات يزيد صار الأمر إلى ولده معاوية وكان قدرياً لأن عمر المقصوص كان علمه ذلك فدان به وتحققه. فلما بايعه الناس قال للمقصوص : ما ترى. قال : إما أن تعتدل أو تعتزل. فخطب معاوية بن يزيد فقال : إن جدي معاوية نازع الأمر من كان أولى به وأحق. ثم تقلده أبي. ولقد كان غير خليق به. ولا أحب أن ألقى الله عز وجل بتبعاتكم. فشأنكم وأمركم ولوه من شئتم. ثم نزل وأغلق الباب في وجهه وتخلى بالعبادة حتى مات بالطاعون. وكانت ولايته عشرين يوماً. فوثب بنو أمية على عمر المقصوص وقالوا : أنت أفسدته وعلمته. فطمروه ودفنوه حياً. وأما ابن الزبير فلما مات يزيد دعا الناس إلى البيعة لنفسه وادعى الخلافة فظفر بالحجاز والعراق وخراسان واليمن ومصر والشام إلا الأردن.
” مروان بن الحكم “
بويع بالأردن سنة أربع وستين للهجرة وهو أول من أخذ الخلافة بالسيف. وسار إليه الضحاك بن قيس فاقتتلوا بمرج راهط من غوطة دمشق. فقتل الضحاك. وخرج سليمان بن صرد الخزاعي من الكوفة في أربعة آلاف من الشيعة يطلبون بدم الحسين فبعث إليه مروان بن الحكم عبيد الله بن زياد فالتقوا برأس العين فقتل سليمان وتفرق أصحابه. ومات مروان بدمشق وكانت ولايته سبعة أشهر وأياماً. وبايع أهل الشام عبد الملك بن مروان.
***
قال ابن جلجل الأندلسي أن ماسرجويه الطبيب البصري سرياني اللغة يهودي المذهب. وهو الذي تولى في أيام مروان تفسير كناش اهرون القس إلى العربي. وحدث أيوب بن الحكم أنه كان جالساً عند ماسرجويه إذ أتاه رجل من الخوز فقال : إني بليت بداء لم يبل أحد بمثله. فسأله عن دائه. فقال : اصبح وبصري مظلم علي وأنا أصيب مثل لحس الكلاب في معدتي فلا تزال هذه حالي إلى أن أطعم شيئاً فإذا طعمت سكن ما أجد إلى وقت انتصاف النهار. ثم يعاودني ما كنت فيه. فإذا عاودت الأكل سكن ما بي إلى وقت صلاة العتمة. ثم يعاودني فلا أجد له دواء إلا معاودة الأكل. فقال له ماسرجويه : على دائك هذا غضب الله. فإنه أساء لنفسه الاختيار حين قرنه بسفلة مثلك ولوددت أن هذا الداء تحول إلي وإلى صبياني فكنت أعوضك مما نزل بك مثل نصف ما أملك. فقال له الخوزي : ما افهم عنك. قال ماسرجويه : هذه صحة لا تستسحقها أسأل الله نقلها عنك إلى من هو أحق بها منك.
***
” عبد الملك بن مروان “
بويع سنة خمس وستين بالشام. وأما ابن الزبير فبعث أخاه مصعباً على العراق. فقدم البصرة وأعطاه أهلها الطاعة واستولى مصعب على العراقيين. فسار إليه عبد الملك بن مروان فالتقوا بسكن. وقتل مصعب واستقام العراق لعبد الملك. وكان الحجاج بن يوسف على شرطه. فرأى عبد الملك من نفاذه وجلادته ما أعجب به ورجع إلى الشام ولا هم له دون ابن الزبير. فأتاه الحجاج فقال : ابعثني إليه فإني أرى في المنام كأني أقتله وأسلخ جلده. فبعثه إليه. فقتله وسلخ جلده وحشاه تبناً وصلبه. وكانت فتنة ابن الزبير تسع سنين منذ موت معاوية إلى أن مضت ست سنين من ولاية عبد الملك. وولي الحجاج الحجاز واليمامة. وبايع أهل مكة لعبد الملك بن مروان. وزعم قوم أن الحجاج بلاء صبه الله على أهل العراق. ولم قدم الكوفة دخل المسجد وصعد يوماً المنبر وسكت ساعة ثم نهض وقال : والله يا أهل العراق إني أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها.فكأني أنظر إلى الدماء من فوق العمائم واللحى. وفي سنة سبعين للهجرة وهي سنة ألف للاسكندر استجاش يوسطينيانوس ملك الروم على من بالشام من المسلمين. فصالحه عبد الملك على أن يؤدي إليه كل يوم جمعة ألف دينار. وقيل كل يوم ألف دينار وفرساً ومملوكاً. وفي سنة ثلث وثمانين بنى الحجاج مدينة واسط. وفي سنة ست وثمانين توفي عبد الملك بن مروان. وكان يقول : أخاف الموت في شهر رمضان. فيه ولدت وفيه فطمت وفيه جمعت القرآن وفيه بايع لي الناس. فمات في النصف من شوال حين أمن الموت على نفسه. وكان ابن ستين سنة وكانت خلافته من لدن قتل ابن الزبير ثلث عشرة سنة.
***
واختصّ بخدمة الحجاج بن يوسف تياذوق وثاودون الطبيبان. أما تياذوق فله تلاميذ أجلاء تقدموا بعده ومنهم من أدرك الدولة العباسية كفرات بن شحناثا في زمن المنصور. وأما ثاودون فله كناش كبير عمله لابنه. وقيل دخل إلى الحجاج يوماً فقال له الحجاج : أي شيء دواء أكل الطين. فقال : عزيمة مثلك أيها الأمير. فرمى الحجاج بالطين ولم يعد إلى أكله بعدها.
***
” الوليد بن عبد الملك “
لما ولي الأمر أقر العمال على النواحي. وفي ولايته خرج قتيبة بن مسلم إلى ما وراء النهر. فجاشت الترك والسغد والشاش وفرغانة وأحدقوا به أربعة أشهر. ثم هزمهم وافتتح بخاراً. ثم مضى حتى أناخ على سمرقند فافتتحها صلحاً. وفي أيامه مات الحجاج. ذكروا أنه أخذه السل وهجره النوم والرقاد. فلما احتضر قال لمنجم عنده : هل ترى ملكاً يموت. قال : نعم أرى ملكاً يموت اسمه كليب. فقال : أنا والله كليب بذلك سمتني أمي. قال المنجم : أنت والله تموت كذلك دلت عليه النجوم. قال له الحجاج : لاقدمنك أمامي. فأمر به فضرب عنقه. ومات الحجاج وقد بلغ من السن ثلثاً وخمسين سنة. وولي الحجاز والعراق عشرين سنة. وكان قتل من الأشراف والرؤساء مائة ألف وعشرين ألفاً سوى العوام ومن قتل في معارك الحروب. وكان مات في حبسه خمسون ألفا رجل وثلاثون ألف امرأة. ومات الوليد سنة ست وتسعين وكانت ولايته تسع سنين وثمانية أشهر. وبنى مسجد دمشق وكان فيه كنيسة فهدمها. وبنى مسجد المدينة والمسجد الأقصى. وأعطى المجذمين ومنعهم من السؤال إلى الناس. وأعطى كل مقعد خادماً وكل ضرير قائداً. ومنع الكتاب النصارى من أن يكتبوا الفاتر بالرومية لكن بالعربية. وفتح في ولايته الأندلس وكاشغر والهند. وكان يمر بالبقال فيقف عليه يأخذ منه حزمة بقل فيقول : بكم هذا. فيقول : بفلس. فيقول : زد فيها. وكان صاحب بناء واتخاذ للمصانع والضياع. وقيل إنه كان لحاناً لا يحسن النحو. دخل عليه أعرابي فمتَّ إليه بصهر له.فقال له الوليد : من ختنك بفتح النون. فقال : بعض الأطباء. فقال سليمان : إنما يريد أمير المؤمنين من ختنك وضم النون. فقال الأعرابي : نعم فلان. وذكر ختنه. وعاتبه أبوه عبد الملك على ذلك وقال له : لا يلي العرب إلا من يحسن كلامهم. فجمع أهل النحو ودخل بيتاً ولم يخرج منه ستة أشهر. ثم خرج وهو أجهل منه يوم دخله. فقال عبد الملك : قد أعذر.
“ سليمان بن عبد الملك “
وفي سنة ست وتسعين بويع سليمان بن عبد الملك في اليوم الذي فيه مات الوليد أخوه. قالوا أنه كان خيراً فصيحاً نشأ بالبادية عند أخواله بني عبس. ورد المظالم وآوى المشترين وأخرج المحبسين. وفي سنة ثماني وتسعين من الهجرة وهي سنة ألف وسبعة وعشرين للاسكندر جهز سليمان جيشاً مع أخيه مسلمة ليسير إلى القسطنطينية. وسار حتى بلغها في مائة وعشرين ألفاً وعبر الخليج وحاصر المدينة. فلما برح بأهلها الحصار أرسلوا إلى مسلمة يعطونه عن كل رأس ديناراً. فأبى أن يفتتحها إلا عنوةً. فقالت الروم : للاون البطريق : إن صرفت عنا المسلمين ملكناك علينا. فاستوثق منهم وأتى مسلمة وطلب الأمان لنفسه وذويه ووعده أن يفتح له المدينة غير أنه ما تهيأ ذلك ما لم يتنح عنهم ليطمئنوا ثم يكر عليهم. فارتحل مسلمة وتنحى إلى بعض الرساتيق. ودخل لاون فلبس التاج وقعد على سرير الملك. واعتزل الملك ثاوذوسيوس ولبس الصوف منعكفاً في بعض الكنائس. ولأن مسلمة لما دنا من القسطنطينية أمر كل فارس أن يحمل معه مدين من الطعام على عجز فرسه إلى القسطنطينية لما دخل لاون المدينة وتنحى مسلمة اعدَّ لاون السفن والرجال فنقلوا في ليلةٍ ذلك الطعام ولم يتركوا منه إلا ما لم يذكر وأصبح لاون محارباً وقد خدع مسلمة خديعة لو كانت امرأة لعيبت بها. وبلغ الخبر لمسلمة فأقبل راجعاً ونزل بفناء القسطنطينية ثلاثين شهراً فشتا فيها وصاف وزرع الناس. ولقي جنده ما لم يلقه جيش آخر حتى كان الرجل يخاف أن يخرج من العسكر وحده من البلغاريين الذين استجاشهم لاون ومن الإفرنج الذين في السفن ومن الروم الذين يحاربونهم من داخل. وأكلوا الدواب والجلود وأصول الشجر والورق. وسليمان بن عبد الملك مقيم بدابق ونزل الشتاء فلم يقدر أن يمدهم حتى مات لعشر بقين من صفر سنة تسع وتسعين.فرحل مسلمة عن القسطنطينية وانصرف وكانت خلافته أعني سليمان سنتين وثمانية أشهر. وكان بايع ابنه أيوب فمات قبله فاستخلف عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم. ولما احتضر سليمان قيل له : اوصِ. فقال : إن بنيَّ صبية صغار. افلح من كانت له الكبار.
” عمر بن عبد العزيز “
لما استخلف عمر بن عبد العزيز وبويع له صعد المنبر وأمر برد المظالم ووضع اللعنة عن أهل البيت وكانوا يلعنونهم على المنابر وحض على التقوى والتواصل وقال : والله ما أصبحت ولي على أحد من أهل القبلة موجدة إلا على أسراف ومظلمة. ثم تصدق بثوبه ونزل. وتوفي عمر بن عبد العزيز في رجب لخمس بقين منه سنة إحدى ومائة. وكانت شكواه عشرين يوماً. ولما مرض قيل له : لو تداويت. فقال : لو كان دوائي في مسح أذني ما مسحتها نعم المذهوب إليه ربي. وكان موته بدير سمعان ودفن به. وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر. وكان عمره تسعاً وثلاثين سنة. قال مسلمة بن عبد الملك : دخلت على عمر أعوده فإذا هو على فراش من ليف وتحته وسادة من أديم مسجى بشملة ذابل الشفة كاسف اللون وعليه قميص وسخ. فقلت لأختي فاطمة وهي امرأته : اغسلوا ثياب أمير المؤمنين. فقالت : نفعل. ثم عدت فإذا القميص على حاله. فقلت : ألم آمركم أن تغسلوا قميصه. فقالت : والله ما له غيره. فسبحت الله وبكيت وقلت : يرحمك الله لقد خوفتنا بالله عز وجل وأبقيت لنا ذكراً في الصالحين . قيل وكانت نفقته كل يوم درهمين. وفي أيامه تحركت دولة بني هاشم.
“ يزيد بن عبد الملك “
يكنى أبا خالد. عاشر بني مروان. ولما ولي الأمر استعمل على العراقين وخراسان عمر بن هبيرة الفزازي وبعث مسلمة بن عبد الملك لقتال يزيد ابن المهلب. فقتله وبعث برأس يزيد وكان يزيد بن عبد الملك صاحب لهوٍ وقصفٍ وشغف بحبابة المغنية واشتهر بذكرها. وقيل كان يزيد قد حج أيام سليمان أخيه فاشترى حبابة بأربعة آلاف دينار فقال سليمان : لقد هممت أن أحجر على يزيد. فلما سمع يزيد ردها فاشتراها رجل من أهل مصر. فلما أفضت الخلافة إليه قالت له امرأته سعدة : هل بقي من الدنيا شيء تتمناه. فقال : نعم حبابة. فأرسلت فاشترتها وصنعتها وأتت بها يزيد وأجلستها من وراء الستر فقالت : يا أمير المؤمنين أبقي من الدنيا شيء تتمناه. قال : قد أعلمتك. فرفعت الستر وقالت : هذه حبابة. وقامت وتركتها عنده. فحظيت سعدة عنده وأكرمها. وقال يوماً وقد طرب بغناء حبابة : دعوني أطير. وأهوى ليطير. فقالت : يا أمير المؤمنين إن لنا فيك حاجة. فقال : واللخ لأطيرن. فقالت : فعلى من تدع الأمة والملك. قال لها : عليك والله. وقبل يدها. فخرج بعض خدمه وهو يقول : سخنت عينك ما أسخفك. وخرجت معه إلى ناحية الأردن يتنزهان. فرماها بحبة عنب فاستقبلتها بفيها فدخلت حلقها فشرقت ومرضت بها وماتت. فتركها ثلاثة أيام لا يدفنها حتى نتنت وهو يشمها ويقبلها وينظر إليها ويبكي. فلما دفنت بقي بعدها خمسة عشر يوماً ومات ودفن إلى جانبها سنة خمس ومائة. وكانت ولايته أربع سنين وشهراً وله أربعون سنة.
” هشام بن عبد الملك “
في هذه السنة استخلف هشام بن عبد الملك لليالٍ بقين من شعبان. وكان عمره يومئذ أربعاً وثلاثين سنة. أتاه البريد بالخاتم والقضيب وسلم عليه بالخلافة وهو بالرصافة. فركب منها حتى أتى دمشق. وفي أيامه خرج يزيد بن علي ابن الحسين بن علي بن أبي طالب فقدم الكوفة وأسرعت إليه الشيعة وقالوا : لنرجو أن يكون هذا الزمان الذي تهلك فيه بنو أمية. وجعلوا يبايعونه سراً. وبايعه أربعة عشر ألفاً على جهاد الظالمين والرفع عن المستضعفين. وبلغ الخبر يوسف بن عمر وهو أمير البصرة فجد في طلب زيد. وتواعدت الشيعة بالخروج وجاءوا إلى يزيد فقالوا : ما تقول في أبي بكر وعمر. قال : ما أقول فيهما إلا خيراً. فتبرأوا منه ونكثوا بيعته وسعوا به إلى يوسف. فبعث في طلبه قوماً. فخرج زيد ولم يخرج معه إلا أربعة عشر رجلاً. فقال : جعلتموها حسينية. ثم ناوشهم القتال. فأصابه سهم بلغ دماغه فحمل من المعركة ومات تلك الليلة ودفن. فلما أصبحوا استخرجوه من قبره فصلبوه. فأرسل هشام إلى يوسف : احرق عجل العراق. فأحرقه. وهرب ابنه يحيى حنى أتى بلخ. قيل كان هشام محشواً عقلاً. وتفقد هشام بعض ولده فلم يحضر الجمعة. فقال : ما منعك من الصلاة.قال : نفقت دابتي. قال : أفعجزت عن المشي. فمنعه الدابة سنة. وأتي هشام برجل عنده قيان وخمر وبربط. فقال : اكسروا الطنبور على رأسه. فبكى الرجل لما ضربه. فقيل : عليك بالصبر. فقال : أتراني أبكي للضرب بل إنما أبكي لاحتقاره البربط إذ سماه طنبوراً. وقيل : وكتب إليه بعض عماله : قد بعثت إلى أمير المؤمنين بسلة دراقن. فكتب إليه : قد وصل الدراقن فأعجبتنا فزد منه واستوثق من الوعاء. وكتب إلى عامل آخر قد بعث بكمأة : قد وصلت الكمأة وهي أربعون وقد تغير بعضها. فإذا بعثت شيئاً فأجد حشوها في الظرف بالرمل حتى لا يضطرب ولا يصيب بعضها بعضاً. وقيل له : أتطمع في الخلافة وأنت بخيل جبان. وقيل له : أتطمع في الخلافة وأنت بخيل جبان. قال : ولم لا أطمع فيها وأنا حليم عفيف. ومات هشام بالرصافة سنة خمس وعشرين ومائة. وكانت ولايته عشرين سنة وعمره خمساً وخمسين سنة وكان مرضه الذبحة.
***
قيل أول من قدم خراسان من دعاة بني العباس سنة تسع ومائة زياد في ولاية أسد بعثه محمد الإمام ابن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب وقال له : الطف بمضر. ونهاه عن رجل من نيسابور يقال له غالب لأنه كان مفرطاً في حب بني فاطمة. فلما قدم زياد دعا إلى بني العباس وذكر سيرة بني أمية وظلمهم. وقدم عليه غالب وتناظرا في تفضيل آل علي وآل العباس وافترقا. وأقام زياد بمرو. ورفع أمره إلى أسد وخوف من جانبه فأحضره وقتله وقتل معه عشرة من أهل الكوفة. وفي سنة ثماني عشرة ومائة توجه عمار ابن يزيد إلى خراسان ودعا إلى محمد بن علي بن عبد الله ابن عباس. فأطاعه الناس وتسمى بخداش وأظهر دين الخرمية ورخص لبعضهم في نساء بعض وقال لهم : إنه لا صوم ولا صلاة ولا حج. وإن تأويل الصوم أن يصام عن ذكر الإمام فلا يباح باسمه. والصلاة فالدعاء له والحج فالقصد إليه.
***
” الوليد بن يزيد بن عبد الملك “
كان يزيد أبوه عقد ولاية العهد له بعد أخيه هشام ابن عبد الملك. فلما ولي هشام أخو يزيد أكرم الوليد بن يزيد حتى ظهر من الوليد مجون وشرب الشراب وتهاون بالدين واستخف به. فتنكر له هشام وأض به وكان يعتبه ويتنقصه ويقصر به. فخرج الوليد ومعه ناس من خاصته ومواليه فنزل بالازرق. وكان يقول لأصحابه : هذا المشؤوم قدمه أبي على أهل بيته فصيره ولي عهده ثم يصنع بي ما ترون لا يعلم أن لي في أحد هوى إلا عبث به. ولم يزل الوليد مقيماً في تلك البرية حتى مات هشام. وأتاه رجلان على البريد فسلما عليه بالخلافة. فوجم ثم قال : أمات هشام. فقالا : نعم. فأرسل إلى الخزان. فقال : احتفظوا بما في أيديكم. فأفاق هشام فطلب شيئاً. فمنعوه. فقال : إنّا الله كأنّا كنا خزاناً للوليد. ومات في ساعته. وخرج عياض كاتب الوليد من السجن فختم أبواب الخزائن وأنزل هشاماً عن فراشه. وما وجدوا له قمقماً يسخن فيه الماء حتى استعاروه. ولا وجدوا كفناً من الخزائن. فكفنه غالب مولاه. وضيق الوليد على أهل هشام وأصحابه وكان يقول : كلناه بالصاع الذي كاله وما ظلمناه به أصبعاً. فلما ولي الوليد أجرى على زمني أهل الشام وعميانهم وكساهم وأخرج لعيالات الناس الطيب والكسوة وزاد الناس في العطاء عشرات ولم يقل في شيء يسأله : لا. ثم عقد لابنيه الحكم وعثمان البيعة من بعده وجعلهما وليي عهده أحدهما بعد الآخر. وفي هذه السنة أعني سنة خمس وعشرين ومائة قتل يحيى بن يزيد بن علي بن الحسين ابن علي ابن أبي طالب بجرجان وصلب ثم أنزل وأحرق ثم رض وحمل في سفينة وذر في الفرات. وفيها قتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك قتله ابن عمه يزيد بن الوليد بن عبد الملك وكان سبب قتله ما تقدم من خلاعته ومجانته. فلما ولي الخلافة ولم يزدد من الذي كان فيه من اللهو والركوب للصيد وشرب الخمر ومنادمة الفساق إلا تمادياً ثقل ذلك على رعيته وجنده وكرهوا أمره. ولما حاصروه في قصره دنا من الباب وقال لهم : ألم أزد في أعطياتكم. ألم أرفع المؤن عنكم. ألم أعط فقراءكم. فقالوا : إنّا ما ننقم عليك في أنفسنا إنما ننقم عليك في انتهاك ما حرم الله وشرب الخمر ونكاح أمهات أولاد أبيك. قال : حسبكم فلعمري لقد أكثرتم وأغرقتم والله لا يرتق فتقكم ولا يلم شعثكم ولا تجمع كلمتكم. فنزل من الحائط إليه عشرة رجال فاحتزوا رأسه وسيروه إلى يزيد. فنصبه على رمح وطاف به بدمشق. وسجن ابنيه الحكم وعثمان. وكان قتله لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة. وكانت مدة خلافته سنة وثلاثة أشهر. وكان عمره اثنتين وأربعين سنة.
***
وفي هذه السنة وجه ابراهيم بن محمد الأمام أبا هام بكير إلى خراسان. فقدم مرو وجمع النقباء والدعاة فنعى له محمد الامام ودعاهم إلى ابنه ابراهيم الأمام. فقبلوه ودفعوا إليه ما اجتمع عندهم من نفقات الشيعة شيعة بني العباس.
***
” يزيد بن الوليد بن عبد الملك “
سمي الناقص لأنه نقص الزيادة التي كان الوليد زادها في عطيات الجند. وكان محمود السيرة مرضي الطريقة. أمر بالبيعة لأخيه ابراهيم ومن بعده لعبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك. وتوفي بدمشق لعشر بقين من ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائة. وكانت خلافته ستة أشهر. وكان عمره ستاً وأربعين سنة. وكانت أمه أم ولد اسمها شاه فرند ابنة فيروز ابن يزدجرد بن شهريار بن كسرى وهو القائل.
أنا ابن كسرى وأبي مروان … وقيصر جدي وجدي خاقانُ
وإنما جعل قيصر وخاقان جديه لأن أمه فيروز ابنة كسرى وأمها ابنة قيصر وأم كسرى ابنة خاقان ملك الترك.
” ابراهيم بن الوليد بن عبد الملك “
فلما مات يزيد بن الوليد قام بالأمر أخوه ابراهيم بعده غير أنه لم يتم له الأمر وكان يسلم عليه تارةً بالخلافة وتارة بالامارة وتارة لا يسلم عليه بواحدة منهما. فمكث سبعين يوماً ثم سار إليه مروان بن محمد فخلعه. ثم لم يزل حياً حتى أصيب سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
” مروان بن محمد بن مروان بن الحكم “
لما مات يزيد بن الوليد بن عبد الملك سار مروان في جنود الجزيرة إلى الشام لمحاربة ابراهيم بن الوليد بن عبد الملك. ولما دخل دمشق أتى بالغلامين الحكم وعثمان ابني الوليد بن يزيد بن عبد الملك مقتولين فدفنهما وبايعه الناس. فلما استقر له الأمر رجع إلى منزله بحران فطلب منه الأمان لابراهيم ابن الوليد وسليمان بن هشام بن عبد الملك فأمنهما. وفي هذه السنة أعني سنة سبع وعشرين ومائة حارب سليمان بن هشام بن عبد الملك مروان بن محمد وانهزم أصحاب سليمان وقتل منهم نحو ستة آلاف. وفيها توجه سليمان بن كثير ولا هز بن قريط وقحطبة إلى مكة فلقوا ابراهيم بن محمد الأمام بها وأوصلوا إلى مولى له عشرين ألف دينار ومائتي ألف درهم ومسكاً ومتاعاً كثيراً. وكان معهم أبو مسلم. فقال سليمان لابراهيم الامام : هذا مولاك. فأمر ابراهيم أبا مسلم على خراسان. وفي سنة تسع وعشرين ومائة بعث ابراهيم الامام إلى أبي مسلم بلواء يدعى الظل وراية تدعى السحاب فعقدهما على رمحين وأظهر الدعوة العباسية بخراسان وتأول الظل والسحاب أن السحاب يطبق الأرض وكما أن الأرض لا تخلو من الظل كذلك لا تخلو من خليفة عباسي آخر الدهر. وفي سنة إحدى وثلاثين ومائة حج ابراهيم بن محمد الامام ومعه أخواه أبو العباس وأبو جعفر وولده وعمه ومواليه على ثلاثين نجيباً عليهم الثياب الفاخرة والرحال والأثقال. فشهره أهل الشام وأهل البوادي والحرمين معما انتشر في الدنيا من ظهور أمرهم. وبلغ مروان خبر حجهم فكتب إلى عاملة بدمشق يأمره بتوجيه خيل إليه. وكان مروان بأرض الشام. ووجه العامل خيلاً فهجموا على ابراهيم فأخذوه وحملوه إلى سجن حران فأثقلوه بالحديد وضيقوا عليه الحلقة حتى مات. ولما أحس ابراهيم بالطلب أوصى إلى أخيه أبي العباس ونعي نفسه إليه وأمره بالمسير إلى الكوفة بأهل بيته. فسار معه أخوه أبو جعفر وعمه وستة رجال حتى قدموا الكوفة مستخفين.
” أبو العباس السفاح “
وفي سنة اثنتين وثلاثين ومائة خرج أبو العباس بن محمد الامام بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب ليلة الجمعة لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول من دار أبي مسلمة بالكوفة فصلى المغرب في مسجد بني أيوب ودخل منزله. فلما أصبح غدا عليه القواد في التعبية والهيئة وقد أعدوا له السواد والمركب والسيف. فخرج أبو العباس فيمن معه إلى القصر الذي للأمارة. ثم خرج إلى المقصورة وصعد المنبر وبايعه الناس. ثم وجه عمه عبد الله إلى مروان وهو نازل بالزاب. فوقاع عبد الله مروان فهزمه. فمر مروان على وجهه ومضى فعبر جسر الفرات فوق حران وجمع جمعاً عظيماًبنهر فطرس من أرض فلسطين. وعبر أيضاً عبد الله الفرات وحاصر دمشق حتى افتتحها وقتل من بها من بني أمية وهدم سورها حجراً حجراً ونبش عن قبور بني أمية وأحرق عظامهم بالنار. ثم ارتحل نحو مروان فهزمه واستباح عسكره. وهرب مروان إلى أرض مصر فاتبعه جيش عبد الله واستدلوا عليه وهو في كنيسة في بوصير فطعنه رجل فصرعه واحتز آخر رأسه وبعث به إلى أبي العباس السفاح. وكان قتله لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة. وفي سنة ست وثلاثين ومائة مات السفاح بالانبار مدينته التي بناها واستوطنها لثلث عشرة سنة مضت من ذي الحجة بالجدري. وكان له يوم مات ثلث وثلاثون سنة. وكانت ولايته من لدن قتل مروان أربع سنين. وكان أبو العباس رجلاً طويلاً أبيض اللون حسن الوجه يكره الدماء ويحامي على أهل البيت.
“ أبو جعفر المنصور “
هو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بويع له سنة سبع وثلاثين ومائة. وفي هذه السنة قتل أبو مسلم الخراساني قتله المنصور بسبب أنهما حجا معاً في أيام السفاح. وكان أبومسلم يكسو الأعراب ويصلح الآبار والطرق. وكان الذكر له. فحقد أبو جعفر ذلك عليه. ولما صدر الناس عن الموسم تقدم أبو مسلم في الطريق على أبي جعفر فأتاه خبر وفاة السفاح فكتب إلى أبي جعفر يعزيه عن أخيه ولم يهنه بالخلافة ولم يقم حتى يلحقه ولم يرجع إليه. فخافه أبو جعفر المنصور وأجمع الرأي وعمل المكايد وهجر النوم إلى أن اقتنصه. وكان أبو مسلم استشار رجلاً من أصحابه بالري في رجوعه إلى المنصور فقال : لا أرى أن تأتيه وأرى أن تمتدّ إلى خراسان. فلما لم يقبل منه وسار نحو المنصور قيل له : تركت الرأي بالريّ فذهب مثلاً. فلما دنا أبو مسلم من المنصور أمر الناس بتلقيه وأكرامه غاية الكرامة. ثم قدم فدخل على المنصور وقبل يده. فأمره أن ينصرف ويروح نفسه ليلته ويدخل الحمام. فانصرف. فلما كان من الغد أعد المنصور من أصحاب الحرس أربعة نفر وأكمنهم خلف الرواق وقال لهم : إذا أنا صفقت بيديّ فشأنكم. وأرسل إلى أبي مسلم يستدعيه ودخل على المنصور فأقبل عليه يعاتبه ويذكر عثراته. فمما عد عليه أن قال : ألست الكاتب إليّ تبدأ بنفسك. ودخلت علينا وقلت : أين بان الحارثية. ويأتيك كتابي فتقرأه استهزاءً ثم تلقيه إلى مالك ابن الهيثم ويقرأه وتضحكان. فجعل أبو مسلم يعتذر إليه ويقبل الأرض بين يديه. فقال المنصور : قتلني الله إن لم أقتلك. وصفق بيديه فخرج الحراس يضربونه بسيوفهم وهو يصرخ ويستأمن ويقول : استبقني لعدوك يا أمير المؤمنين. فقال له المنصور : وأي عدو لي أعدى منك. وقيل كانت عند أبي مسلم ثلث نسوة وكان لايطأ المرأة منهم في السنة إلا مرة واحدة. وكان من أغير الناس لا يدخل قصره أحد غيره وفيه كوى يطرح منها لنسائه ما يحتجن إليه. قالوا ليلة زفت إليه امرأته أمر بالبرذون الذي ركبته فذبح وأحرق سرجه لئلا يركبه ذكر بعدها. قالوا وكان من أشد الناس طمعاً وأكثرهم طعاماً يخبز كل يوم في مطبخه ثلثة آلاف قرف ويطبخ مائة شاة سوى البقر والطير. وكان له ألف طباخ وآلة المطبخ تحمل على ألف ومائتي رأس من الدواب. وقيل كان أبو مسلم شجاعاً ذا رأي وعقل وتدبير وحزم ومروءة. وقيل بل كان فاتكاً قليل الرحمة قاسي القلب سوطه سيفه قتل ستمائة ألف ممن يعرف صبراً سوى من لايعرف ومن قتل في الحروب والهيجات. وسئل بعضهم : أبو مسلم كان خيراً أو الحجاج. قال : لا أقول أن أبا مسلم خير من أحد ولكن الحجاج كان شراً منه. وزعم قوم أن أبا مسلم كان من قرية من قرى مرو. ويقال : بل كان من العرب سمع الحديث وروى الأشعار. وقيل كان عبداً. وقد نسبه بعض الشعراء إلى الأكراد حين هجاه. وفي سنة أربعين ومائة سير المنصور عبد الوهاب ابن أخيه ابراهيم بن محمد الأمام في سبعين ألف مقاتل إلى ملطية. فنزلوا عليها وعمروا ماكان خربه الروم منها. ففرغوا من العمارة في ستة أشهر. واسكنها المنصور أربعة آلاف من الجند وأكثر فيها من السلاح والذخائر وبنى حصن قلوذية. وفي هذه السنة خرج الرواندية على المنصور بمدينة الهاشمية وهم قوم من أهل خراسان يقولون بتناسخ الأرواح ويزعمون أن ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم هو المنصور. وجعلوا يطوفو بقصره ويقولون : هذا قصر ربنا فأنكر ذلك المنصور وخرج إليهم ماشياً إذ لم يكن في القصر دابة. ونودي في أهل السوق فاجتمعوا وحملوا عليهم وقاتلوهم فقتلوا أعني الرواندية جميعاً وهم يومئذ ستمائة رجل. وفي السنة الرابعة والأربعين أخذ المنصور من أولاد الحسين بن علي بن أبي طالب اثني عشر إنساناً ورحلهم من المدينة إلى الكوفة وحبسهم في بيت ضيق لا يمكن لأحد من مقعده يبول بعضهم على بعض ويتغوط ولا يدخل عليهم روح الهواء ولا تخرج عنهم رائحة القذارة حتى ماتوا عن آخرهم. فخرج محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بالمدينة وجمع الجموع وتسمى بالمهدي. وخرج ابراهيم أخوه بالبصرة في ثلاثين ألفاً. وقتلا ولم ينجحا. وفي سنة خمس وأربعين ومائة ابتدأ المنصور في بناء عمارة مدينة بغداد. وسبب ذلك أنه كان قد ابتنى الهاشمية بنواحي الكوفة. فلما ثارت الرواندية به فيها كره سكناه لذلك ولجوار أهل الكوفة أيضاً إنه كان لا يأمن أهلها على نفسه وكانوا قد أفسدوا جنده. فخرج بنفسه يرتاد موضعاً يسكنه هو وجنده. فقال له أهل الحذق : إنّا نرى يا أمير المؤمنين أن يكون على الصراة وبين أنهار لا يصل إليك عدوك إلا على جسر فإذا قطعته لم يصل إليك. وأنت متوسط للبصرة والكوفة وواسط والموصل والسواد. ودجلة والفرات والصراة خنادق مدينتك. وتجيئك الميرة فيها من البر والبحر. فازداد المنصور حرصاً على النزول في ذلك الموضع. ولما عوم على بناء بغدا أمر بنقض المدائن وايوان كسرى. فنقضه ونقله إلى بغداد. فنقضت ناحية من القصر الأبيض وحمل نقضه فنظر وكان مقدار ما يلزمهم له أكثر من ثمن الجديد فأعرض عن الهدم. وجعل المدينة مدورة لئلا يكون بعض الناس أقرب إلى السلطان من بعض. وعمل له سورين للداخل أعلى من الخارج. وبنى قصره في وسطها والمسجد الجامع بجانب القصر وقبلته غير مستقيمة يحتاج المصليّ أن ينحرف إلى باب البصرة. وكانت الأسواق في مدينته فجاءه رسول لملك الروم. فأمر الربيع فطاف به في المدينة. فقال : كيف رأيت. قال : رأيت بناء حسناً إلا أني رأيت أعداءك معك وهم السوقة. فلما عاد الرسول عنه أمر بأخراجهم إلى ناحية الكرخ وأمر أن يجعل في كل ربع من مدينته بقال يبيع البقل والخل حسب. في سنة خمسين ومائة مات أبو حنيفة النعمان بن ثابت الأمام. وفي سنة ثماني وخمسين ومائة سار المنصور من بغداد ليحج فنزل قصر عبدويه فانقض في مقامه هنالك كوكب بعد إضاءة الفجر وبقي أثره بيناً إلى طلوع الشمس. فأحضر المهدي ابنه وكان قد صحبه ليودعه فوصاه بالمال والسلطان. وقال له أيضاً : أوصيك بأهل البيت أن تظهر كرامتهم فإن عزك عزهم وذكرهم لك وما أظنك تفعل. وانظر مواليك وأحسن إليهم واستكثر منهم فإنهم مادتك لشدةٍ إن نزلت بك وما أظنك تفعل. وانظر هذه المدينة وأياك أن تبني المدينة الشرقية فإنك لاتتم بناءها وأظنك ستفعل. وإياك أن تدخل النساء في أمرك وأظنك ستفعل. هذه وصيتي إليك والله خليفتي عليك. ثم ودعه وبكى كل منهما إلى صاحبه. ثم سار إلى الكوفة وكلما سار منزلاً اشتد وجعه الذي مات به وهو القيام. فلما وصل إلى بئر ميمون مات بها مع السحر لستّ خلون من ذي الحجة سنة ثماني وخمسين ومائة. وحمل إلى مكة وحفروا له مائة قبر ليعموا على الناس ودفن في غيرها مكشوف الرأس لاحرامه وكان عمره ثلاثاً وستين سنة وكانت مدة خلافته اثنتين وعشرين سنة. وقيل في صفته وسيرته أنه كان أسمر نحيفاً خفيف العارضين وكان من أحسن الناس خلقاً ما لم يخرج إلى الناس وأشدهم احتمالاً لما يكون من عبث الصبيان. فإذا لبس ثيابه وخرج هابه الأكابر فضلاً عن الأصاغر. ولم ير في داره لهو ولا شيء من اللعب والعبث. قال حماد التركي : كنت واقفاً على رأس المنصور فسمع جلبة فقال : انظر ما هذا. فذهبت فإذا خادم له قد جلس وحوله الجواري وهو يضرب لهن بالطنبور وهن يضحكن فأخبرته فقال : وأي شيء الطنبور. فوصفته له. فقال : ما يدريك أنت ما الطنبور. قلت : رأيته بخراسان. فقام ومشى إليهن. فلما رأينه تفرقن. فأمر بالخادم فضرب رأسه بالطنبور حتى تكسر الطنبور وأخرجه فباعه. ولم أفضى إليه الأمر أمر بتغيير الزي وتطويل القلانس. فجعلوا يحتالون لها بالقصب من داخل. وأمر بعد دور أهل الكوفة وقسمة خمسة دراهم على كل دار. فلما عرف عددهم جباهم أربعين درهماً أربعين درهماً.نه كان لا يأمن أهلها على نفسه وكانوا قد أفسدوا جنده. فخرج بنفسه يرتاد موضعاً يسكنه هو وجنده. فقال له أهل الحذق : إنّا نرى يا أمير المؤمنين أن يكون على الصراة وبين أنهار لا يصل إليك عدوك إلا على جسر فإذا قطعته لم يصل إليك. وأنت متوسط للبصرة والكوفة وواسط والموصل والسواد. ودجلة والفرات والصراة خنادق مدينتك. وتجيئك الميرة فيها من البر والبحر. فازداد المنصور حرصاً على النزول في ذلك الموضع. ولما عوم على بناء بغدا أمر بنقض المدائن وايوان كسرى. فنقضه ونقله إلى بغداد. فنقضت ناحية من القصر الأبيض وحمل نقضه فنظر وكان مقدار ما يلزمهم له أكثر من ثمن الجديد فأعرض عن الهدم. وجعل المدينة مدورة لئلا يكون بعض الناس أقرب إلى السلطان من بعض. وعمل له سورين للداخل أعلى من الخارج. وبنى قصره في وسطها والمسجد الجامع بجانب القصر وقبلته غير مستقيمة يحتاج المصليّ أن ينحرف إلى باب البصرة. وكانت الأسواق في مدينته فجاءه رسول لملك الروم. فأمر الربيع فطاف به في المدينة. فقال : كيف رأيت. قال : رأيت بناء حسناً إلا أني رأيت أعداءك معك وهم السوقة. فلما عاد الرسول عنه أمر بأخراجهم إلى ناحية الكرخ وأمر أن يجعل في كل ربع من مدينته بقال يبيع البقل والخل حسب. في سنة خمسين ومائة مات أبو حنيفة النعمان بن ثابت الأمام. وفي سنة ثماني وخمسين ومائة سار المنصور من بغداد ليحج فنزل قصر عبدويه فانقض في مقامه هنالك كوكب بعد إضاءة الفجر وبقي أثره بيناً إلى طلوع الشمس. فأحضر المهدي ابنه وكان قد صحبه ليودعه فوصاه بالمال والسلطان. وقال له أيضاً : أوصيك بأهل البيت أن تظهر كرامتهم فإن عزك عزهم وذكرهم لك وما أظنك تفعل. وانظر مواليك وأحسن إليهم واستكثر منهم فإنهم مادتك لشدةٍ إن نزلت بك وما أظنك تفعل. وانظر هذه المدينة وأياك أن تبني المدينة الشرقية فإنك لاتتم بناءها وأظنك ستفعل. وإياك أن تدخل النساء في أمرك وأظنك ستفعل. هذه وصيتي إليك والله خليفتي عليك. ثم ودعه وبكى كل منهما إلى صاحبه. ثم سار إلى الكوفة وكلما سار منزلاً اشتد وجعه الذي مات به وهو القيام. فلما وصل إلى بئر ميمون مات بها مع السحر لستّ خلون من ذي الحجة سنة ثماني وخمسين ومائة. وحمل إلى مكة وحفروا له مائة قبر ليعموا على الناس ودفن في غيرها مكشوف الرأس لاحرامه وكان عمره ثلاثاً وستين سنة وكانت مدة خلافته اثنتين وعشرين سنة. وقيل في صفته وسيرته أنه كان أسمر نحيفاً خفيف العارضين وكان من أحسن الناس خلقاً ما لم يخرج إلى الناس وأشدهم احتمالاً لما يكون من عبث الصبيان. فإذا لبس ثيابه وخرج هابه الأكابر فضلاً عن الأصاغر. ولم ير في داره لهو ولا شيء من اللعب والعبث. قال حماد التركي : كنت واقفاً على رأس المنصور فسمع جلبة فقال : انظر ما هذا. فذهبت فإذا خادم له قد جلس وحوله الجواري وهو يضرب لهن بالطنبور وهن يضحكن فأخبرته فقال : وأي شيء الطنبور. فوصفته له. فقال : ما يدريك أنت ما الطنبور. قلت : رأيته بخراسان. فقام ومشى إليهن. فلما رأينه تفرقن. فأمر بالخادم فضرب رأسه بالطنبور حتى تكسر الطنبور وأخرجه فباعه. ولم أفضى إليه الأمر أمر بتغيير الزي وتطويل القلانس. فجعلوا يحتالون لها بالقصب من داخل. وأمر بعد دور أهل الكوفة وقسمة خمسة دراهم على كل دار. فلما عرف عددهم جباهم أربعين درهماً أربعين درهماً.
وكان المنصور في صدر أمره عندما بنى بغداد أدركه ضعف في معدته وسوء استمراء وقلة شهوة. وكلما عالجه الأطباء ازداد مرضه. فقيل له عن جيورجيس بن بختيشوع الجنديسابوري انه أفضل الأطباء. فتقدم بإحضاره. فأنفذه العامل بجنديسابور بعد ما أكرمه. فخرج ووصى ولده بختيشوع بالبيمارستان واستصحب معه تلميذه عيس ابن شهلاثا ولما وصل إلى بغداد أمر المنصور بإحضاره. فلما وصل إلى الحضرة دعا له بالفارسية والعربية. فعجب المنصور من حسن منطقه ومنظره وأمره بالجلوس وسأله عن أشياء فأجابه عنها بسكون. وخبره بمرضه. فقال له جيورجيس : أنا أدبرك بمشية الله وعونه. فأمر له في الوقت بخلعة جليلة وتقدم إلى الربيع بإنزاله في أجمل موضع من دوره وإكرامه كما يكرم أخص الأهل. ولم يزل جيورجيس يتلطف له في تدبيره حتى برئ من مرضه وفرح به فرحاً شديداً. وقال له يوماً : من يخدمك ههنا. قال : تلامذتي. فقال له الخليفة : سمعت أته ليست لك امرأة. فقال : لي زوجة كبيرة ضعيفة لا تقدر على النهوض من موضعها. وانصرف من الحضرة ومضى إلى البيعة. فأمر المنصور خادمه سالماً أن يحمل من الجواري الروميات الحسان ثلاثاً إلى جيورجيس مع ثلاثة آلاف دينار. ففعل ذلك. فلما انصرف جيورجيس إلى منزله عرفه عيسى بن شهلاثا تلميذه بما جرى وأراه الجواري. فأنكر أمرهن وقال لعيسى : يا تلميذ الشيطان لم أدخلت هؤلاء إلى منزلي. أردت أن تنجسني. امضِ وردهن على أصحابهن. فمضى إلى دار الخليفة وردهن على الخادم. فلما اتصل الخبر إلى المنصور أحضره وقال له : لم رددت الجواري. قال : لا يجوز لنا معشر النصارى أن نتزوج بأكثر من امرأة واحدة وما دامت المرأة حية لا نأخذ غيرها. فحسن موضع هذا من الخليفة وزاد موضعه عنده. وهذا ثمرة العفة. ولما كان في سنة اثنتين وخمسين ومائة مرض جيورجيس مرضاً صعباً. ولما اشتد مرضه أمر المنصور بحمله إلى دار العامة وخرج ماشياً إليه وتعرف خبره. فخبره وقال له : إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في الانصراف إلى بلدي لانظر أهلي وولدي وإن متُّ قبرت مع آبائي. فقال له : يا حكيم اتق الله وأسلم وأنا أضمن لك الجنة. قال جيورجيس قد رضيت حيث آبائي في الجنة أو في النار. فضحك المنصور من قوله ثم قال : إنني منذ رأيتك وجدت راحة من الأمراض التي كانت تعتادني. فقال جيورجيس : أنا أخلف بين يدي أمير المؤمنين عيس تلميذي فهو ماهر. فأمر لجيورجيس بعشرة آلاف دينار وأذن له بالانصراف وأنفذ معه خادماً وقال : إن مات في الطريق فاحمله إلى منزله ليدفن هناك كما أحب. فوصل إلى بلده حياً. ثم أمر المنصور بإحضار عيسى ابن شهلاثا. فلما مثل بين يديه سأله عن أشياء فوجده ماهراً فاتخذه طبيباً. ولما استصحبه المنصور بدأ في التشاور والأذية خاصة على المطارنة والأساقفة ومطالبتهم بالرشى. ولما خرج المنصور في بعض أسفاره وصل إلى قريب نصيبين. فكتب عيسى إلى قوفريان مطران نصيبين يتهدده ويتوعده إن منع عنه ما التمسه منه. وكان عيسى قد التمس أن ينفذ له من آلات البيعة أشياء جليلة ثمينة لها قدر. وكتب في كتابه إلى المطران : ألست تعلم أن أمر الخليفة في يدي إن أردت أمرضته وإن أردت شفيته؟ فلما وقف المطران على الكتاب احتال في التوصل إلى الربيع وشرح له صورة الحال فأقرأه الكتاب وأوصله الربيع إلى الخليفة ووقفه على حقيقة الأمر. فأمر المنصور بأخذ جميع ما يملكه عيس الطبيب وتأديبه ونفيه. ففعل به ذلك ونفي أقبح نفي. وهذا ثمرة الشر. وكان نوبخت المنجم الفارسي يصحب المنصور وكان فاضلاً حاذقاً خبيراً باقتران الكواكب وحوادثها. ولما ضعف عن الصحة قال له المنصور : أحضر ولدك ليقوم مقامك. فسير ولده أبا سهل. قال أبو سهل : فلما دخلت على المنصور ومثلت بين يديه قيل لي : تسمَّ لأمير المؤمنين. فقلت : اسمي خرشاذماه طيماذاه ماباذار خسرو ابهمشاذ. فقال لي المنصور : كل ما ذكرت فهو اسمك! ” قال ” قلت : نعم. فتبسم المنصور ثم قال : ما صنع أبوك شيئاً فاختر مني إحدى خلتين إما أن اقتصر بك من كل ما ذكرت على طيماذ وإما أن تجعل لك كنية تقوم مقام الاسم وهي أبو سهل. قال أبو سهل : قد رضيت بالكنية. فبقيت كنيته وبطل اسمه.
“ المهدي بن المنصور“
لما مات المنصور ببئر ميمون لم يحضره عند وفاته إلا خدمه والربيع مولاه. فكتم الربيع موته وألبسه وسنده وجعل على وجهه كلة خفيفة يرى شخصه منها ولا يفهم أمره وأدنى أهله منه. ثم قرب منه الربيع كأنه يخاطبه. ثم رجع إليهم وأمرهم عنه بالبيعة للمهدي بن المنصور بن محمد الامام ولابن عمه عيسى بن موسى بن محمد الامام بعده. فبايعوا. ثم أخرجهم. وبعد ذلك خرج إليهم باكياً مشقوق الجيب لاطماً رأسه. ثم وجه إلى المهدي بخبر وفاة المنصور وبالبيعة له ولابن عمه عيسى بن موسى بعده. فأبى عيسى بن موسى من البيعة للمهدي وامتنع بالكوفة وأراد أن يتحصن بها. فبعث المهدي أبا هريرة في ألف فارس فأخذه إلى المهدي. ولم يزل يراوضه ويراوده حتى أجاب إلى خلع نفسه. فعوضه عنها عشرة آلاف دينار وبايع للمهدي ولابنه موسى الهادي. وفي أيام المهدي خرج بخراسان رجل يقال له يوسف البرم واستغوى خلقاً فبعث إليه المهدي جيوشاً ففضوا جموعه وأسوره وحملوه إلى المهدي. فأمر به فصلب. وخرج المقنع وادعى النبوة وقال بتناسخ الأرواح واتبه ناس كثيرون. وكان هذا رجلاً أعور من قرية بمرو يقال لها كره. وكان لايسفر عن وجهه لأصحابه فلذلك قيل له المقنع. وكان يحسن شيئاً من الشعبذة وأبواب النيرنجيات فاستغوى أهل العقول الضعيفة واستمالهم، فبعث المهدي في طلبه فصار إلى مار وراء النهر وتحصن في قلعة كنس وجمع فيها من الطعام والعلوفة وبث الدعاة في الناس وأدعى إحياء الموتى وعلم الغيب. وألح المهدي في طلبه فحوصر. فلما اشتد الحصار عليه وأيقن بالهلاك جمع نساءه وأهله كلهم وسقاهم السم فماتوا عن آخرهم. وأحرق كل ما في القلعة من دابة وثوب وطعام. وألقى نفسه في النار لئلا يلقى جسده العدو. ودخل العسكر القلعة ووجدوها خالية خاوية. وكان ذلك مما زاد في افتتان من بقي من أصحابه بما وراء النهر. وكان وعدهم أن تتحول روحه إلى قالب رجل أشمط على برذون أشهب وإنه يعود إليهم بعد كذا سنة ويملكهم الأرض. فهم بعد يتنظرونه ويسمون المبيضة. وفي سنة خمس وستين ومائة سير المهدي ابنه الرشيد لغزو الروم. فسار حتى بلغ خليج القسطنطينية. وصاحب الروم يومئذ ايريني امرأة لاون الملك. وذلك أن ابنها كان صغيراً قد هلك أبوه وهو في حجرها. فجزعت المرأة من المسلمين وطلبت الصلح من الرشيد. فجرى الصلح بينهم على الفدية وأن تقيم له الادلاء والأسواق في طريقه. وذلك أنه دخل مدخلاً ضيقاً مخوفاً من أحد جانبيه جبل وعر ومن جانبه الآخر نهر ساغريس. فأجابته إلى ذلك ومقدار الفدية سبعون ألف دينار لكل سنة ورجع عنها. واو كانت ذات همة لأمكنها منع المسلمين من الخروج والفتك بهم. وفي سنة تسع وستين ومائة عزم المهدي على خلع ابنه الموسى الهادي والبيعة للرشيد بولاية العهد. فبعث إليه وهو بجرجان في المعنى. فلم يفعل وامتنع من القدوم أيضاً. فسار المهدي يريده. فلما بلغ ماسبذان. عمدت حسنة جاريته إلى كمثرى فأهدته جارية أخرى كان المهدي يتخطاها وسمت منه كمثراة هي أحسن الكمثرى. فاجتاز الخادم بالمهدي وكان يعجبه الكمثرى فأخذ تلك الكمثراة المسمومة فأكلها. فلما وصلت إلى جوفه صاح : جوفي جوفي. فسمعت حسنة بموته فجاءت تبكي وتلطم وجهها وتقول : أردت أن أنفرد بك فقتلتك. فمات من يومه وكان موته في المحرم لثمان بقين منه سنة تسع وستين ومائة وكانت خلافته عشر سنين وتوفي وهو ابن ثلاث وأربعين سنة ودفن تحت جوزة كان يجلس تحتها.
***
حكي إنه لما هم المهدي بالخروج إلى ماسبذان تقدم إلى حسنة حظيته أن تخرج معه. فأرسلت إلى توفيل بن توما النصراني المنجم الرهاوي وهو رئيس منجمي المهدي قائلة له : إنك أشرت على أمير المؤمنين بهذا السفر فجشمتنا سفراً لم يكن في الحساب. فعجل الله موتك وأراحنا منك. فلما بلغته رسالتها قال للجارية التي أتته بها : إرجعي إليه وقولي لها أن هذه الإشارة ليست مني. وإما دعاؤك علي بتعجيل الموت فهذا شيء قد قضى الله به وموتي سريع فلا تتوهمي أن دعوتك استجيبت. ولكن أعدي لنفسك تراباً كثيراً. فإذا أنا مت فاجعليه على رأسك. فما زالت متوقعة تأويل قوله منذ توفي حتى توفي المهدي بعد عشرين يوماً. وكان توفيل هذا على مذهب الموارنة الذين في جبل لبنان من مذاهب النصارى. وله كتاب تاريخ حسن ونقا كتابي اوميروس الشاعر على فتح مدينة ايليون في قديم الدهر من اليونانية إلى السريانية بغاية ما يكون من الفصاحة.
وفي هذا الزمان اشتهر في الطب أبو قريش طبيب المهدي وهو المعروف بعيسى الصيدلاني. ولم يذكر هذا في جملة الأطباء لأنه كان ماهراً بالصناعة وإنما يذكر لظريف خبره وما فيه من العبرة وحسن الاتفاق. وهو أن هذا الرجل كان صيدلانياً ضعيف الحال جداً. فتشكت الخيزران حظية المهدي وكانت من مولدات المدينة. وتقدمت إلى جاريتها بأن تخرج القارورة إلى طبيب غريب لا يعرفها. وكان أبو قريش بالقرب من القصر الذي للمهدي. فلما وقع نظر الجارية عليه أرته القارورة. فقال لها : لمن هذا الماء؟ فقالت : لامرأة ضعيفة. فقال : بل لملكة جليلة عظيمة الشأن وهي حبلى بملك. وكان هذا القول منه على سبيل الرزق. فانصرفت الجارية من عنده وأخبرت الخيزران بما سمعت منه. ففرحت بذلك فرحاً شديداً وقالت : ينبغي أن تضعي علامة على دكانه حتى إذا صح قوله اتخذناه طبيباً لنا. وبعد مدة ظهر الحبل وفرح به المهدي فرحاً شديداً. فأنفذت الخيزران إلى أبي قريش خلعتين فاخرتين وثلاثمائة دينار وقالت : استعن بهذه على أمرك. فإن صح ما قلته استصحبناك. فعجب أبو قريش من ذلك وقال : هذا من عمدي ربي عز وجل لأنني ما قلته للجارية إلا وقد كان هاجساً من غير أصل. ولما ولدت الخيزران موسى الهادئ سر المهدي سروراً عظيماً. وحدثته الخيزران الحديث فاستدعى أبا قريش وخاطبه. فلم يجد عنده علماً بالصناعة إلا شيئاً يسيراً من علم الصيدلة. إلا أنه اتخذه طبيباً لما جرى منه واستصحبه وأكرمه الإكرام التام وحظي عنده.
” الهادي بن المهدي “
لما توفي المهدي كان الرشيد معه في ماسبذان. فكتب إلى الآفاق بوفاة المهدي والبيعة لموسى الهادي. وسار نصير الوصيف إلى الهادي بجرجان يعلمه بوفاة المهدي والبيعة له. فنادى بالرحيل. ولما قدم بغداد استوزر الربيع. وفي هذه السنة وهي سنة تسع وستين ومائة تتبع الهادي الزنادقة وقتل منهم جماعة كانوا إذا نظروا إلى الناس في الطواف يهزلون ويقولون : ما أشبههم ببقر تدوس البيدر. وقتل أيضاً يعقوب بن الفضل بن عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب. وفي سنة سبعين ومائة توفي الهادي. وسبب وفاته إنه لما ولي الخلافة كانت أمه الخيزران تستبد بالأمور دونه. وكلمته يوماً في أمر لم يجد إلى أجابتها سبيلاً. فقالت : لا بد من الإجابة إليه. فغضب الهادي وقال : والله لا قضيتها لك. قالت : إذاً والله لا أسألك حاجة أبداً. قال : لا أبالي. فقامت مغضبة. فقال : مكانك. والله لئن بلغني أنه وقف في بابك أحد من قوادي لأضربنَّ عنقه. ما هذه المواكب التي تغدو وتروح إلى بابك. أما لم مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك أو بيت يصونك! فانصرفت وهي لا تعقل. ووضعت جواريها عليه لما مرض فقتلنه بالغم وبالجلوس على وجهه. فمات ليلة الجمعة للنصف من ربيع الأول. وكانت خلافته سنة وثلاثة أشهر وكان عمره ستاً وعشرين سنة.
” هرون الرشيد بن المهدي “
لما توفي الهادي بويع الرشيد هرون بالخلافة في الليلة التي مات فيها الهادي. وكان عمره حين ولي اثنتين وعشرين سنة. وأمه الخيزران. ولما مات الهادي خرج الرشيد فصلى عليه بعيساباذ. ولما عاد الرشيد إلى بغداد وبلغ الجسر دعا الغواصين وقال : كان أبي قد وهب لي خاتماً شراؤه مائة ألف دينار. فأتاني رسول الهادي أخي يطلب الخاتم وأنا ههنا فألقيته في الماء. فغاصوا عليه وأخرجوه فسر به. ولما مات الهادي هجم خزيمة بن خازم تلك الليلة على جعفر بن الهادي فأخذه من فراشه وقال له : لتخلعنها أو لأضربن عنقك. فأجاب إلى الخلع. وأشهد الناس عليه. فحظي بها.
وقيل لما مات الهادي جاء يحيى بن خالد البرمكي إلى الرشيد فأعلمه بموته. فبينما هو يكلمه إذ أتاه رسول آخر يبشه بمولود. فسماه عبد الله وهو المأمون. فقيل : في ليلة مات خليفة وقام خليفة وولد خليفة. وفي هذه السنة ولد الأمين واسمه محمد في شوال وكان المأمون أكبر منه. ولما ولي الرشيد استوزر يحيى البرمكي.
وفي سنة اثنتين وثمانين ومائة بايع الرشيد لعبد الله المأمون بولاية العهد بعد الأمين وولاه خراسان وما يتصل بها إلى همذان ولقبه المأمون وسلمه إلى جعفر بن يحيى البرمكي. وفيها حملت بنت خاقان الخزر إلى الفضل بن يحيى البرمكي. فماتت ببرذعة فرجع من معها إلى أبيها فأخبروه أنها قتلت غيلة فتجهز إلى بلاد الإسلام. وفيها سملت الروم عيني ملكهم قسطنطين بن لاون وأقروا أمه ايريني. وغزا المسلمون الصائفة فبلغوا أفسوس مدينة أصحاب الكهف. وفي سنة ثلاث وثمانين ومائة خرج الخزر بسبب ابنه خاقان من بابا الأبواب فأوقعوا بالمسلمين وأهل الذمة وسبوا أكثر من مائة ألف رأس وانتهكوا أمراً عظيماً لم يسمع بمثله في الأرض.
وفي سنة ست وثمانين ومائة أخرج الرشيد البيعة للقاسم ابنه بولاية العهد بعد المأمون وسماه المؤتمن. وفي سنة سبع وثمانين ومائة خلعت الروم ايريني الملكة وملكت نيقيفور وهو من أولاد جبلة. فكتب إلى الرشيد : من نيقيفور ملك الروم إلى هرون ملك العرب. أما بعد فإن الملكة ايريني حملت إليك من أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أضعافه إليها. لكن ذلك ضعف النساء وحمقهن. فإذا قرأت كتابي هذا فاردد ما أخذت وإلا فالسيف بيننا وبينك. فلما قرأ الرشيد الكتاب استفزه الغضب وكتب في ظهر الكتاب : من هرون أمير المؤمنين إلى نيقيفور زعيم الروم. قد قرأت كتابك والجواب ما تراه دون ما تسمعه. ثم سار من يومه حتى نزل على هرقلة فأحرق وخرب ورجع. وفي هذه السنة أوقع الرشيد بالبرامكة وقتل جعفر بن يحيى البرمكي وحبس أخاه الفضل وأباه يحيى بالرقة حتى ماتا. وكتب إلى العمال في جميع النواحي بالقبض على البرامكة واستصفى أموالهم. وفي سنة تسعين ومائة ظهر رافع بن الليث بما وراء النهر مخالفاً للرشيد بسمرقند. وفي سنة اثنتين وتسعين ومائة سار الرشيد من الرقة إلى بغداد يريد خراسان لحرب رافع. ولما صار ببعض الطريق ابتدأت به العلة. ولما بلغ جرجان في صفر اشتد مرضه. وكان معه ابنه المأمون. فسيره إلى مرو ومعه جماعة من القواد. وسار الرشيد إلى طوس. واشتد به المرض حتى ضعف عن الحركة. ووصل إليه هناك بشير بن الليث أخو رافع أسيراً فقال له الرشيد : والله لو لم يبق من أجلي إلا أن أحرك شفتي بكلمة لقلت : اقتلوه. ثم دعا بقصاب فأمر به ففصل أعضاءه. فلما فرغ منه أغمي عليه ثم مات ودفن بطوس سنة ثلاث وتسعين ومائة. وكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة. وكان عمره سبعاً وأربعين سنة. وكان جميلاً وسيماً أبيض جعداً قد وخطه الشيب. وكان بعهده ثلاثة الأمين وأمه زبيدة بنت جعفر بن المنصور ثم المأمون وأمه أم ولد اسمها مراجل ثم المؤتمن وأمه أم ولد. قيل : وكان الرشيد يصلي كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا إلا من مرض. وكان يتصدق من صلب ماله كل يوم بألف درهم بعد زكاته.
قيل أن الرشيد في بدء خلافته سنة إحدى وسبعين ومائة مرض من صداع لحقه. فقال ليحيى بن خالد بن برمك : هؤلاء الأطباء ليسوا يفهمون شيئاً وينبغي أن تطلب لي طبيباً ماهراً. فقال له عن بختيشوع بن جيورجيس. فأرسل البريد في طلبه إلى جنديسابور. ولما كان بعد أيام ورد ودخل على الرشيد. فأكرمه وخلع عليه خلعة سنية ووهب له مالاً وافراً وجعله رئيس الأطباء. ولما كان في سنة خمس وسبعين ومائة مرض جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك. فتقدم الرشيد إلى بختيشوع أن يخدمه. ولما أفاق الجعفر من مرضه قال لبختيشوع : أريد أن تختار لي طبيباً ماهراً أكرمه وأحسن إليه. قال له بختيشوع : لست أعرف في هؤلاء الأطباء أحذق من ابني جبريل. فقال له جعفر : أحضرنيه. فلما أحضره شكا إليه مرضاً كان يخفيه. فدبره في مدة ثلاثة أيام وبرئ. فأحبه جعفر مثل نفسه. وفي بعض الأيام تمطت حظية الرشيد ورفعت يدها فبقيت مبسوطة لا يمكنها ردها والأطباء يعالجونها بالتمريخ والأدهان فلا ينفع ذلك شيئاً. فقال له جعفر عن جبريل ومهارته. فأحضره وشرح له حال الصبية. فقال جبريل : إن لم يسخط أمير المؤمنين علي فلها عندي حيلة. قال له الرشيد : ما هي؟ قال : تخرج الجارية إلى هاهنا بحضرة الجمع حتى أعمل ما أريد وتتمهل علي ولا تسخط عاجلاً. فأمر الرشيد فخرجت وحين رآها جبريل أسرع إليها ونكس رأسها وأمسك ذيلها فانزعجت الجارية ومن شدة الحياء والانزعاج استرسلت أعضاؤها وبسطت يدها إلى أسفل وأمسكت ذيلها. فقال جبريل : لقد برئت يا أمير المؤمنين. فقال الرشيد للجارية ابسطي يدك يمنة ويسرة. ففعلت. فعجب الرشيد وكل من حضر وأمر لجبريل في الوقت بخمسمائة ألف درهم وأحبه. ولما سئل عن سبب العلة قال : هذه الصبية انصب إلى أعضائها وقت الغشيان خلط رقيق بالحركة وانتشار الحرارة ولأجل أن سكون حركة الغشيان تكون بغتة جمدت الفضلة في بطون الأعصاب وما كان يحلها إلا حركة مثلها فاحتلت حتى انبسطت حرارتها وحلت الفضلة فبرئت.
ومن أطباء الرشيد يوحنا بن ماسويه النصراني السرياني ولاه الرشيد ترجمة الكتب الطبية القديمة. وخدم الرشيد ومن بعده إلى أيام المتوكل وكان معظماً ببغداد جليل القدر وله تصانيف جميلة. وكان يعقد مجلساً للنظر ويجري فيه من كل نوع من العلوم القديمة بأحسن عبارة. وكان يدرس ويجتمع إليه تلاميذ كثيرون. وكان في يوحنا دعابة شديدة يحضره من يحضره لأجلها في الأكثر. وكان من ضيق الصدر وشدة الحدة على أكثر مما كان عليه جبريل بن بختيشوع. وكانت الحدة تخرج من يوحنا الفاظاً مضحكة. فما جفظ من نوادره أن رجلاً شكا إليه علة كان شفاه منها الفصد فأشار عليه به. فقال له : لم أعتد الفصد. قال له يوحنا : ولا أحسبك اعتدت العلة من بطن أمك. وصار إليه قسيس وقال : قد فسدت علي معدتي. فقال له يوحنا : استعمل جوارشن الخوزي. فقال له : قد فعلت. قال : فاستعمل الكموني. قال : قد استعملت منه أرطالاً. فأمره باستعمال البنداذيقون. فقال : قد شريت منه جرة. قال : استعمل المروسيا. فقال له : قد فعلت وأكثرت. فغضب يوحنا وقال له : إن أردت أن تبرأ فأسلم فإن الإسلام يصلح المعدة. وكان بختيشوع بن جبريل يداعب يوحنا كثيراً. فقال له في مجلس ابراهيم بن المهدي وهم في معسكر المعتصم بالمدائن سنة عشرين ومائتين : أنت أبا زكريا أخي ابن أبي. فقال يوحنا لإبراهيم : اشهد على أقراره فوالله لأقاسمنه ميراثه من أبيه. فقال له بختيشوع : إن أولاد الزنا لا يرثون. فانقطع يوحنا ولم يحر جواباً. ومن الأطباء في أيام الرشيد صالح بن بهلة الهندي. ومن عجيب ما جرى له أن الرشيد في بعض الأيام قدمت له الموائد. فطلب جبريل بن بختيشوع يحضر أكله على عادته في ذلك فلم يوجد فلعنه الرشيد. فبينما هو في لعنته إذ دخل عليه. فقال له : أين كنت وطفق يذكره بشرّ. فقال : إن أشتغل أمير المؤمنين بالبكاء على ابن عمه ابراهيم بن صالح وترك تناولي بالسب كان أشبه. فسأله عن خبر ابراهيم. فأعلمه أنه خلفه وبه رمق ينقضي آخره وقت صلاة العتمة. فاشتد جزع الرشيد من ذلك وأمر برفع الموائد وكثر بكاؤه. فأشار جعفر بن يحيى البرمكي أن يمضي صالح الطبيب الهندي إليه ويعاينه ويجس نبضه. فمضى وتأمله ورجع إلى جعفر قائلاً : إن مات هذا من هذه العلة كل امرأة لي طالق ثلاثاً بتاتاً. فلما كان وقت العتمة ورد كتاب صاحب البريد بوفاة ابراهيم على الرشيد فأقبل يلعن الهند وطبهم. فحضر صالح بين يدي الرشيد فقال : الله الله أن تدفن ابن عمك حياً فوالله ما مات. قم حتى أريك عجباً. فدخل إليه الرشيد ومعه جماعة من خواصه. فأخرج صالح أبرة كانت معه وأدخلها بين ظفر ابهام يده اليسرى ولحمه. فجذب ابراهيم يده وردها إلى بدنه. فقال صالح : يا أمير المؤمنين هل يحس الميت بالوجع. ثم نفخ شيئاً من الكندس في أنفه. فمكث مقدار سدس ساعة ثم اضطرب بدنه وعطس وجلس وكلم الرشيد وقبل يده. وسأله الرشيد عن قضيته. فذكر أنه كان نائماً نوماً لا يذكر أنه نام مثله قط طيِّباً إلا أنه رأى في منامه كلباً قد أهوى إليه فتوقاه بيده فعض ابهام يده اليسرى عضة انتبه بها وهو يحس بوجعها وأراه موضع الابرة. وعاش ابراهيم بعد ذلك دهراً وولي مصر وتوفي بها وهناك قبره.
“ الأمين بن الرشيد “
انتهى الامر إليه بعد أبيه باثني عشر يوماً. بويع له في عسكر الرشيد وكان المأمون حينئذ بمرو. وفي سنة أربع وتسعين ومائة قدم الفضل ابن الربيع العراق من طوس ونكث عهد المأمون وسعى في إغراء الأمين وحثه على خلع المأمون والبيعة لابنه موسى بولاية العهد. فأمر الأمين بالدعاء على المنابر لابنه موسى ونهى عن الدعاء للمأمون. وأمر بأبطال ما ضرب المأمون من الدراهم والدنانير بخراسان. وندب الأمين علي بن عيسى بن ماهان للقاء المأمون. ولما عزم على المسير من بغداد ركب إلى باب زبيدة أم الأمين ليودعها. فقالت له : يا علي أعرف لعبد الله المأمون حق ولادته ولا تقتسره اقتسار العبيد إذا ظفرت به ولا تعنف عليه في السير وإن شتمك فاحتمله. ثم دفعت إليه قيداً من فضة وقالت : قيده بهذا القيد. ثم خرج علي في عشرة آلاف فارس. وبلغ الخبر المأمون فتسمى بأمير المؤمنين وانهض هرثمة بن أعين في أقل من أربعة آلاف فارس وعلى مقدمته طاهر بن الحسين. ثم خرج طاهر في أصحابه من الري على خمسة فراسخ. وسار إليه علي وزحف الناس بعضهم إلى بعض وحملت ميمنة علي وميسرته على ميسرة طاهر وميمنته فأزالتاهما عن موضعيهما. وحمل قلب طاهر على قلب علي فهزموه. ورجع المنهزمون من معسكر طاهر على من بازائهم فهزموهم. ورمى رجل اسمه داود شاه علياً بسهم فقتله. وحمل رأسه إلى طاهر وأنفذه إلى المأمون. وكان علي قليل الاحتياط من طاهر. وكان يقول لأصحابه : ما بينكم وبين أن ينقصف طاهر انقصاف الشجر من الريح إلا أن نعبر عقبة همذان. ولما قتل علي بعث المأمون إلى طاهر بالهدايا وأمره أن يمضي إلى العراق. فأخذ طاهر على طريق الاهواز وأخذ هرثمة على طريق حلوان. فشغب الجند على محمد الامين ووثبوا عليه وخلعوه وحبسوه مع أمه زبيدة وولده. ثم أخرجوه وبايعوه وكان حبسه يومين. ثم حاصر طاهر وهرثمة محمداً الامين وجعلا يحاربان أصحابه سنة ببغداد فقل أصحابه وخفت يده من المال وضعف أمره. فوجه إلى هرثمة يسأله الأمان. فأمنه وضمن له الوفاء من المأمون. فلما علم ذلك طاهر اشتد عليه وأبى أن يدعه يخرج إلى هرثمة وقال : هو في حيزي والجانب الذي أنا فيه وأنا أخرجته بالحصار حتى طلب الامان فلا أرضى أن يخرج إلى هرثمة فيكون له الفتح دوني. وكان الأمين يكره الخروج إلى طاهر لمنام رآه. فلما كان ليلة الاحد لخمس بقين من محرم سنة ثماني وتسعين ومائة خرج بعد العشاء الآخرة إلى صحن الدار ودعا بابنيه وضمهما إليه وقبلهما وقال : استودعكما الله عز وجل. ثم جاء راكباً إلى الشط. فإذا حراقة هرثمة فصعد إليها وأمر هرثمة الحراقة أن تدفع. فأدركهم أصحاب طاهر في الزواريق وحملوا على الحراقة بالنفط والحجارة فانكفأت بمن فيها وسقط هرثمة إلى الماء فتعلق الملاح بشعره فأخرجه. وأما الأمين فإنه لما سقط إلى الماء شق ثيابه وسبح حتى خرج بشط البصرة. فأخذه أصحاب طاهر وجاءوا إلى بيت وهو عريان عليه سراويل وعمامة وعلى كتفه خرقة خلقة فحبسوه هناك. فلما انتصف الليل دخل عليه قوم من العجم معهم السيوف مسلولة. فلما رآهم جعل يقول : ويحكم أنا ابن عم رسول الله أنا ابن هرون أنا أخو المأمون. الله الله في دمي. فضربه رجل منهم بالسيف في مقدمة رأسه ونخسه آخر في خاصرته وركبوه فذبحوه ذبحاً وأخذوا رأسه ومضوا به إلى طاهر. فبعث به إلى المأمون. وكانت خلافة الأمين أربع سنين وثمانية أشهر وكان عمره ثمانياً وعشرين سنة. وقيل : لمل ملك الأمين وكاتبه المأمون وأعطاه بيعته طلب الخصيان وابتاعهم وغالى فيهم وصيرهم لخلوته في ليله ونهاره وأمره ونهيه ووجه إلى البلدان في طلب أصحاب اللهو وضمهم إليه وأجرى عليهم الأرزاق وقسم ما في بيوت الاموال من الجواهر في خصيانه ونسائه الاحرار وعمل خمس حراقات في دجلة على صورة الأسد والفيل والعقاب والحية والفرس. فقال أبو نواس في ذلك:
عجب الناس إذ رأوك على صو … رة ليث يمر مر السحابِ
سبحوا إذ رأوك سرت عليه … كيف لو أبصروك فوق العقابِ
واحتجب عن أخوته وأهل بيته واستخف بهم وبقواده وأمر ببناء مجالس لمنتزهاته ولهوه وأحبته. وأمر قيمة جواريه أن تهيئ له مائة جارية صانعة فتصعد إليه عشر عشر بأيديهن العيدان يغنين بصوت واحد. وقيل أنه لما أتاه نعي علي بن عيسى كان يصطاد السمك. فقال للذي أخبره بذلك : دعني فإن كوثراً قد اصطاد سمكتين وأنا ما اصطدت شيئاً بعد. وبالجملة لم يوجد في سيرته ما يستحسن ذكره من حكمة ومعدلة أو تجربة حتى تذكر.
” المأمون بن الرشيد “
لما خلص المأمون بعث إلى علي بن موسى بن جعفر ابن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فأقدمه خراسان وجعله ولي عهد المسلمين والخليفة من بعده وزوجه ابنته أم حبيبة ولقبه الرضا من آل محمد. وأمر جنده بطرح السواد ولبس ثياب الخضرة وكتب بذلك إلى الآفاق أنه نظر في بني العباس وبني علي فلم يجد أحداً أفضل ولا أروع ولا أعلم من علي بن موسى فلذلك عقد له العهد من بعده. فشق ذلك على بني هاشم وغضب بنو العباس فقالوا : لا تخرج الخلافة منا إلى أعدائنا. فخلعوا المأمون وبايعوا ابراهيم بن المهدي بن المنصور بن محمد الامام بن علي بن عبد الله بن عباس وسموه المبارك. وفي سنة ثلاث وثمانين مات علي بن موسى الرضا وكان سبب موته أنه أكل عنباً فأكثر منه فمات فجأة في آخر صفر بمدينة طوس فدفنه المأمون عند قبر أبيه الرشيد. وفي هذه السنة خلع أهل بغداد ابراهيم بن المهدي فاختفى ليلة الأربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة ولم يزل متوارياً. وقدم المأمون بغداد وانقطعت الفتن. وفي هذه السنة وهي سنة أربع ومائتين مات الإمام محمد بن ادريس الشافعي. وفي سنة عشر ومائتين في ربيع الآخر أُخذ ابراهيم بن المهدي وهو متنقب مع امرأتين وهو في زي امرأة أخذه حارس أسود ليلاً فقال : من انتن وأين تردن هذا الوقت. ولما استراب بهن رفعهن إلى صاحب المسلحة. فأمرهن أن يسفرن. فامتنع ابراهيم. فجذبه فبدت لحيته فرفعه إلى بابا المأمون واحتفظ به إلى بكرة. فلما كان الغد أقعد ابراهيم في دار المأمون والمقنعة في عنقه والملحفة على صدره ليراه بنو هاشم. ثم عفا عنه وأمنه ونادمه. وفي سنة سبع عشرة ومائتين سار المأمون إلى بلد الروم فأناخ على لؤلؤة مائة يوم. ثم رحل عنها وترك لها عجيفاً. فخدعه أهلها وأسروه فبقي عندهم ثمانية أيام ثم أخرجوه. وفي سنة ثماني عشرة ومائتين كتب المأمون إلى اسحق بن ابراهيم في امتحان القضاة والمحدثين بالقرآن فمن أقر أنه مخلوق محدث خلى سبيله ومن أبى أعلمه به ليأمر فيه برأيه. وفي هذه السنة مرض المأمون مرضه الذي مات به لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة. وكان سبب مرضه أنه كان جالساً على شاطئ البدندون وأخوه أبو اسحق المعتصم عن يمينه وهما قد دليا أرجلهما في الماء. فبينما هو متعجب من عذوبته وصفائه وشدة برده إذ جاءته الألطاف من العراق وكان فيها رطب ازاذ كأنما جني تلك الساعة. فأكل منه وشرب من ذلك الماء فما قام إلا وهو محموم وكانت منيته من تلك العلة. فلما أنه مرض خلع أخاه القاسم المؤتمن وأخذ البيعة لأخيه أبي اسحق المعتصم وأمر أن يكتب إلى البلاد الكتب من عبد الله المأمون أمير المؤمنين وأخيه الخليفة من بعده أبي اسحق المعتصم بن هرون الرشيد. ولما حضره الموت كان عنده ابن ماسويه الطبيب. وكان عنده من يلقنه فعرض عليه الشهادة. فأراد الكلام فعجز عنه. ثم أنه تكلم فقال : يا من لايموت أرحم من يموت. ثم توفي من ساعته. فحمله ابنه العباس وأخوه المعتصم إلى طرسوس فدفناه بدار خاقان خادم الرشيد. وكانت خلافته عشرين سنة. وكان ربعة أبيض جميلاً طويل اللحية رقيقها قد وخطه الشيب وقيل كان أسمر تعلوه صفرة. وكان عمره ثمانياً وأربعين سنة.
قاضي صاعد بن أحمد الاندلسي أن العرب في صدر الاسلام لم تعن بشيء من العلوم إلا بلغتها ومعرفة أحكام شريعتها حاشا صناعة الطب فإنها كانت موجودة عند أفراد منهم غير منكورة عند جماهيرهم لحاجة الناس طراً إليها. فهذه كانت حال العرب في الدولة الأموية. فلما أدال الله تعالى للهاشمية وصرف الملك إليهم ثابت الهمممن غفلتها وهبت الفطن من ميتتها. وكان أول من عني منهم بالعلوم الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور. وكان مع براعته في الفقه كلفاً في علم الفلسفة وخاصة في علم النجوم. ثم لما أفضت الخلافة فيهم إلى الخليفة السابع عبد الله المأمون بن هرون الرشيد تمم ما بدأ به جده المنصور فأقبل على طلب العلم في مواضعه وداخل ملوك الروم وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلسفة. فبعثوا إليه منها ما حضرهم فاستجاد له مهرة التراجمة وكلفهم إحكام ترجمتها فترجمت له على غاية ما أمكن. ثم حرض الناس على قراءتها ورغبهم في تعليمها فكان يخلو بالحكماء ويأنس بمناظراتهم ويلتذ بمذاكرتهم علماً منه بأن أهل العلم هم صفوة الله من خلقه ونخبته من عباده لأنهم صرفوا عنايتهم إلى نيل فضائل النفس الناطقة وزهدوا فيما يرغب فيه الصين والترك ومن نزع منزعهم من التنافس في دقة الصنائع العملية والتباهي بأخلاق النفس الغضبية والتفاخر بالقوى الشهوانية إذ علموا أن البهائم تشركهم فيها وتفضلهم في كثير منها. أما في أحكام الصنعة فكالنحل المحكمة لتسديس مخازن قوتها. وأما في الجرأة والشجاعة فكالأسد وغيره من السباع التي لا يتعاطى الانسان إقدامها ولا يدعي بسالتها. وأما في الشبق فكالخنزير وغيره مما لا حاجة إلى ابانته. فلهذا السبب كان أهل العلم مصابيح الدجى وسادة البشر وأوحشت الدنيا لفقدهم. فمن المنجمين في أيام المأمون حبش الحاسب المروزي الأصل البغدادي الدار. وله ثلاثة أزياج. أولها المؤلف على مذهب السند هند. والثاني الممتحن وهو أشهرها ألفة بعد إن رجع إلى معاناة الرصد وأوجبه الامتحان في زمانه. والثالث الزيج الصغير المعروف بالشاة. وله كتب غير هذه. وبلغ من عمره مائة سنة. ومنهم أحمد بن كثير الفرغاني صاحب المدخل إلى هيئة الافلاك يحتوي على جوامع كتاب بطليموس بأعذب لفظ وأبين عبارة. ومنهم عبد الله بن سهل بن نوبخت كبير القدر في علم النجوم. ومنهم محمد بن موسى الخوارزمي. وكان الناس قبل الرصد وبعده يعولون على زيجه الأول والثاني ويعرف بالسند هند. ومنهم ماشاء الله اليهودي. كان في زمن المنصوروعاش إلى أيام المأمون وكان فاضلاً أوحد زمانه له حظ قوي في سهم الغيب. ومنهم يحيى ابن أبي المنصور رجل فاضل كبير القدر إذ ذاك مكين المكان. ولما عزم المأمون على رصد الكواكب تقدم إليه وإلى جماعة من العلماء بالرصد وإصلاح آلاته. ففعلوا ذلك بالشماسية ببغداد وجبل قاسيون بدمشق. قال أبو معشر : اخبرني محمد بن موسى المنجم الجليس وليس بالخوارزمي قال : حدثني يحيى بن منصور قال : دخلت إلى المأمون وعنده جماعة من المنجمين وعنده رجل يدعي النبوة وقد دعا له المأمون بالعاصمي ولم يحضر بعد ونحن لا نعلم. فقال لي ولمن حضر من المنجمين : اذهبوا وخذوا الطالع لدعوى الرجل في شيء يدعيه وعرفوني ما يدل عليه الفلك من صدقه وكذبه. ولم يعلمنا المأمون أنه متنبئ. ” قال ” فحملنا إلى بعض تلك الصحون فأحكمنا أمر الطالع وصورنا موضع الشمس والقمر في دقيقة واحدة وسهم السعادة منهم وسهم الغيب في دقيقة واحدة مع دقيقة الطالع والطالع الجدي والمشتري في السنبلة ينظر إليه والزهرة وعطارد في العقرب ينظران إليه. فقال كل من حضر من القوم : ما يدعيه صحيح. وأنا ساكت فقال لي المأمون : ما قلت أنت؟ فقلت : هو في طلب تصحيحه وله حجة زهرية عطاردية. وتصحيح الذي يدعيه لا يتم له ولا ينتظم. فقال لي : من أين قلت هذا؟ قلت : لأن صحة الدعاةي من المشتري ومن تثليث الشمس وتسديسها إذا كانت الشمس غير منحوسة وهذا الطالع يخالفه لأنه هبوط المشتري والمشتري ينظر إليه نظرة موافقة إلا أنه كاره لهذا البرج والبرج كاره له فلا يتم التصديق والتصحيح. والذي قال من حجة زهرية وعطاردية. إنما هو ضرب من التخمين والتزويق والخداع يتعجب منه ويستحب. فقال لي المأمون : أنت لله درك. ثم قال : أتدرون من الرجل؟ قلنا له : لا. قال : هذا يدعي النبوة. فقلت : يا أمير المؤمنين شيء يحتج به؟ فسأله. فقال : نعم معي خاتم ذو فصين ألبسه فلا يتعين منه شيء يحتج به ويلبسه غيري فيضحك ولا يتمالك من الضحك حتى ينزعه. ومعي قلم شامي آخذه فأكتب به ويأخذه غيري فلا ينطلق اصبعه. فقلت : يا سيدي هذه الزهرة وعطارد قد عملا عملهما. فأمره المأمون بعمل ما ادعاه. فقلنا له : هذا ضرب من الطلسمات. فما زال به المأمون أياماً كثيرة حنى أقر وتبرأ من دعوة النبوة ووصف الحيلة التي احتالها في الخاتم والقلم. فوهب له ألف دينار. فتلقيناه بعد ذلك فإذا هو أعلم الناس بعلم التنجيم. قال أبو معشر : وهو الذي عمل طلسم الخنافس في دور كثيرة من دور بغداد. قال أبو معشر : لو كنت مكان القوم لقلت أشياء ذهبت عليهم كنت أقول : الدعوى باطلة لأن البرج منقلب والمشتري في الوبال والقمر في المحاق والكوكبان الناظران في برج كذاب وهو العقرب. ومن الحكماء يوحنا بن البطريق الترجمان مولى المأمون كان أميناً على ترجمة الكتب الحكمية حسن التأدية للمعاني ألكن اللسان في العربية وكانت الفلسفة أغلب عليه من الطب. ومن الأطباء سهل بن سابور ويعرف بالكوسج. كان بالأهواز وفي لسانه لكنة خوزية وتقدم بالطب في أيام المأمون. وكان إذا اجتمع مع يوحنا ابن ماسويه وجيورجيس بن بختيشوع وعيسى بن الحكم وزكريا الطيفوري قصر عنهم في العبارة ولم يقصر عنهم في العلاج. ومن دعاباته أنه تمارض وأحضر شهوداً يشهدهم على وصيته وكتب كتاباً أثبت فيه أولاده فأثبت في أوله جيورجيس ابن بختيشوع والثاني يوحنا بن ماسويه وذكر أنه أصاب أميهما زناً فأحبلهما. فعرض لجيورجيس زمع من الغيظ وكان كثير الالتفات. فصاح سهل : صري وهك المسيه ارخؤا في أذنه آية خرسي. أراد بالعجمة التي فيه : صرع وحق المسيح اقرؤا في أذنه آية الكرسي. ومن دعاباته أنه خرج في يوم الشعانين يريد المواضع التي تخرج إليها النصارى فرأى يوحنا بن ماسويه في هيئة أحسن من هيئته. فحسده على ذلك فصار إلى صاحب مسلحة الناحية فقال له : إن ابني يعقني وإن أنت ضربته عشرين درة موجعة أعطيتك عشرين دينار. ثم أخرج الدنانير فدفعها إلى من وثق به صاحب المسلحة : ثم اعتزل ناحية إلى أن بلغ يوحنا الموضع الذي هو فيه فقدمه إلى صاحب المسلحة وقال : هذا ابني يعقني ويستخف بي. فجحد أن يكون ابنه. فقال : يهذي هذا. قال سهل : انظر يا سيدي. فغضب صاحب المسلحة ورمى يوحنا من دابته وضربه عشرين مقرعة ضرباً موجعاً مبرحاً. ومن أطباء المأمون جبريل الكحال. كانت وظيفته في كل شهر ألف درهم. وكان أول من يدخل إليه كل يوم. ثم سقطت منزلته بعد ذلك. فسئل عن سبب ذلك فقال : إني خرجت يوماً من عند المأمون فسألني بعض مواليه عن خبره فأخبرته أنه قد أغفى. فبلغه ذلك فأحضرني ثم قال : يا جبريل اتخذتك كحالاً أو عاملاً للاخبار علي. اخرج من داري. فأذكرته حرمتي فقال : إن له لحرمةً فليقتصر به على إجراء مائة وخمسين درهماً في الشهر ولا يؤذن له في الدخول.عه شيء يحتج به؟ فسأله. فقال : نعم معي خاتم ذو فصين ألبسه فلا يتعين منه شيء يحتج به ويلبسه غيري فيضحك ولا يتمالك من الضحك حتى ينزعه. ومعي قلم شامي آخذه فأكتب به ويأخذه غيري فلا ينطلق اصبعه. فقلت : يا سيدي هذه الزهرة وعطارد قد عملا عملهما. فأمره المأمون بعمل ما ادعاه. فقلنا له : هذا ضرب من الطلسمات. فما زال به المأمون أياماً كثيرة حنى أقر وتبرأ من دعوة النبوة ووصف الحيلة التي احتالها في الخاتم والقلم. فوهب له ألف دينار. فتلقيناه بعد ذلك فإذا هو أعلم الناس بعلم التنجيم. قال أبو معشر :وهو الذي عمل طلسم الخنافس في دور كثيرة من دور بغداد. قال أبو معشر : لو كنت مكان القوم لقلت أشياء ذهبت عليهم كنت أقول :الدعوى باطلة لأن البرج منقلب والمشتري في الوبال والقمر في المحاق والكوكبان الناظران في برج كذاب وهو العقرب. ومن الحكماء يوحنا بن البطريق الترجمان مولى المأمون كان أميناً على ترجمة الكتب الحكمية حسن التأدية للمعاني ألكن اللسان في العربية وكانت الفلسفة أغلب عليه من الطب. ومن الأطباء سهل بن سابور ويعرف بالكوسج. كان بالأهواز وفي لسانه لكنة خوزية وتقدم بالطب في أيام المأمون. وكان إذا اجتمع مع يوحنا ابن ماسويه وجيورجيس بن بختيشوع وعيسى بن الحكم وزكريا الطيفوري قصر عنهم في العبارة ولم يقصر عنهم في العلاج. ومن دعاباته أنه تمارض وأحضر شهوداً يشهدهم على وصيته وكتب كتاباً أثبت فيه أولاده فأثبت في أوله جيورجيس ابن بختيشوع والثاني يوحنا بن ماسويه وذكر أنه أصاب أميهما زناً فأحبلهما. فعرض لجيورجيس زمع من الغيظ وكان كثير الالتفات. فصاح سهل : صري وهك المسيه ارخؤا في أذنه آية خرسي. أراد بالعجمة التي فيه : صرع وحق المسيح اقرؤا في أذنه آية الكرسي. ومن دعاباته أنه خرج في يوم الشعانين يريد المواضع التي تخرج إليها النصارى فرأى يوحنا بن ماسويه في هيئة أحسن من هيئته. فحسده على ذلك فصار إلى صاحب مسلحة الناحية فقال له : إن ابني يعقني وإن أنت ضربته عشرين درة موجعة أعطيتك عشرين دينار. ثم أخرج الدنانير فدفعها إلى من وثق به صاحب المسلحة : ثم اعتزل ناحية إلى أن بلغ يوحنا الموضع الذي هو فيه فقدمه إلى صاحب المسلحة وقال : هذا ابني يعقني ويستخف بي. فجحد أن يكون ابنه. فقال : يهذي هذا. قال سهل : انظر يا سيدي. فغضب صاحب المسلحة ورمى يوحنا من دابته وضربه عشرين مقرعة ضرباً موجعاً مبرحاً. ومن أطباء المأمون جبريل الكحال. كانت وظيفته في كل شهر ألف درهم. وكان أول من يدخل إليه كل يوم. ثم سقطت منزلته بعد ذلك. فسئل عن سبب ذلك فقال : إني خرجت يوماً من عند المأمون فسألني بعض مواليه عن خبره فأخبرته أنه قد أغفى. فبلغه ذلك فأحضرني ثم قال : يا جبريل اتخذتك كحالاً أو عاملاً للاخبار علي. اخرج من داري. فأذكرته حرمتي فقال : إن له لحرمةً فليقتصر به على إجراء مائة وخمسين درهماً في الشهر ولا يؤذن له في الدخول.
“ المعتصم بن الرشيد “
هو اسحق محمد بن هرون الرشيد. بويع له بعد موت المأمون فشغب الجند ونادوا باسم العباس بن المأمون. فخرج إليهم العباس فقال : ما هذا الحب البارد وقد بايعت عمي. فسكنوا. ودخل كثير من أهل الجبال وهمذان واصفهان وماسبذان وغيرهم في دين الخرمية وتجمعوا فعسكروا في عمل همذان. فوجه إليهم المعتصم العساكر فأوقعوا بهم فقتلوا منهم ستون ألفاً وهرب الباقون إلى بلد الروم. وفي سنة تسع عشرة ومائتين أحضر المعتصم أحمد بن حنبل وامتحنه بالقرآن. فلما لم يجب بكونه مخلوقاً أمر به فجلد جلداً شديداً حتى غاب عقله وتقطع جلده. وكان أبو هرون بن البكاء من العلماء المنكرين لخلق القرآن يقر بكونه مجعولاً لقول الله : أنا جعلناه قرآناً عربياً. ويسلم أن كل مجعول مخلوق ويحجم عن النتيجة ويقول : لا أقول مخلوق ولكنه مجعول. وهذا عجب عاجب. وفي سنة عشرين ومائتين عقد المعتصم للأفشين حيدر بن كاوس على الجبال ووجهه لحرب بابك فسار إليه. وكان ابتداء خروج بابك سنة إحدى ومائتين وهزم من الجيوش السلطان عدةً وقتل من قواده جماعة ودخل الناس رعب شديد وهول عظيم واستعظموه واحتوى إليه القطاع وأصحاب الفتن وتكاثفت جموعه حتى بلغ فرسانه عشرين ألفاً سوى الرجالة وأخذ يمثل بالناس. وكان أصحابه لا يدعون رجلاً ولا امرأة ولا صبياً ولا طفلاً مسلماً أو ذمياً إلا قطعوه وقتلوه وأحصي عدد القتلى بأيديهم فكان مائتي ألف وخمسة وخمسين ألفاً وخمسمائة انسان. فلما انتدب الافشين لحر بابك إلى البذ مدينته. فلما ضاق أمره خرج هارباً ومعه أهله إلى بلاد الروم في زي التجار. فعرفه سهل بن سنباط الارمني البطريق فأسره. فافتدى نفسه بمال عظيم. فلم يقبل منه وبعثع إلى الافشين بعد ما ركب الارمن من أمه وأخته وامرأته الفاحشة بين يديه. وكذا كان يفعل الملعون بالناس إذا أسرهم مع حرمهم. وحمل الافشين بابك إلى المعتصم وهو بسر من رأى. فأمر بإحضار سياف بابك فحضر فأمره أن يديه ورجليه فقطعها فسقط. فأمر بذبحه وشق بطنه. وأنفذ رأسه إلى خراسان وصلب بدنه بسامرا. وفي سنة ثلاث وعشرين ومائتين خرج توفيل بن ميخائيل ملك الروم إلى بلاد الإسلام فبلغ زبطرة فقتل من بها من الرجال وسبى الذرية والنساء. وأغار على ملطية وغيرها وسبى المسلمات ومثل بمن صار يديه من المسلمين فسمل أعينهم وقطع آنافهم وآذانهم. فلما بلغ الخبر المعتصم استعظمه وتوجه إلى بلاد الروم وفتح عمورية وقتل ثلاثين ألفاً وأسر ثلاثين ألفاً. وفي سنة خمس وعشرين ومائتين تغير المعتصم على الافشين لأنه كاتب مازيار أصبهبذ طبرستان وحسن له الخلاف والمعصية وأراد أن ينقل الملك إلى العجم فقتله وصلبه بإزاء بابك. ووجده بقلفته لم يختن. وأخرجوا من منزله أصناماً فأحرقوه بها. وفي سنة سبع وعشرين ومائتين توفي المعتصم أبو اسحق يوم الخميس لثماني عشرة مضت من ربيع الأول عن ثمانية بنين وثماني بنات وكانت خلافته ثماني سنين وثمانية أشهر وكان عمره سبعاً وأربعين سنة. وحكي أن المعتصم بينما هو يسير وحده قد انقطع عن أصحابه في يوم مطر إذ رأى شيخاً معه حمار عليه شوك وقد زلق الحمار وسقط في الأرض والشيخ قائم. فنزل عن دابته ليخلص الحمار. فقال له الشيخ : بأبي أنت وأمي لا تهلك ثيابك. فقال له : لا عليك. ثم أنه خلص الحمار وجعل الشوك عليه وغسل يده ثم ركب. فقال له الشيخ : غفر الله لك يا شاب. ثم لحقه أصحابه فأمر له بأربعة آلاف درهم. وهذا دليل على غاية ما يمكن أن يكون من طيب أعراق الملوك وسعة أخلاقهم.
قال حنين : إن سلمويه كان عالماً بصناعة الطب فاضلاً في وقته. ولما مرض عاده المعتصم وبكى عنده وقال له :أشر علي بعدك بمن يصلحني. فقال : عليك بهذا الفضولي يوحنا بن ماسويه. وإذا وصف شيئاً خذ أقله اخلاطاً. ولما مات سلمويه قال المعتصم : سألحق به لأنه كان يمسك حياتي ويدبر جسمي. وامتنع عن الأكل في ذلك اليوم وأمر بإحضار جنازته إلى الدار وأن يصلى عليها بالشمع والبخور على رأي النصارى. ففعل ذلك وهو يراهم. وكان سلمويه يفصد المعتصم في السنة مرتين ويسقيه عقيب كل فصد دواء. فلما باشره يوحنا أراد عكس ما كان يفعله سلمويه فسقاه الدواء قبل الفصد. فلما شربه حمي دمه وحم ومازال جسمه ينقص حتى مات وذلك بعد عشرين شهراً من وفاة سلمويه. وخدم الافششين زكريا الطيفوري وذكر : إني كنت مع الافشين في معسكره وهو في محاربة بابك. فجرى ذكر الصيادلة فقلت : أعز الله الأمير إن الصيدلاني لا يطلب منه شيء كان عنده أو لم يكن إلا أخبر بأنه عنده. فدعا الافشين بدفتر من دفاتر الاسروشنية فأخرج منها نحواً من عشرين اسماً ووجه إلى الصيادلة من يطلب منهم أدوية مسماة بتلك الاسماء. فبعض أنكرها وبعض ادعى معرفتها وأخذ الدراهم من الرسل ودفع إليهم شيئاً من حانوته.فأمر الافشين بإحضار جميع الصيادلة فمن أنكر معرفة تلك الاسماء أذن له بالمقام في معسكره ونفى الباقين.
” الواثق بالله هرون بن المعتصم “
بويع له في اليوم الذي مات فيه أبوه. وفي هذه السنة مات ثوفيل ملك الروم وكان ملكه اثنتي عشرة سنة وملكت بعده امرأته ثاودورا وابنها ميخائيل بن ثوفيل وهو صبي. وفي سنة ثماني وعشرين ومائتين غزا المسلمون في البحر جزيرة صقلية وفتحوا مدينة مسيني. وفي سنة إحدى وثلاثين ومائتين كان الفداء بين المسلمين والروم على يد خاقان خادم الرشيد واجتمع المسلمون على نهر اللامس على مسيرة يوم من طرسوس وأمر الواثق خاقان خادم الرشيد أن يمتحن أسارى المسلمين فمن قال القرآن مخلوق وأن الله لا يرى في الآخرة فودي به وأعطي ديناراً ومن لم يقل ذلك ترك في أيدي الروم. فلما كان في يوم عاشوراء أتت الروم ومن معهم من الاسارى وكان الأمر بين الطائفتين فكان المسلمون يطلقون الاسير فيطلق الروم أسيراً فيلتقيان في وسط الجسر فإذا وصل الأسير إلى المسلمين كبروا وإذا وصل الرومي إلى الروم صاحوا : كرياليسون حتى فرغوا. فكان عدة أسارى المسلمين أربعة آلاف وأربعمائة وستين نفساً والنساء والصبيان ثمانمائة. وأهل ذمة المسلمين مائة نفس. ولما فرغوا من الفدية غزا المسلمون شاتين فأصابهم ثلج ومطر فمات منهم مائتا نفس وأسر نحوهم وغرق بالبدندون خلق كثير. وفي سنة اثنتين وثلاثين ومائتين مات الواثق في ذي الحجة لست بقين منه وكانت علته الاستسقاء فعولج بالإقعاد في تنور مسخن فوجد بذلك خفة فأمرهم من الغد بالزيادة في اسخانه ففعل ذلك وقعد فيه أكثر من اليوم الأول فحمي عليه فأخرج منه في محفة فمات فيها ولم يشعر بموته حتى ضرب وجهه المحفة. ولما اشتد مرضه أحضر المنجمين منهم الحسن بن سهل بن نوبخت فنظروا في مولده فقدروا له أن يعيش خمسين سنة مستأنفة من ذلك اليوم فلم يعش بعد قولهم إلا عشرة أيام وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وكان عمره اثنتين وثلاثين سنة.
لهذا حسن المذكور تصنيف وهو كتاب الأنواء. فآل نوبخت كلهم فضلاء ولهم فكرة صالحة ومشاركة في علوم الأوائل ولا مثل هذا. حدث أحمد بن هرون الشرابي بمصر أن المتوكل على الله حدثه في خلافة الواثق أن يوحنا بن ماسويه كان مع الواثق على دكان في دجلة وكان مع الواثق قصبة فيها شص وقد ألقاها في دجلة ليصيد بها السمك فحرم الصيد فالتفت إلى يوحنا وكان على يمينه وقال : قم يا مشؤوم عن يميني. فقال يوحنا : يا أمير المؤمنين لا تتكلم بمحال يوحنا أبوه ماسويه الخوزي وأمه رسالة الصقلبية المبتاعة بثمانمائة درهم وأقبلت به السعادة إلى أن صار نديم الخلفاء وسميرهم وعشيرهم حتى غمرته الدنيا فنال منها ما لم يبلغه أمله فمن أعظم المحال أن يكون هذا مشؤوماً ولكن إن أحب أمير المؤمنين بأن أخبره بالمشؤوم من هو أخبرته. فقال : من هو؟ فقال : من ولده أربع خلفاء ثم ساق الله إليه الخلافة فترك خلافته وقصورها وقعد في دكان مقدار عشرين ذراعاً في مثلها في وسط دجلة لا يأمن عصف الريح عليه فيغرقه ثم تشبه بأفقر قوم في الدنيا وشرهم صيادو السمك. قال المتوكل : فرأيت الكلام قد نجع فيه إلا أنه أمسك لمكاني.
” المتوكل على الله جعفر بن المعتصم “
بويع له بعد موت أخيه الواثق وكان عمره يوم بويع ستاً وعشرين سنة. وفي سنة ثلث وثلاثين ومائتين وثب ميخائيل بن توفيل بأمه ثاودورا فألزمها الدير وقتل القتيط لأنه اتهمها به وكان ملكها ست سنين. وفي سنة خمس وثلاثين ومائتين عقد المتوكل البيعة لبنيه الثلاثة بولاية العهد وهو المنتصر والمعتز والمؤيد وعقد لكل واحد منهم لواءً وولى المنتصر العراق والحجاز واليمن والمعتز خراسان والري والمؤيد الشام. وفي سنة ست وثلاثين ومائتين أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي وأن يبذر ويسقى موضعه وأن يمنع الناس من إتيانه. وفي سنة سبع وثلاثين ومائتين ولى المتوكل يوسف بن محمد أرمينية واذربيجان ولما صار إلى اخلاط أتى بقراط بن اشوط البطريق فأمر بأخذه وتقييده وحمله إلى المتوكل فاجتمع بطارقة أرمينية مع ابن أخي بقراط وتحالفوا على قتل يوسف ووافقهم على ذلك موسى بن زرارة وهو صهر بقراط على ابنته فوثبوا بيوسف واجتمعوا عليه في قلعة موش في النصف من شهر رمضان وذلك في شدة من البرد وكلب الشتاء فخرج إليهم يوسف وقاتلهم فقتلوه وكل من قاتل معه. وأما من لم يقاتل فقالوا له : انزع ثيابك وانج بنفسك عرياناً ففعلوا ومشوا عراة حفاة فهلك أكثرهم من البرد. فلما بلغ المتوكل الخبر وجه بغا الكبير إليهم طالباً بدم يوسف فسار وأباح على قتلة يوسف فقتل منهم زهاء ثلاثين ألفاً وسبى خلقاً كثيراً ثم سار إلى مدينة تفليس وحاصرها ودعا النفاطين فضربوا المدينة بالنار فأحرقوها وهي من خشب الصنوبر فاحترق بها نحو خمسين ألف انسان. وفي سنة ثماني وثلاثين ومائتين جاءت ثلاثمائة مركب للروم مع ثلاثة رؤساء فأناخ أحدهم في مائة مركب بدمياط وبينها وبين الشط شبيه بالبحيرة يكون ماؤها إلى صدر الرجل فمن جازها إلى الأرض أمن من مراكب البحر فجازه قوم من المسلمين فسلموا وغرق كثير من نساء وصبيان. ومن كان به قوة سار إلى مصر. واتفق وصول الروم وهي فارغة من الجند فنهبوا واحرقوا وسبوا وأحرقوا جامعها وسبوا من النساء المسلمات والذميات نحم ستمائة امرأة وساروا إلى مصر ونهبوها ورجعوا ولم يعرض لهم أحد. وفي سنة اثنتين وأربعين ومائتين كانت زلازل هائلة وأصوات منكرة بقومس ورساتيقها في شعبان فتهدمت الدور وهلك تحت الهدم بشر كثير قيل كانت عدتهم خمسة وأربعين ألفاً وستة وتسعين نفساً. وكان أكثر ذلك بالدامغان. وكان بالشام وفارس وخراسان وباليمن مع خسف. وتقطع جبل الأقرع وسقط في البحر فمات أهل اللاذقية من تلك الهدة. وفي سنة سبع وأربعين ومائتين قتل المتوكل وهو ثمل بسر مرأى ليلة الأربعاء ثالث يوم من شوال قتله غلام تركي اسمه باغر وكانت خلافته أربع عشرة سنة وتسعة أشهر وعمره أربعين سنة وقتل معه الفتح ابن خاقان لأنه رمى بنفسه على المتوكل وقال : ويلكم تقتلون أمير المؤمنين فبعجوه بسيوفهم فقتلوه. ويقال أن ابنه المنتصر دس لقتله فعاش بعده ستة أشهر. وفي سنة الزلازل أخرج المتوكل أحمد ابن حنبل من الحبس ووصله وصرفه إلى بغداد وأمر بترك الجدل في القرآن وأن الذمة بريئة ممن يقول بخلق أو غير خلق.
قال بعض الرواة : دخل بختيشوع بن جبريل الطبيب يوماً إلى المتوكل وهو جالس على سدة في وسط داره الخاصة فجلس بختيشوع على عادته معه فوق السدة وكان عليه دراعة ديباج رومي وكان قد انشق ذيلها قليلاً فجعل المتوكل يحادث بختيشوع ويعبث بذلك الفتق حتى بلغ إلى حد النيفق ودار بينهما الكلام يقتضي أن سأل المتوكل بختيشوع بماذا تعلمون أن الموسوس يحتاج إلى الشد. قال بختيشوع : إذا بلغ إلى فتق دراعة طبيبه إلى حد النيفق شددناه. فضحك المتوكل حتى استلقى على ظهره وأمر له بخلعة حسنة ومال جزيل. وهذا يدل على لطف منزلة بختيشوع عند المتوكل وانبساطه معه. وقال المتوكل يوماً لبختيشوع : ادعني. قال : نعم وكرامة. فاضافه وأظهر من التجمل والثروة ما أعجب المتوكل والحاضرين. واستكثر المتوكل لبختيشوع ما رآه من نعمته وكمال مروءته فحقد عليه ونكبه بعد أيام يسيرة فأخذ له مالاً كثيراً وحضر الحسين ابن مخلد فختم على خزائنه وباع شيئاً كثيراً وبقي بعد ذلك حطب وفحم ونبيذ وأمثال هذه فاشتراه الحسين بستة آلاف دينار وذكر إنه باع من جملته باثني عشر ألف دينار وكان هذا في سنة أربع وأربعين ومائتين وتوفي بختيشوع سنة ست وخمسين ومائتين. وفي أيام المتوكل استهر حنين بن اسحق الطبيب النصراني العبادي ونسبته إلى العباد وهم قوم من نصارى العرب من قبائل شتى اجتمعوا وانفردوا عن الناس في قصور ابتنوها بظاهر الحيرة وتسموا بالعباد لأنه لا يضاف إلا إلى الخالق وأما العبيد فيضاف إلى المخلوق الخالق. وكان اسحق والد حنين صيدلانياً بالحيرة فلما نشأ حنين أحب العلم فدخل بغداد وحضر مجلس يوحنا بن ماسويه وجعل يخدمه ويقرأ عليه. وكان حنين صاحب سؤال وكان يصعب على يوحنا فسأله حنين في بعض الأيام مسألة مستفهم فحرد يوحنا وقال : ما لأهل الحيرة والطب عليك ببيع الفلوس في الطريق.فأمر به فأخرج من داره. فخرج حنين باكياً وتوجه إلى بلاد الروم وأقام بها سنتين حتى أحكم اللغة اليونانية وتوصل في تحصيل كتب الحكمة غاية إمكانه وعاد إلى بغداد بعد سنتين ونهض من بغداد إلى أرض فارس ودخل البصرة ولزم الخليل بن أحمد حنى برع في اللسان العربي ثم رجع إلى بغداد. قال يوسف الطبيب : دخلت يوماً على جبريل بن بختيشوع فوجدت عنده حنيناً وقد ترجم له بعض التشريح وجبريل يخاطبه بالتبجيل ويسميه الربان فأعظمت ما رأيت وتبين ذلك جبريل مني فقال : لا تستكثر هذا مني في أمر هذا الفتى فوالله لئن مد له في العمر ليفضحن سرجيس. وسرجيس هذا هو الرأس عيني اليعقوبي ناقل علوم اليونانيين إلى السرياني. ولم يزل أمر حنين يقوى وعلمه يتزايد وعجائبه تظهر في النقل والتفاسير حتى صار ينبوعاً للعلوم ومعدناً للفضائل واتصل خبره بالخليفة المتوكل فأمر بإحضاره. ولما حضر اقطع اقطاعاً سنياً وقرر له جارٍ جيد. واحب امتحانه ليزول عنه ما في نفسه عليه إذ ظن أن ملك الروم ربما كان عمل شيئاً من الحيلة فاستدعاه وأمر أن يخلع عليه وأخرج له توقيعاً فيه اقطاع يشتمل على خمسين ألف درهم فشكر حنين هذا الفعل. ثم قال له بعد اشياء جرت : أريد أن تصف لي دواءً يقتل عدواً نريد قتله وليس يمكن إشهار هذا ونريده سراً. فقال حنين : ما تعلمت غير الأدوية النافعة ولا علمت أن أمير المؤمنين يطلب مني غيرها فإن أحب أن أمضي وأتعلم فعلت. فقال : هذا شيء يطول بنا. ثم رغبه وهدده وحبسه في بعض القلاع سنة ثم أحضره وأعاد عليه القول وأحضر سيفاً ونطعاً. فقال حنين : قد قلت لأمير المؤمنين ما فيه الكفاية. قال الخليفة : فإنني أقتلك. قال حنين : لي رب يأخذ لي حقي غداً في الموقف الأعظم. فتبسم المتوكل وقال له : طب نفساً فإننا أردنا امتحانك والطمأنينة إليك. فقبل حنين الأرض وشكر له. فقال الخليفة : ما الذي منعك من الإجابة مع ما رأيته من صدق الأمر منا في الحالين. قال حنين : شيئان هما الدين والصناعة. أما الدين فإنه يأمرنا باصطناع الجميل مع أعدائنا فكيف ظنك بالاصدقاء. وأما الصناعة فإنها فإنها موضوعة لنفع ابناء الجنس ومقصورة على معالجاتهم ومع هذا فقد جعل في رقاب الأطباء عهد مؤكد بإيمان مغلظة أن لا يعطوا دواءً قتالاً لأحد. فقال الخليفة : إنهما شرعان جليلان. وأمر بالخلع فافيضت عليه وحمل المال معه فخرج وهو أحسن الناس حالاً وجاهاً. وكان الطيفوري النصراني الكاتب يحسد حنيناً ويعاديه. واجتمعا يوماً في دار بعض النصارى ببغداد وهناك صورة المسيح والتلاميذ وقنديل يشتعل بين يدي الصورة. فقال حنين لصاحب البيت : لم تضيع الزيت فليس هذا المسيح ولا هؤلاء التلاميذ وإنما هي صور. فقال الطيفوري : إن لم يستحقوا الإكرام فأبصق عليهم فبصق فأشهد عليه الطيفوري ورفعه إلى المتوكل فسأله إباحة الحكم عليه لديانة النصرانية فبعث إلى الجاثليق والاساقفة وسئلوا عن ذلك فأوجبوا حرم حنين فحرم وقطع زناره وانصرف حنين إلى داره ومات من ليلته فجأة وقيل أنه سقى نفسه سماً. وكان لحنين ولدان داود واسحق. فأما اسحق فخدم على الترجمة وتولاها واتقنها وأحسن فيها وكانت نفسه أميل إلى الفلسفة. وإما داود فكان طبيباً للعامة وكان له ابن أخت يقال له حبيش بن الاعسم أحد الناقلين من اليوناني والسرياني إلى العربي. وكان يقدمه على تلاميذه ويصفه ويرضى نقله. وقيل من جملة سعادة حنين صحبة حبيش له فإن أكثر ما نقله حبيش نسب إلى حنين. وكثيراً ما يرى الجهال شيئاً من الكتب القديمة مترجماً بنقل حبيش فيظن الغر منهم أنه حنين وقد صحف فيكشطه ويجعله حنين.تمعا يوماً في دار بعض النصارى ببغداد وهناك صورة المسيح والتلاميذ وقنديل يشتعل بين يدي الصورة. فقال حنين لصاحب البيت : لم تضيع الزيت فليس هذا المسيح ولا هؤلاء التلاميذ وإنما هي صور. فقال الطيفوري : إن لم يستحقوا الإكرام فأبصق عليهم فبصق فأشهد عليه الطيفوري ورفعه إلى المتوكل فسأله إباحة الحكم عليه لديانة النصرانية فبعث إلى الجاثليق والاساقفة وسئلوا عن ذلك فأوجبوا حرم حنين فحرم وقطع زناره وانصرف حنين إلى داره ومات من ليلته فجأة وقيل أنه سقى نفسه سماً. وكان لحنين ولدان داود واسحق. فأما اسحق فخدم على الترجمة وتولاها واتقنها وأحسن فيها وكانت نفسه أميل إلى الفلسفة. وإما داود فكان طبيباً للعامة وكان له ابن أخت يقال له حبيش بن الاعسم أحد الناقلين من اليوناني والسرياني إلى العربي. وكان يقدمه على تلاميذه ويصفه ويرضى نقله. وقيل من جملة سعادة حنين صحبة حبيش له فإن أكثر ما نقله حبيش نسب إلى حنين. وكثيراً ما يرى الجهال شيئاً من الكتب القديمة مترجماً بنقل حبيش فيظن الغر منهم أنه حنين وقد صحف فيكشطه ويجعله حنين.
المنتصر بن المتوكل “
بايع له قتلة أبيه تلك الليلة التي قتلوا المتوكل. فلما أصبح يوم الأربعاء حضر القواد والكتاب والجند والوجوه الجعفرية فقرأ عليهم أحمد بن الخصيب كتاباً يخبر فيه عن المنتصر أن الفتح بن خاقان قتل المتوكل فقتله فبايع الناس وانصرفوا. وفي سنة ثماني وأربعين ومائتين جدَّ وصيف وبغا وباقي الأتراك في خلع المعتز والمؤيد وألحوا على المنتصر وقالوا : نخلعهما ونبايع لابنك عبد الوهاب. فلم يزالوا به حتى اجابهم وخلعهما بالكره منه ومنهما. ثم دعاهما وقال لهما : أترياني خلعتكما طمعاً في أن أعيش حتى يكبر ولدي وأبايع له والله ما طمعت في ذلك ساعة قط ولكن هؤلاء ” وأومأ إلى سائر الموالي الأتراك ممن هو قائم وقاعد ” ألحوا علي في خلعكما. وفي هذه السنة وهي سنة ثماني وأربعين ومائتين مات المنتصر يوم الأحد لخمس ليالٍ خلون من ربيع الآخر بالذبحة وكانت علته ثلاثة أيام. قيل وكان كثير من الناس حين أفضت الخلافة إليه إلى أن مات يقولون : إنما مدة حياته سنة أشهر مدة شيرويه بن كسرى قاتل أبيه تقوله العامة والخاصة. وكان عمره خمساً وعشرين سنة وستة أشهر وخلافته ستة أشهر.
“ المستعين أحمد بن محمد بن المعتصم “
لما توفي المنتصر اجتمع الموالي في الهاروني من الغد وفيهم بغا الكبير وبغا الصغير وأتامش وتشاوروا وكرهوا أن يتولى الخلافة واحد من ولد المتوكل لئلا يغتالهم فاجمعوا على المستعين أحمد بن محمد المعتصم وبايعوه. وفي سنة تسع وأربعين ومائتين سغب الجند والشاكرية ببغداد لما رأوا من استيلاء الترك على الدولة يقتلون من يريدون من الخلفاء ويستخلفون من أحبوه من غير ديانة ولا نظر للمسلمين. فاجتمعت العامة ببغداد بالصراخ والنداء والنفير وفتحوا السجون وأخرجوا من فيها وأحرقوا أحد الجسرين وقطعوا الآخر وانتهبوا دور أهل اليسار وأخرجوا أموالاً كثيرة ففرقوها فيمن نهض إلى حفظ الثغور وأخرجوا المعتز من الحبس وأخذوا من شعره وكان قد كثر وبايعوا له بالخلافة وخلعوا المستعين وكانت أيامه سنتين وتسعة أشهر. فسار المستعين إلى بغداد سنة إحدى وخمسين ومائتين وحوصر بها. ثم في سنة اثنتين وخمسين ومائتين خلع نفسه من الخلافة فبايع للمعتز بن المتوكل وخطب للمعتز ببغداد. فلما بايع المستعين للمعتز وجهه إلى البصرة ومنها إلى اواسط وتقدم بقتله فقتل وحمل رأسه إلى المعتز فقال : ضعوه حتى أفرغ من الدست. فلما فرغ نظر إليه وأمر بدفنه. وفي هذه السنة حبس المعتز المؤيد أخاه ثم أخرجه ميتاً لا أثر فيه ولا جرح فقيل أنه أدرج في لحاف سمور وأمسك طرفاه حتى مات. وفي سنة أربع وخمسين ومائتين ولى الأتراك أحمد بن طولون مصر وكان طولون مملوكاً تركياً للمأمون وولد له ولده أحمد في سنة عشرين ومائتين ببغداد. وكان أحمد عالي الهمة يستق بعقول الأتراك وأديانهم يثقون به في العظائم وتشاغل بالخير والصلاح فتمكنت في القلوب محبته وآل أمره إلى أن استولى على مصر وجميع مدن الشام. وفي سنة خمس وخمسين ومائتين صار الأتراك إلى المعتز يطلبون أرزاقهم فماطلهم بحقهم. فلما رأوا أنه لا يحصل منه شيء دخل إليه جماعة منهم فجروا برجله إلى باب الحجرة وضربوه بالدبابيس وأقاموه في الشمس في الدار وكان يرفع رجلاً ويضع رجلاً لشدة الحر. ثم سلموه إلى من يعذبه فمنعه الطعام والشراب ثلاثة أيام ثم أدخلوه سرداباً وجصصوا عليه فمات. وكانت خلافته من لدن بويع بسامرا إلى أن خلع أربع سنين وسبعة أشهر.
وفي هذه السنة مات سابور بن سهل صاحب بيمارستان جنديسابور وكان فاضلاً في وقته وله تصانيف مشهورة منها كتاب الأقراباذين المعول عليه في البيمارستانات ودكاكين الصيادلة إثنان وعشرون باباً. وتوفي نصرانياً في يوم الأثنين لتسع بقين من ذي الحجة.
” المهتدي بن الواثق “
بويع له لليلة بقيت من رجب سنة خمس وخمسين ولم تقبل بيعته حتى أتى المعتز فخلع نفسه وأقر بالعجز عما أسند إليه وبالرغبة في تسليمها إلى محمد بن الواثق فبايعه الخاصة والعامة. وبعد قتل المعتز طلبت أمه الأمان لنفسها فأمنوها وظفروا لهل بخزائن في دار تحت الأرض ووجدوا فيها ألف ألف دينار وثلاثمائة ألف دينار وقدر مكوك زمرد ومقدار مكوك من اللؤلؤ الكبار ومقدار كيلجة من الياقوت الأحمر. وكان طلب منها ابنها المعتز مالاً يعطي الأتراك فقالت : ما عندي شيء. فسبوها وقالوا : عرضت ابنها للقتل في خمسين ألف دينار وعندها هذا المال جميعه. وفي منتصف رجب خلع المهتدي وتوفي لاثنتي عشرة ليلة بقيت منه سنة ست وخمسين ومائتين وكانت خلافته أحد عشر شهراً وعمره ثمانياً وثلاثين سنة.
“ المعتمد بن المتوكل “
ولما أخذ المهتدي وحبس أحضر أبو العباس أحمد بن المتوكل وكان محبوساً بالجوسق فبايعه الأتراك وغيرهم ولقب المعتمد على الله. ثم أن المهتدي مات ثاني يوم بيعة المعتمد. وفي سنة إحدى وستين ومائتين ولى المعتمد ابنه جعفر العهد ولقبه المفوض إلى الله وولى أخاه أبا محمد العهد بعد جعفر ولقبه الموفق بالله. وفي سنة أربع وستين ومائتين دخل عبد الله بن رشيد بن كاووس بلد الروم في أربعة آلاف فارس فغنم وقتل. فلما رحل عن البدندون خرج عليه بطريق سلوقية وبطريق خرشنة وأصحابها وأحدقوا بالمسلمين. فنزل المسلمون فعرقبوا دوابهم وقتل الروم من قتلوا وأسر عبد الله بن رشيد وحمل إلى ملك الروم. وفي سنة خمس وستين ومائتين وقع خلاف بين المعتمد وأحمد بن طولون فسار إلى سيما وإلى حلب وبقية العواصم فوجده بانطاكية فحاصره بها وفتحها فظفر بسيما وقتله وجاء إلى حلب وملكها وملك دمشق وحمص وحماة وقنسرين إلى الرقة. وأمر المعتمد بلعب ابن طولون على المنابر فلعن ببغداد وسائر العراق ولعن ابن طولون المعتمد علىالمنابر في جميع أعماله بمصر وغيرها. وفي سنة سبعين ومائتين مات ابن طولون في ذي القعدة وخلف سبعة عشر ابناً أحدهم خمارويه وسبع عشرة بنتاً وترك أموالاً جمة ومماليك كثيرة. وكان كثير الصداقات والخيرات. وقام ولده خمارويه بعده بالملك أحسن قيام ودبر أحسن تدبير. وفي سنة ثماني وسبعين ومائتين عرض للموفق وجع النقرس واشتد به فلم يقدر على الركوب. فعمل له سرير عليه قبة وكان يقعد عليه هو وخادم له يبرد له رجله بالثلج ثم صارت علة رجله داء الفيل وكان يحمل سريره أربعون رجلاً بالنوبة. فقال لهم يوماً : قد ضجرتم من حملي بودي لو كنت كواحد منكم أحمل على رأسي وآكل وأنا في عافية. فوصل إلى داره لليلتين خلتا من صفر وشاع موته. وعلى يديه جرى أكثر الحروب مع الزنج وباقي الخوارج. ولما مات الموفق اجتمع القواد وبايعوا ابنه أبا العباس بولاية العهد بعد المفوض ولقب المعتضد بالله. وفي سنة تسع وسبعين ومائتين توفي المعتمد ليلة الاثنين لاحدى عشرة بقيت من رجب وكان قد شرب على الشط في الحسني يوم الأحد شراباً كثيراً وتعشى فأكثر فمات ليلاً. وكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة. وكان في خلافته محكوماً عليه قد تحكم عليه أبو أحمد الموفق أخوه وضيق عليه حتى أنه احتاج في بعض الأوقات إلى ثلاثمائة دينار فلم يجدها.
وكان استخص الموفق أخوه المعتمد جعفر بن محمد المعروف بأبي معشر البلخي واتخذه منجماً له وكان معه في محاصرته للزنج بالبصرة. وقيل أن أبا معشر كان في أول أمره من أصحاب الحديث ببغداد وكان يضاغن أبا يوسف يعقوب بن اسحق الكندي ويغري به العامة ويشنع عليه بعلوم الفلاسفة. فدس عليه الكندي من حسن له النظر في علم الحساب والهندسة فدخل في ذلك فلم يكمل له فعدل إلى علم أحكام النجوم وانقطع شره عن الكندي. ويقال إنه تعلمالنجوم بعد سبع وأربعين سنة من عمره. وكان فاضلاً حسن القريحة صنف كتباً عدة في هذا الفن. فضربه المستعين أسواطاً لأنه أصاب في شيء أخبر به قبل وقته. وكان يقول : اصبت فعوقبت. وجاوز أبو معشر المائة من عمره ومات بواسط. وقيل كان أبو معشر مدمناً على شرب الخمر مشتهراً بمعاقرتها وكان يعتريه صرع عند أوقات الامتلاآت القمرية. وأما يعقوب الكندي فكان شريف الأصل بصرياً وكان أبوه اسحق أميراً على الكوفة للمهدي والرشيد. وكان يعقوب عالماً بالطب والفلسفة والحساب والمنطق وتأليف اللحون والهندسة والهيئة وله في أكثر هذه العلوم تآليف مشهورة من المصنفات الطوال. ولم يكن في الاسلام من اشتهر عند الناس بمعاناة علم الفلسفة حتى سموه فيلسوفاً غير يعقوب هذا وعاصر قسطا بن لوقا البعلبكي وقسطا هذا الفيلسوف نصراني في الدولة الاسلامية دخل إلى بلاد الروم وحصل من تصانيفهم الكثيرة وعاد إلى الشام واستدعي إلى العراق ليترجم الكتب وله تصانيف مختصرة بارعة. وقيل اجتذبه سنحاريب إلى أرمينية وأقام بها إلى أن مات هناك وبنى على قبره قبة إكراماً له كإكرام قبور الملوك ورؤساء الشرائع. قال المؤرخ : لو قلت حقاً قلت أنه أفضل من صنف كتاباً بما احتوى عليه من العلوم والفضائل وما رزق من الاختصار للالفاظ وجمع المعاني.
وفي آخر دولة المعتمد تحرك بسواد الكوفة قوم يعرفون بالقرامطة وكان ابتداء أمرهم أم رجلاً فقيراً قدم من ناحية خوزستان إلى سواد الكوفة وكان يظهر الزهد والتقشف ويسف الخوص ويأكل من كسبه فأقام على ذلك مدة. وكان إذا قعد إليه رجل ذاكره أمر الدين وزهده في الدنيا وأعلمه أنه يدعو إلى إمام من أهل بيت النبي عليه السلام. فلم يزل على ذلك حتى استجاب له جمع كثير واتخذ منهم اثني عشر نقيباً على عدد الحوارين وأمرهم أن يدعوا الناس إلى مذهبهم. فبلغ خبره عامل تلك الناحية فأخذه وحبسه وحلف أنه يقتله وأغلق باب البيت عليه وجعل المفتاح تحت وسادته واشتغل بالشرب. فسمعت جارية له بيمينه فرقت للرجل. فلما نام العامل أخذت المفتاح وفتحت الباب وأخرجته ثم أعادت المفتاح إلى مكانه. فلما أصبح العامل فتح الباب ليقتله فلم يره وشاع ذلك في الناس وافتتن به أهل تلك الناحية وقالوا رفع. ثم ظهر في ناحية أخرى ولقي جماعة من أصحابه وغيرهم وقال لهم : لا يمكن أن ينالني أحد بسوء. فعظم في أعينهم. ثم خاف على نفسه فخرج إلى ناحية الشام ولم يوقف له على خبر وسمي باسم رجل كان ينزل عنده وهو كرمتية ثم خفف فقيل قرمطة. وكان فيما حكي عن القرامطة من مذهبهم أنهم جاءوا بكتاب فيه : بسم الله الرحمن الرحيم. يقول الفرج بن عثمان وهو من قرية يقال لها نصرانة أن المسيح تصور له في جسم انسان وقال له : إنك الداعية وإنك الحجة وإنك الناقة وإنك الدابة وإنك يحيى بن زكريا وإنك روح القدس وعرفه أن الصلاة أربع ركعات ركعتان قبل طلوع الشمس وركعتان قبل غروبها والصوم يومان في السنة وهما المهرجان والنيروز. وأن النبيذ حرام والخمر حلال ولا يؤكل كل ذي ناب ولا كل ذي مخلب.
“ المعتضد بن الموفق “
بويع له في صبيحة الليلة التي مات فيها عمه المعتمد. ولما ولي المعتضد بعث خمارويه بن أخمد بن طولون له هدايا وألطافاً شريفة ورسولاً وسأله أن يزوج ابنة خمارويه المسماة قطر الندى بعلي بن المعتضد. فقال المعتضد : أنا أتزوجها. فسر خمارويه بذلك. وفي سنة إحدى وثمانين ومائتين خرج المعتضد إلى الموصل قاصداً للأعراب والأكراد فسار إليهم فأوقع بهم وقتل منهم وغرق منهم في الزاب خلق كبير. وسار المعتضد إلى الموصل يريد قلعة ماردين وكانت لحمدان فهرب حمدان منها وخلف ابنه بها فنازلها المعتضد وقاتل من فيها يومه ذلك. فلما كان الغد ركب المعتضد فصعد إلى باب القلعة وصاح : يا ابن حمدان. فأجابه. فقال : افتح الباب. ففتحه فقعد المعتضد في الباب وأمر بنقل ما في القلعة وهدمها. ثم ظفر بحمدان بعد عوده إلى بغداد جاءه مستأمناً إليه. وفي سنة اثنتين وثمانين ومائتين جهز خمارويه ابنته أحسن جهاز وبعث بها إلى المعتضد في المحرم. وفي هذه السنة لثلاث خلون من ذي الحجة قتل خمارويه بدمشق ذبحه على فراشه بعض خاصته. ولما قتل أقعدوا مكانه ابنه هرون والتزم أنه يحمل من مصر إلى خزانة المعتضد في كل سنة ألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار. وفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين سارت الصقالبة إلى الروم فحاصروا القسطنطينية وقتلوا من أهلها خلقاً كثيراً وخربوا البلاد. فلما لم يجد ملك الروم منهم خلاصاً جمع من عنده من أسارى المسلمين وأعطاهم السلاح وسألهم معونته على الصقالبة ففعلوا وكشفوهم وأزاحوهم عن القسطنطينية. فلما رأى ملك الروم ذلك خاف المسلمين على نفسه فأخذ سلاحهم وفرقهم في البلدان حذراً من جنايتهم عليه. وفي هذه السنة كان الفداء بين المسلمين والروم وكان جملة من فودي به من المسلمين من الرجال والنساء والصبيان ألفين وخمسمائة وأربعة أنفس. وفي هذه السنة وهي سنة أربع وثمانين ومائتين كان المنجمون يوعدون بغرق أكثر الأقاليم إلا إقليم بابل فإنه يسلم منه اليسير وإذ ذلك يكون بكثرة الأمطار وزيادة المياه في الأنهار والعيون. فقحط الناس وقلت الأمطار وغارت المياه حتى استسقى الناس ببغداد مرات. وفي سنة خمس وثمانين ومائتين ظهر رجل من القرامطة يعرف بأبي سعيد بالبحرين واجتمع إليه جماعة من الأعراب والقرامطة وقوي أمره فقاتل ما حوله من القرى ثم صار إلى القطيف وأظهر أنه يريد البصرة. فأمر المعتضد ببناء سور على البصرة فعمل وكان مبلغ الخرج عليه أربعة عشر ألف دينار. وفي سنة ثماني وثمانين ومائتين وقع الوباء بأذربيجان فمات منه خلق كثير إلى أن فقد الناس ما يكفنون به الموتى وكانوا يطرحونهم في الطريق. وفيها سارت الروم إلى كيسوم فنهبوها وغنموا أموال أهلها وأسروا منها نحو خمسة عشر ألف انسان من رجل وصبي وامرأة. وفي سنة تسع وثمانين ومائتين انتشر القرامطة بسواد الكوفة فأخذ رئيسهم وسير إلى المعتضد وأحضره وقال له : اخبرني هل تزعمون أن روح الله تحل في أجسادكم. فقال له الرجل : يا هذا إن حلت روح الله فينا فما يضرك وأن حلت روح ابليس فما ينفعك ولا تسأل عما لا يعنيك وسل عما يخصك. فقال : ما تقول فيما يخصني. فقال : أقول أن النبي عليه السلام مات وأبوكم العباس حي فهل طلب الخلافة أم هل بايعه أحد من الصحابة على ذلك. ثم مات أبو بكر واستخلف عمر وهو يرى موضع العباس ولم يوصى إليه. ثم مات عمر وجعلها شورى في ستة أنفس ولم يوصى إلى العباس ولا أدخله فيهم فبماذا تستحقون أنتم الخلافة وقد اتفق الصحابة على دفع جدك عنها. فأمر به المعتضد فعذب وخلعت عظامه ثم قطعت يداه ورجلاه ثم قتل. وبعد قليل في هذه السنة في ربيع الآخر لثمان بقين منه توفي المعتضد فاجتمع القواد وجددوا البيعة لابنه المكتفي وكانت خلافة المعتضد تسع سنين وتسعة أشهر وعمره سبع وأربعين سنة. وقيل كان المعتضد أسمر نحيفاً شهماً شجاعاً وكان فيه شح وكان عفيفاً مهيباً عند أصحابه يتقون سطوته ومع ذلك جاوز الحد في الحلم. قال الوزير عبد الله بن سليمان بن وهب : كنت عند المعتضد يوماً وخادم بيده المذبة إذ ضربت قلنسوة المعتضد فسقطت فكدت اختلط إعظاماً للحال ولم يتغير المعتضد وقال : هذا الغلام قد نعس. ولم ينكر عليه. فقبلت الأرض وقلت : والله يا أمير المؤمنين ما سمعت بمثل هذا ولا ظننت أن حلماً يسعه. قال : وهل يجوز غير هذا أن هذا الصبي البائس لو دار في خلده ما جرى لذهب عقله وتلف والانكار لا يكون إلا على المعتمد دون الساهي الخاطئ. أعلم أن هذا الصبي البائس لو دار في خلده ما جرى لذهب عقله وتلف والانكار لا يكون إلا على المعتمد دون الساهي الخاطئ.
وفي أيام المعتضد علت منزلة بني موسى بن شاكر وهم ثلاثة محمد وأحمد والحسن. وكان موسى بن شاكر يصحب المأمون ولم يكن موسى من أهل العلم بل كان في حداثته حرامياً يقطع الطريق ثم أنه تاب ومات وخلف هؤلاء الأولاد الثلاثة الصغار فوصى بهم المأمون اسحق بن ابراهيم المصعبي وأثبتهم مع يحيى بن أبي منصور في بيت الحكمة وكانت حالهم رثة رقيقة. على أن أرزاق أصحاب المأمون كلهم كانت قليلة. فخرج بنو موسى ابن شاكر نهاية في علومهم وكان أكبرهم وأجلهم أبو جعفر محمد وكان وافر الحظ من الهندسة والنجوم ثم خدم وصار من وجوه القواد إلى أن غلب الأتراك على الدولة. وكان أحمد دونه في العلم إلا صناعة الحيل فإنه فتح له فيها ما لم يفتح مثله لأحد. وكان الحسن وهو الثالث منفرداً بالهندسة وله طبع عجيب فيها لا يدانيه أحد علم كل ما علم بطبعه ولم يقرأ من كتب الهندسة إلا ست مقالات من كتاب أوقليذس في الأصول فقط وهي أقل من نصف الكتاب ولكن ذكره كان عجيباً وتخيله كان قوياً. وحكي أن المروزي قال عنه يوماً للمأمون أنه لم يقرأ من كتاب أوقليذيس إلا ست مقالات. أراد بذلك كسره. فقال الحسن : يا أمير المؤمنين لم يكن يسألني عن شكل من أشكال المقالات التي لم أقرأها إلا استخرجته بفكري وأتيته به ولم يكن يضرني أنني لم أقرأها ولا تنفعه قراءته لها إذ كان من الضعف فيها بحيث لم تغنه قرآته في أصغر مسألة من الهندسة فإنه لا يحسن أن يستخرجها. فقال له المأمون : ما أدفع قولك ولكني ما أعذرك ومحلك من الهندسة محلك أن يبلغ بك الكسل أن لا تقرأه كله وهو للهندسة كحروف ا ب ت ث للكلام والكتابة. وفي دار محمد بن موسى تعلم ثابت بن قرة بن مروان الصابئ الحراني نزيل بغداد فوجب على محمد حقه فوصله بالمعتضد وأدخله في جملة المنجمين. وبلغ ثابت هذا مع المعتضد أجل المراتب وأعلى المنازل حتى كان يجلس بحضرته في كل وقت ويحادثه طويلاً ويضاحكه ويقبل عليه دون وزرائه وخاصته. وله مصنفات كثيرة في التعليمات الرياضية والطب والمنطق وله تصانيف بالسريانية فيما يتعلق بمذهب الصابئة في الرسوم والفروض والسنن وتكفين الموتى ودفنهم وفي الطهارة والنجاسة وما يصلح من الحيوان للضحايا وما لا يصلح وفي أوقات العبادات وترتيب القراءة في الصلاة. والذي تحققنا من مذهب الصابئة أن دعوتهم هي دعوة الكلدانين القدماء بعينها وقبلتهم القطب الشمالي ولزموا فضائل النفس الأربع. والمفترض ثلاث صلوات أولها قبل طلوع الشمس بنصف ساعة أو أقل لتنقضي مع الطلوع ثماني زكعات في كل ركعة ثلاث سجدات. والثانية انقضاؤها مع نصف النهار والزوال خمسركعات في كل ركعة ثلاث سجدات. والثالثة مثل الثانية تنقضي مع الغروب. والصيام المفرض عليهم ثلاثون يوماً أولها الثامن من اجتماع آذار. وتسعة أيام أولها التاسع من اجتماع كانون الأول. وسبعة أيام أولها ثامن شباط. ويدعون الكواكب. وقرابينهم كثيرة لا يأكلون منها بل يحرقونها. ولا يأكلون الباقلى والثوم وبعضهم اللوبياء والقنبيط والكرنب والعدس. وأقوالهم قريبة من أقوال الحكماء ومقالاتهم في التوحيد على غاية من التقانة ويزعمون أن نفس الفاسق تعذب تسعة آلاف ثم تصير إلى رحمة الله تعالى. وكان في دولة المعتضد أحمد بن محمد بن مروان بن الطيب السرخسي أحد فلاسفة الاسلام وله تآليف جليلة في علوم كثيرة من علوم القدماء والعرب وكان حسن المعرفة جيد القريحة بليغ اللسان مليح التصنيف وكان أولاً معلماً للمعتضد ثم نادمه وخص به وكان يفضي إليه بأسراره كلها ويستشيره في أمور مملكته وكان الغالب على أحمد هذا علمه لا عقله واتفق أن أفضى إليه بسر فأذاعه فأمر المعتضد بقتله فقتل.
“ المكتفي بن المعتضد “
لما توفي المعتضد كتب الوزير إلى أبي محمد علي بن المعتضد وهو المكتفي وعرفه أخذ البيعة له وكان بالرقة فأخذ له البيعة علىمن عنده من الأجناد وسار إلى بغداد فدخلها لثمانٍ خلون من جمادى الأولى سنة تسع وثمانين ومائتين. وفيها ظهر بالشام رجل من القرامطة وجمع جموعاً من الأعراب وأتى دمشق وبها طغج بن جف من قبل هارون بن خمارويه بن أخمد بن طولون وكانت بينهم وقعات. وفي سنة احدى وتسعين ومائتين خرجت الترك في خلق كثير لا يحصون إلى ما وراء النهر وكان في عسكرهم سبعمائة قبة تركية ولا تكون إلا للرؤساء منهم. فسار إليهم جيش المسلمين وكبسوهم مع الصبح فقتلوا منهم خلقاً عظيماً وانهزم الباقون. وفيها خرج الروم في عشرة صلبان مع كل صليب عشرة آلاف إلى الثغور فأغاروا وسبوا وأحرقوا. وفي سنة اثنتين وتسعين ومائتين جهز المكتفي إلى هرون بن خمارويه جيشاً في البر والبحر فحاصروه بمصر وجرى بينهم قتال شديد ووقعات كثيرة آخرها أن بعض الرماة من أصحاب المكتفي رمى هرون بمزراق معه فقتله وانهزم المصريون وكان هو آخر أمراء آل طولون وانقرضت الدولة الطولونية في هذه السنة. وفي سنة ثلاث وتسعين ومائتين أغارت الروم على قورس ودخلوها فأحرقوا جامعها وساقوا من بقي من أهلها لأنهم قتلوا أكثرهم. وفي سنة خمس وتسعين ومائتين من ذي القعدة توفي المكتفي بالله وكانت خلافته ست سنين وستة أشهر وكان عمره ثلاثاً وثلاثين سنة.
وفي أيام المكتفي اشتهر يوسف الساهر الطبيب ويعرف أيضاً بالقس وكان مشهور الذكر مكباً على الطب كثير الاجتهاد في تحصيل الفوائد وسمي الساهر لأنه كان لاينام في الليل إلا ربعه أو أزيد ثم يسهر في طلب العلم. وقيل إنما سمي الساهر لأن سرطان كان في مقدم رأسه وكان يمنعه من النوم. وإذا تأمل متأمل كناشه رأى فيه أشياء تدل على أنه كان به هذا المرض.
“ المقتدر بن المعتضد “
لما ثقل المكتفي في مرضه استشار الوزير وهو حينئذ العباس بن الحسن أصحابه فيمن يصلح للخلافة. فقالوا له : اتق الله ولا تولِّ من قد لقي الناس ولقوه وعاملهم وعاملوه وتحنك وحسب حساب نعم الناس وعرف وجوه دخلهم وخرجهم. فقال الوزير : صدقتم ونصحتم. فبمن تشيرون؟ قالوا : أصلح الموجودين جعفر بن المعتضد. قال : ويحكم هو صبي. قال ابن الفرات : إلا أنه ابن المعتضد ولا نأتي برجل يباشر الأمور بنفسه غير محتاج إلينا. فركن الوزير إلى قولهم فلما مات المكتفي نصب جعفراً للخلافة وأخذ له البيعة ولقبه المقتدر بالله. فلما بويع المقتدر استصغره الوزير وكان عمره إذ ذاك ثلاث عشرة سنة. وكثر كلام الناس فيه فعزم على خلعه. ثم في سنة ست وتسعين ومائتين اجتمع القواد والقضاة مع الوزير على خلع المقتدر بالله والبية لابن المعتز. ثم أن الوزير رأى أمره صالحاً مع المقتدر فبدا له في ذلك. فوثب به الحسين بن حمدان فقتله وخلع المقتدر وبايع الناس ابن المعتز ولقب المرتضي بالله ووجه إلى المقتدر يأمره بالانتقال إلى الدار التي كان مقيماً فيها لينتقل هو إلى دار الخلافة فأجابه بالسمع والطاعة وسأل الإمهال إلى الليل. وعاد الحسين بن حمدان بكرة غد إلى دار الخلافة فقاتله الخدم والغلمان والرجالة من وراء الستور عامة النهار فانصرف عنهم آخر النهار. فلما جنَّه الليل سار عن بغداد بأهله وماله إلى الموصل لا يدري لم فعل ذلك ولم يكن بقي مع المقتدر من القواد غير مؤنس الخادم ومؤنس الخازن. ولما رأى ابن المعتز ذلك ركب معه وزيره محمد بن داود وغلام له وساروا نحو الصحراء ظناً منهم أن من بايعه من الجند يتبعونه. فلما لم يلحقهم أحد رجعوا واختفوا ووقعت الفتنة والنهب والقتل ببغداد وثار العيارون والسفل ينهبون الدور وخرج المقتدر بالعسكر وقبض على جماعة وقتلهم وكتب إلى أبي الهيجاء بن حمدان يأمره بطلب أخيه الحسين فانهزم الحسين وأرسل أخاه ابراهيم يطلب له الأمان فأجيب إلى ذلك ودخل بغداد وخلع عليه وعقد له على قم وقاشان فسار إليها. وفي هذه السنة سقط ببغداد ثلج كثير من بكرة إلى العصر فصار على الأرض أربع أصابع وكان معه برد شديد وجمد الماء والخل والبيض وهلك النخل وكثير من الشجر. وفي سنة ثلاث وثلاثمائة خرج الحسين بن حمدان بالجزيرة عن طاعة المقتدر فجهز الوزير رائق الكبير في جيش وسيره إليه فالتقيا واقتتلا قتالاً شديداً فانهزم رائق وغنم الحسين سواده. فسمع ذلك مؤنس الخادم وجد بالسير نحو الحسين فرحل الحسين نحو أرمينية مع ثقله وأولاده وتفرق عسكره عنه فأدركه جيش مؤنس وأسروه ومعه ابنه عبد الوهاب. وعاد مؤنس إلى بغداد على الموصل ومعه الحسين فأركب على جمل هو وابنه وعليهما البرانس واللبود الطوال وقمصان من شعر أحمر وحبسا. وفي هذه السنة خرج مليح الأرمني إلى مرعش فعاث في بلدها وأسر جماعة ممن حولها وعاد. وفي سنة خمس وثلاثمائة وصل رسولان من ملك الروم إلى المقتدر يطلبان المهادنة والفداء فأكرما إكراماً تاماً كثيراً ودخلا على الوزير وهو في أكمل هيئة وأديا الرسالة إليه.
ما دخلا على المقتدر وقد جلس لهما واصطفت الاجناد بالسلاح والزينة التامة وأديا الرسالة. فأجابهما المقتدر إلى ما طلب ملك الروم من الفداء وسير مؤنساً الخادم ليحضر الفداء وانفذ معه مائة ألف وعشرين ألف دينار لفداء أسارى المسلمين. وفيها أطلق أبو الهيجاء بن حمدان وأخوته وأهل بيته من الحبس. وفي سنة تسع وثلاثمائة قتل الحسين الحلاج بن منصور. وكان ابتداء حاله أنه كان يظهر الزهد ويظهر الكرمات وقيل أنه حرك يوماً يده فانتثر على قوم دراهم. فقال بعض من تفهم أمره ممن حضر : أرى دراهم معروفةً ولكني أؤمن بك وخلقٌ معي إن أعطيتني درهماً عليه اسمك واسم أبيك. فقال : وكيف لا يصنع. فقال له : من حضر ما ليس بحاضر صنع ما ليس بمصنوع. وكان قدم من خراسان إلى العراق وسار إلى مكة فأقام بها سنة في الحجر لا يستظل تحت سقف شتاءً ولا صيفاً ورئي في جبل أبي قبيس على صخرة حافياً مكشوف الرأس والعرق يجري منه إلى الأرض. وعاد الحلاج إلى بغداد فافتتن به خلق كثير واعتقدوا فيه الحلول والربوبية. ثم نقل عنه إلى الوزير حامد أنه أحيا جماعة من الموتى. فلما سأله الوزير عن ذلك أنكره وقال : أعوذ بالله أن أدعي النبوة أو الربوبية وإنما أنا رجل أعبد الله. فلم يتمكن الوزير من قتله حتى رأى كتاباً له فيه : أن الإنسان إذا أراد الحج ولم يمكنه أفرد من داره بيتاً طاهراً فإذا حضرت أيام الحج طاف حوله وفعل ما يفعل الحجاج بمكة ثم يطعم ثلاثين يتيماً ويكسوهم ويعطي كل واحد منهم سبعة دراهم. فأحضر الوزير القضاة ووجوه الفقهاء واستفتاهم. فكتبوا بإباحة دمه فسلمه الوزير إلى صاحب الشرطة فضربه ألف سوط فما تأوه لها ثم قطع يده ثم رجله ثم رجله الأخرى ثم يده ثم قتل وأحرق وألقي رماده في دجلة ونصب الرأس ببغداد. واختلف في بلدة الحلاج ومنشأه فقيل من خراسان وقيل من نيسابور وقيل من مرو وقيل من الطالقان وقيل من الري. وقيل كان رجلاً محتالاً مشعوذاً يتعاطى مذاهب الصوفية ويدعي أن الإلهية قد حلت فيه وأنه هو هو. وقيل له وهو مصلوب : قل لا إلاه إلا الله. فقال : إن بيتاً أنت ساكنه غير محتاج إلى السرج. وامتحنه أبو الحسين علي ابن عيسى وناظره فوجده صفراً من العلوم فقال له : تعلمك طهورك وفروضك أجدى عليك من رسائل لا تدري ما تقول فيها. لم تكتب إلى الناس بقولك : تبارك ذو النور الشعشعاني الذي يلمع بعد شعشعته. ما أحوجك إلى الأدب. وقال أبو الحسن بن الجندي أنه رأى الحلاج وشاهد من شعابيذه أشياء منها تصويره بين يديه بستاناً فيه زروع وماء. وفي سنة خمس عشرة وثلاثمائة استشعر مؤنس الخادم خوفاً من المقتدر. فاجتمع إليه جميع الأجناد وقالوا له : لا تخف نحن نقاتل بين يديك إلى أن ينبت لك لحية. فوجه إليه المقتدر رقعة بخطه يحلف له على بطلان ما قد بلغه. فقصد دار المقتدر في جمع من القواد ودخل إليه وقبل يده. وحلف له المقتدر على صفاء نيته له. وفي سنة سبع عشرة وثلاثمائة خلع المقتدر بالله من الخلافة وبويع أخوه القاهر بالله محمد بن المعتضد فبقي يومين ثم أعيد المقتدر. وكان السبب في ذلك استيحاش مؤنس الخادم. وفي سنة عشرين وثلاثمائة سار مؤنس الخادم إلى الموصل مغاضباً ووجه خادمه بشرى برسالة إلى المقتدر. فسأله الوزير الحسين عن الرسالة فقال : لا أذكرها إلا للمقتدر كما أمرني صاحبي. فشتمه الوزير وشتم صاحبه وأمر بضربه وصادره بثلاثمائة ألف دينار. فلما بلغ مؤنساً ما جرى على خادمه وهو بحربى ينتظر أن يطيب المقتدر قلبه ويعيده سار نحو الموصل ومعه جميع القواد فاجتمع بنو حمدان على محاربته. ولما قرب مؤنس من الموصل كان في ثمانمائة فارس واجتمع بنو حمدان في ثلاثين ألفاُ فالتقوا واقتتلوا فانهزم بنو حمدان واستولى مؤنس على أموالهم وديارهم فخرج إليه كثير من العساكر من بغداد والشام ومصر لإحسانه إليهم وأقام بالموصل تسعة أشهر ثم انحدر إلى بغداد ونزل بباب الشماسية. وأشار على المقتدر أصحابه بحضور الحرب فإن القوم متى رأوه عادوا جميعهم إليه فخرج وهو كاره وبين يديه الفقهاء والقراء ومعهم المصاحف منشورة وعليه البردة والناس حوله. فوقف على تل عال بعيد عن المعركة. فأرسل قواده يسألونه التقدم. فلما تقدم من موضعه انهزم أصحابه قبل وصولهاليهم. فأراد الرجوع فلحقه قوم من المغاربة وشهروا عليه سيوفهم. فقال : ويحكم أنا الخليفة. قالوا : قد عرفناك يا سفلة. وضربه واحد بسيفه على عاتقه فسقط إلى الأرض وذبحه بعضهم ورفعوا رأسه على خشبة وهم يكبرون ويلعنونه وأخذوا جميع ما عليه حتى سراويله وتركوه مكشوف العورة إلى أن مر به رجل من الأكرة فستره بحشيش ثم حفر له في موضعه ودفن وعفا قبره. ولما حمل رأس المقتدر إلى مؤنس بكى ولطم وجهه ورأسه وأنفذ إلى دار الخليفة من منعها من النهب. وكانت خلافة المقتدر خمساً وعشرين سنة وعمره ثماني وثلاثين سنة.هم. فأراد الرجوع فلحقه قوم من المغاربة وشهروا عليه سيوفهم. فقال : ويحكم أنا الخليفة. قالوا : قد عرفناك يا سفلة. وضربه واحد بسيفه على عاتقه فسقط إلى الأرض وذبحه بعضهم ورفعوا رأسه على خشبة وهم يكبرون ويلعنونه وأخذوا جميع ما عليه حتى سراويله وتركوه مكشوف العورة إلى أن مر به رجل من الأكرة فستره بحشيش ثم حفر له في موضعه ودفن وعفا قبره. ولما حمل رأس المقتدر إلى مؤنس بكى ولطم وجهه ورأسه وأنفذ إلى دار الخليفة من منعها من النهب. وكانت خلافة المقتدر خمساً وعشرين سنة وعمره ثماني وثلاثين سنة.
وفي سنة سبع عشرة وثلاثمائة مات محمد بن جابر بن سنان أبو عبد الله الحراني المعروف بالبتاني أحد المشهورين برصد الكواكب ويعلم أحد من الإسلام بلغ مبلغه في تصحيح أرصاد الكواكب وامتحان حركاتها. وكان أصله من حران صابئاً. وفي سنة عشرين وثلاثمائة توفي محمد بن زكريا الرازي وكان في ابتداء أمره يضرب بالعود ثم ترك ذلك وأقبل على تعلم الفلسفة فنال منها كثيراً وألف كتباً كثيرة أكثرها في صناعة الطب وسائرها في المعارف الطبيعية ودبر بيمارستان الري ثم بيمارستان بغداد زماناً. وكان في بصره رطوبة لكثرة أكله الباقلي ثم عمي في آخر عمره بماء نزل في عينيه. وجاءه كحال ليقدحهما فسأله عن العين كم طبقة هي. فقال لا أعلم. فقال له : لا يقدح عيني من لا يعلم ذلك. فقيل له : لو قدحت لكنت أبصرت. قال : لا قد أبصرت في الدنيا حتى مللت. وقيل أن أبا محمد بن زكريا الرازي أوحد دهره وفريد عصره جمع المعرفة بعلوم القدماء لا سيما الطب وكان شيخاً كبير الرأس مسفطاً. ولم يكن يفارق النسخ إما يسود أو يبيض. وألف في الكيمياء اثني عشر كتاباً وذكر أنها أقرب إلى الممكن منه إلى الممتنع. وكان كريماً متفضلاً باراً بالناس حسن الرأفة بالفقراء والأعلاء حتى كان يجري عليهم الجرايات الواسعة ويمرضهم. وحكي عن الكعبي أنه قال لابن زكريا : رأيتك تدعي ثلاثة أصناف من العلوم وأنت أجهل الناس بها تدعي الكيمياء وقد حبستك زوجتك على عشرة دراهم فلو ملكت يوماً قدر مهرها ما رافعتك إلى الحاكم فحضرت معها وحلفت لها عليه. وتدعي الطب وتركت عينك حتى ذهبت. وتدعي النجوم والعلم بالكائنات وقد وقعت في نوايب لم تشعر بها حتى أحاطت بك. أقول الطعن الأول مباين لما نقل من حسن رأفته بالفقراء ولا يبعد أن الأخر قول حاسد. ومن الأطباء الذين للمقتدر بختيشوع بن يحيى وسنان بن ثابا بن قرة الصابئ والد ثابت بن سنان صاحب التارخ. ولم يكن في أطبائه أخص من هذين. وسيأتي قصة سنان في باب خلافة القاهر.
” القاهر بن المعتضد “
لما قتل المقتدر عظم قتله على مؤنس وقال : الرأي أن ننصب ولده أبا العباس فإنه تربيتي وهو صبي عاقل فيه دين وكرم ووفاء بما يقول. اسحق النوبختي وقال : بعد الكد استرحنا من خليفة له أم وخالة وخدم يدبرونه فنعود إلى تلك الحال لا والله لا نرضى إلا برجل كامل يدبر نفسه ويدبرنا. وما زال حتى رد مؤنساً عن رأيه وذكر له أبو منصور بن محمد بن المعتضد فأجابه مؤنس إلى ذلك. وكان النوبختي في ذلك كالباحث عن حتفه بظلفه فإن القاهر قتله كما سيأتي ذكره. وأمر مؤنس بإحضار محمد ابن المعتضد فبايعوه بالخلافة لليلتين بقيتا من شوال سنة عشرين وثلاثمائة ولقبوه بالله. وكان مؤنس كارهاً لخلافته ويقول : إنني عارف بشره وشؤمه. ولما بويع استحلفه مؤنس لنفسه ولحاجبه بليق ولعلي بن بليق. واستحجب القاهر علي بن بليق وتشاغل القاهر بالبحث عمن استتر من أولاد المقتدر وحرمه ثم أحضر القاهر أم المقتدر عنده وكانت مريضة قد ابتدأ بها استسقاء فسألها عن مالها فاعترفت له بما عندها من المتاع والثياب ولم تعترف بشيء من المال والجواهر. فضربها أشد ما يكون من الضرب وعلقها برجلها وضرب المواضع الغامضة من بدنها. فحلفت أنها لا تملك غير ما أطلعته عليه. وصادر جميع حاشية المقتدر وأصحابه ووكل على بيع أملاك أم المقتدر وحل وقوفها فبيع جميع ذلك. وفي سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة استوحش مؤنس وبليق الحاجب وولده علي الوزير وأبو علي بن مقلة من القاهر وضيقوا عليه ووكلوا على دار الخليفة أحمد بن زيرك وأمروا بتفتيش كل من يدخل الدار ويخرج منها وأن يكشف وجوه النساء المنقبات. ففعل ذلك وزاد عليه حتى أنه حمل إلى دار القاهر لبنٌ فأدخل يده فيه لئلا يكون فيه رقعة. فعلم القاهر أن العتاب لا يفيد فأخذ في الحيلة والتدبير عليهم وأرسل إلى الساجية أصحاب يوسف بن أبي الساج يغريهم بمؤنس وبليق ويحلف لهم على الوفاء فتغيرت قلوبهم. فبلغ ابن مقلة أن القاهر يجتهد في التدبير عليهم فذكر ذلك لمؤنس وبليق وبنه فاتفق رأيهم على خلع القاهر إلا مؤنس فإنه قال لهم : لست أشك في شر القاهر وخبثه ولقد كنت كارهاً لخلافته وأشرت بابن المقتدر فخالفتموني وقد بالغتم الآن في الاستهانة به وما صبر على الهوان إلا من خبث طويته ليدبر عليكم فلا تعجلوا حتى تؤنسوه وينبسط إليكم ثم اعملوا على ذلك. فقال علي ابن بليق وابن مقلة : ما يحتاج إلى هذا التطويل فإن الحجبة لنا والدار في أيدينا وما يحتاج أن نستعين في القبض عليه بأحد لأنه بمنزلة طائر في قفص. واتفقوا على أن يدخل علي بن بليق على القاهر ويكون قد أمر جماعة من عسكره بالركوب إلى أبواب دار الخليفة فيقبض عليه. فهم في هذا أن خضر ظريف السكري في زي امرأة فاجتمع بالقاهر فذكر له جميع ما قد عزموا عليه فأخذ حذره وأنفذ إلى الساجية أحضرهم متفرقين وأكمنهم في الدهليز والممرات والرواقات. وحضر علي بن بليق بعد العصر وفي رأسه نبيذ ومعه عدد يسير من غلمانه بسلاح خفيف وطلب الإذن فلم يؤذن له فغضب أساء أدبه. فخرج إليه الساجية وشموا أباه. فألقى نفسه إلى طيارة وعبر إلى الجانب الغربي واختفى من ساعته. ولغ الخبر ابن مقلة فاستتر. وأنكر بليق ما جرى على إبنه وسب الساجية وحضر دار الخليفة ليعاتب على ذلك فلم يوصله القاهر إليه وأمر بالقبض عليه وعلى ابن زيرك. وراسل القاهر مؤنساً يسأله الحضور عنده وقال : أنت عندي بمنزلة الوالد وما أحب أن أعمل شيئاً إلا عن رأيك. فاعتذر مؤنس عن الحركة وأنه قد استولى عليه الكبر والضعف. فأظهر له الرسول النصح وقال : إن تأخرت طمع ولو رآك نائماً ما تجاسر على أن يوقظك. فسار مؤنس إليه فلما دخل الدار قبض عليه القاهر وحبسه. قيل لما علم القاهر بمجيء مؤنس هابه وهاله أمره وارتعد وتغيرت أحواله وزحف من صدر فراشه ثم ربط جأشه. ولما قبض على مؤنس شغب أصحابه وثاروا وتبعهم سائر الجند. وكان القاهر قد ظفر بعلي بن بليق فدخل القاهر إليه وأمر به فذبح وأخذوا رأسه فوضعوه في طشت ثم مضى القاهر والطشت يحمل بين يديه حتى دخل على بليق فوضع الطشت بين يديه وفيه رأس ابنه. فلما رآه بكى وأخذ يقبله ويترشفه. فأمر القاهر فذبح أيضاً وجعل رأسه لطشت وحمل بين يدي القاهر ومضى حتى دخل على مؤنس فوضعهما بين يديه. فلما رأى الرأسين تشهد ولعن قاتلهما. فقال القاهر : جروا برجل الكلب الملعون فجروه وذبحوه وجعلوا رأسه في طشت وأمر فطيف بالرؤوس في جانبي بغداد ونودي عليها : هذا جزاء من يخون الإمام ويسعى في فساد دولته. الطشت وحمل بين يدي القاهر ومضى حتى دخل على مؤنس فوضعهما بين يديه. فلما رأى الرأسين تشهد ولعن قاتلهما. فقال القاهر : جروا برجل الكلب الملعون فجروه وذبحوه وجعلوا رأسه في طشت وأمر فطيف بالرؤوس في جانبي بغداد ونودي عليها : هذا جزاء من يخون الإمام ويسعى في فساد دولته.
وفي أيام القاهر كان ابتداء دولة بني بويه وهم ثلاثة عماد الدولة علي وركن الدولة الحسن ومعز الدولة أحمد أولاد أبي شجاع بويه بن فناخسرو من ولد يزدجرد بن شهريار آخر ملوك الفرس. وهذا نسب عريق في الفرس ولا شك أنهم نسبوا إلى الديلم حيث طال مقامهم ببلادهم. وقيل أن أبا شجاع بويه كان متوسط الحال ورأى في منامه كأنه يبول فخرج من ذكره نار عظيمة استطالت وعلت حتى كادت تبلغ السماء ثم انفرجت فصارت ثلث شعب وتولد من تلك الشعب عدة شعب فأضاءت الدنيا بتلك النيران ورأى البلاد والعباد خاضعين لتلك النيران. فمضى بويه إلى رجل يقول عن نفسه أنه منجم ومعزم ومعبر المنامات ويكتب الرقي والطلسمات وقص عليه منامه. فقال المنجم : هذا منام عظيم لا أفسره إلا بخلعة وفرس. فقال بويه : والله ما أملك إلا الثياب التي على جسدي فإن أخذتها بقيت عرياناً. قال المنجم : فعشرة دنانير. قال : والله ما أملك دينارين فكيف عشرة. فأعطاه شيئاً. فقال المنجم : اعلم أنه يكون لك ثلاثة أولاد يملكون الأرض ويعلو ذكرهم في الآفاق ويولد لهم جماعة ملوك بقدر ما رأيت من تلك الشعب. فقال أبو شجاع بويه : اما تستحي تسخر منا أنا رجل فقير وأولادي هؤلاء مساكين فكيف يصيرون ملوكاً. قال المنجم : اذكروا لي هذا إذا قصدتكم وأنتم ملوك. فاغتاظ منه بويه وقال لأولاده : اصفعوا هذا الحكيم فقد أفرط في السخرية بنا. فصفعوه وأخرجوه. ثم خرج أولاد بويه من الديلم وصاروا إلى مرداويج بطبرستان فقبلهم أحسن قبول وخلع عليهم وقلد عماد الدولة علي بن بويه كرج. فاستمال أهلها بالصلات والهبات فأحبوه وملكوه وقوي جنابه واستولى على أصفهان وعظم في عيون الناس وملك أرجان أيضاً. وأنفذ أخاه ركن الدولة الحسن إلى كارزون وغيرها من أعمال فارس. فاستخرج منها أموالاً جليلة وعاد إلى أخيه غانماً سالماً. وفي سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة استولى عماد الدولة علي بن بويه على شيراز وملكها. وفي هذه السنة خلع القاهر في جمادى الأولى وذلك أن لبن مقلة كان مستتراً والقاهر يتطلبه وكان يراسل قواد الساجية والحجرية ويخوفهم من شر القاهر ويذكر لهم غدره ونكثه مرة بعد أخرى كقتل مؤنس وبليق وابنه بعد الإيمان لهم إلى غير ذلك. وكان ابن مقلة يجتمع بسيما زعيم الساجية تارةً في زي أعمى وتارةً في زي مكد وتارة في زي امرأة ويغريه بالقاهر. ثم إن ابن مقلة أعطى منجماً كان لسيما مائتي دينار. وكان يذكر أن طالعه يقتضي أن ينكبه القاهر. وأعطى أيضاً شيئاً لمعبر كان لسيما يعبر لهالمنامات وكان يحذره من القاهر. فازداد نفوراً. فاتفق مع أصحابه ومع الحجرية على خلع القاهر. وبلغ ذلك الوزير فأرسل الحاجب سلاماً وعيسى الطبيب ليعلماه بذلك فوجداه نائماً قد شرب أكثر ليلته فلم يقدرا على إعلامه بذلك. فزحف الحجرية والساجية إلى الدار. ولما سمع القاهر الأصوات والغلبة استيقظ وهو مخمور وطلب باباً يهرب منه فقيل له : أن الأبواب جميعها مشحونة بالرجال. فهرب إلى سطح حمام. فأخذوه من هناك وحبسوه وكانت خلافته عاماً واحداً وسبعة أشهر. ثم عاش خاملاً إلى أن مات سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة.
عيسى الطبيب المذكور ههنا هو ابن يوسف المعروف بابن العطار كان متطبب القاهر وثقته ومشيره وسفيره بينه وبين وزرائه وتقدم في وقته تقدماً كثيراً. وشاركه سنان ابن ثابت بن قرة في الطب وكان خصيصاً بالقاهر وكان عيسى أشد تقدماً منه. ولكثرة اغتباط القاهر بسنان أراده على الإسلام فامتنع امتناعاً شديداً كثيراً. فتهدده القاهر فخافه لشدة سطوته فأسلم وأقام مدة. ثم رأى من القاهر أنه إذا أمره بشيء أخافه فانهزم إلى خراسان وعاد توفي ببغداد في سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة. ومن ظريف ما جرى لسنان في امتحان الأطباء عند تقدم الخليفة إليه بذلك أنه أحضر إليه رجل مليح البشرة والهيئة ذو هيبة ووقار فأكرمه سنان على موجب منظره ورفعته. ثم التفت إليه سنان فقال : قد اشتهيت أن أسمع من الشيخ شيئاً أحفظه عنه وأن يذكر شيخه في الصناعة. فأخرج الشيخ من كمه قرطاساً فيه دنانير صالحة ووضعها بين يدي سنان وقال : والله ما أحسن أكتب ولا أقرأ شيئاً جملةً ولي عيال ومعاشي دار دائره وأسألك أن لا تقطعه عني. فضحك سنان وقال : على شريطة أنك لا تهجم على مريض بما لا تعلم ولا تشير بفصد ولا بدواء مسهل إلا بما قرب من الأمراض. قال الشيخ : هذا مذهبي مذ كنت ما تعديت السكنجبين والجلاب. وانصرف. ولما كان من الغد حضر إليه غلام شاب حسن البزة مليح الوجه ذكي. فنظر إليه سنان فقال له : على من قرأت. قال : على أبي. قال : ومن يكون أبوك. قال : الشيخ الذي كان عندك بالأمس. قال : نعم الشيخ. وأنت على مذهبه. قال : نعم. قال : لا تتجاوزه وانصرف مصاحباً. ولسنان تصانيف جيدة وكان قوياً في علم الهيئة وله في ذلك أشياء ظاهرة تغني عن الإطالة بذكرها.
الراضي بن المقتدر “
لما قبضوا القاهر سألوا عن المكان الذي فيه أبو العباس أحمد بن المقتدر فدلوهم عليه فقصدوه وفتحوا عليه ودخلوا فسلموا بالخلافة وأخرجوه وأجلسوه على السرير ولقبوه الراضي بالله يوم الأربعاء لست خلون من جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وبايعه القواد والناس. وأرادوا علي بن عيسى على الوزارة فقال الراضي : إن الوقت لا يحتمل أخلاق علي وابن مقلة أليق بالوقت. فأحضره واستوزره. فلما استوزر أحسن إلى كل من أساء إليه وأحسن سيرته. وفي سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة عظم أمر الحنابلة وقويت شوكتهم وصاروا يكبسون دور القواد والعامة وإن وجدوا نبيذاً أراقوه وإن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء فأرهجوا بغداد. وركب صاحب الشرطة ونادى في جانبي بغداد ألا يجتمع من الحنابلة اثنان ولا يصلي منهم إمام إلا جهر ببسم الله الرحمن الرحيم في صلاة الصبح والعشائين. فلم يفد فيهم. فخرج توقيع الراضي بما يقرأ على الحنابلة ينكر عليهم فعلهم ويوبخهم على اعتقاد التشبيه وغيره. فمنه : إنكم تارةً تزعمون أن صورة وجوهكم القبيحة السمجة على مثال رب العالمين وتذكرون الكف والأصابع والرجلين والنعلين الذهب والشعر القطط والنزول إلى الدنيا. فلعن الله شيطاناً زين لكم هذه المنكرات ما أغواه. وأمير المؤمنين يقسم بالله جهداً ألية يلزمه الوفاء بها لئن لم تنتهوا عن مذموم مذهبكم ومعوج طريقكم هذه ليوسعنكم ضرباً وتشديداً وقتلاً وليستعملن السيف في رقابكم والنار في منازلكم ومحالكم. وفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة ألجأت الضرورة الراضي إلى أن قلد أبا بكر محمد بن رائق إمارة الجيش وجعله أمير الأمراء وولاه الخراج والمعاون والدواوين في جميع البلاد وأمر أن يخطب له على جميع المنابر وبطلت الوزارة من ذلك الوقت فلم يكن الوزير ينظر في شيء من الأمور إنما كان ابن رائق وكاتبه ينظران في الأمور جميعاً وكذلك كل من تولى إمرة الأمراء بعده وصارت الأموال تحمل إلى خزائنهم فيتصرفون فيها كما يريدون ويطلقون للخليفة ما يريدون. وفي سنة ست وعشرين وثلاثمائة استولى معز الدولة أبو الحسن أحمد بن بويه على الأهواز. وفيها كتب أبو علي بن مقلة إلى الراضي يشير عليه بالقبض على ابن رائق وأصحابه ويضمن أنه يستخرج منهم ثلاثة آلاف ألف ألف دينار وأشار عليه بإقامة بجكم مقام ابن رائق وطلب ابن مقلة من الراضي أن ينتقل ويقيم عنده بدار الخليفة فأذن له في ذلك. فلما حصل بدار الخليفة اعتقله في حجرة وعرض على ابن رائق خط ابن مقلة. فشكر الراضي. وما زال ابن رائق يلح في طلب ابن مقلة حتى أخرج من مجسه وقطعت يده. ثم عولج فبرأ فعاد يكاتب الراضي ويخطب الوزارة ويذكر أن قطع يده لم يمنعه عن عمله وكان يشد القلم على يده المقطوعة ويكتب ويهدد ابن رائق. فأمر الراضي بقطع لسانه. ثم نقل إلى محبس ضيق ولم يكن عنده من يخدمه فآل به الحال إلى أنه كان يستقي الماء بيده اليسرى ويمسك الحبل بفمه.و لحقه شقاء شديد إلى أن مات. وفيها دخل بغداد ولقي الراضي وقلده إمرة الأمراء مكان ابن رائق. وفي سنة تسع وعشرين وثلاثمائة مات الراضي بالله بالاستسقاء في منتصف ربيع الأول وكانت خلافته ست سنين وعشرة أشهر وكان أديباً شاعراً سمحاً سخياً يحب محادثة الأدباء والفضلاء والجلوس معهم.
و كان ببغداد في خلافة الراضي بعد سنة عشرين وثلاثمائة وقبل سنة ثلاثين متى لبن يونس المنطقي النصراني عالم بالمنطق شارح له مكثر وطي الكلام قصده التعليم والتفهيم وهو من أهل دير قنى ممن نشأ في اسكول مار ماري قرأ على روفيل وبنيامين الراهبين اليعقوبيين. ومتى نسطوري النحلة ذكره محمد بن اسحق النديم في كتابه وقال : إليه انتهت رئاسة المنطقيين في عصره ومصره.
“ المتّقي بن المقتدر “
لما مات الراضي كان بجكم بالكوفة فورد كتابه مع الكوفي كاتبه يأمر فيه أن يجتمع مع أبي القاسم وزير الراضي العلويون والقضاة والعباسيون ووجوه البلد ويشاورهم الكوفي فيمن ينصب للخلافة. فاتفقوا كلهم على ابراهيم ابن المقتدر وبايعوه ولقبوه المتقي لله وسير الخلع واللواء إلى بجكم إلى واسط وأقر سليمان على وزارته وليس له منها إلا اسمها وإنما التدبير كله إلى الكوفي كاتب بجكم. وفي هذه السنة وهي سنة تسع وعشرين وثلاثمائة قتل بجكم قتله الأكراد وهو يتصيد في نهر جور. ولما قتل بجكم دخل أبو عبيد الله البريدي بغداد فنزل بالشفيعي ولقيه الوزير والقضاة والكتاب وأعيان الناس فأنفذ إليه المتقي يهنئه بسلامته وأنفذ له طعاماً عدة ليال ثم أنفذ البريدي إلى المتقي يطلب خمسمائة ألف دينار ليفرقها في الجند. فامتنع عليه. فأرسل إليه يتهدده ويذكره ما جرى على المعتز والمستعين والمهتدي. فأنفذ إليه تمام خمسمائة ألف دينار ولم يلق البريدي المتقي مدة مقامته ببغداد. فلما حصل المال في يد البريدي لم يؤثر الجند من المال بطائل فشغبوا عليه وحاربوه فهرب منهم هو وأخوه وابنه وأصحابه وانحدروا في الماء إلى واسط واستولى كورتكين الديلمي على الأمور ببغداد ودخل إلى المتقي فقلده إمارة الأمراء وخلع عليه. وبعد قليل عاد محمد بن رائق من الشام إلى بغداد وصار أمير الأمراء. وفي سنة ثلاثين وثلاثمائة قتل ابن رائق وقلد ناصر الدولة ابن حمدان أمرة الأمراء وخلع على أخيه أبي الحسن علي ولقبه سيف الدولة. وبعد قليل ثار الأتراك بسيف الدولة فكبسوه ليلاً فهرب من معسكره فلما بلغ الخبر أخاه ناصر الدولة سار إلى الموصل وكانت إمارته ثلاثة عشر شهراً وتولى توزون إمارة الأمراء. وفي سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة توفي السعيد نصر بن حمدان بن اسمعيل صاحب خراسان وما وراء النهر وكان حليماً كريماً عاقلاً. وحكي عنه أنه طال مرضه فبقي به ثلاثة عشر شهراً فبنى له في قصره بيتاً وسماه بيت العبادة فكان يلبس ثياباً نظافاً ويمشي إليه حافياً ويصلي فيه ويدعو ويتضرع وتجنب المنكرات والآثام إلى أن مات. وتولى بعده خراسان وما وراء النهر ابنه نوح ولقب الأمير الحميد. وفيها خلع المتقي على توزون الأمير التركي وجعله أمير الأمراء. وفيها أرسل ملك الروم إلى المتقي يطلب منه منديلاً مسح بها المسيح وجهه فصارت صورة وجهه فيها وإنها في بيعة الرها وذكر أنه إن أرسلها إليه أطلق عدداً كثيراً من أسارى المسلمين. فاستفتى المتقي القضاة والفقهاء فأنكر بعضهم تسليمها وأجاب بعضهم قائلاً : إن خلاص المسلمين من الأسر والضر والضنك الذي هم فيه أوجب. فأمر المتقي بتسليم المنديل إلى الرسل وأرسل معهم من يتسلم الأسارى. وفي سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة ظهر ببغداد لص فأعجز الناس فأمنه ابن شيرزاد وهو من أكابر قواد توزون وخلع عليه وشرط عليه أن يوصل كل شهر خمسة عشر ألف دينار مما يسرقه هو وأصحابه وكان يستوفيها منه بالرواتب وهذا ما لم يسمع بمثله من شره. وفيها ازداد خوف المتقي من توزون أمير الأمراء وكان توزون بواسط فأنفذ المتقي يطلب من ناصر الدولة ابن حمدان إنفاذ جيش ليصحبوه إلى الموصل فأنفذهم مع ابن عمه. فخرج المتقي إليهم في حرمه وأهله ووزيره وساروا إلى الموصل وأقام المتقي بها عند ابن حمدان ثم سار منها إلى الرقة وأنفذ رسلاً إلى توزون في الصلح. فحلف توزون للخليفة والوزير وانحدر المتقي من الرقة في الفرات فلما وصل إلى هيت أقام بها وأنفذ من يجدد اليمين على توزون. فعاد وحلف وسار عن بغداد ليلتقي المتقي فالتقاه بالسندية ونزل وقبل الأرض وقال : ها انا قد وفيت بيميني والطاعة لك. ثم وكل به وبالوزير وبالجماعة وأنزلهم في مضرب نفسه مع حرم المتقي ثم كحله فأذهب عينيه وعمي المتقي. وانحدر توزون من الغد إلى بغداد والجماعة في قبضته. فكانت خلافة المتقي ثلاث سنين وستة أشهر.
“ المستكفي بن المكتفي “
لما قبض توزون على المتقي أحضر المستكفي بالله وهو أبو القاسم عبد الله بن المكتفي إليه إلى السندية وبايعه هو وعامة الناس في سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. وكان سبب البيعة له ما حكاه بعض خواص توزون قال : إنني دعاني صديق لي فمضيت إليه فذكر لي أنه تزوج إلى قوم وأن امرأة منهم قالت له أن هذا المتقي قد عاداكم وعاديتموه وكاشفكم ولا يصفو قلبه لكم وههنا رجل من أولاد الخلافة وذكرت عقله ودينه تنصبونه للخلافة فيكون صنيعكم وغرسكم ويدلكم على أموال جليلة لا يعرفها غيره وتستريحون من الخوف والحراسة. فقلت له : أريد أن أسمع كلام المرأة. فجاءني بها ورأيت امرأة عاقلة جزلة. فذكرت لي نحواً من ذلك وأحضرت الرجل أيضاً عندي في زي امرأة فعرفني نفسه وضمن إظهار ثمانمائة ألف دينار وخاطبني خطاب رجل لبيب فهم. فأتيت توزوت فأخبرته فوقع الكلام في قلبه وجرى ما جرى. وصارت تلك المرأة قهرمانة المستكفي وسمت نفسها علم وغلبت على أمره كله. وفيها سار سيف الدولة إلى حلب فملكها وكان مع المتقي بالرقة فلما عاد المتقي إلى بغداد قصد سيف الدولة حلب واستولى عليها ثم سار منها إلى حمص فلقيه بها عسكر الإخشيد محمد بن طغج صاحب مصر والشام مع مولاه كافور فاقتتلوا فانهزم عسكر الإخشيد وكافور وملك سيف الدولة مدينة حمص. وسار إلى دمشق فحاصرها فلم يفتحها أهلها له فرجع عنها. وفي سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة في المحرم مات توزون في داره ببغداد. فاجتمع الأجناد وعقدوا الئاسة عليهم لزيرك بن شيرزاد وحلفوا له وحلف له المستكفي ودخل إليه ابن شيرزاد وعاد مكرماً يخاطب بأمير الأمراء. وبعد مدة يسيرة قدم معز الدولة بن بويه إلى بغداد واختفى المستكفي وابن شيرزاد. فلما استتر سار الأتراك الذين في خدمته إلى الموصل. فلما بعدوا ظهر المستكفي وعاد إلى دار الخلافة وأظهر السرور بقدوم معز الدولة ودخل إليه معز الدولة بن بويه وبايعه وحلف له المستكفي. وظهر ابن شيرزاد أيضاً ولقي معز الدولة فولاه أمر الخراج وجباية الأموال. وكانت إمارة ابن شيرزاد ثلاثة أشهر وعشرين يوماً. وخلع المستكفي على معز الدولة ولقبه ذلك اليوم معز الدولة ولقب أخاه علياً عماد الدولة ولقب أخاه الحسن ركن الدولة وأمر أن يضرب ألقابهم وكناهم على الدراهم والدنانير. وفي هذه السنة بلغ معز الدولة أن علم قهرمانة المستكفي عازمة على إزالته فحضر معز الدولة والناس عند الخليفة في اثنين وعشرين من جمادى الآخرة ثم حضر رجلان من نقباء الديلم فتناولا يد المستكفي فظن أنهما يريدان تقبيلها فمدها إليهما فجذباه عن سريره وجعلا عمامته في حلقه وساقاه ماشياً إلى دار معز الدولة فاعتقل بها. وأخذت علم القهرمانة فقطع لسانها. وكانت مدة خلافة المستكفي سنة واحدة وأربعة أشهر وما زال مغلوباً على أمره مع توزون وابن شيرزاد. ولما بويع المطيع سلم إليه المستكفي فسمله وأعماه وبقي محبوساً إلى أن مات.
و كان في هذا الزمان من الأطباء المشهورين هلال بن ابراهيم ابن زهرون الصابئ الحراني الطبيب نزيل بغداد وكان حاذقاً عاقلاً صالح العلاج متفنناً تقدم عند أجلاء بغداد وخالطهم بصناعته وخدم أمير الأمراء توزون. وحكى عنه ولده ابراهيم قال : رأيت والدي في يوم من أيام خدمته لتوزون وقد خلع عليه وحمله على بغل حسن بمركب ثقيل ووصله بخمسة آلاف درهم وهو مع ذلك مشغول القلب منقسم الفكر. فقلت له : ما لي أراك يا سيدي مهموماً ويجب أن تكون في مثل هذا اليوم مسروراً. فقال : يا ابني هذا الرجل يعني توزون جاهل يضع الأشياء في غير موضعها ولست أفرح بما يأتيني منه من جميلة عن غير معرفة. أتدري ما سبب هذه الخلعة. قلت : لا. قال : سقيته دواءً مسهلاً فحاف عليه فأسحجه فقام عدة مرار مجالس دماً عبيطاً حتى تداركته بما أزال ذلك عنه وكفي المحذور فيه فاعتقده بجهله أن في خروج ذلك الدم صلاحاً له فأنعم علي بما تراه ولست آمن أن يستشعر في السوء من غير استحقاق فتلحقني منه الأذية.
“ المطيع بن المقتدر “
هو أبو القاسم الفضل بن المقتدر. بويع له يوم الخميس ثاني عشر جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة وازداد أمر الخلافة إدباراً ولم يبق بيد المطيع إلا ما أقطعه معز الدولة مما يقوم ببعض حاجاته. وفي هذه السنة في ذي الحجة مات الأخشيد صاحب ديار مصر بدمشق وولي الأمر بعده ابنه أبو جور واستولى على الأمر كافور الخادم الأسود. فسار كافور إلى مصر. فقصد سيف الدولة دمشق فملكها. ثم جاء كافور من مصر فأخرج أهل دمشق سيف الدولة عنهم. وفي سنة سبع وثلاثين سار سيف الدولة بن حمدان إلى بلد الروم فلقيه الروم واقتتلوا فانهزم سيف الدولة وأخذ الروم مرعش وأوقعوا بأهل طرسوس. وفي سنة ثماني وثلاثين وثلاثمائة توالت على عماد الدولة علي بن بويه الأسقام بمدينة شيراز فلما أحس بالموت ولم يكن له ولد أنفذ إلى أخيه ركن الدولة يطلب منه أن ينفذ إليه لبنه عضد الدولة فناخسروا ليجعله ولي عهده.فوصل إليه فأجلسه في داره على السرير ووقف هو بين يديه وأمر الناس بالانقياد له وكان يوماً عظيماً مشهوداً. وفي سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة دخل سيف الدولة بن حمدان إلى بلاد الروم فغزا وأوغل فيها وسبى وغنم. فلما أراد الخروج أخذو عليه المضايق فهلك من كان معه من المسلمين أسراً وقتلاً واسترد الروم الغنائم والسبي وغنموا أثقال وأموالهم ونجا سيف الدولة في عدد يسير. وفي سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة مات الأمير نوح بن نصر الساماني في ربيع الآخر وملك خراسان بعده ابنه عبد الملك. وفيها غزا سيف الدولة ابن حمدان بلاد الروم وقتل ابن نيقيفور الدمستق فعظم الأمر عليه.فجمع عساكر كثيرة من الروم والروس والبلغار وقصد الثغور فسار إليه سيف الدولة فالتقوا واشتد القتال بينهم وصبر الفريقان. ثم انتصر المسلمون وانهزم الروم واستؤسر صهر الدمستق وابن ابنته. وفي سنة تسع وأربعين وثلاثمائة غزا أيضاً سيف الدولة بلاد الروم وسبى وغنم وأسر وبلغ إلى خرشنة. ثم إن الروم أخذوا عليه المضايق فلما أراد الرجوع قال له من معه من أهل طرسوس : الرأي أن لا تعود في الدرب الذي دخلت منه ولكن ترجع معنا في مسالك نعرفها. فلم يقبل منهم وكان معجباً برأيه يحب أن يستبد ولا يشاور أحداً لئلا يقال أنه أصاب برأي غيره وعاد في الدرب الذي دخل منه. فظهر الروم عليه واستردوا ما معه من الغنائم ووضعوا السيف في أصحابه فأتوا عليهم قتلاً وأسراً وتخلص هو في ثلاثمائة رجل بعد جهدٍ ومشقةٍ. وفي سنة خمسين وثلاثمائة سقط الفرس تحت عبد الملك بن نوح صاحب خراسان فمات من سقطته. وولي بعده أخوه منصور ابن نوح. وفي سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة في المحرم نزل الروم مع الدمستق على عين زربة وفتحوها بالأمان فدخلها ونادى في البلد أول الليل بأن يخرج جميع أهلها إلى المسجد ومن تأخر في منزله قتل. فخرج من أمكنه الخروج. فلما أصبح أنفذ رجاله وكانوا ستين ألفاً فقتلوا خلقاً كثيراً من الرجال والنساء والصبيان ممن وجدوه خارج المسجد. وأمر من في المسجد بأن يخرجوا من البلد حيث شاؤوا يومهم ذلك ومن أمسى قتل. فخرجوا مزدحمين فمات بالزحمة جماعةٌ ومروا على وجوههم لا يدرون أين يتوجهون فماتوا في الطرقات وقتل الروم من وجدوه بالمدينة آخر النهار. فلما أدرك الصوم انصرف الروم إلى القيسارية على أن يعودوا بعد العيد. وفيها استولى الروم على مدينة حلب وعادوا عنها بغير سبب. وفيها ملك الروم عليهم نيقيفور الدمستق وجعلوا شخصاً يسمى شوموشقيق دمستقاً له. وفي سنة أربع وخمسين وثلاثمائة فتح الروم مصيصة وطرسوس. وفي سنة ست خمسين وثلاثمائة مات معز الدولة بن بويه ببغداد وجلس ابنه بختيار في الإمارة ولقب عز الدولة. وكانت إحدى يدي عز الدولة مقطوعة قطعت في بعض الحروب. وفيها قبض أبو تغلب على أبيه ناصر الدولة بن حمدان وحبسه في القلعة لأنه كان قد كبر فساءت أخلاقه وضيق على أولاده وخالفهم في أغراضهم للمصلحة فضجروا منه. وفي سنة سبع وخمسين وثلاثمائة ملك الروم مدينة إنطاكية. وفي سنة إحدى وستين وثلاثمائة سار المعز لدين الله العلوي صاحب بلاد المغرب من إفريقية يريد الديار المصرية فأقام قريباً من مدينة قيروان ولحقه رجاله وعماله وأهل جميع ما كان له في قصره من الأموال والأمتعة حتى ان الدنانير سبكت وجعلت كهيئة الطواحين وحمل كل طاحونتين على جمل ثم سار حتى وصل إلى الإسكندرية. وأتاه أهل مصر وأعيانها فلقيهم وأكرمهم وأحسن إليهم وسار فدخل القاهرة خامس شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وملك الديار المصرية بلا ضربٍ ولا طعنٍ. وفي سنة اثنتين وستين وثلاثمائة سار الدمستق إلى آمد وبها هزارمرد غلام أبي الهيجاء بن حمدان. فكتب إلى أبي تغلب يستصرخه ويستنجده. فسير إليه أخاه هبة الله بن ناصر الدولة فاجتمعا على حرب الدمستق وسارا إليه فالتقياه سلخ رمضان وكان الدمستق في كثرة ولقياه في مضيق لا تجول فيه الخيل. والروم على غير أهبة الحرب فانهزموا. وأخذ المسلمون الدمستق أسيراً ولم يزل محبوساً إلى أن مرض سنة ثلاث وستين وثلاثمائة فبالغ أبو تغلب في علاجه وجمع الأطباء فلم ينفعه ذلك ومات. وفي سنة ثلاث وستين في منتصف ذي القعدة خلع المطيع نفسه من الخلافة وسلمها إلى ولده الطائع لله فكانت مدة خلافته تسعاً وعشرين سنة وخمسة أشهر.يته وجميع ما كان له في قصره من الأموال والأمتعة حتى ان الدنانير سبكت وجعلت كهيئة الطواحين وحمل كل طاحونتين على جمل ثم سار حتى وصل إلى الإسكندرية. وأتاه أهل مصر وأعيانها فلقيهم وأكرمهم وأحسن إليهم وسار فدخل القاهرة خامس شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وملك الديار المصرية بلا ضربٍ ولا طعنٍ. وفي سنة اثنتين وستين وثلاثمائة سار الدمستق إلى آمد وبها هزارمرد غلام أبي الهيجاء بن حمدان. فكتب إلى أبي تغلب يستصرخه ويستنجده. فسير إليه أخاه هبة الله بن ناصر الدولة فاجتمعا على حرب الدمستق وسارا إليه فالتقياه سلخ رمضان وكان الدمستق في كثرة ولقياه في مضيق لا تجول فيه الخيل. والروم على غير أهبة الحرب فانهزموا. وأخذ المسلمون الدمستق أسيراً ولم يزل محبوساً إلى أن مرض سنة ثلاث وستين وثلاثمائة فبالغ أبو تغلب في علاجه وجمع الأطباء فلم ينفعه ذلك ومات. وفي سنة ثلاث وستين في منتصف ذي القعدة خلع المطيع نفسه من الخلافة وسلمها إلى ولده الطائع لله فكانت مدة خلافته تسعاً وعشرين سنة وخمسة أشهر.
و في سنة تسعٍ وثلاثين وثلاثمائة توفي محمد بن محمد بن طرخان أبو نصر الفارابي بمدينة دمشق. وفاراب هي إحدى مدن الترك فيما وراء النهر. ودخل أبو نصر العراق واستوطن بغداد وقرأ بها العلم الحكمي على يوحنا بن حيلان المتوفي في أيام المقتدر واستفاد منه وبرز في ذلك على أقرانه وأربى عليهم في التحقيق وأظهر الغوامض المنطقية وكشف سرها وقرب متناولها وجمع ما يحتاج إليه منها في كتبٍصحيحة العبارة لطيفة الإشارة منبهةٍ على ما أغفله الكندي وغيره من صناعة التحليل وأنحاء التعاليم فجاءت كتبه المنطقية والطبيغية والإلهية والسياسية الغاية الكافية والنهاية الفاضلة. وكان أبو نصر الفارابي معاصراً لأبي بشر متى بن يونس إلا أنه كان دونه في السن وفوقه في العلم. وقدم أبو نصر الفارابي على سيف الدولة أبي الحسن علي بن أبي الهيجاء بن حمدان إلى حلب وأقام في كنفه مدة بزي أهل التصوف وقدمه سيف الدولة وأكرمه وعرف موضعه من العلم ومنزلته من الفهم ورحل في صحبته إلى دمشق فأدركه أجله بها.
وكان في أيام المطيع لله وفي إمارة الأقطع معز الدولة أحمد بن بويه ثابت بن سنان ابن ثابت بن قرة وكان بارعاً في الطب عالماً بأصوله فكاكاً للمشكلات من الكتب. وكان يتولى تدبير البيمارستان ببغداد في وقته. وعمل ثابت هذا كتاب التاريخ المشهور في الآفاق الذي ما كتب كتاب في التاريخ أكثر مما كتبه وهو من سنة نيف وتسعين ومائتين إلى حين وفاته في شهور سنة ثلاث وستين وثلاثمائة. وعليه ذيل ابن أخته هلال ولولاهما لجهل شيءٌ كثيرٌ من التاريخ في المدتين. وفي هذا الزمان اشتهر يحيى بن عدي بن حميد ابن زكريا التكريتي المنطقي نزيل بغداد. إليه انتهت رئاسة أهل المنطق في زمانه. قرأ على أبي نصر الفارابي. وكان نصرانياً يعقوبي النحلة وكان ملازماً للنسخ بيده كتب كثيراً من الكتب وكان يكتب خطاً قاعداً بيناً في اليوم والليلة مائة ورقة وأكثر. وله تصانيف وتفاسير ونقول عدة. ومات ثالث عشر آب سنة ألف ومائتين وخمس وثمانين للإسكندر ودفن في بيعة القطيعة ببغداد وكان عمره إحدى وثمانين سنة شمسية.
“ الطائع بن المطيع “
واسمه أبو الفضل عبد الكريم وسبب خلافته أن أباه المطيع لحقه فالج ثقل لسانه منه وتعذرت الحركة عليه وهو يستر ذلك. فانكشف حاله لسبكتكين فدعاه إلى أن يخلع نفسه ويسلم الخلافة إلى ولده الطائع لله ففعل ذلك في سنة ثلاث وستين وثلاثمائة. وفيها خطب للمعز لدين الله العلوي صاحب مصر بمكة والمدينة في الموسم. وفيها وصل عضد الدولة واستولى على العراق وقبض على بختيار ثم عاد فأخرجه وعاد بختيار إلى مكة كما كان أمير الأمراء. وفي سنة خمس وستين وثلاثمائة مات المعز العلوي بمصر وهو أول الخلفاء العلويين ملك مصر واستخلف عليها ابنه العزيز. وفي سنة ست وستين وثلاثمائة في المحرم توفي ركن الدولة أبو علي الحسن بن بويه واستخلف على ممالكه ابنه عضد الدولة. وفيها مات منصور بن نوح صاحب خراسان ببخارا وولي الأمر بعده ابنه نوح. وفي سنة سبع وستين سار عضد الدولة إلى بغداد وأرسل إلى بختيار يدعو إلى طاعته وأن يسير عن العراق إلى أي جهةٍ أراد إلا الموصل. فخرج بختيار عن بغداد عازماً على قصد الشام. ودخل عضد الدولة بغداد وخطب له فيها بخلاف العادة وضرب على بابه ثلث نوب ولم تجر بذلك عادة من تقدمه. وأما بختيار لما سار عن بغداد إلى الحديثة أتاه أبو تغلب في عشرين ألف مقاتل ووسارا جميعاً نحو العراق. فبلغ ذلك عضد الدولة فسار عن بغداد نحوهما. فالتقوا بنواحي تكريت فهزمهما وأسر بختيار وقتله. وسار نحو الموصل واستولى على ملك بني حمدان. وسار أبو تغلب ابن ناصر الدولة بن حمدان إلى الشام فوصل إلى دمشق وقتل بها.و في سنة تسع وستين وثلاثمائة راسل عضد الدولة أخويه فخر الدولة ومؤيد الدولة يدعوهما إلى طاعته وموافقته. أما مؤيد الدولة فأجاب راغباً وأما فخر الدولة فأجاب جواب المناظر المناوي فنقم عليه عضد الدولة ذلك وسار نحو همذان وبها فخر الدولة فخافه ذاكراً قتل ابن عمه بختيار فخرج هارباً وقصد جرجان فنزل على شمس المعالي قابوس بن وشمكير والتجأ إليه فأمنه وآواه وحمل إليه فوق ما حدثته به نفسه. وفي هذه السفرة حدث لعضد الدولة صرع وكان هذا قد أخذه بالموصل فكتمه وصار كثير النسيان لا يذكر الشيء إلا بعد جهدٍ وكتم ذلك أيضاً. وهذا دأب الدنيا لا تصفو لأحد. وفيها شرع عضد الدولة في عمارة بغداد وكانت قد خربت بتوالي الفتن فيها وعمر مساجدها وأسواقها وأدر الأموال على الأئمة والعلماء والقراء والغرباء والضعفاء الذين يأوون إلى المساجد. وجدد ما دثر من الأنهار وأعاد حفرها وتسويتها. وفيها تجددت وصلة بين الطائع لله وبين عضد الدولة فتزوج الطائع ابنته وكان غرض عضد الدولة أن تلد ابنته ولداً ذكراً فيجعله ولي عهده فتكون الخلافة في ولدٍ لهم فيه نسب وكان الصداق مائة ألف دينار. وفيها كانت فتنة عظيمة بين عامة شيراز من المسلمين والمجوس ونهبت فيها دور المجوس وضربوا وقتل منهم جماعة فسير إليهم عضد الدولة من جمع له كل من له في ذلك أثر وضربهم وبالغ في تأديبهم وزجرهم. وفي سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة فتح البيمارستان العضدي غربي بغداد ونقل إليه جميع ما يحتاج إليه من الأدوية. وفيها أرسل عضد الدولة القاضي أبا بكر المعروف بابن الباقلاني رسولاً إلى ملك الروم فلما وصل قيل له ليقبل الأرض بين يديه فامتنع. فعمل الملك باباً صغيراً ليدخل منه القاضي منحنياً. فلما رأى القاضي الباب علم ذلك فاستدبره ودخل منه. فلما دخل وجازه استقبل الملك قائماً. وفي سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة اشتد الصرع الذي كان يعتاده عضد الدولة فخنقه فمات منه ثامن شوال ببغداد. وكانت ولايته بالعراق خمس سنين ونصفاً. ووجلس ابنه صمصام الدولة أبو كاليجار للعزاء فأتاه الطائع لله معزياً. وكان عمر عضد الدولة سبعاً وأربعين سنة. وكان قد سير ولده شرف الدولة أبا الفوارس إلى كرمان مالكاً لها. وكان عضد الدولة عاقلاً فاضلاً حسن السياسة كثير الإصابة شديد الهيبة بعيد الهمة ثاقب الرأي محباً للفضائل وأهلها باذلاً في مواطن العطاء ومانعاً في أماكن الحرم ناظراً في عواقب الأمور. ولما توفي عضد الدولة ولي الأمر بعده ولده صمصام الدولة أبو كاليجار وخلع على أخويه أبي الحسين أحمد وأبي طاهر فيروزشاه فأقطعهما.
ان أخوهم الآخر شرف الدولة بكرمان فسبقهما إلى شيراز فملكها. وفي سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة مات مؤيد الدولة بجرجان وكانت علته الخوانيق. وعاد فخر الدولة أخوه إلى مملكته واتفق مع صمصام الدولة وصارا يداً واحدةً. وفيها دخل باد الكردي الحميدي إلى الموصل واستولى عليها وقويت شوكته وحدث نفسه بالتغلب على بغداد وإزالة الديلم عنها. فخافه صمصام الدولة وأهمه أمره وشغله عن غيره وجمع العساكر فساروا إلى باد فخرج إليهم ولقيهم في صفر سنة أربع وسبعين فأجلت الوقعة عن هزيمة باد وأصحابه وملك الديلم الموصل. وفي سنة سبع وسبعين سار شرف الدولة أبو الفوارس بن عضد الدولة من الأهواز إلى واسط فملكها. فخافه أخوه صمصام الدولة وسار في طيار إليه في خواصه فلقيه وطيب قلبه فلما خرج من عنده قبض عليه وسار فوصل إلى بغداد في شهر رمضان وأخوه صمصام الدولة معه تحت الاعتقال وكانت إمارته بالعراق أربع سنين. وفي سنة تسع وسبعين وثلاثمائة اعتل شرف الدولة فلما اشتدت علته قيل له : الدولة مع صمصام الدولة على خطر فإن لم تقتله فأسمله. فسمله وحبسه مع أخيه طاهر في بعض القلاع التي بفارس. وفيها في مستهل جمادى الآخرة مات الملك شرف الدولة أبو الفوارس شيرزيل بن عضد الدولة مستسقياً وكانت إمارته بالعراق سنتين وثمانية أشهر وكان عمره ثمانياً وعشرين سنة. وولي الأمر بعده أخوه بهاء الدولة أبو نصر. وأما ابنه أبو علي فكان سيره إلى بلاد فارس وأصحبه الخزائن والعدد وجماعة كثيرة من الأتراك. ثم أن المرتبين في القلعة التي فيها صمصام الدولة وأخوه أبو طاهر لما بلغهم الخبر بموت شرف الدولة أطلقوهما ومعهما فولاذ فساروا إلى شيراز واجتمع على صمصام الدولة وهو أعمى كثير من الديلم واستولى على فارس وملكها. وأما أبو علي بن شرف الدولة فأرسل إليه عمه بهاء الدولة وطيب قلبه ووعده فسار إليه فقبض عليه ثم قتله بعد ذلك بيسير. وفيها ملك أبو طاهر إبراهيم وأبو عبد الله الحسين ابنا ناصر الدولة بن حمدان الموصل. وفي سنة ثمانين وثلاثمائة جمع باد الأكراد وسار نحو الموصل فخرج إليه أبو طاهر والحسين ابنا ناصر الدولة بن حمدان فناوشاه القتال. وأراد بادٌ الانتقال من فرسٍ إلى آخر فسقط فأراده أصحابه على الركوب فلم يقدروا فتركوه وانصرفوا فعرفه بعض العرب فقتله وصلبت جثته على دار الإمارة فثار العامة وقالوا : رجل غاز ولا يحل فعل هذا به فأنزلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه وظهر منهم محبةٌ كثيرةٌ له. ولما قتل باد الكردي سار ابن أخته أبو علي بن مروان في طائفةٍ من الجيش إلى حصن كيفا وهو على دجلة فملكه ونزل فقصد حصناً حصناً حتى ملك ما كان لخاله. وبعد مدةٍ يسيرةٍ قتل بآمد قتله إنسانٌ يقال له ابن دمنة وقف له في الدركاه وضربه بالسكين في مقاتله. وملك ميافارقين بعده أخوه ممهد الدولة بن مروان واستولى على آمد عبد البر شيخ البلد وزوج ابن دمنة قاتل أبي علي ابنته. فعمل له ابن دمنة دعوة وقتله وملك آمد وعمر البلد وأصلح أمره مع ممهد الدولة وهادى ملك الروم وصاحب مصر وغيرهما من الملوك وانتشر ذكره. وفي سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة قبض بهاء الدولة على الطائع بن المطيع. وحمل إلى دار بهاء الدولة فحبس بها وأشهد عليه بالخلع وأخذ بهاء الدولة ما في دار الخلافة من الذخائر فمشى به الحال وكانت مدة خلافة الطائع سبع عشرة سنة وثمانية أشهر ولم يكن له من الحكم في ولايته ما يعرف به حال يستدل به على سيرته.رس. وكان أخوهم الآخر شرف الدولة بكرمان فسبقهما إلى شيراز فملكها. وفي سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة مات مؤيد الدولة بجرجان.
وكانت علته الخوانيق. وعاد فخر الدولة أخوه إلى مملكته واتفق مع صمصام الدولة وصارا يداً واحدةً. وفيها دخل باد الكردي الحميدي إلى الموصل واستولى عليها وقويت شوكته وحدث نفسه بالتغلب على بغداد وإزالة الديلم عنها. فخافه صمصام الدولة وأهمه أمره وشغله عن غيره وجمع العساكر فساروا إلى باد فخرج إليهم ولقيهم في صفر سنة أربع وسبعين فأجلت الوقعة عن هزيمة باد وأصحابه وملك الديلم الموصل. وفي سنة سبع وسبعين سار شرف الدولة أبو الفوارس بن عضد الدولة من الأهواز إلى واسط فملكها. فخافه أخوه صمصام الدولة وسار في طيار إليه في خواصه فلقيه وطيب قلبه فلما خرج من عنده قبض عليه وسار فوصل إلى بغداد في شهر رمضان وأخوه صمصام الدولة معه تحت الاعتقال وكانت إمارته بالعراق أربع سنين. وفي سنة تسع وسبعين وثلاثمائة اعتل شرف الدولة فلما اشتدت علته قيل له : الدولة مع صمصام الدولة على خطر فإن لم تقتله فأسمله. فسمله وحبسه مع أخيه طاهر في بعض القلاع التي بفارس. وفيها في مستهل جمادى الآخرة مات الملك شرف الدولة أبو الفوارس شيرزيل بن عضد الدولة مستسقياً وكانت إمارته بالعراق سنتين وثمانية أشهر وكان عمره ثمانياً وعشرين سنة. وولي الأمر بعده أخوه بهاء الدولة أبو نصر. وأما ابنه أبو علي فكان سيره إلى بلاد فارس وأصحبه الخزائن والعدد وجماعة كثيرة من الأتراك. ثم أن المرتبين في القلعة التي فيها صمصام الدولة وأخوه أبو طاهر لما بلغهم الخبر بموت شرف الدولة أطلقوهما ومعهما فولاذ فساروا إلى شيراز واجتمع على صمصام الدولة وهو أعمى كثير من الديلم واستولى على فارس وملكها. وأما أبو علي بن شرف الدولة فأرسل إليه عمه بهاء الدولة وطيب قلبه ووعده فسار إليه فقبض عليه ثم قتله بعد ذلك بيسير. وفيها ملك أبو طاهر إبراهيم وأبو عبد الله الحسين ابنا ناصر الدولة بن حمدان الموصل. وفي سنة ثمانين وثلاثمائة جمع باد الأكراد وسار نحو الموصل فخرج إليه أبو طاهر والحسين ابنا ناصر الدولة بن حمدان فناوشاه القتال. وأراد بادٌ الانتقال من فرسٍ إلى آخر فسقط فأراده أصحابه على الركوب فلم يقدروا فتركوه وانصرفوا فعرفه بعض العرب فقتله وصلبت جثته على دار الإمارة فثار العامة وقالوا : رجل غاز ولا يحل فعل هذا به فأنزلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه وظهر منهم محبةٌ كثيرةٌ له. ولما قتل باد الكردي سار ابن أخته أبو علي بن مروان في طائفةٍ من الجيش إلى حصن كيفا وهو على دجلة فملكه ونزل فقصد حصناً حصناً حتى ملك ما كان لخاله. وبعد مدةٍ يسيرةٍ قتل بآمد قتله إنسانٌ يقال له ابن دمنة وقف له في الدركاه وضربه بالسكين في مقاتله. وملك ميافارقين بعده أخوه ممهد الدولة بن مروان واستولى على آمد عبد البر شيخ البلد وزوج ابن دمنة قاتل أبي علي ابنته. فعمل له ابن دمنة دعوة وقتله وملك آمد وعمر البلد وأصلح أمره مع ممهد الدولة وهادى ملك الروم وصاحب مصر وغيرهما من الملوك وانتشر ذكره. وفي سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة قبض بهاء الدولة على الطائع بن المطيع. وحمل إلى دار بهاء الدولة فحبس بها وأشهد عليه بالخلع وأخذ بهاء الدولة ما في دار الخلافة من الذخائر فمشى به الحال وكانت مدة خلافة الطائع سبع عشرة سنة وثمانية أشهر ولم يكن له من الحكم في ولايته ما يعرف به حال يستدل به على سيرته.
في سنة تسع وستين وثلاثمائة توفي ثابت بن إبراهيم بن زهرون الحراني الصابىء ببغداد وكان طبيباً حاذقاً مصيباً. حكى عنه أبو الفرج ابن أبي الحسن بن سنان قال : كنت وإبراهيم الحراني يوماً في دار أبي محمد المهلبي الوزير فتقدم أبو عبد الله بن الحجاج الشاعر إلى الحراني فأعطاه مجسه. فقال له : قلت لك غلظ غذاك وأظنك أسرفت وذلك حتى أكلت مضيرة بلحم عجل. فقال : كذلك والله كان. وعجب هو والجماعة منه. ومد إليه أبو العباسالمنجم يده فأخذ مجسه فقال : فأنت يا سيدي أسرفت في التبريد أيضاً وأظنك قد أكلت إحدى عشرة رمانة. فقال أبو العباس المنجم : هذه نبوة لا طب. وزاد الهجب والتفاوض في ذلك. وكنت أنا أيضاً أكثرهم استطرافاً وتعجباً. فلما خرجنا قلت له : يا سيدي أبا الحسن صناعة الطب معروفة بيننا لا يخفى عني شيء منها فبين لي من أين ذلك النص على أن المضيرة كانت بلحم عجل لا بقرة ولا ثور ومن أين لك الدليل على أن عدد الرمان إحدى عشرة. فقال : هو شيءٌ يخطر ببالي فينطق به لساني. فقلت : صدقتني والله إذاً أرني مولدك. وجئت معه إلى الدار ونظرت في مولده فرأيت سهم الغيب في درجة الطالع مع درجة المشتري وسهم السعادة فقلت له : يا عزيزي هذا يتكلم لا أنت وكلما تصيب في الطب من مثل هذا الحدس والقول فهذا سببه وأصله.
وحكي أن عضد الدولة فناخسرو شاهنشاه بن بويه كان إذا افتخر بالعلم والمعلمين يقول : معلمي في الكواكب الثابتة وأماكنها عبد الرحمن الصوفي وفي حل الزيج الشريف ابن الأعلم وفي النحو أبو علي الفارسي. وكان عبد الرحمن بن عمر بن سهل أبو الحسين الصوفي الرازي فاضلاً نبيهاً ومن تصانيفه كتاب الصور السمائية مصور والأرجوزة وكتاب مطارح الشعاعات. وتوفي في سنة ست وسبعين وثلاثمائة وكان عمره خمساً وثمانين سنة. وأما ابن الأعلم فاسمه علي بن الحسين رجل علوي شريف عالم بعلم الهيئة وصناعة التسيير مذكور مشهور في وقته وكان قد تقدم عند عضد الدولة. ولما توفي عضد الدولة نقصت حاله وتأخر أمره عند صمصام الدولة ابنه فانقطع عنهم وأقام منقطعاً وحج في شهور سنة أربع وسبعين وثلاثمائة وفي عودته مات بمنزلةٍ تعرف بالعسيلة. وكان في هذه المدة جماعة صالحة من مشاهير الحكماء منهم التميمي المقدسي الطبيب كان بمصر في حدود سبعين وثلاثمائة أحكم ما علمه من علم الطب غاية الأحكام وكان له غرام وعناية تامة في تركيب الأدوية وعنده غوصٌ واستغراقٌ في طلب غوامض هذا النوع وكان منصفاً في مذاكراته غير راد على أحد إلا بطريق الحقيقة. ومنهم علي بن العباس المجوسي فاضل كامل فارسي الأصل يعرف بأبي ماهر وطالع هو واجتهد وصنف للملك عضد الدولة بن بويه كتابه المسمى بالملكي وهو كتاب جليل وكناش نبيل مال الناس إليه في وقته ولزموا درسه إلى أن ظهر كتاب القانون لابن سينا فمالوا إليه وتركوا الملكي بعض الترك. والملكي في العمل أبلغ والقانون في العلم أثبت. ومنهم نظيف القس الرومي كان طبيباً عالماً بالنقل من اليوناني إلى العربي ولم يكن سعيد المباشرة ولا منجح المعالجة وكان الناس يتطيرون به ويولعون به إذا دخل إلى مريض حتى أنه حكى في بعض أوقاته أن عضد الدولة أنفذه إلى بعض القواد ليعوده في مرض كان عرض له. فلما خرج من عند القائد استدعى القائد ثقته وأنفذه إلى حاجب عضد الدولة يستعلم منه نية الملك فيه. ويقول : إن كان ثم تغير نية فليأخذ له الإذن في الانصراف والبعد فقد قلق لما جرى. وسأله الحاجب عن السبب. فقال : ما أعرف أكثر من أنه جاء نظيف الطبيب وقال له : مولانا الملك أنفذني لعيادتك. فمضى الحاجب وأعاد بحضرة عضد الدولة هذا القول. فضحك وأمره بإعلامه حسن نية الملك فيه وحملت إليه خلع سنية سكنت نفسه بها. ومنهم عبيد الله بن الحسن أبو القاسم المعروف بغلام زحل المنجم مقيم ببغداد من أفاضل الحساب والمنجمين أصحاب الحجج والبراهين وله يدٌ طولى فيما يعانيه من هذا الشأن. ذكر أنه اجتمع يوماً عند أبي سليمان المنطقي جماعةٌ من سادة علماء الأوائل وأخذوا في المذاكرة فذكروا في علم النجامة وقالوا : هي من العلوم التي لا تجدي فائدة ولا يصح لها حكم. فأطالوا القول في ذلك. فقال بعضهم : أيها القوم اختصروا الكلام وقربوا البغية هل تصح الأحكام. فقال غلام زحل : عن هذا جواب يستثبت على كل وجه. فقيل : لم بين. قال لأن صحتها وبطلانها يتعلقان بآثار الفلك وقد يقتضي شكل الفلك في زمان أن لا يصح منها شيء وإن غيص على دقائقها وبلغ إلى أعماقها. وقد يزول ذلك الشكل فيجيء زمان لا يبطل منها شيء فيه وإن قورب في الاستدلال. وقد يتحول هذا الشكل في وقتٍ آخر إلى أن يكثر الصواب فيها والخطأ. ومتى وقف الأمر على هذا الحد فلا يثبت على قولٍ قضاء ولا يوثق بجواب. فقال أبو سليمان المنطقي : هذا أحسن ما يمكن أن يقال في هذا الباب. ومنهم مسكويه أبو علي الخازن من كبار فضلاء العجم وأجلاء فارس له مشاركةٌ حسنةٌ في العلوم الأدبية والعلوم القديمة كان خازناً للملك عضد الدولة بن بويه مأموناً لديه أثيراً عنده. وله تصانيف في العلوم ومناظرات ومحاضرات. وقال أبو علي بن سينا في بعض كتبه وقد ذكر مسألة فقال : وهذه المسألة حاضرت بها أبا علي مسكويه فاستعادها كرات وكان عسر الفهم فتركه ولم يفهمها على الوجه. وعاش زماناً طويلاً إلى أن قارب سنة عشرين وأربعمائة. وحكي أن عضد الدولة لما قدم إلى بغداد قيل له عن أبي الفضل جعفر بن المكتفي بالله أنه من أولاد الخلفاء وأنه فاضل كبير القدر عالم بعلومٍ متعددةٍ من علوم الأوائل متحقق بذلك أتم تحقيق. فاشتاقت نفسه إليه فسير إليه سراً وكان يجتمع به خفية ويأتيه في خفٍ وإزار فإذا حصل في داره أقعده في موضعٍ خالٍ بغير إزار. فإذا خلا عضد الدولة استدعاه فإذا شاهده تطاول له في القيام وأكرمه وخلا به وسأله عن فنه في علم أحكام النجوم وأخبار الحدثان فيخبره من ذلك بما يعجب منه ولا يبعد وقوعه. وتوفي جعفر هذا سنة سبعٍ وسبعين وثلاثمائة. ومن جملة من اختص بشرف الدولة بن عضد الدولة من الحكماء أحمد بن محمد الصاغاني أبو حامد كان فاضلاً في الهندسة وعلم الهيئة وكان ببغداد يحكم الآلات الرصدية غاية الإحكام. ولما بنى شرف الدولة بيت الرصد في طرف بستان دار المملكة وتقدم برصد الكواكب السبعة واعتمد في ذلك على ويجن الكوهي ورصد وكتب مختصرين بصورة الرصد كان ممن شاهد ذلك وكتب خطه بتصحيح نزول الشمس في برجين أحمد بن محمد المنطقي الصاغاني. ومات أحمد هذا سنة تسعٍ وسبعين وثلاثمائة ببغداد. وأما ويجن بن وشم أبو سهل الكوهي فكان حسن المعرفة بالهندسة وعلم الهيئة متقدماً فيهما إلى الغاية المتناهية. وكان رصده لحلول الشمس برجي السرطان والميزان سنة ألفٍ ومائتين وتسعٍ وتسعين للإسكندر. وكان من جملة من حضر هذين الرصدين من العلماء إبراهيم بن هلال بن إبراهيم بن زهرون الصابىء صاحب الرسائل أصل سلفه من حران ونشأ ببغداد وتأدب بها وكان بليغاً في صناعتي النظم والنثر وله يد طولى في علم الرياضة وخصوصاً في الهندسة والهيئة وله فيهما مصنفات. وديوان رسائله مجموه. وخدم ملوك العراق من بني بويه واختلفت به الأيام ما بين رفع ووضع وتقديم وتأخير واعتقال وإطلاق.و توفي سنة أربع وثمانين وثلاثمائة. قال أبو حيان التوحيدي : سألني وزير صمصام الدولة بن عضد الدولة عن زيد بن رفاعة في حدود سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وقال : لا أزال أسمع من زيد بن رفاعة قولاً يريبني ومذهباً لا عهد لي به. وقد بلغني أنك تغشاه وتجلس إليه وتكثر عنده. ومن طالت عشرته لإنسان أمكن اطلاعه على مستكن رأيه. فقلت : أيها الوزير هناك ذكاء غالب وذهن وقاد. قال : فعلى هذا ما مذهبه. قلت : لا ينسب إلى شيء لكنه قد أقام بالبصرة زماناً طويلاً وصادف بها جماعة لأصناف العلم فصحبهم وخدمهم وكانت هذه العصابة قد تألفت بالعشرة وتصافت بالصداقة واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة فوضعوا بينهم مذهباً زعموا أنهم قربوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله وذلك أنهم قالوا : إن الشريعة قد تدنست بالجهالات واختلطت بالضلالات ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال وصنفوا خمسين رسالة في خمسين نوعاً من الحكمة ومقالة حادية وخمسين جامعة لأنواع المقالات على طريق الاختصار والإيجاز وسموها رسائل إخوان الصفا وكتموا فيها أسماءهم وبثوها في الوراقين ووهبوها للناس وحشوا هذه الرسائل بالكلمات الدينية والأمثال الشرعية والحروف المجتمعة والطرق المموهة وهي مبثوثة من كل فنٍ بلا إشباع ولا كفاية وفيها خرافات وكنايات وتلفيقات وتلزيقات فتعبوا وما أغنوا وغنوا وما أطربوا ونسجوا فهلهلوا ومشطوا ففلفلوا وبالجملة فهي مقالات مشوقات غير مستقصاة ولا ظاهرة الأدلة والاحتجاج. ولما كتم مصنفوها أسماءهم اختلف الناس في الذي وضعها فكل قوم قالوا قولاً بطريق الحدس والتخمين. فقوم قالوا : هي من كلام بعض الأئمة العلويين. وقال آخرون : هي تصنيف بعض متكلمي المعتزلة في العصر الأول.ه إليه فسير إليه سراً وكان يجتمع به خفية ويأتيه في خفٍ وإزار فإذا حصل في داره أقعده في موضعٍ خالٍ بغير إزار. فإذا خلا عضد الدولة استدعاه فإذا شاهده تطاول له في القيام وأكرمه وخلا به وسأله عن فنه في علم أحكام النجوم وأخبار الحدثان فيخبره من ذلك بما يعجب منه ولا يبعد وقوعه. وتوفي جعفر هذا سنة سبعٍ وسبعين وثلاثمائة. ومن جملة من اختص بشرف الدولة بن عضد الدولة من الحكماء أحمد بن محمد الصاغاني أبو حامد كان فاضلاً في الهندسة وعلم الهيئة وكان ببغداد يحكم الآلات الرصدية غاية الإحكام. ولما بنى شرف الدولة بيت الرصد في طرف بستان دار المملكة وتقدم برصد الكواكب السبعة واعتمد في ذلك على ويجن الكوهي ورصد وكتب مختصرين بصورة الرصد كان ممن شاهد ذلك وكتب خطه بتصحيح نزول الشمس في برجين أحمد بن محمد المنطقي الصاغاني. ومات أحمد هذا سنة تسعٍ وسبعين وثلاثمائة ببغداد. وأما ويجن بن وشم أبو سهل الكوهي فكان حسن المعرفة بالهندسة وعلم الهيئة متقدماً فيهما إلى الغاية المتناهية. وكان رصده لحلول الشمس برجي السرطان والميزان سنة ألفٍ ومائتين وتسعٍ وتسعين للإسكندر. وكان من جملة من حضر هذين الرصدين من العلماء إبراهيم بن هلال بن إبراهيم بن زهرون الصابىء صاحب الرسائل أصل سلفه من حران ونشأ ببغداد وتأدب بها وكان بليغاً في صناعتي النظم والنثر وله يد طولى في علم الرياضة وخصوصاً في الهندسة والهيئة وله فيهما مصنفات. وديوان رسائله مجموه. وخدم ملوك العراق من بني بويه واختلفت به الأيام ما بين رفع ووضع وتقديم وتأخير واعتقال وإطلاق.و توفي سنة أربع وثمانين وثلاثمائة. قال أبو حيان التوحيدي : سألني وزير صمصام الدولة بن عضد الدولة عن زيد بن رفاعة في حدود سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وقال : لا أزال أسمع من زيد بن رفاعة قولاً يريبني ومذهباً لا عهد لي به. وقد بلغني أنك تغشاه وتجلس إليه وتكثر عنده. ومن طالت عشرته لإنسان أمكن اطلاعه على مستكن رأيه. فقلت : أيها الوزير هناك ذكاء غالب وذهن وقاد. قال : فعلى هذا ما مذهبه. قلت : لا ينسب إلى شيء لكنه قد أقام بالبصرة زماناً طويلاً وصادف بها جماعة لأصناف العلم فصحبهم وخدمهم وكانت هذه العصابة قد تألفت بالعشرة وتصافت بالصداقة واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة فوضعوا بينهم مذهباً زعموا أنهم قربوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله وذلك أنهم قالوا : إن الشريعة قد تدنست بالجهالات واختلطت بالضلالات ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال وصنفوا خمسين رسالة في خمسين نوعاً من الحكمة ومقالة حادية وخمسين جامعة لأنواع المقالات على طريق الاختصار والإيجاز وسموها رسائل إخوان الصفا وكتموا فيها أسماءهم وبثوها في الوراقين ووهبوها للناس وحشوا هذه الرسائل بالكلمات الدينية والأمثال الشرعية والحروف المجتمعة والطرق المموهة وهي مبثوثة من كل فنٍ بلا إشباع ولا كفاية وفيها خرافات وكنايات وتلفيقات وتلزيقات فتعبوا وما أغنوا وغنوا وما أطربوا ونسجوا فهلهلوا ومشطوا ففلفلوا وبالجملة فهي مقالات مشوقات غير مستقصاة ولا ظاهرة الأدلة والاحتجاج. ولما كتم مصنفوها أسماءهم اختلف الناس في الذي وضعها فكل قوم قالوا قولاً بطريق الحدس والتخمين. فقوم قالوا : هي من كلام بعض الأئمة العلويين. وقال آخرون : هي تصنيف بعض متكلمي المعتزلة في العصر الأول.
” القادر بن اسحق بن المقتدر “
لما قبض الطائع ذكر بهاء الدولة من يصلح للخلافة واتفقوا على القادر بالله أبي العباس أحمد بن اسحق المقتدر وكان بالبطيحة. ولما وصل الرسل إليه كان تلك الساعة يحكي مناماً رآه تلك الليلة يدل على خلافته. فبويع له يوم حادي عشر من شهر رمضان سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة. وفيها مات سعد الدولة ابن سيف الدولة بن حمدان صاحب حلب بالقولنج وولي بعده ابنه أبو الفضائل ووصى إلى لؤلؤة به وبسائر أهله. وفي سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة نزل ملك الروم بإرمينية وحصر خلاط وملازكرد وأرجيش فضعفت نفوس الناس عنه ثم هادنه أبو علي الحسن ابن مروان مدة عشر سنين وعاد ملك الروم. وفي سنة ست وثمانين وثلاثمائة توفي العزيز العلوي صاحب مصر وعمره اثنتان وأربعون سنة وثمانية أشهر بمدينة بلبيس وولي بعده ابنه أبو علي المنصور ولقب الحاكم بأمر الله. وكان العزيز يحب العفو ويستعمله فمن حلمه أنه كان بمصر شاعر كثير الهجاء فهجا يعقوب بن كلس الوزير وأبا نصر كاتب الإنشاء فقال:
قل لأبي نصر كاتب القصر … والمتأني انقض ذا الأمر
انقض عرى الملك للوزير تفز … منه بحسن الثنا والذكر
و أعط وأمنع ولا تخف أحداً … فصاحب القصر ليس بالقصر
وليس يدري ماذا يراد به … وهو إذا ما درى فما يدري
فشكاه الوزير إلى العزيز وأنشده الشعر. فقال له : هذا شيءٌ اشتركنا في الهجاء به فشاركني في العفو عنه. وفي سنة سبعٍ وثمانين وثلاثمائة توفي الأمير نوح بن منصور صاحب بخارا وولي الأمر بعده ابنه منصور. وفيها مات سبكتكين وملك بعده اسماعيل. ثم أرسل إليه وهو بغزنة أخوه يمين الدولة محمود من نيسابور يعرفه أن أباه إنما عهد إليه لبعده عنه ويذكره ما يتعين من تقديم الكبير. فلم يجبه إلى ذلك. فسار إليه وقاتله وقبض عليه ثم أعلى منزلته وشركه في الملك. وفيها مات فخر الدولة ابن ركن الدولة بن بويه وقام بملكه بعده ولده مجد الدولة أبو طالب رستم وعمره أربع سنين وكان المرجع إلى أمه في تدبير الملك وعن رأيها يصدرون. وفيها توفي مأمون ابن محمد صاحب خوارزم وولي الأمر بعده ولده علي. وفي سنة إحدى وأربعمائة خطب قرواش بن المقلد أمير بني عقيل للحاكم العلوي صاحب مصر بأعماله كلها وهي الموصل والأنبار والمدائن والكوفة وغيرها. وفي سنة ثلاث وأربعمائة قتل شمس المعالي قابوس بن وشمكير وكان سبب قتله أنه كان مع كثرة فضائله ومناقبه عظيم السياسة شديد الأخذ قليل العفو يقتل على الذنب اليسير. فضجر أصحابه منه ومضوا إلى الدار التي هو فيها وقد دخل إلى الطهارة متخففاً فأخذوا ما عليه من كسوةٍ وكان الزمان شتاءً وكان يستغيث : أعطوني ولو جل فرس. فلم يفعلوا فمات من شدة البرد. وولي بلاده ابنه منوجهر ولقب فلك المعالي. وكان قابوس عزيز الأدب وافر العلم له رسائل وشعر حسن وكان عالماً بالنجوم وغيرها من العلوم. وفيها توفى بهاء الدولة ابن عضد الدولة بن بويه وهو الملك حينئذٍ بالعراق وولي بعده ابنه سلطان الدولة أبو شجاع. وفي سنة سبعٍ وأربعمائة قتل خوارزمشاه أبو العباس مأمون بن مأمون وملك يمين الدولة خوارزم. وفي سنة ثماني وأربعمائة خرج الترك من الصين في عددٍ كثير يزيدون على ثلاثمائة ألف خركاه وملكوا بعض البلاد وغنموا وسبوا وبقي بينهم وبين بلاساغون ثمانية أيام. ولما سمعوا بجمع عساكر طغان خان عادوا إلى بلادهم. فسار خلفهم نحو ثلاثة أشهر حتى أدركهم وهم آمنون لبعد المسافة فكبسهم وقتل منهم زيادة على مائتي ألف رجل وغنم من الدواب وأواني الذهب والفضة ومعمول الصين ما لا عهد لأحد بمثله. وفي سنة إحدى عشرة وأربعمائة عظم أمر أبي علي مشرف الدولة ابن بهاء الدولة ثم ملك العراق وأزال عنه أخاه سلطان الدولة. وفيها فقد الحاكم بن العزيز ابن المعز العلوي صاحب مصر بها ولم يعرف له خبر. وقيل أنه خرج يطوف ليلته على رسمه وعادته وأصبح عند قبر الفقاعي وتوجه إلى شرق حلوان ومعه ركابيان فأعادهما فعادا وذكرا أنهما خلفاه عند العين وبقي الناس على رسومهم يخرجون كل يوم يلتمسون رجوعه. فلما أبطأ خرج جماعة من خواصه فبلغوا حلوان ودخلوا في الجبل فبصروا بالحمار الذي كان عليه وقد ضربت يداه بسيفٍ وعليه سرجه ولجامه. فاتبعوا الأثر فانتهى بهم إلى البركة فرأوا ثيابه وهي سبع قطع صوف وهي مزررة بحالها لم تحل وفيها أثر السكاكين فعادوا ولم يشكوا في قتله. وكان عمره سبعاً وثلاثين سنة وولايته خمساً وعشرين سنة. وكان جواداً بالمال سفاكاً للدماء وكانت سيرته عجيبةً أمر بسب الصحابة وكتب إلى سائر عماله بذلك. ثم أمر بعد ذلك بمدةٍ بالكف عن السب وهدم بيعة القيامة ببيت المقدس ثم عاد بناها. وحمل أهل الذمة على الإسلام أو المسير إلى مأمنهم أو لبس الغيار فأسلم كثيرٌ منهم. ثم كان الرجل منهم بعد ذلك يلقاه فيقول له : أريد العود إلى ديني فيأذن له. ومنع النساء عن الخروج من بيوتهن وقتل من خرج منهن. فشكى إليه من لا قيم لها يقوم بأمرها فأمر الناس أن يحملوا كلما يباع في الأسواق إلى الدروب ويبيعوه على النساء وأمر من يبيع أن يكون معه شبه المغرفة بساعدٍ طويل يمده إلى المرأة وهي من وراء الباب وفيه ما تشتريه فإذا رضيته وضعت الثمن في المغرفة وأخذت ما فيها لئلا يراها. فنال من ذلك شدةً عظيمة. ولما عدم الحاكم بويع ابنه أبو الحسن علي وهو صبي ولقب الظاهر لإعزاز دين الله وباشرت ست الملك أخت الحاكم الأمور بنفسها وقامت هيبتها عند الناس واستقامت الأمور. وعاشت بعد الحاكم أربع سنين وماتت. وفي سنة أربع عشرة وأربعمائة استولى علاء الدولة أبو جعفر بن كاكويه على همذان وملكها. وفيها توفي علي بن هلال المعروف بابن البواب الكاتب المشهور وإليه انتهى الخط. وفي سنة خمس عشرة في شوال توفي الملك سلطان الدولة بشيراز وملك بعده ابنه أبو كاليجار. وفي سنة ست عشرة وأربعمائة توفي الملك مشرف الدولة أبو علي بن بهاء الدولة وخطب ببغداد لأخيه أبي طاهر جلال الدولة. وفيها ملك نصير الدولة بن مروان صاحب ديار بكر مدينة الرها وكانت لرجلٍ من بني نمير يسمى عطيراً وفيه شرٌ وجهل فكتب الرهاويون ليسلموا إليه البلد فسير إليهم نائباً كان بآمد يسمى زنكي فتسلمها وقتل عطيراً. وفي سنة عشرين وأربعمائة أوقع يمين الدولة بالأتراك الغزية أصحاب أرسلان بن سلجوق وكانوا يفسدون بخراسان وينهبون فيها فأرسل إليهم جيشاً فسبوهم وأجلوهم عن خراسان فسار منهم أهل ألفي خركاه فلحقوا بأصفهان. وأما طغرلبك وداود وأخوهما بيغو وهم بنو ميكائيل بن سلجوق بن تقاق فإنهم كانوا بما وراء النهر وطائفة من الغز الذين كانوا بخراسان وصلوا إلى أذربيجان وساروا إلى مراغة فدخلوها وأحرقوا جامعها وقتلوا من عوامها مقتلةً عظيمةً ومن الأكراد الهذبانية ثم سار طائفة منهم إلى الري وطائفة إلى همذان فملكوها. وفيها ملك الغز الموصل ووثب بهم أهل الموصل. وفي سنة إحدى وعشرين وأربعمائة مات يمين الدولة محمود بن سبكتكين وملك ولده محمد ثم خلعه أخوه مسعود وولي مكانه. وفي سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة في ذي الحجة توفي الإمام القادر بالله وعمره ست وثمانون سنة وعشرة أشهر وخلافته إحدى وأربعون سنة. وكانت الخلافة قبله قد طمع فيها الديلم والأتراك فلما وليها ألقى الله هيبته في قلوب الخلق فأطاعوه أحسن طاعة. وكان حليماً كريماً ديناً وكان يخرج من داره في زي العامة ويزور قبور الصالحين كقبر معروف وغيره. عشرة وأربعمائة استولى علاء الدولة أبو جعفر بن كاكويه على همذان وملكها. وفيها توفي علي بن هلال المعروف بابن البواب الكاتب المشهور وإليه انتهى الخط. وفي سنة خمس عشرة في شوال توفي الملك سلطان الدولة بشيراز وملك بعده ابنه أبو كاليجار. وفي سنة ست عشرة وأربعمائة توفي الملك مشرف الدولة أبو علي بن بهاء الدولة وخطب ببغداد لأخيه أبي طاهر جلال الدولة. وفيها ملك نصير الدولة بن مروان صاحب ديار بكر مدينة الرها وكانت لرجلٍ من بني نمير يسمى عطيراً وفيه شرٌ وجهل فكتب الرهاويون ليسلموا إليه البلد فسير إليهم نائباً كان بآمد يسمى زنكي فتسلمها وقتل عطيراً. وفي سنة عشرين وأربعمائة أوقع يمين الدولة بالأتراك الغزية أصحاب أرسلان بن سلجوق وكانوا يفسدون بخراسان وينهبون فيها فأرسل إليهم جيشاً فسبوهم وأجلوهم عن خراسان فسار منهم أهل ألفي خركاه فلحقوا بأصفهان. وأما طغرلبك وداود وأخوهما بيغو وهم بنو ميكائيل بن سلجوق بن تقاق فإنهم كانوا بما وراء النهر وطائفة من الغز الذين كانوا بخراسان وصلوا إلى أذربيجان وساروا إلى مراغة فدخلوها وأحرقوا جامعها وقتلوا من عوامها مقتلةً عظيمةً ومن الأكراد الهذبانية ثم سار طائفة منهم إلى الري وطائفة إلى همذان فملكوها. وفيها ملك الغز الموصل ووثب بهم أهل الموصل. وفي سنة إحدى وعشرين وأربعمائة مات يمين الدولة محمود بن سبكتكين وملك ولده محمد ثم خلعه أخوه مسعود وولي مكانه. وفي سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة في ذي الحجة توفي الإمام القادر بالله وعمره ست وثمانون سنة وعشرة أشهر وخلافته إحدى وأربعون سنة. وكانت الخلافة قبله قد طمع فيها الديلم والأتراك فلما وليها ألقى الله هيبته في قلوب الخلق فأطاعوه أحسن طاعة. وكان حليماً كريماً ديناً وكان يخرج من داره في زي العامة ويزور قبور الصالحين كقبر معروف وغيره.
وفي سنة ثماني وأربعين وثلاثمائة انتقل إلى العراق محمد بن محمد بن يحيى بن الوفاء البوزجاني من بلد نيسابور قرأ عليه الناس واستفادوا وصنف كتباً جمةً في العلوم العددية والحسابية وله كتاب مجسطي وفسر متاب ديوفنطوس في الجبر والمقابلة.
وفي سنة ثماني وتسعين وثلاثمائة توفي أبو علي عيسى بن زرعة النصراني اليعقوبي المنطقي ببغداد وهو أحد المتقدمين في علم المنطق والفلسفة وأحد النقلة المجودين وله تصانيف مذكورة ونقولٌ من السرياني إلى العربي. ومن الأطباء المتقدمين بالديار المصرية منصور بن مقشر أبو الفتح المصري النصراني وله منزلة سامية من أصحاب القصر ولا سيما في أيام العزيز منهم. واعتل منصور هذا في أيام العزيز في سنة خمس وثمانين وثلاثمائة وتأخر عن الركوب فلما تماثل منصور ابن مقشر كتب إليه العزيز بخطه : بسم الله الرحمن الرحيم طبيبنا سلمه الله سلام الله الطيب وأتم النعمة عليه. وصلت إلينا البشارة بما وهبه الله من عافية الطبيب وبرئه. والله العظيم لقد عدل عندنا ما رزقناه نحن من الصحة في جسمنا. أقالك الله العثرة وأعادك إلى أفضل ما عودك من صحة الجسم وطيبة النفس وخفض العيش بحوله وقوته. وخدم منصور هذا بعد العزيز الحاكم ابنه أيضاً. واتفق أن عرض لرجل الحاكم عقد زمن ولم يبرأ. فكان ابن مقشر وغيره من أطباء الخاص المشاركين له يتولون علاجه فلا يؤثر ذلك إلا شراً في العقد. فأحضر له جرائحي يهودي كان يرتزق بصناعة مداواة الجراح في غاية الخمول. فلما رأى العقد طرح عليه دواءً يابساً فشقه وشفاه في ثلاثة أيام. فأطلق له الحاكم ألف دينار وخلع عليه ولقبه بالحقير النافع وجعله من أطباء الخاص. ولما ولي الحاكم الأمر بمصر وكان يميل إلى الحكمة بلغه خبر أبي علي بن الحسين بن الهيثم المهندس البصري أنه صاحب تصانيف في علم الهندسة عالمٌ بهذا الشأن متقنٌ له متفننٌ فيه قائمٌ بغوامضه ومعانيه. فتاقت نفسه إلى رؤيته. ثم نقل له عنه أنه قال : لو كنت بمصر لعملت في نيلها عملاً يحصل به النفع في كل حالةٍ من حالاته من زيادةٍ ونقصٍ. فازداد الحاكم إليه شوقاً وسير إليه سراً جملةً من مال فأرغبه في الحضور. فسار نحو مصر ولما وصلها خرج الحاكم للقائه والتقيا بقريةٍ على باب القاهرة المعزية تعرف بالخندق وأمر بإنزاله وإكرامه وأقام ريثما استراح وطالبه بما وعد به من أمر النيل فسار معه جماعةٌ من الصناع ليستعين بهم على هندسةٍ كانت خطرت له. ولما سار إلى الإقليم بطوله ورأى آثار من تقدم من ساكنيه من الأمم الخالية وهي على غاية من إحكام الصنعة وجودة الهندسة وما اشتملت عليه من أشكالٍ سماويةٍ ومثالاتٍ هندسيةٍ وتصويرٍ معجزٍ تحقق أن الذي يقصده ليس بممكن فإن من تقدمه لم يعزب عنهم علم ما علمه ولو أمكن لفعلوا. فانكسرت همته ووقف خاطره. ووصل إلى الموضع المعروف بالجنادل قبلي مدينة أسوان وهو موضعٌ مرتفعٌ ينحدر فيه ماء النيل فعاينه وباشره واختبره من جانبيه فوجد أمره لا يمشي على موافقة مراده وتحقق الخطأ عما وعد به وعاد منخجلاً منخذلاً واعتذر بما قبل الحاكم ظاهره ووافقه عليه. ثم إن الحاكم ولاه بعض الدواوين فتولاها رهبةً لا رغبةً. وتحقق الغلط في الولاية لكثرة استحالة الحاكم وإراقته الدماء بغير سببٍ أو بأضعف سببٍ من خيال مخيلة. فأجال أبو الحسن بن الهيثم فكرته في أمرٍ يتخلص به فلم يجد طريقاً إلى ذلك إلا إظهار الجنون والخيال فاعتمد ذلك وشاع. فأحيط على موجوده بيد الحاكم ونوابه. وجعل برسمه من يخدمه ويقوم بمصالحه وقيد وترك في موضعٍ من منزله. ولم يزل على ذلك إلى أن مات الحاكم. وبعد ذلك بيسير أظهر العقل وعاد إلى ما كان عليه وأقام متنسكاً منقبعاً واشتغل بالتصنيف والنسخ والإفادة وكان له خطٌ قاعدٌ في غاية الصحة. وحكي عنه أنه كان ينسخ فيمدة سنة ثلاثة كتبٍ في ضمن أشغاله وهي إقليذس والمتوسطات والمجسطي ويشكلها فإذا شرع في نسخها جاءه من يعطيه فيها مائة وخمسين ديناراً مصرية. وصار ذلك كالرسم الذي لا يحتاج إلى مواكسة ولا معاودة قول فيجعلها مؤنته لسنته. ولم يزل على ذلك إلى أن مات بالقاهرة بعد سنة ثلاثين وأربعمائة. وأما تصانيفه فهي كثيرةُ مشهورة.
” القائم بن القادر “
ولما توفي القادر بالله جددت البيعة لابنه القائم بأمر الله سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة وكان أبوه قد بايع له بولاية العهد سنة إحدى وعشرين. وفيها أعني سنة اثنتين وعشرين ملك الروم مدينة الرها وكانت بيد نصير الدولة بن مروان. وفيها سارت عساكر السلطان مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب خراسان إلى كرمان فملكوها. وفي سنة خمس وعشرين وأربعمائة كانت حرب شديدة بين نور الدولة ودبيس وأخيه أبي قوام ثابت ثم اصطلحا وتحالفا. وسار البساسيري نجدة لثابت فلما سمع بصلحهم عاد إلى بغداد. وهؤلاء أمراء عرب من بني أسد وخفاجة. وفيها توفي رومانوس ملك الروم وملك بعده رجلٌ صيرفي ليس من بيت الملك وإنما ابنة قسطنطين اختارته وتزوجته. وفي سنة سبع وعشرين وأربعمائة توفي الظاهر لإعزاز دين الله الخليفة العلوي بمصر وكان له مصر والشام والخطبة له بافريقية. وولي بعده ابنه أبو تميم ولقب المستنصر بالله. وفي سنة تسع وعشرين وأربعمائة دخل ركن الدين أبو طالب طغرلبك محمد بن ميكائيل بن سلجوق مدينة نيسابور مالكاً لها. وفي سنة ثلاثين وأربعمائة وصل الملك مسعود من غزنة إلى بلخ وأجلى السلجوقية عن خراسان. وفيها خطب شبيب بن وثاب النميري صاحب حران والرقة للإمام القائم بأمر الله وقطع خطبة المستنصر بالله العلوي المصري. وفي سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة اتفق أنوستكين الخصي البلخي في جماعة من الغلمان الدارية وثاروا بالملك مسعود وقبضوا عليه وأقاموا أخاه محمداً وسلموا عليه بالإمارة. فأحضر أخاه الملك مسعوداً وقال له : لا قابلتك على فعلك بي. وذلك لأنه كان سمله وأعماه. فانظر أين تريد أن تقيم حتى أحملك إليه ومعك أولادك وحرمك. فاختار قلعة كرى فأنفذه إليها. ثم إن أحمد ابن محمد دخل إلى أبيه فطلب خاتمه ليختم به بعض الخزائن فأعطاه. فسار به غلمانه إلى القلعة وأعطوا الخاتم لمستحفظيها وقالوا : معنا رسالة إلى مسعود فأدخلوهم إليه فقتلوه. فلما وصل الخبر إلى مودود بن مسعود وهو بخراسان عاد مجداً بعساكره إلى غزنة فتصاف هو وعمه محمد وقبض عليه وعلى ولده أحمد وأنوستكين الخصي البلخي فقتلهم وقتل أولاد عمه جميعهم وقتل كل من كان له في القبض على والده صنع. وفي سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة ملك السلطان طغرلبك جرجان وطبرستان. وفيها توفي ميخائيل ملك الروم وملك بعده ابن أخيه ميخائيل أيضاً. وفي سنة خمس وثلاثين توفي الملك جلال الدولة بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه ببغداد وملك أبو كاليجار ابن سلطان الدولة بن بهاء الدولة. وفي سنة تسع وثلاثين وقع الصلح بين الملك كاليجار والسلطان طغرلبك. وفي سنة أربعين وأربعمائة مات الملك أبو كاليجار ببغداد وملك ابنه الملك الرحيم. وفي سنة إحدى وأربعين ملك البساسيري الأنبار ودخلها أصحابه وفيها مات مودود بن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة وملك عمه عبد الرشيد. وفي سنة اثنتين وأربعين ملك السلطان طغرلبك أصفهان. وفي سنة ست وأربعين استولى طغرلبك على إذربيجان. وفي سنة سبعٍ وأربعين وصل طغرلبك إلى بغداد وخطب له بها. وفي سنة خمسين وأربعمائة سار طغرلبك في أثر البساسيري ودبيس ومعهما أهلهما فأوقع بهم الأتراك وقتلوا البساسيري ودخلوا في الظعن فساقوه جميعه. وكان البساسيري مملوكاً تركياً من مماليك بهاء الدولة بن عضد الدولة وهو منسوبٌ إلى بساسير مدينته. وفي سنة إحدى وخمسين أصلح دبيس بن مزيد وأحضر إلى خدمة السلطان طغرلبك فأحسن إليه. وفي سنة خمسٍ وخمسين سار السلطان طغرلبك من بغداد إلى بلد الجبل فوصل إلى الري فمرض بها وتوفي وكان عمره سبعين سنة تقريباً وكان عقيماً لم يلد ولداً. وملك بعده الب أرسلان بن داود جغرى أخي السلطان طغرلبك. وفي سنة ثمان وخمسين ولدت صبية بباب الازج ولداً برأسين ورقبتين ووجهين وأربع أيدٍ على بدنٍ واحد. وفي سنة إحدى وستين احترق جامع دمشق فدثرت محاسنه وزال ما كان فيه من الأعمال النفيسة. وكان سبب ذلك حربٌ وقعت بين المغاربة أًحاب المصريين والمشارقة فضربوا داراً مجاورةً للجامع بالنار فاحترقت واتصلت النار بالجامع. وفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة خرج رومانوس ملك الروم الملقب يوجانيس وهو اسمٌ من أسماء الحكماء في مائة ألف ووافى بتجمل كثير وزي عظيم فوصل إلى ملازكرد من أعمال خلاط وكان السلطان الب أرسلان بمدينة خونج من أذربيجان فسار إليه في خمسة عشر ألف فارس إذ لم يتمكن من جمع العساكر لبعدها وقرب العدو. فجد في السير فلما قرب العسكران أرسل السلطان إلى رومانوس الملك يطلب منه المهادنة. فقال : لا أهادنه إلا بالري. فانزعج السلطان لذلك. فلما كان يوم الجمعة بعد الزوال صلى وبكى فبكى الناس لبكائه. وقال لهم : من أراد الانصراف فلينصرف فما هنا سلطان يأمر وينهى. وألقى القوس والنشاب وأخذ السيف والدبوس وعقد ذنب فرسه بيده وفعل عسكره مثله ولبس البياض وتحنط وقال : إن قتلت فهذا كفني.و زحف إلى الروم وزحفوا إليه واشتد القتال فانهزم الروم وقتل منهم خلقٌ وأسر الملك أسره بعض المماليك اسمه شادي وكان قد ح ضر عنده مع رسولٍ فعرفه فلما رآه نزل وسجد له وقصد به السلطان. فضربه ثلاث مقارع بيده وقال له : ألم أرسل إليك في المهادنة فأبيت. فقال : دعني من التوبيخ وافعل ما تريد. فقال السلطان : ما عزمت أن تفعل بي إن أسرتني. فقال : القبيح. قال له : فما تظن أنني أفعل بك. قال : إما أن تقتلني وإما أن تشهرني في بلادك. والأخرى بعيدة وهي العفو وقبول الأموال واصطناعي نائباً عنك. قال : ما عزمت على غير هذا. ففداه بألف ألف دينار وأن يطلق كل أسيرعنده من المسلمين. واستقر الأمر على ذلك وأجلسه معه على سريره وأنزله في خيمةٍ وأرسل إليه عشرة آلاف دينار يتجهز بها وأطلق جماعة من البطارقة وخلع عليه وعليهم وسير معه عسكراً يوصلوه إلى مأمنه وشيعه فرسخاً. وأما الروم فلما بلغهم خبر الوقعة وثب ميخائيل على المملكة فملك البلاد. فلما وصل رومانوس الملك إلى قلعة دوقية بلغه الخبر فلبس الصوف وأظهر الزهد وأرسل إلى ميخائيل يعرفه ما تقرر مع السلطان. وجمع رومانوس ما عنده من المال وكان مائتي ألف دينار فأرسله إلى السلطان وحلف له أنه لا يقدر على غير ذلك. وفي سنة خمسٍ وستين وأربعمائة قصد السلطان الب أرسلان محمد بن داود جغري بك ما وراء النهر فعقد على جيحون جسراً وعبر عليه في نيف وعشرين يوماً وعسكره يزيد على مائتي ألف فارس فأتاه أصحابه بمستحفظ قلعة اسمه يوسف الخوارزمي وحمل إلى قرب سريره مع غلامين. فتقدم أن يضرب له أربعة أوتاد ويشد أطرافه إليها. فقال له يوسف : يا مخنث مثلي يقتل هذه القتلة. فغضب السلطان وأخذ القوس والنشاب وقال للغلامين : خلياه. فخلياه. ورماه السلطان بسهمٍ فأخطأه. فوثب يوسف يريده. فقام السلطان عن السرير ونزل عنه فعثر فوقع على وجهه. فبرك عليه يوسف وضربه بسكينٍ كانت معه في خاصرته. ونهض السلطان فدخل إلى خيمةٍ أخرى. وضرب بعض الفراشين يوسف بمرزبةٍ على رأسه فقتله. ولما جرح السلطان الب أرسلان أوصى بالسلطنة لابنه ملكشاه وقام بوزارته نظام الملك.نيس وهو اسمٌ من أسماء الحكماء في مائة ألف ووافى بتجمل كثير وزي عظيم فوصل إلى ملازكرد من أعمال خلاط وكان السلطان الب أرسلان بمدينة خونج من أذربيجان فسار إليه في خمسة عشر ألف فارس إذ لم يتمكن من جمع العساكر لبعدها وقرب العدو. فجد في السير فلما قرب العسكران أرسل السلطان إلى رومانوس الملك يطلب منه المهادنة. فقال : لا أهادنه إلا بالري. فانزعج السلطان لذلك. فلما كان يوم الجمعة بعد الزوال صلى وبكى فبكى الناس لبكائه. وقال لهم : من أراد الانصراف فلينصرف فما هنا سلطان يأمر وينهى. وألقى القوس والنشاب وأخذ السيف والدبوس وعقد ذنب فرسه بيده وفعل عسكره مثله ولبس البياض وتحنط وقال : إن قتلت فهذا كفني.و زحف إلى الروم وزحفوا إليه واشتد القتال فانهزم الروم وقتل منهم خلقٌ وأسر الملك أسره بعض المماليك اسمه شادي وكان قد ح ضر عنده مع رسولٍ فعرفه فلما رآه نزل وسجد له وقصد به السلطان. فضربه ثلاث مقارع بيده وقال له : ألم أرسل إليك في المهادنة فأبيت. فقال : دعني من التوبيخ وافعل ما تريد. فقال السلطان : ما عزمت أن تفعل بي إن أسرتني. فقال : القبيح. قال له : فما تظن أنني أفعل بك. قال : إما أن تقتلني وإما أن تشهرني في بلادك. والأخرى بعيدة وهي العفو وقبول الأموال واصطناعي نائباً عنك. قال : ما عزمت على غير هذا. ففداه بألف ألف دينار وأن يطلق كل أسيرعنده من المسلمين. واستقر الأمر على ذلك وأجلسه معه على سريره وأنزله في خيمةٍ وأرسل إليه عشرة آلاف دينار يتجهز بها وأطلق جماعة من البطارقة وخلع عليه وعليهم وسير معه عسكراً يوصلوه إلى مأمنه وشيعه فرسخاً. وأما الروم فلما بلغهم خبر الوقعة وثب ميخائيل على المملكة فملك البلاد. فلما وصل رومانوس الملك إلى قلعة دوقية بلغه الخبر فلبس الصوف وأظهر الزهد وأرسل إلى ميخائيل يعرفه ما تقرر مع السلطان. وجمع رومانوس ما عنده من المال وكان مائتي ألف دينار فأرسله إلى السلطان وحلف له أنه لا يقدر على غير ذلك. وفي سنة خمسٍ وستين وأربعمائة قصد السلطان الب أرسلان محمد بن داود جغري بك ما وراء النهر فعقد على جيحون جسراً وعبر عليه في نيف وعشرين يوماً وعسكره يزيد على مائتي ألف فارس فأتاه أصحابه بمستحفظ قلعة اسمه يوسف الخوارزمي وحمل إلى قرب سريره مع غلامين. فتقدم أن يضرب له أربعة أوتاد ويشد أطرافه إليها. فقال له يوسف : يا مخنث مثلي يقتل هذه القتلة. فغضب السلطان وأخذ القوس والنشاب وقال للغلامين : خلياه. فخلياه. ورماه السلطان بسهمٍ فأخطأه. فوثب يوسف يريده. فقام السلطان عن السرير ونزل عنه فعثر فوقع على وجهه. فبرك عليه يوسف وضربه بسكينٍ كانت معه في خاصرته. ونهض السلطان فدخل إلى خيمةٍ أخرى. وضرب بعض الفراشين يوسف بمرزبةٍ على رأسه فقتله. ولما جرح السلطان الب أرسلان أوصى بالسلطنة لابنه ملكشاه وقام بوزارته نظام الملك
وفي سنة سبعٍ وستين وأربعمائة ليلة الخميس ثالث عشر شعبان توفي القائم بأمر الله.و لما أيقن بالموت أحضر النقيبين وقاضي القضاة والوزير ابن جهير وأشهدهم على نفسه أنه جعل ابن ابنه أبا القاسم عبد الله بن محمد بن القائم ولي عهده. وكان عمر القائم ستاً وسبعين سنة وثلاثة أشهر وخلافته أربعاً وأربعين سنة وتسعة أشهر.
وفي هذه السنين اشتهر بعلوم الأوائل أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني مبحرٌ في فنون الحكمة اليونانية والهندية وتخصص بأنواع الرياضيات وصنف فيها الكتب الجليلة ودخل إلى بلاد الهند وأقام بها عدة سنين وتعلم من حكمائها فنونهم وعلمهم طرق اليونانيين في فلسفتهم. ومصنفاته كثيرةٌ متقنةٌ محكمةٌ غاية الإحكام. وبالجملة لم يكن في نظرائه في زمانه وبعده إلى هذه الغاية أحذق منه بعلم الفلك ولا اعرف بدقيقه وجليله. وعرف أيضاً بالعلوم الحكمية أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا الشيخ الرئيس. وحكى عن نفسه قال : إن أبي كان رجلاً من أهل بلخ وانتقل منها إلى بخارا في أيام نوح بن منصور واشتغل بالتصرف بقرية خرميثن وتزوج أمي من قريةٍ يقال لها أفشنة وولدت منها وولد أخي ثم انتقلنا إلى بخارا وأحضرت معلم القرآن والأدب وكملت العشر من العمر وقد أتيت على القرآن وعلى كثيرٍ من الأدب. حتى كان يقضى مني العجب. وأخذ والدي يوجهني إلى رجلٍ كان يبيع البقل ويقوم بحساب الهند حتى أتعلمه منه. ثم جاء إلى بخارأ أبو عبد الله الناتلي وكان يدعي الفلسفة وأنزله أبي دارنا رجاء تعلمي منه. فقرأت ظواهر المنطق عليه وأما دقائقه فلم يكن عنده منها خبرة. ثم أخذت أقرأ الكتب على نفسي وأطالع الشروح وكذلك كتاب إقليذس فقرأت من أوله خمسة أشكالٍ أو ستةٍ عليه ثم توليت حل الكتاب بأسره. ثم انتقلت إلى المجسطي. وفارقني الناتلي. ثم رغبت في علم الطب وصرت أقرأ الكتب المصنفة فيه وتعهدت المرضى فانفتح علي من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف وأنا في هذا الوقت من أبناء ست عشرة سنة. ثم توفرت على القراءة سنةً ونصفاً وكلما كنت أتحير في مسألةٍ ولم أكن أظفر بالحد الأوسط في قياس ترددت إلى الجامع وصليت وابتهلت إلى مبدع الكل حتى فتح لي المغلق منه والمتعسر. وكنت أرجع بالليل إلى داري وأضع السراج بين يدي وأشتغل بالقراءة والكتابة فمهما غلبني النوم أو شعرت بضعفٍ عدلت إلى شرب قدحٍ من الشراب ريثما تعود إلي قوتي ثم أرجع إلى القراءة ومتى أخذني أدنى نوم أحلم بتلك المسائل بأعيانها حتى أن كثيراً منها انفتح لي وجوهها في المنام. ولم أزل كذلك حتى أحكمت علم المنطق والطبيعي والرياضي. ثم عدلت إلى العلم الإلهي وقرأت كتاب ما بعد الطبيعة فما كنت أفهم ما فيه والتبس علي غرض واضعه حتى أعدت قراءته أربعين مرة وصار لي محفوظاً وأنا مع ذلك لا أفهمه وأيست من نفسي وقلت : هذا كتابٌ لا سبيل إلى فهمه. وإذا أنا يوماً حضرت وقت العصر في الوراقين وبيد دلال مجلد ينادي عليه فعرضه علي فرددته رد متبرمٍ معتقد أن لا فائدة في هذا العلم. فقال لي : اشتر مني هذا فإنه رخيص أبيعكه بثلاثة دراهم وصاحبه محتاجٌ إلى ثمنه. فاشتريته فإذا هو كتابٌ لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة. فرجعت إلى بيتي وأسرعت قراءته فانفتح علي في الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب أنه قد صار لي على ظهر القلب وفرحت بذلك وتصدقت بشيْ على الفقراء شكراً لله تعالى. فلما بلغت ثماني عشرة سنة من عمري فرغت من هذه العلوم كلها وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ ولكنه اليوم معي أنضج وإلا فالعلم واحدٌ لم يتجدد لي بعده شيء. ثم مات والدي وتصرفت بي الأحوال وتقلدت شيئاً من أعمال السلطان. ودعتني الضرورة إلى الارتحال من بخارا والانتقال عنها إلى جرجان وكان قصدي الأمير قابوس فاتفق في أثناء هذا أخذ قابوس وحبسه وموته. ثم مضيت إلى دهستان ومرضت بها مرضاً صعباً وعدت إلى جرجان وأنشأت في حالي قصيدةً فيها بيت القائل
لما عظمت فليس مصر واسعي … لما غلا ثمني عدمت المشتري
قال أبو عبيدة الجوزجاني : إلى ههنا انتهى ما حكاه الشيخ عن نفسه. وفي هذا الموضع أذكر أنا بعض ما شاهدت من أحواله في حال صحبتي له وإلى حين انقضاء مدته. قال : في مدة مقامه بجرجان صنف أول القانون ومختصر المجسطي وغير ذلك. ثم انتقل إلى الري واتصل بخدمة السيدة وابنها مجد الدولة. ثم خرج إلى قزوين ومنها إلى همذان فاتصل بخدمة كدبانويه وتولى النظر في أسبابها. ثم سألوه تقلد الوزارةفتقلدها. ثم اتفق تشويش العسكر عليه وإشفاقهم منه على أنفسهم فكبسوا داره وأخذوه إلى الحبس وأخذوا جميع ما كان يملكه وساموا الأمير شمس الدولة قتله فامتنع منه وعدل إلى نفيه عن الدولة طلباً لمرضاتهم. فتوارى الشيخ في دار بعض أصدقائه أربعين يوماً. فعاد الأمير وقلده الوزارة ثانياً. ولما توفي شمس الدولة وبويع ابنه طلبوا أن يستوزر الشيخ فأبى عليهم وتوارى في دار أبي غالب العطار وهناك أتى على جميع الطبيعيات والإلهيات ما خلا كتابي الحيوان والنبات من كتاب الشفاء. وكاتب علاء الدولة سراً يطلب المسير إليه فاتهمه تاج الملك بمكاتبته وأنكر عليه ذلك وحث في طلبه. فدل عليه بعض أعدائه فأخذوه وأدوه إلى قلعةٍ يقال لها بردجان وأنشأ هناك قصيدةً فيها.
دخولي باليقين كما تراه … وكل الشك في أمر الخروج
وبقي فيها أربعة أشهر. ثم أخرجوه وحملوه إلى همذان ثم خرج منها متنكراً وأنا وأخوه وغلامان معه في زي الصوفية إلى أن وصلنا إلى أصفهان فصادف في مجلس علاء الدولة الإكرام والإعزاز الذي يستحقه مثله. وصنف هناك كتباً كثيرةً. ” قال ” وكان الشيخ قوي القوى كلها وكانت قوة المجامعة من قواه الشهوانية أقوى وأغلب وكان كثيراً ما يشتغل به فأثر في مزاجه. وكان سبب موته قولنج عرض له ولحرصه على برئه حقن نفسه في يومٍ واحدٍ ثماني مرات فتقرح بعض أمعائه وظهر به سحج وعرض له الصرع الذي قد يتبع القولنج وصار من الضعف بحيث لا يقدر على القيام. فلم يزل يعالج نفسه حتى قدر على المشي لكنه مع ذلك لا يتحفظ ويكثر التخليط في أمر المعالجة ولم يبرأ من العلة كل البرء وكان ينتكس ويبرأ كل وقت. ثم قصد علاء الدولة همذان وسار معه الشيخ فعاودته في الطريق تلك العلة إلى أن وصل إلى همذان وعلم أن قوته قد سقطت وأنها لا تفي بدفع المرض فأهمل مداواة نفسه وأخذ يقول : المدبر الذي كان يدبرني قد عجز عن التدبير والآن فلا تنفع المعالجة. وبقي على هذا أياماً ثم انتقل إلى جوار ربه ودفن بهمذان وكان عمره ثمانياً وخمسين سنة وكان موته في سنة ثمان وعشرين وأربعمائة. وفيه قال بعضهم
ما نفع الرئيس من حكمه الطب … ولا حكمه على النيرات
ما شفاه الشفاء من ألم الموت … ولا نجاه كتاب النجاة
و قيل أول حكيم توسم بخدمة الملوك أرسطوطاليس وكان الحكماء قبله مثل فيثاغوروس وسقراطيس وأفلاطون يترفعون عن ذلك ولا يقربون أبواب السلاطين. والدليل على ذلك أن بعض ملوك اليونانيين كان مجتازاً بمكانٍ كان فيه سقراطيس جالساً فلما دنا بقربه وهو لم ينهض ولم يتحرك من مكانه ولا يلتفت فأقبل إليه بعض الغلمان فركله برجله. فقال له : لم تركلني. قال له : أما تبصر الملك كيف لا تنهض وتقوم له. أجابه سقراطيس قائلاً : كيف أقوم لعبد عبدي. فالتفت الملك إلى مشاجرتهما فاستدعى به فحمل إليه فقال له : أي شيءٍ قلت. قال : قلت لا أقوم لعبد عبدي. قال الملك : وأنا عبد عبدك. قال : نعم أيها الملك أنت استعبدتك الدنيا وأنت خادمها وأنا زهدتها واستعبدتها فهي عبدي وأنت عبدها. فالملك استحسن له ذلك وتقدم بالإحسان إليه فلم يقبل. قيل وأول حكيمٍ شغف بشرب الخمر واستفراغ القوى الشهوانية الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا. ثم اقتدى به في الانهماك من كان بعده فهذان غيرا السنة الفلسفية. وقيل أن شيخ الشيخ أبي علي في الطب أبو سهل المسيحي وكان طبيباً فاضلاً منطقياً عالماً بعلوم الأوائل مذكوراً في بلد خراسان له كناش يعرف بالمائة كتاب مشهور. مات وعمره أربعون سنة.
وفي سنة خمس وثلاثين وأربعمائة توفي أبو الفرج عبد الله بن الطيب وهو عراقي فيلسوف فاضل مطلع على كتب الأوائل وأقاويلهم وعني بشروح الكتب القديمة في المنطق وأنواع الحكمة من تآليف أرسطوطاليس ومن الطب كتب جالينوس وبسط القول في الشروح بسطاً شافياً قصد به التعليم والتفهيم. قال القاضي الأكرم جمال الدين القفطي رحمه الله : لقد رأيت بعض من ينتحل هذه الصناعة يذم أبا الفرج بن الطيب بالتطويل وكان هذا العائب يهودياً ضيق الفطن قد وقف مع عبارة ابن سينا. فاما أنا وكل مصنفٍ فلا يقول إلا أن أبا الفرج بن الطيب قد أحيا من هذه العلوم ما دثرو أبان منها ما خفي. وقد تلمذ له جماعةٌ سادوا وأفادوا منهم المختار بن الحسن بن عبدون المعروف بابن بطلان. قال ابن بطلان : إن شيخنا ابو الفرج ابن الطيب بقي عشرين سنة في تفسير ما بعد الطبيعة ومرض من الفكر فيه مرضةً كان تلفظ نفسه فيها وهذا يدلك على شدة حرصه واجتهاده وطلب العلم لعينه. وابن بطلان هذا فهو طبيب نصراني بغدادي وكان مشوه الخلقة غير صبيحها كما شاء الله منه وفضل في علم الأوائل وكان يرتزق بصناعة الطب وخرج عن بغداد إلى الموصل وديار بكر ودخل حلب وأقام بها مدةً وما حمدها وخرج عنها إلى مصر فأقام بها مدة قريبة واجتمع بابن رضوان المصري الفيلسوف في وقته وجرت بينهما منافرة أحدثتها المغالبة في المنظرة. وخرج ابن بطلان عن مصر مغضباً على ابن رضوان وورد إنطاكية وأقام بها وقد سئم كثرة الأسفار وضاق عطنه عن معاشرة الأغمار فغلب على خاطره الانقطاع فنزل بعض الأديرة بإنطاكية وترهب وانقطع إلى العبادة إلى أن توفي سنة أربعٍ وأربعين وأربعمائة. ومن مشاهير تصانيف ابن بطلان كتاب تقويم الصحة مجدول وكتاب دعوة الأطباء مقامة ظريفة. ورسالة اشتراء الرقيق. ولما جرى لابن بطلان بمصر مع ابن رضوان ما جرى كتب إليه ابن بطلان رسالةً يقطعه فيها ويذكر معايبه ويشير إلى جهله بما يدعيه من علم الأوائل ورتبها على سبعة فصول الأول فضل من لقي الرجال على من درس في الكتب. الثاني في أن الذي علم المطالب من الكتب علماً رديئاً شكوكه بحسب علمه يعسر حلها. الثالث في أن إثبات الحق في عقلٍ لم يثبت فيه المحال أسهل من إثباته عند من ثبت في عقله المحال. الرابع في أن من عادات الفضلاء عند قراءاتهم كتب القدماء أن لا يقطعوا في مصنفها بطعنٍ إذا رأوا في المطالب تبايناً وتناقضاً لكن يخلدوا إلى البحث والتطلب. الخامس في مسائل مختلفة صادرة عن براهين صحيحة من مقدمات صادقة يلتمس أجوبتها بالطريقة البرهانية. السادس في تصفح مقالته في المباهلة التي ضمن فيها : انني أسأله ألف مسألةٍ ويسألني مسألةً واحدة. السابع في تتبع مقالته في النقطة الطبيعية والتعيين على موضع الشبهة في هذه التسمية. وختم الرسالة بقوله : وليتحقق أن اللذة بمضغ الكلام لا تفي بغصة الجواب. فإن لنا موقف حساب. ومجمع ثواب وعقاب. يتظلم فيه المرضى إلى خالقهم. ويطالبون الأطباء بالأغلاط القاضية في هلاكهم. وانهم لا يسامحون الشيخ كما سامحته بسبي ولا يغضون عنه كما أغضيت عن ثلب عرضي. فليكن من لقائهم على يقين. ويتحقق أنهم لا يرضون منه إلا بالحق المبين. والله يوفقنا وإياه للعمل بطاعته والتقرب إليه بابتغاء مرضاته وهو حسبي ونعم الوكيل. وذكر ابن بطلان في الفصل الرابع من رسالته إلى ابن رضوان حكايةً ظريفةً وجب إيرادها ههنا قال : إنني حضرت مع تلميذٍ من تلامذة الشيخ يعني الشيخ ابن رضوان ظاهر التجمل بادي الذكاء إن صدقت الفراسة فيه بحضرة الأمير أبي علي ابن جلالة الدولة بن عضد الدولة فناخسرو في حمى نائبة أخذت أربعة أيام ولا تبدو ببردٍ وتقشعٍ بنداوة وقد سقاه ذلك الطبيب دواءً مسهلاً وهو عازمٌ على فصده من بعد على عادة المصريين في تأخير الفصد بعد الدواء وإطعام المريض القطائف بجلاب في نوب الحمى. فسألت الطبيب مستخبراً عن الحمى. فقال بلفظة المصريين : نعم سيدي حمى يوم مركبة من دم وصفراء نائبة أربعة أيام فلما سقيناه الدواء تحلل الدم وبقيت الصفراء ونحن على فصده لنأمن الصفراء بمشيئة الله. فذهبت لا أعلم مما أعجب أمن كون حمى يوم تنوب في أربعة أيام بعلامات الموظبة أم من كونها من أخلاط مركبة أم من الدواء الذي حلل الدم الغليظ وترك الصفراء اللطيفة. وما أشبه ذلك من حكايته إلا بما سمعت بإنطاكية أن طبيباً رومياً شارطمريضه به غب خالصة على برئه دراهم معلومة وأخذ في تدبيره بما غلظ المادة فصارت شطر غب بعد ما كانت خالصة. فأنكروا ذلك عليه وراموا صرفه فقال : إنني أستحق نصف الكراء لأن الحمى ذهب نصفها. وظن من جهة التسمية أن الشطر قد ذهب من الحمى. وما زال يسألهم عما كانت فيقولون غباً. وعما هي الآن فيقولون شطراً فيتظلم ويقول : فلم منعتموني نصف القبالة. وحكي أن ابن رضوان هذا كان في أول أمره منجماً يقعد على الطريق ويرتزق ثم قرأ شيئاً من الطب والمنطق وكان من المفلفلين لا المحققين ولم يكن حسن المنظر ولا الهيئة ومع هذا تتلمذ له جماعة من الطلبة بمصر وأخذوا عنه وسار ذكره وصنف كتباً مختطفة ملتقطة مستنبطة من غيره وكان تلاميذه ينقلون عنه من التعاليل الطبية والألفاظ المنطقية ما يضحك منه إن صدق النقلة. ولم يزل ابن رضوان بمصر متصدراً للإفادة إلى أن مات في حدود سنة ستين وأربعمائة. وكان من مشاهير الأطباء في هذه الأيام طبيب نصراني من أهل بغداد يقال له كتيفات خدم البساسيري معروف بالعمل غير موصوف بعلم ارتفع بصائب معالجته.لل الدم الغليظ وترك الصفراء اللطيفة. وما أشبه ذلك من حكايته إلا بما سمعت بإنطاكية أن طبيباً رومياً شارطمريضه به غب خالصة على برئه دراهم معلومة وأخذ في تدبيره بما غلظ المادة فصارت شطر غب بعد ما كانت خالصة. فأنكروا ذلك عليه وراموا صرفه فقال : إنني أستحق نصف الكراء لأن الحمى ذهب نصفها. وظن من جهة التسمية أن الشطر قد ذهب من الحمى. وما زال يسألهم عما كانت فيقولون غباً. وعما هي الآن فيقولون شطراً فيتظلم ويقول : فلم منعتموني نصف القبالة. وحكي أن ابن رضوان هذا كان في أول أمره منجماً يقعد على الطريق ويرتزق ثم قرأ شيئاً من الطب والمنطق وكان من المفلفلين لا المحققين ولم يكن حسن المنظر ولا الهيئة ومع هذا تتلمذ له جماعة من الطلبة بمصر وأخذوا عنه وسار ذكره وصنف كتباً مختطفة ملتقطة مستنبطة من غيره وكان تلاميذه ينقلون عنه من التعاليل الطبية والألفاظ المنطقية ما يضحك منه إن صدق النقلة. ولم يزل ابن رضوان بمصر متصدراً للإفادة إلى أن مات في حدود سنة ستين وأربعمائة. وكان من مشاهير الأطباء في هذه الأيام طبيب نصراني من أهل بغداد يقال له كتيفات خدم البساسيري معروف بالعمل غير موصوف بعلم ارتفع بصائب معالجته.
” المقتدي بن محمد بن القائم “
لما توفي القائم بأمر الله بويع عبد الله بن محمد ابن القائم بالخلافة ولقب المقتدي بأمر الله سنة سبع وستين وأربعمائة. ولم يكن للقائم من أعقابه ذكر سواه فإن الذخيرة أبا العباس محمد بن القائم توفي في أيام أبيه ولم يكن له غيره وكان المقتدي حملاً في بطن أمه فولد بعد موت أبيه محمد بستة أشهر. وفي سنة ثماني وستين سار اقسيس الخوارزمي وهو أحد الأمراء من عسكر السلطان ملكشاه إلى دمشق فحصرها فغلت الأسعار فبيعت الغرارة بأكثر من عشرين ديناراً فسلموها إليه بالأمان وخطب بها للمقتدي الخليفة العباسي وكان آخر ما خطب فيها للعلويين المصريين. وتغلب اقسيس على أكثر الشام. وفي سنة أربع وسبعين توفي نور الدولة دبيس الأسدي وكان عمره ثمانين سنة وإمارته سبعاً وخمسين سنة وكان مذكوراً بالفضل والإحسان. وولي بعده ما كان إليه ابنه منصور ولقب بهاء الدولة فأحسن السيرة وسار إلى السلطان ملكشاه فاستقر له الأمر وخلع الخليفة أيضاً عليه ثم مات في سنة تسعٍ وسبعين وولي الحلة والنيل وجميع ما كان له ابنه سيف الدولة صدقة. وفي سنة خمسٍ وثمانين قتل نظام الملك الوزير بالقرب من نهاوند قتله صبي ديلمي من الباطنية أتاه في صورة مستمنح أو مستغيث فضربه بسكين كانت معه فقضي عليه. وبقي نظام الملك وزيراً للسلاطين ثلاثين سنة سوى ما وزر لالب أرسلان وهو صاحب خراسان أيام عمه طغرلبك قبل أن يتولى السلطنة. وكان عمره سبعاً وسبعين سنة. وكان سبب قتله أن عثمان ابن جمال الملك بن نظام الملك كان قد ولاه جده رئاسة مرو وأرسل السلطان إليها شحنة اسمه قودن وهو من خواصه فنازع عثمان في شيء فحملت عثمان حداثة ينه وطمعه بجده على أن قبض عليه وأخرق به ثم أطلقه فقصد السلطان مستغيثاً شاكياً فأرسل السلطان إلى نظام الملك رسالةً يقول له : إن كنت شريكي في الملك فلذلك حكم. وإن كنت نائبي فيجب أن تلزم حد التبعية والنيابة وهؤلاء أولادك قد جاوزا حد أمر السياسة وطمعوا إلى أن فعلوا كذا وكذا. فحضر المرسلون عند نظام الملك وأوردوا عليه الرسالة فقال : قولوا للسلطان إن كنت ما علمت إني شريكك في الملك فاعلم. فإنك ما نلت هذا الأمر إلا بتدبيري ورأيي أما تذكر حين قتل أبوك فقمت بتدبير أمرك وقمعت الخوارج عليك من أهلك وغيرهم. وأنت ذلك الوقت كنت تتمسك بي فلما قدت الأمور إليك وأطاعك القاصي والداني أقبلت تتجنى لي الذنوب وتسمع في السعايات. وقولوا له عني إن ثبات تلك القلنسوة معذوق بهذه الدواة وإن اتفاقهما سبب كل غنيمة ومتى أطبقت هذه الدواة زالت تلك. وأطال فيما هذا سبيله. ثم قال : قولوا للسلطان عني مهما أردتم فقد أهمني ما لحقني من توبيخه وفت في عضدي. فلما خرجوا من عنده اتفقوا على كتمان ما جرى عن السلطان فقالوا له ما مضمونه العبودية والاعتذار. ثم أن واحداً منهم أعلم السلطان بما جرى فوقع التدبير عليه حتى قتل ومات السلطان بعده بخمس وثلاثين يوماً وانحلت الدولة ووقع السيف وكان قول نظام الملك شبه الكرامة له. وقيل أن ابتداء أمر نظام الملك أنه كان من أبناء الدهاقين بطوس وتعلم العربية وكان كاتباً للأمير تاجر صاحب بلخ وكان الأمير يصادره في رأس كل سنة ويأخذ ما معه ويقول له : قد سمنت يا حسن. وهرب إلى جغري بك داود وهو بمرو فدخل إليه فلما رآه أخذ بيده وسلمه إلى ولده الب أرسلان وقال له : هذا حسن الطوسي فتسلمه واتخذه والداً ولا تخالفه. وكان نظام الملك إذا دخل عليه الأئمة الأكابر يقوم لهم ويجلس في مسنده وكان له شيخٌ فقيرٌ إذا دخل إليه يقوم له ويجلسه في مكانه ويجلس بين يديه. فقيل له في ذلك فقال : إن أولئك إذا دخلوا علي يثنون علي بما ليس في فيزيدني كلامهم عجباً وتيهاً. وهذا يذكرني عيوب نفسي وما أنا فيه من الظلم فتنكسر نفسي لذلك فأرجع عن كثيرٍ مما أنا فيه. وكان مجلسه عامراً بالعلماء وأهل الخير والصلاح. وأكثر الشعراء مراثيه فمن جيد ما قيل قول شبل الدولة.
كان الوزير نظام الملك لؤلؤةً … يتيمةً صاغها الرحمن من شرفِ
بدت فلم تعرف الأيام قيمتها … فردها غيرةً منه إلى الصدفِ
ثم سار السلطان ملكشاه بعد قتل نظام الملك إلى بغداد ودخلها في الرابع والعشرين من شهر رمضان. واتفق أن خرج إلى الصيد وعاد ثالث شوال مريضاً وكان سبب مرضه أنه أكل لحم صيدٍ فحم فافتصد ولم يستوف إخراج الدم فثقل في مرضه وكانتحمى محرقة فتوفي ليللة الجمعة النصف من شوال فسترت زوجته تركان خاتون موته وكتمته وسارت من بغداد والسلطان معها محمولاً وبذلت الأموال للأمراء واستحلفتهم لابنها محمود وكان تاج الملك وزيرها يتولى ذلك لها وأرسلت إلى الخليفة المقتدي في الخطبة فأجابها وخطب لمحمود وعمره أربع سنين. وسارت تركان خاتون من بغداد إلى أصفهان وبها بركيارق وهو أكبر أولاد السلطان فخرج منها هو ومن معه من الأمراء النظامية وساروا نحو الري. فسيرت خاتون العساكر إلى قتال بركيارق فانحاز جماعةٌ منهم إلى بركيارق فقوي بهم وعاد إلى أصفهان وحاصرها. وكان تاج الملك مع عسكر خاتون فأخذ وحمل إلى بركيارق فهجم النظامية عليه فقتلوه. وكان كثير الفضائل جم المناقب وإنما غطى محاسنه ممالأته على قتل نظام الملك. وفي سنة سبع وثمانين قدم بركيارق بغداد وخطب له بالسلطنة ولقب ركن الدين. وفي سنة سبعٍ وثمانين وأربعمائة خامس عشر محرم توفي الإمام المقتدي بالله فجأةً وكان قد أحضر عنده تقليد السلطان بركيارق ليعلم فيه فقرأه وتدبره وعلم فيه. ثم قدم إليه طعام فأكل منه وغسل يديه وعنده قهرمانته شمس النهار. فقال لها : ما هذه الأشخاص التي دخلت علي بغير إذن. ” قالت ” فالتفت فلم أر شيئاً ورأيته قد تغيرت حالته وانحلت قوته وسقط إلى الأرض ميتاً. وقلت لجاريةٍ عندي : إن صحت قتلتك. وأحضرت الوزير فأعلمته الحال. فشرعوا في البيعة لولي العهد وجهزوا المقتدي ودفنوه وكان عمره ثمانياً وثلاثين سنة وثمانية أشهر وكانت خلافته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر وأمه أم ولد أرمنية تسمى أرجوان أدركت خلافته وخلافة ابنه المستظهر وخلافة ابن ابنه المسترشد.
وفي سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة مات يحيى بن عيسى بن جزلة الطبيب البغدادي وكان رجلاً نصرانياً قد قرأ الطب على نصارى الكرخ الذين كانوا في زمانه وأراد قراءة المنطق فلم يكن في النصارى المذكورين في ذلك الوقت من يقوم بهذا الشأن وذكر له أبو علي بن الوليد شيخ المعتزلة في ذلك الوقت ووصف بأنه عالمٌ بعلم الكلام ومعرفة الألفاظ المنطقية فلازمه لقراءة المنطق. فلم يزل ابن الوليد يحسن له الإسلام حتى استجاب وأسلم فسر بإسلامه أبو عبد الله الدامغاني قاضي القضاة يومئذٍ وقربه وأدناه ورفع محله بأن استخدمه في كتابة السجلات بين يديه وكان مع اشتغاله بذلك يطب أهل محلته وسائر معارفه بغير أجرةٍ ولا جعالةٍ بل احتساباً ومروءةً ويحمل إليهم الأدوية بغير عوض. ولما مرض مرض موته وقف كتبه لمشهد الإمام أبي حنيفة. ومن مشاهير تصانيفه كتاب المنهاج وكتاب تقويم الأبدان مجدول.
” المستظهر بن المقتدي “
لما توفي المقتدي بأمر الله أحضر ولده أبو العباس أحمد فبويع له ولقب المستظهر بالله وذلك في سنة سبعٍ وثمانين وأربعمائة. ” وفيها قتل السلطان بركيارق عمه تكش وغرقه وقتل ولده معه ” . وفي سنة ثمان وثمانين قتل تتش ابن الب أرسلان واستقام الأمر والسلطنة لبركيارق. وفيها في ذي الحجة توفي المستنصر بالله بن الظاهر لإعزاز دين الله العلوي صاحب مصر والشام وكانت خلافته ستين سنة وعمره سبعاً وستين سنة وولي بعده ابنه أبو القاسم أحمد ولقب المستعلي بالله. وفي سنة تسعٍ وثمانين حكم المنجمون بطوفان يكون في الناس يقارب طوفا نوح. فأحضر الخليفة ابن عيسون المنجم فسأله. فقال : إن في طوفان نوح اجتمعت الكواكب السبعة في برج الحوت والآن فقد اجتمع ستةٌ منها وليس فيها زحل فلو كان معها لكان مثل طوفان نوح ولكن أقول إن مدينة أو بقعة من الأرض يجتمع فيها عالمٌ كثيرٌ من بلادٍ كثيرةٍ فيغرقون. فخافوا على بغداد لكثرة من يجتمع فيها من البلاد فأحكمت المسنيات والمواضع التي يخشى منها الانفجار. فاتفق أن الحجاج نزلوا في وادي المناقب فأتاهم سيلٌ عظيم فأغرق أكثرهم ونجا من تعلق بالجبال وذهب المال والدواب والازواد. فخلع الخليفة على المنجم. وفي سنة تسعين وأربعمائة قتل ملك خراسان أرسلان أرغون بن الب أرسلان أخو السلطان ملكشاه قتله غلام له. فقيل له : لم فعلت هذا. فقال : لأريح الناس من ظلمه. ثم ملك بركيارق خراسان وسلمها إلى أخيه الملك سنجر. وفي سنة إحدى وتسعين جمع بردويل ملك الإفرنج جمعاً كثيراً وخرج إلى بلاد الشام وملك إنطاكية. وكان الإفرنج قبل هذا قد ملكوا مدينة طليطلة من بلاد الأندلس وغيرها ثم قصدوا جزيرة سقلية فملكوها وتطرقوا إلى أطراف إفريقية فملكوا منها شيئاً. فلما سمع قوام الدولة كربوقا بحال الإفرنج وملكهم إنطاكية جمع العساكر وسار إلى الشام ونزل على إنطاكية وحاصرها وفيها من الملوك بردويل وسنجال وكندفري والقومص صاحب الرها وبيموند صاحب إنطاكية. وقلت الأقوات عندهم فأرسلوا إلى كربوقا يطلبون منه الأمان ليخرجوا من البلد فلم يعطهم وقال : لا تخرجون إلا بالسيف. وكان مع الإفرنج راهب مطاع فيهم وكان داهية من الرجال فقال لهم : إن فطروس السليح كان له عكازة ذات زج مدفونة بكنيسة القسيان فإن وجدتموها فإنكم تظفرون وإلا فالهلاك متحقق. وأمرهم بالصوم والتوبة ففعلوا ذلك ثلاثة أيام. فلما كان اليوم الرابع أدخلهم الموضع جميعهم ومعهم عامتهم وحفروا عليها في جميع الأماكن فوجدوها كما ذكر. فقال لهم : أبشروا بالظفر. فقويت عزيمتهم وخرجوا اليوم الخامس من الباب متفرقين من خمسة وستة ونحو ذلك. فقال المسلمون لكربوقا : ينبغي أن تقف على الباب فتقتل كل من خرج. فقال : لا تفعلوا لكن أمهلوهم حتى يتكامل خروجهم فنقتلهم. فلما تكاملوا ولم يبق بإنطاكية أحد منهم ضربوا مصافاً عظيماً فولى المسلمون منهزمون وآخر من انهزم سقمان بن ارتق فقتل الإفرنج منهم ألوفاً وغنموا ما في العسكر من الأقوات والأموال والدواب والأسلحة فصلحت حالهم وعادت إليهم قوتهم وساروا إلى معرة النعمان فملكوها. وفي سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة لما رأى المصريون ضعف الأتراك صاروا إلى البيت المقدس وحصروه وبه الأمير سقمان وايلغازي ابنا ارتق التركماني وابن عمهما سونج ونصبوا عليه نيفاً وأربعين منجنيقاً وملكوه بالأمان وخرج عنه سقمان وأصحابه واستناب المصريون فيه رجلاً يعرف بافتخار الدولة. فقصده الإفرنج ونصبوا عليه برجين وملكوه من الجانب الشمالي وركب الناس السيف ولبث الإفرنج في البلد أسبوعاً يقتلون فيه المسلمين. وقتل بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفاً وغنموا منه ما لا يقع عليه الإحصاء. وفي سنة ثلاث وتسعين جرى حربٌ بين السلطان بركيارق وبين أخيه السلطان محمد وانهزم بركيارق وتنقل في البلاد إلى أصفهان. ولم يدخلها وسار إلى خوزستان. وفي سنة أربع وتسعين كان المصاف الثاني بينهما وكان مع بركيارق خمسون ألفاً ومع أخيه محمد خمسة عشر ألفاً فالتقوا واقتتلوا فانهزم السلطان محمد وسار طالباً خراسان إلى أخيه الملك سنجر وهما لأمٍ واحدةٍ فأقام بجرجان وأتاه الملك سنجر في عساكره إلى مغان وخرب العسكر البلاد وعم الغلاء تلك الأصقاع حتى أكل الناس بعضهم بعضاً بعد فراغهم من أكل الميتة والكلاب. وفي سنة خمسٍ وتسعين توفي المستعلي بالله الخليفة العلوي المصري وكانت خلافته سبع سنين وولي بعده ابنه أبو علي المنصور وعمره خمس سنين ولقب بأحكام الله ولم يقدر يركب وحده على الفرس لصغر سنه وقام بتدبير دولته الأفضل بن أمير الجيوش أحسن قيام. وفي سنة سبعٍ وتسعين وقع الصلح بين السلطانين بركيارق وأخيه محمد ابني ملكشاه وتقررت القاعدة أن بركيارق لا يعترض أخاه محمداً في الطبل وأن لا يذكر معه على منابر البلاد التي صارت له وهي ديار بكر والجزيرة والموصل والشام. وفي سنة ثماني وتسعين توفي السلطان بركيارق بن ملكشاه وكان قد مرض بأصفهان بالسل والبواسير فلما آيس من نفسه خلع على ولده ملكشاه وعمره حينئذٍ أربع سنين وثمانية أشهر وأحضر جماعة الأمراء وأعلمهم أنه قد جعل ابنه ولي عهده في السلطنة وجعل الأمير ايز أتابكة فأجابوه كلهم بالسمع والطاعة وخطب لملكشاه بالجوامع ببغداد. وفي سنة تسعٍ وتسعين وأربعمائة سار السلطان محمد من أذربيجان إلى الموصل ليأخذها من جكرميش صاحبها وحصرها. فقاتل أهل البلد أشد قتال وكانت الرجالة تخرج ويكثرون القتل في العسكر ودام القتال من صفر إلى جمادى الأولى. فوصل الخبر إلى جكرميش بوفاة السلطان بركيارق فأرسل إلى محمد يبذل له الطاعة. ودخل إليه الوزير محمد وقال له : المصلحة أن تحضر الساعة عند السلطان فإنه لا يخالفك في جميع ما تلتمسه منه. وأخذ بيده وقام فسار معه جكرميش فلما رآه أهل الموصل قد توجه إلى السلطان جعلوا يبكون ويحثون التراب على رؤوسهم. فلما دخل على السلطان محمد أقبل عليه وأكرمه وعانقه ولم يمكنه من الجلوس وقال : ارجع إلى رعيتك فإن قلوبهم إليك وهم متطلعون إلى عودتك. فقبل الأرض وعاد وعمل من الغد سماطاً بظاهر الموصل عظيماً وحمل إلى السلطان من الهدايا والتحف ولوزيره أشياء جليلة المقدار. وفي سنة خمسمائة سار الجاولي سقاوو إلى الموصل محارباً في ألف فارس وخرج إليه جكرميش صاحبها في ألفي فارس. فلما اصطفوا للحرب حمل الجاولي من القلب على قلب جكرميش فانهزم من فيه وبقي جكرميش وحده لا يقدر على الهزيمة لفالجٍ كان به فهو لا يقدر يركب وإنما يحمل في محفةٍ فأسر وأحضر عند الجاولي فأمر بحفظه وحراسته. ولما وصل الخبر إلى الموصل اقعدوا في الأمر زنكي بن جكرميش. ثم إن الجاولي حصر الموصل وأمر أن يحمل جكرميش كل يومٍ على بغلٍ وينادى أصحابه بالموصل ليسلموا البلد ويخلصوا صاحبهم مما هو فيه ويأمرهم هو بذلك فلا يسمعون منه وكان يسجنه في جبٍ فأخرج يوماً ميتاً. فكتب أصحابه إلى الملك قلج أرسلان بن سليمان بن قتلميش السلجوقي صاحب مدينة قونية وأقسرة يستدعونه إليهم ليسلموا البلد إليه. فسار في عساكره. فلما سمع جاولي بوصوله رحل عن الموصل فتوجه قلج أرسلان إلى الموصل وملكها ونزل بالنغرقة وخرج إليه زنكي ولد جكرميش وأصحابه وخلع عليهم وجلس على التخت وأسقط خطبة السلطان محمد وخطب لنفسه وأحسن إلى العسكر ورفع الرسوم المحدثة في الظلم ثم سار عنها إلى جاولي وهو بالرحبة والتقيا على نهر الخابور فهزم أصحاب جاولي أصحاب قلج أرسلان وألقى قلج أرسلان نفسه في الخابور وحمى نفسه من أصحاب جاولي بالنشاب فانحدر به الفرس إلى ماءٍ عميقٍ فغرق. وظهر بعد أيام فدفن بالشمسانية. وسار جاولي إلى الموصل وملكها. وفي سنة اثنتين وخمسمائة استولى مودود وعسكر السلطان محمد على الموصل وأخذوها من أصحاب جاولي. وفي سنة ثلاث وخمسمائة سار تنكري الفرنجي صاحب إنطاكية إلى الثغور الشامية فملك طرسوس وأذنة ونزل على حصن الأكراد فسلمه أهله إليه. وملك الفرنج مدينة بيروت وكانت بيد نواب الخليفة العلوي. وفي سنة ستٍ في المحرم سار الأمير مودود صاحب الموصل إلى الرها فنزل عليها ورعى عسكره زروعها ورحل عنها إلى سروج وفعل بها كذلك ولم يحترز من الفرنج بل أهملهم فلم يشعر إلا وجوسلين صاحب تل باشر قد دهمهم وكبسهم وكانت دواب العسكر منتشرةً في المرعى فأخذ كثيراً منها وقتل كثيراً من العسكر وعاد إلى تل باشر. وفيها مات باسيل الأرمني صاحب دروب بلاد لاون وهو المسمى كوع باسيل أي اللص باسيل لأنه سرق عدة قلاعٍ من الثغور فتملكها الأرمن إلى الآن. وفي سنة سبعٍ وخمسمائة اجتمع المسلمون وفيهم الأمير مودود بن التون تكش صاحب الموصل ودخلوا بلاد الفرنج والتقوا عند طبرية واشتد القتال وصبر الفريقان. ثم إن الفرنج انهزموا فأذن الأمير مودود للعساكر في العود والاستراحة ثم الاجتماع في الربيع. ودخل دمشق ليقيم بها عند طغدكين صاحبها إلى الربيع فدخل الجامع ليصلي فيه فوثب عليه باطني كأنه يدعو له ويتصدق منه فضربه بسكين فجرحه أربع جراحات فمات من يومه. وقتل الباطني وأخذ رأسه فلم يعرفه أحد فأحرق. وفي سنة إحدى عشرة في ذي الحجة مرض السلطان محمد بن ملكشاه ابن الب أرسلان فلما آيس من نفسه أحضر ولده محموداً وقبله وبكى كل واحدٍ منهما وأمره أن يخرج ويجلس على تخت السلطنة وعمره إذ ذاك قد زاد على أربع عشرة سنة. فقال لوالده أنه يومٌ غير مبارك يعني من طريق النجوم. فقال : صدقت ولكن على أبيك وأما عليك فمبارك بالسلطنة. فخرج وجلس على التخت بالتاج والسوارين. وكان السلطان محمد عظيم الهيبة عادلاً حسن السيرة شجاعاً وفي سنة اثنتي عشرة وخمسمائة سادس عشر ربيع الآخر توفي الإمام المستظهر بالله وكان عمره إحدى وأربعين سنة وستة أشهر وخلافته أربعاً وعشرين سنة. ومضى في أيامه ثلاثة سلاطين خطب لهم بالحضرة وهم تاج الدولة تتش بن الب أرسلان والسلطان بركيارق والسلطان محمد ابنا ملكشاه.ن وهو المسمى كوع باسيل أي اللص باسيل لأنه سرق عدة قلاعٍ من الثغور فتملكها الأرمن إلى الآن. وفي سنة سبعٍ وخمسمائة اجتمع المسلمون وفيهم الأمير مودود بن التون تكش صاحب الموصل ودخلوا بلاد الفرنج والتقوا عند طبرية واشتد القتال وصبر الفريقان. ثم إن الفرنج انهزموا فأذن الأمير مودود للعساكر في العود والاستراحة ثم الاجتماع في الربيع. ودخل دمشق ليقيم بها عند طغدكين صاحبها إلى الربيع فدخل الجامع ليصلي فيه فوثب عليه باطني كأنه يدعو له ويتصدق منه فضربه بسكين فجرحه أربع جراحات فمات من يومه. وقتل الباطني وأخذ رأسه فلم يعرفه أحد فأحرق. وفي سنة إحدى عشرة في ذي الحجة مرض السلطان محمد بن ملكشاه ابن الب أرسلان فلما آيس من نفسه أحضر ولده محموداً وقبله وبكى كل واحدٍ منهما وأمره أن يخرج ويجلس على تخت السلطنة وعمره إذ ذاك قد زاد على أربع عشرة سنة. فقال لوالده أنه يومٌ غير مبارك يعني من طريق النجوم. فقال : صدقت ولكن على أبيك وأما عليك فمبارك بالسلطنة. فخرج وجلس على التخت بالتاج والسوارين. وكان السلطان محمد عظيم الهيبة عادلاً حسن السيرة شجاعاً وفي سنة اثنتي عشرة وخمسمائة سادس عشر ربيع الآخر توفي الإمام المستظهر بالله وكان عمره إحدى وأربعين سنة وستة أشهر وخلافته أربعاً وعشرين سنة. ومضى في أيامه ثلاثة سلاطين خطب لهم بالحضرة وهم تاج الدولة تتش بن الب أرسلان والسلطان بركيارق والسلطان محمد ابنا ملكشاه.
قال أبو الصلت أمية المغربي : لما دخلت إلى مصر في حدود سنة عشر وخمسمائة أدركت بها طبيباً إنطاكياً يسمى جرجيس ويلقب بالفيلسوف على نحو ما قيل للغراب أبو البيضاء وللديغ سليم. وقد تفرغ للتولع بأبي الخير سلامة بن رحمون اليهودي الطبيب المصري والإزراء عليه وكان يزور فصولاً طبيةً وفلسفيةً يبرزها في معارض ألفاظ القوم وهي محال لا معنى لها فارغة لا فائدة فيها ثم ينفذها إلى من يسأله عن معانيها ويستوضحه أغراضها فيتكلم عليها ويشرحها بزعمه دون تيقظٍ ولا تحفظٍ باسترسالٍ واستعجالٍ وقلة اكتراثٍ وإهمالٍ فيوجد فيها عنه ما يضحك منه. ” قال ” وأنشدت لجرجيس هذا في أبي الخير سلامة بن رحمون وهو من أحسن ما سمعت في هجو طبيبٍ مشؤوم
إن أبا الخير على جهله … يخف في كفته الفاضلُ
عليله المسكين من شؤمه … في بحر هلكٍ ما له ساحلُ
ثلثةٌ تدخل في دفعةٍ … طلعته والنعش والغاسلُ
“ قال “ وكان أبو الخير هذا يهودياً مصرياً قد نصب نفسه لتدريس كتب المنطق جميعها وجميع كتب الفلسفة الطبيعية والإلهية وشرح بزعمه وفسر ولخص ولم يكن في تحصيله وتحقيقه هنالك بل كان يكثر كلامه فيضل. ويسرع جوابه فيزل. وكان مثله في عظيم ادعائه وقصوره عن أيسر ما هو متعاطيه كقول الشاعر
يشمر للج عن ساقه … ويغمره الموج في الساحلِ
” قال ” ورأيت بمصر أيضاً رزق الله المنجم المعروف بالنخاس وكان شيخ أكثر المنجمين بمصر وكبيرهم وكان شيخاً مطبوعاً متطابياً. ومن حكاياته الظريفة عن نفسه قال : سألتني امرأةٌ مصريةٌ أن أنظر لها في مشكلةٍ تخصها. فأخذت ارتفاع الشمس للوقت وحققت درجة الطالع والبيوت الاثني عشر ومراكز الكواكب ورسمت ذلك كله بين يدي في تخت الحساب وجعلت أتكلم على بيتٍ بيتٍ منها على العادة وهي ساكتة فوجمت لذلك وأدركتني فترة وكانت قد ألقت إلي درهماً. ” قال ” فعاودت الكلام وقلت : أرى عليك قطعاً في بيت المال فاتفظي واحترسي. قالت : الآن أصبت وصدقت قد كان والله ما ذكرت. قلت : وهل ضاع لك شيءٌ. قالت : نعم الدرهم الذي ألقيت إليك. وتركتني وانصرفت. ولما ذكر أبو الصلت منجمي مصر وعابهم قال : لا تتعلق أمثلتهم من علم النجوم بأكثر من زايجةٍ يرسمها ومراكز يقومها وأما التبحر ومعرفة الأسباب والعلل والمبادي الأول فليس منهم من يرقى إلى هذه الدرجة ويسمو إلى هذه المنزلة ويحلق في هذا الجو ويستضيء بهذا الضوء ما خلا القاضي أبا الحسن علي ابن النصير المعروف بالأديب فإنه كان من الأفاضل الأعيان المعدودين من حسنات الزمان وله في سائر أجزاء الحكمة اليد الطولى والمرتبة الأولى.
“ المسترشد بن المستظهر “
لما توفي المستظهر بالله بويع ولده المسترشد بالله أبو منصور وذلك في سنة اثنتي عشرة وخمسمائة فكان ولي عهدٍ قد خطب له ثلاثاً وعشرين سنة. وفيها توفي بغدوين ملك القدس وكان قد سار إلى ديار مصر في جمعٍ من الفرنج قاصداً ملكها وبلغ مقابل تنيس وسبح في النيل فانتقض جرحٌ كان به فلما أحس بالموت عاد إلى القدس فمات به ووصى ببلاده للقمص صاحب الرها وهو الذي كان أسره جكرميش وأطلقه سقاوو جاولي. وفي سنة ثلاث عشرة وخمسمائة كانت حربٌ شديدةٌ بين السلطان سنجر وابن أخيه السلطان محمود. وفي سنة أربع عشرة خرج الكرج والخزر إلى بلاد الإسلام ومعهم قفجاق وغيرهم من الأمم فاجتمع الأمير ايلغازي ودبيس بن صدقة والملك طغرل وكان له أران ونخجوان وساروا إلى الكرج حتى قاربوا تفليس وكان المسلمون في عسكرٍ كثيرٍ يبلغون ثلاثين ألفاً فالتقوا واصطف الطائفتان للقتال فخرج من القفجاق مائتا رجل فظن المسلمون أنهم مستأمنون فلم يحترزوا منهم. فدخلوا بينهم ورموا بالنشاب فاضطرب جيش المسلمين وظن من وراءهم أنها هزيمةٌ فانهزموا ولشدة الزحام صدم بعضهم بعضاً فقتل منهم عالم عظيم وتبعهم الكرج عشرة فراسخ يقتلون ويأسرون فقتل أكثرهم وأسر أربعة آلاف رجل ونجا الملك طغرل وايلغازي ودبيس. وعاد الكرج وحاصروا مدينة تفليس واشتد قتالهم لمن بها وعظم الأمر وتفاقم الخطب على أهلها ودام الحصار إلى سنة خمس عشرة فملكوها عنوةً. وفي سنة خمس عشرة عصى سليمان بن ايلغازي بن ارتق على أبيه بحلب وقد جاوز عمره عشرين سنة. فسمع والده الخبر فسار إليه مجداً لوقته فلم يشعر به سليمان حتى هجم عليه فخرج إليه معتذراً فأمسك عنه وقبض على من كان أشار عليه بذلك منهم أميرٌ كان التقطه ارتق ورباه اسمه ناصر فقلع عينيه وقطع لسانه. ومنهم إنسانٌ حموي كان قدمه ايلغازي على أهل حلب وجعل إليه الرئاسة فجازاه عن ذلك فقطع يديه ورجليه وسمل عينيه فمات. وأحضر ولده وهو سكران وأراد قتله فمنعه رقة الوالد فاستبقاه فهرب إلى دمشق. واستناب ايلغازي بحلب سليمات بن أخيه عبد الجبار بن ارتق ولقبه بدر الدولة وعاد إلى ماردين. وفيها أقطع السلطان مدينة ميافارقين للأمير ايلغازي ابن ارتق ومدينة الموصل والجزيرة وسنجار للأمير اقسنقر الرسقي. وفي سنة ست عشرة في شهر رمضان توفي الأمير ايلغازي بن ارتق بميافارقين وملك ابنه حسام الدين تمرتاش قلعة ماردين وملك ابنه سليمان ميافارقين. وكان بحلب ابن أخيه بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن ارتق فبقي بها إلى أن أخذها منه ابن عمه. وفي سنة سبع عشرة لما رأى بلك بن بهرام بن ارتق ضعف بدر الدولة سليمان ابن عمه عن حوط بلاده من الفرنج سار إليه إلى حلب وضيق على من بها فتسلمها بالأمان. وفي سنة ثماني عشرة سار بلك بن بهرام إلى منبج وملكها وحصر القلعة فبينما هو يقاتل من بها أتاه سهمٌ فقتله واضطرب عسكره وتفرقوا وملك اقسنقر البرسقي حلب وقلعتها وملك الفرنج مدينة صور. وفي سنة عشرين وخمسمائة في ذي القعدة قتل قسيم الدولة اقسنقر البرسقي صاحب الموصل بمدينة الموصل قتله الباطنية يوم الجمعة بالجامع وملك ابنه عز الدين مسعود الموصل ولم يختلف عليه أحد. قال المؤرخ : ومن العجب أن صاحب إنطاكية أرسل إلى عز الدين مسعود يخبره بقتل والده قبل أن يصل إليه الخبر وكان قد سمعه الفرنج قبل لشدة عنايتهم بمعرفة الأحوال الإسلامية. وفي سنة إحدى وعشرين تولى أتابك عماد الدين زنكي بن اقسنقر شحنكية بغداد أسندها إليه السلطان محمود. وفيها توفي عز الدين مسعود بن اقسنقر وتولى أخوه عماد الدين زنكي الموصل وأعمالها. وفي سنة اثنتين وعشرين ملك عماد الدين زنكي بن اقسنقر مدينة حلب وقلعتها وبعد سنة ملك مدينة حماة. وفي سنة أربع وعشرين وخمسمائة ثاني ذي القعدة قتل الآمر بأحكام الله أبو علي بن المستعلي العلوي صاحب مصر خرج إلى منتزهٍ له فلما عاد وثب عليه الباطنية فقتلوه ولم يكن له ولد فولي بعده ابن عمه أبو الميمون عبد المجيد بن أبي القاسم ابن المستنصر العلوي صاحب مصر ولقب الحافظ لدين الله ولم يبايع له بالخلافة وإنما بويع له لينظر في الأمر نيابةً حتى يكشف عن حمل إن كان للآمر فتكون له فة فيه ويكون هو نائباً عنه. وفيها ظهر ببغداد عقارب طيارة ذوات شوكتين فنال الناس منها خوف شديد وأذى عظيم. وفي سنة خمس وعشرين في شوال توفي السلطان محمودابن السلطان محمد بهمذان وكان عمره نحو سبع وعشرين سنة وولايته ثلاث عشرة سنة وكان حليماً كريماً عاقلاً يسمع ما يكره ولا يعاقب عليه مع القدرة قليل الطمع في أموال الرعايا عفيفاً عنها كافاً لأصحابه عن التطرق إلى شيءٍ منها. وملك ابنه داود بعده. وفي سنة ستٍ وعشرين كاتب السلطان سنجر عماد الدين زنكي ودبيس بن صدقة وأمرهما بقصد العراق فسارا ونزلا بالمنارية من دجيل وعبر الخليفة المسترشد إلى الجانب الغربي فنزل بالعباسية والتقى العسكران بحضرا البرامكة فابتدأ زنكي فحمل على ميمنة الخليفة وبها جمال الدولة إقبال فانهزموا منه. وحمل نصر الخادم من ميسرة الخليفة على ميمنة عماد الدين ودبيس وحمل الخليفة بنفسه واشتد القتال فانهزم دبيس وعماد الدين وقتل من عسكرهما جماعة وأسر جماعة. وفي سنة سبعٍ وعشرين أرسل المسترشد الشيخ بهاء الدين أبا الفتوح الاسفرايني الواعظ إلى عماد الدين زنكي برسالةٍ فيها خشونة وزادها أبو الفتوح زيادةً في الجبه ثقةً بقوة الخليفة وناموس الخلافة. فقبض عليه زنكي وأهانه ولقيه بما يكره. فسمع الخليفة فسار عن بغداد في ثلاثين ألف مقاتل فلما قارب الموصل فارقها أتابك زنكي في بعض عسكره وترك الباقي بها مع نائبه نصير الدين ونازلها الخليفة في رمضان وقاتلها وضيق عليها. فتواطأ جماعة من الجصاصين بالموصل على تسليم البلد فسعي بهم فصلبوا. وبقي الحصار على الموصل نحو ثلاثة أشهر ولم يظفر منها بشيء ولا بلغه عمن بها وهن ولا قلة ميرة وقوت فرحل عنها عائداً إلى بغداد. وفي سنة ثماني وعشرين تقرر الصلح بين الخليفة المسترشد وأتابك زنكي. وفي سنة تسع وعشرين وخمسمائة سار الخليفة المسترشد إلى حرب السلطان مسعود ومعه جماعة من أمراء الأكابر فواقعهم السلطان مسعود عاشر رمضان فانحازت ميسرة الخليفة مخامرةً عليه إلى السلطان واقتتلت ميمنته وميسرة السلطان قتالاً ضعيفاً ودار به عسكر السلطان وهو ثابت لم يتغير من مكانه وانهزم عسكره وأخذ أسيراً فأنزله السلطان مسعود في خيمة ووكل به من يحفظه وقام بما يجب من الخدمة وترددت الرسل بينهما بالصلح وتقرير القواعد على مالٍ يؤديه الخليفة وأن لا يعود يجمع العساكر ولا يخرج من داره وأجاب السلطان إلى ذلك وأركب الخليفة وحمل الغاشية بين يديه ولم يبق إلا أن يعود إلى بغداد فوصل الخبر بقدوم رسولٍ من السلطان سنجر وخرج الناس والسلطان مسعود إلى لقائه وفارق الخليفة بعض من كان موكلاً به وكانت خيمته منفردةً عن العسكر فقصده أربعةٌ وعشرون رجلاً من الباطنية ودخلوا عليه فقتلوه وجرحوه ما يزيد على عشرين جراحةٍ ومثلوا به وجدعوا أنفه وأذنيه وتركوه عرياناً وكان قتله يوم الخميس سابع عشر ذي القعدة على باب مراغة وبقي حتى دفنه أهل مراغة وكان عمره لما قتل ثلاثاً وأربعين سنة وخلافته سبع عشرة سنة وسبعة أشهر.ة فيه ويكون هو نائباً عنه. وفيها ظهر ببغداد عقارب طيارة ذوات شوكتين فنال الناس منها خوف شديد وأذى عظيم. وفي سنة خمس وعشرين في شوال توفي السلطان محمودابن السلطان محمد بهمذان وكان عمره نحو سبع وعشرين سنة وولايته ثلاث عشرة سنة وكان حليماً كريماً عاقلاً يسمع ما يكره ولا يعاقب عليه مع القدرة قليل الطمع في أموال الرعايا عفيفاً عنها كافاً لأصحابه عن التطرق إلى شيءٍ منها. وملك ابنه داود بعده. وفي سنة ستٍ وعشرين كاتب السلطان سنجر عماد الدين زنكي ودبيس بن صدقة وأمرهما بقصد العراق فسارا ونزلا بالمنارية من دجيل وعبر الخليفة المسترشد إلى الجانب الغربي فنزل بالعباسية والتقى العسكران بحضرا البرامكة فابتدأ زنكي فحمل على ميمنة الخليفة وبها جمال الدولة إقبال فانهزموا منه. وحمل نصر الخادم من ميسرة الخليفة على ميمنة عماد الدين ودبيس وحمل الخليفة بنفسه واشتد القتال فانهزم دبيس وعماد الدين وقتل من عسكرهما جماعة وأسر جماعة. وفي سنة سبعٍ وعشرين أرسل المسترشد الشيخ بهاء الدين أبا الفتوح الاسفرايني الواعظ إلى عماد الدين زنكي برسالةٍ فيها خشونة وزادها أبو الفتوح زيادةً في الجبه ثقةً بقوة الخليفة وناموس الخلافة. فقبض عليه زنكي وأهانه ولقيه بما يكره. فسمع الخليفة فسار عن بغداد في ثلاثين ألف مقاتل فلما قارب الموصل فارقها أتابك زنكي في بعض عسكره وترك الباقي بها مع نائبه نصير الدين ونازلها الخليفة في رمضان وقاتلها وضيق عليها. فتواطأ جماعة من الجصاصين بالموصل على تسليم البلد فسعي بهم فصلبوا. وبقي الحصار على الموصل نحو ثلاثة أشهر ولم يظفر منها بشيء ولا بلغه عمن بها وهن ولا قلة ميرة وقوت فرحل عنها عائداً إلى بغداد. وفي سنة ثماني وعشرين تقرر الصلح بين الخليفة المسترشد وأتابك زنكي. وفي سنة تسع وعشرين وخمسمائة سار الخليفة المسترشد إلى حرب السلطان مسعود ومعه جماعة من أمراء الأكابر فواقعهم السلطان مسعود عاشر رمضان فانحازت ميسرة الخليفة مخامرةً عليه إلى السلطان واقتتلت ميمنته وميسرة السلطان قتالاً ضعيفاً ودار به عسكر السلطان وهو ثابت لم يتغير من مكانه وانهزم عسكره وأخذ أسيراً فأنزله السلطان مسعود في خيمة ووكل به من يحفظه وقام بما يجب من الخدمة وترددت الرسل بينهما بالصلح وتقرير القواعد على مالٍ يؤديه الخليفة وأن لا يعود يجمع العساكر ولا يخرج من داره وأجاب السلطان إلى ذلك وأركب الخليفة وحمل الغاشية بين يديه ولم يبق إلا أن يعود إلى بغداد فوصل الخبر بقدوم رسولٍ من السلطان سنجر وخرج الناس والسلطان مسعود إلى لقائه وفارق الخليفة بعض من كان موكلاً به وكانت خيمته منفردةً عن العسكر فقصده أربعةٌ وعشرون رجلاً من الباطنية ودخلوا عليه فقتلوه وجرحوه ما يزيد على عشرين جراحةٍ ومثلوا به وجدعوا أنفه وأذنيه وتركوه عرياناً وكان قتله يوم الخميس سابع عشر ذي القعدة على باب مراغة وبقي حتى دفنه أهل مراغة وكان عمره لما قتل ثلاثاً وأربعين سنة وخلافته سبع عشرة سنة وسبعة أشهر.
“ الراشد بن المسترشد “
لما قتل المسترشد بويع ولده أبو جعفر المنصور ولقب الراشد بالله. وكان المسترشد بايع له بولاية العهد في حياته وجددت له البيعة بعد قتله يوم الاثنين سلخ ذي القعدة سنة تسع وعشرين وخمسمائة. وفيها قتل دبيس بن صدقة صاحب الحلة على باب سرادقه بظاهر خونج أمر السلطان غلاماً أرمنياً بقتله فوقف على رأسه وهو ينكت الأرض بإصبعه فضرب رقبته وهو لا يدري. ومثل هذه الحادثة تقع كثيراً وهو قرب موت المتعادين فإن دبيساً كان يعادي المسترشد ويكره خلافته ولم يكن يعلم أن السلاطين إنما كانوا يبقون عليه ليجعلوه عدةً لمقاومة المسترشد فلما زال السبب زال المسبب. وفي سنة ثلاثين وخمسمائة اجتمع الملوك وأصحاب الأطراف ببغداد وخرجوا عن طاعة السلطان مسعود وسار الملك داود بن السلطان محمود في عسكر أذربيجان إلى بغداد ووصل أتابك عماد الدين زنكي بعده من الموصل وخطب للملك داود ببغداد. فلما بلغ السلطان الخبر جمع العساكر وسار إلى بغداد وحصرها نيفاً وخمسين يوماً فلم يظفر بهم فعزم على العود إلى همذان فوصله طرنطاي صاحب واسط ومعه سفن كثيرة فعاد إليها فاختلفت كلمة الأمراء المجتمعين ببغداد فعاد الملك داود إلى بلاده وتفرق الأمراء وكان عماد الدين زنكي بالجانب الغربي فعبر إليه الخليفة الراشد وسار معه إلى الموصل في نفرٍ يسيرٍ من أصحابه ودخل السلطان مسعود إلى بغداد واستقر بها وجمع القضاة والشهود والفقهاء وعرض عليهم اليمين التي حلف بها الراشد له وفيها بخط يده : إنني متى جندت أو خرجت أو لقيت أحداً من أصحاب السلطان مسعود بالسيف فقد خلعت نفسي من الأمر. فأفتوا وخلع وقطعت خطبته من بغداد وسائر البلاد وكانت خلافته أحد عشر شهراً وثمانية عشر يوماً.
و في سنة ثلاثين وخمسمائة كان أبو علي المهندس المصري موجوداً بمصر قيماً بعلم الهندسة وكان فاضلاً فيه وفي الأدب وله شعرٌ يلوح عليه الهندسة فمن شعره
تقسم قلبي في محبة معشرٍ … بكل فتى منهم هواي منوطُ
كأن فؤادي مركزٌ وهمُ لهُ … محيطٌ وأهواي لديه خطوطُ
له أيضاً:
إقليذس العلم الذي هو يحتوي … ما في السماء معاً وفي الآفاقِ
هو سلمٌ وكأنما أشكاله … درجٌ إلى العلياء للطراقِ
تزكو فوائده على إنفاقه … يا حبذا زاكٍ على الإنفاقِ
ترقى به النفس الشريفة مرتقىً … أكرم بذاك المرتقى والراقي
” المقتفي بن المستظهر “
لما قطعت خطبة الراشد بالله تقدم السلطان مسعود بعمل محضر يذكر فيه ما ارتكبه الراشد من أخذ الأموال وأشياء تقدح في الإمامة ثم كتبوا فتوى : ما تقول العلماء في من هذه صفته هل يصلح للإمامة أم لا. فأفتوا أن من هذه صفته لا يصلح أن يكون إماماً. فاستشار السلطان جماعةً من أعيان بغداد فيمن يصلح أن يلي الخلافة فذكر الوزير محمد بن المستظهر ودينه وعقله ولين جانبه وعفته فأحضر المذكور وأجلس في الميمنة ودخل السلطان والوزير وتحالفا وقرر الوزير القواعد بينهما وخرج السلطان من عنده وحضر الأمراء والقضاة والفقهاء وبايعوه ثاني عشر ذي الحجة سنة ثلاثين وخمسمائة ولقب المقتفي لأمر الله.
في سنة إحدى وثلاثين فارق الراشد المخلوع أتابك زنكي من الموصل وسار إلى همذان وبها الملك داود. وفيها رحل إلى أصفهان. فلما كان آخر رمضان وثب عليه نفرٌ من الخراسانية الذين كانوا في خدمته فقتلوه وهو يريد القيلولة وكان في أعقاب مرضٍ قد برأ منه ودفن بظاهر أصفهان بشهرستان وكان عمره أربعين سنة. وفي سنة اثنتين وثلاثين وصل أتابك زنكي إلى حماة وأرسل إلى شهاب الدين صاحب دمشق يخطب إليه أمه ليتزوجها واسمها زمرد خاتون ابنة جاولي وهي التي بنت المدرسة بظاهر دمشق على نهر بردى. فتزوجها وتسلم حمص مع قلعتها وإنما حمله على التزوج بها ما رآه من تحكمها في دمشق فظن أنه يملك البلد بالاتصال إليها فلما تزوجها خاب أمله ولم يحصل على شيء فأعرض عنها. وفيها ملك حسام الدين تمرتاش بن ايلغازي صاحب ماردين قلعة الهتاخ أخذها من بعض بني مروان وهو آخر من بقي منهم له ولاية. وفي سنة ثلاث وثلاثين ملك أتابك زنكي بن اقسنقر بعلبك. وفي سنة أربع ملك زنكي شهرزور وأعمالها. وفي سنة سبعٍ وثلاثين وخمسمائة توفي محمد بن دانشمند صاحب ملطية والثغر واستولى على بلاده الملك مسعود بن قلج أرسلان صاحب قونية وهو من السلجوقية.
و في سنة تسعٍ وثلاثين فتح أتابك عماد الدين زنكي مدينة الرها من الفرنج وحاصر قلعة البيرة وهي للفرنج بعد ملك الره وهي من أمنع الحصون وضيق عليها وقارب أن يفتحها فجاءه خبر قتل نصير الدين نائبه بالموصل فسار عنها. فخاف من بالبيرة من الفرنج أن يعود إليها فأرسلوا إلى نجم الدين صاحب ماردين وسلموها إليه فملكها المسلمون.
و في سنة أربعين وخمسمائة لخمسٍ مضين من ربيع الآخر قتل أتابك عماد الدين زنكي بن اقسنقر صاحب الموصل والشام وهو يحاصر قلعة جعبر قتله جماعة من مماليكه ليلاً غيلةً وهربوا إلى قلعة جعبر. فصاح من بها من أهلها إلى العسكر يعلمونهم بقتله فأظهروا الفرح. فدخل أصحابه إليه فأدركوه وبه رمق وفاضت نفسه لوقته وكان قد زاد عمره على ستين سنة قد وخطه الشيب وكان شديد الهيبة على عسكره ورعيته عظيم السياسة وكانت الموصل قبل أن يملكها أكثرها خراب بحيث يقف الإنسان قريب محلة الطبالين ويرى الجامع العتيق والعرصة ودار السلطان ليس بين ذلك عمارة. وكان الإنسان لا يقدر على المشي في الجامع العتيق إلا ومعه من يحميه وهو الآن في وسط العمارة. وكانت الموصل من أقل بلاد الله فاكهةً فصارت في أيامه وما بعدها من أكثر البلاد فواكه ورياحين. ولما قتل أتابك زنكي أخذ نور الدين محمود ولده خاتمه من يده وكان حاضراً معه وسار إلى حلب وملكها. وكان سيف الدين غازي أخوه بمدينة شهرزور وهي إقطاعه فأرسل إليه زين الدين علي كوجك نائب أبيه عماد الدين زنكي بالموصل يستدعيه إلى الموصل فحضر واستقر ملك سيف الدين على البلاد وبقي أخوه نور الدين بحلب وهي له.
و في سنة أربعٍ وأربعين وخمسمائة توفي سيف الدين غازي بن أتابك زنكي صاحب الموصل بها من مرضٍ حاد. فلما اشتد مرضه أرسل إلى بغداد واستدعى أوحد الزمان أبا البركات فحضر عنده ورأى شدة مرضه فعالجه فلم ينجع الدواء وتوفي آخر جمادى الآخرة وكانت ولايته ثلاث سنين. وولي أمر الموصل والجزيرة بعده أخوه قطب الدين مودود. وكان أخوه الأكبر نور الدين محمود بالشام وله حلب وحماة فسار إلى سنجار وملكها ولم يحاققه أخوه قطب الدين ثم اصطلحا وأعاد نور الدين سنجار إلى قطب الدين وتسلم هو مدينة حمص والرحبة فبقي الشام له وديار الجزيرة لأخيه.
و فيها غزا نور الدين محمود بن زنكي بلد الإفرنج من ناحية إنطاكية فاجتمعت الفرنج مع البرنس فلقيهم نور الدين واقتتلوا قتالاً عظيماً فانهزم الفرنج وقتل البرنس. وملك بعده ابنه بيمند وهو طفل فتزوجت أمه ببرنس آخر ليدبر البلد إلى أن يكبر ابنها. وفيها توفي الحافظ لدين الله عبد المجيد وولي الخلافة بمصر ابنه الظافر بأمر الله أبو المنصور اسمعيل. وفي سنة ستٍ وأربعين جمع نور الدين محمود عسكره وسار إلى بلاد جوسلين الفرنجي وهي شمالي حلب. وكان جوسلين فارس الفرنج غير مدافع قد جمع الشجاعة والرأي فسار في عسكره نحو نور الدين فالتقوا واقتتلوا وانهزم المسلمون وقتل منهم وأسر جمعٌ كثير وكان في جملتهم سلاح دار نور الدين فأخذه جوسلين ومعه سلاح نور الدين فسيره إلى الملك مسعود بن قلج أرسلان صاحب قونية واقصرا وقال له : هذا سلاح دار زوج ابنتك وسيأتيك بعده ما هو أعظم منه. فلما علم نور الدين الحال عظم ذلك عليه وأعمل الحيلة على جوسلين وهجر الراحة ليأخذ ثأره وأحضر جماعة من الأمراء التركمان وبذل لهم الرغائب إن هم ظفروا بجوسلين وسلموه إليه لأنه علم عجزه عنه في القتال. فجعل التركمان عليه العيون. فخرج متصيداً فظفر به طائفةٌ منهم وحملوه إلى نور الدين أسيراً. فسار نور الدين إلى قلاع جوسلين فملكها وهي عين تاب وعزاز وقورس والروندان وبرج الرصاص ودلوك ومرعش ونهر الجوز وغير ذلك من أعماله.
و في سنة سبعٍ وأربعين توفي السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه بهمذان وكان عهده إلى ملكشاه ابن أخيه السلطان محمود فخطب له الأمير خاصبك بالسلطنة ورتب الأمور وقررها بين يديه. ثم قبض عليه وأرسل إلى أخيه الملك محمد وهو بخوزستان يستدعيه وكان قصده أن يحضر عنده فيقبضه ويخطب لنفسه بالسلطنة. فسار إليه محمد فاجلسه على التخت وخطب له بالسلطنة. ثم شعر محمد بخبث خاصبك فثاني يوم وصوله لما دخل إليه قتله ومعه زنكي الجاندار وألقى رأسيهما وبقيا حتى أكلتهما الكلاب واستقر محمد في السلطنة. وفيها توفي حسام الدين تمرتاش صاحب ماردين وميافارقين وكانت ولايته نيفاً وثلاثين سنة وولي بعده ابنه نجم الدين البي.
وفي سنة ثمان وأربعين وخمسمائة ملك الفرنج بالشام مدينة عسقلان وكانت من جملة مملكة العلويين المصريين. وفي سنة تسعٍ وأربعين في المحرم قتل الظافر بن الحافظ العلوي صاحب مصر وولي ابنه الفائز بنصر الله ثاني يوم قتل أبوه وله من العمر خمس سنين فحمله الوزير عباس على كتفه وأجلسه على التخت سرير الملك. وفيها في صفر ملك نور الدين محمود بن زنكي بن اقسنقر مدينة دمشق وأخذها من صاحبها مجير الدين ابق بن محمد بوري بن طغدكين أتابك. وفي سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة في رجب كان بالشام زلازل كثيرة قوية خربت كثيراً من البلاد فخرب منها حمص وحماة وشيزر وكفرطاب والمعرة وحصن الأكراد وعرقة واللاذقية وطرابلس وإنطاكية. وأما كثرة القتلى فيكفي فيها أن معلماً كان بمدينة وذكر أنه فارق المكتب لمهمٍ عرض له فجاءت الزلزلة فخربت البلد وسقط المكتب على
جميعهم. ” قال المعلم ” فلم يأت أحدٌ يسأل عن صبيٍ كان له
وفيها في ريع الأول توفي السلطان سنجر بن ملكشاه بن الب أرسلان أصابه قولنج ثم بعده إسهال. وفي سنة أربعٍ وخمسين ثامن ربيع الآخر كثرت الزيادة في دجلة وخرج القورج فوق بغداد فامتلأت الصحارى وخندق البلد ووقع بعض السور فغرق بعض القطيعة وباب الأزج والمأمونية ودب الماء تحت الأرض إلى أماكن فوقعت وأخذ الناس يعبرون إلى الجانب الغربي فبلغت المعبرة عدة دنانير ولم يكن يقدر عليها. ثم نقص الماء فكثر الخراب وبقيت المحال لا تعرف وإنما هي تلول فأخذ الناس حدود دورهم بالتخمين. وفيها في ذي الحجة توفي السلطان محمد بن محمود بن محمد ابن ملكشاه وملك عمه سليمان شاه بن محمد. وفي سنة خمسٍ وخمسين وخمسمائة ثاني ربيع الأول توفي الخليفة المقتفي لأمر الله وكانت خلافته أربعاً وعشرين سنة وعمره ستاً وستين سنة.وهو أول من استبد بالعراق منفرداً عن سلطان وحكم على عسكره وأصحابه من حين تحكم المماليك على الخلفاء ومن عهد المستنصر إلى الآن.
وكان في وسط المائة السادسة من الأطباء المشار إليهم في اآفاق ثلاثة أفاضل معاً من ثلاث ملل كل منهم هبة الله اسماً ومعنىً من النصارى واليهود والمسلمين هبة الله ابن صاعد بن التلميذ وهبة الله بن ملكا أبو البركات أوحد الزمان وهبة الله بن الحسين الأصفهاني. أما التلميذ الطبيب النصراني البغدادي ففاضل زمانه وعالم أوانه خدم الخلفاء من بني العباس وتقدم في خدمتهم وارتفعت مكانته لديهم وكان موفقاً في المباشرة والمعالجة عالماً بقوانين هذه الصناعة عمر طويلاً وعاش نبيلاً جليلاً وكان شيخاً بهي المنظر حسن الرواء عذب المجتنى والمجتبى لطيف الروح ظريف الشخص بعيد الهم عالي الهمة ذكي الخاطر مصيب الفكر حازم الرأي. وله في نظم الشعر كلماتٌ راقية رائفة شافية شائقة تعرب عن لطافة طبعه. ومن شعره
كانت بلهنية الشبيبة سكرةً … فصحوت واستأنفت سيرة مجملِ
وقعدت أرتقب الفناء كراكبٍ … عرف المحل فبات دون المنزلِ
وكان أبو الحسن بن التلميذ يحضر عند المقتفي كل أسبوعٍ مرةً فيجلسه لكبر سنه. وتوفي في صفر سنة ستين وخمسمائة وقد قارب المائة وذهنه بحاله. وسأله ابنه قبل أن يموت بساعة : ما تشتهي. قال : أن أشتهي. وأما هبة الله بن ملكا أبو البركات اليهودي في أكثر عمره المسلم في آخر أمره فكان طبيباً فاضلاً عالماً بعلوم الأوائل وكان حسن العبارة لطيف الإشارة صنف كتاباً سماه المعتبر أخلاه من النوع الرياضي وأتى فيه بالمنطق الطبيعي والإلهي فجاءت عبارته فصيحة ومقاصده في ذلك الطريق صحيحة. ولما مرض أحد السلاطين السلجوقية استدعاه من بغداد فتوجه نحوه ولاطفه إلى أن برأ وأعطاه العطايا الجمة من الأموال والمراكب والملابس والتحف وعاد إلى العراق على غاية ما يكون من التجمل والغنى. وسمع أن ابن أفلح قد هجاه بقوله
لنا طبيبٌ يهوديٌ حماقته … إذا تكلم تبدو فيه من فيهِ
يتيه والكلب أعلى منه منزلةً … كأنه بعد لم يخرج من التيهِ
ولما سمع ذلك علم أنه لا يبجل بالنعمة التي أنعمت عليه إلا بالإسلام فقوي عزمه على ذلك. وتحقق أن له بناتٍ كباراً وأنهن لا يدخلن معه في الإسلام وأنه متى مات لا يرثنه فتضرع إلى الخليفة في الإنعام عليهن من مالٍ يخلفه وإن كن على دينهن فوقع له بذلك. ولما تحققه أظهر إسلامه وجلس للتعليم والمعالجة ولم يزل سعيداً إلى أن قلب له الدهر ظهر المجن. ووضع من شأنه بعد أن أسن. فأدركته إعلالٌ قصر عن معاناتها طبه. واستولت عليه الآلام مما لم يطق حملها جسمه ولا قلبه. وذلك أنه عمي وطرش وجذم. فنعوذ بالله من استحالة الأحوال وضيق المحال وسوء المآل. ولما أحس بالموت أوصى إلى من يتولاه أن يكتب على قبره ما مثاله : هذا قبر أوحد الزمان أبي البركات ذي العبر صاحب المعتبر. وفي كبر أبي البركات أوحد الزمان فتواضع أمين الدولة بن التلميذ يقول البديع هبة الله الاصطرلابي
أبو الحسن الطبيب ومقتفيه … أبو البركات في طرفي نقيضِ
فذاك من التواضع في الثريا … وهذا بالتكبر في الحضيضِ
وأما هبة الله بن الحسين بن علي الحكيم الطبيب الأصفهاني فكان من محاسن الدهر وأفاضل العصر وفيه قيل أن عند طبه لا يشترى بقراط بقيراط ولا يستقيم سقراط على الصراط ولحق حق ابن بطلان بالبطلان. وتوفي سنة نيفٍ وثلاثين وخمسمائة بسكتةٍ أصابته ودفن في سرداب داره وهو مسكت فلما فتح بابه بعد أشهرٍ لينقل وجد جالساً عند الدرجة وهو ميت. وله شعرٌ حلوٌ منه ما قاله يصف حماماً في دار صديقٍ له
و دخلت جنتهُ وزرت جحيمهُ … وشكرت رضواناً ورأفة مالكِ
والبشر في وجه الغلام نتيجةٌ … لقد مات ضياء وجه المالكِ
وفي الأيام المقتفية دخل أبو الحكم المغربي الأندلسي الحكيم المرسي العراق وهو مجهولٌ لا يُعرف ورأى في بعض تطوافه بأزقة بغداد رجلاً جالساً على باب دار يشعر بالرئاسة لسامنها وبين يديه شابٌ يقرأ عليه شيئاً من كتاب أوقليذس فقرب منهما أبو الحكم ليسمع فإذا المعلم يهذي ما لا يعلم فرد عليه خطأه وبين غلطه. وعلم الشاب الحقيقة في الرد فاستوقف أبا الحكم إلى أن يعود ودخل الدار وخرج يستدعي أبا الحكم دون المعلم فدخل إلى دار سرية فلقي والد الشاب وهو أحد أمراء الدولة فأحسن ملتقاه ثم سأله ملازمة ولده فأجاب. فاشتهر ذكر أبي الحكم فتطلبه الطلبة وارتفع قدره. وكان كثير الهزل والمزاح. شديد المجون والارتياح. ثم كره العراق وفارق على نية قصد المغرب. فلما حل بظاهر دمشق سير غلاماً له ليبتاع منها ما يأكلانه في يومهما وأصحبه نزراً يكفي رجلين. فعاد الغلام ومعه شواءٌ وفاكهةٌ وحلواء وفقاع وثلج. فنظر أبو الحكم إلى ما جاء به وقال عند استكثاره : أوجدت أحداً من معارفنا. فقال : لا وإنما ابتعت هذا بما كان معي وبقيت منه هذه البقية. فقال أبو الحكم : هذا بلدٌ لا يحل لذي عقلٍ أن يتعداه. ودخل وارتاد منزلاً وسكنه وفتح دكان عطارٍ يبيع به العطر ويطب وأقام على ذلك إلى أن أتى أجله.
” المستنجد بن المقتفي “
لما اشتد مرض المقتفي وكان ولي عهده ابنه يوسف وكانت للمقتفي حظيةٌ هي أم ولده أبي علي فأرادت الخلافة لابنها وأحضرت عدةً من الجواري وأعطتهن السكاكين وأمرتهن بقتل ولي العهد يوسف إذا دخل على والده. وكان ليوسف خصيٌ صغيرٌ يرسله كل وقتٍ يتعرف أخبار والده فرأى الجواري بأيديهن السكاكين فعاد إلى يوسف وأخبره فاستدعى أستاذ الدار وأخذه معه وجماعة من الفراشين ودخل الدار وقد لبس الدرع وأخذ بيده السيف. فلما دخل ثار به الجواري فضرب واحدةً منهن فجرحها وكذلك أخرى وصاح فدخل أستاذ الدار ومعه الفراشون فهرب الجواري وأخذ أخاه أباه علي وأمه فسجنهما وأخذ الجواري وقتل منهن وغرق منهن. فلما توفي المقتفي جلس يوسف ابنه للبيعة فبويع له ولقب المستنجد بالله وخطب له في ربيع الأول سنة خمسٍ وخمسين وخمسمائة
و في سنة ستٍ وخمسين في صفر توفي الفائز عيسى بن الظافر اسمعيل صاحب مصر وكانت خلافته ست سنين وولي الأمر بعده بمصر عبد الله بن يوسف بن الحافظ ولقب العاضد لدين الله وهو آخر الخلفاء العلويين بالديار المصرية. وفي سنة تسعٍ وخمسين وخمسمائة هرب شاور وزير العاضد صاحب مصر من ضرغام الذي نازعه في الوزارة إلى الشام ملتجئاً إلى نور الدين ومستجيراً به وطلب منه إرسال العساكر معه إلى مصر ليعود إلى منصبه ويكون له ثلث دخل البلاد. فتقدم نور الدين بتجهيز الجيوش وقدم عليه أسد الدين شيركوه فتجهز وساروا جميعاً وشاور في صحبتهم ووصل أسد الدين والعساكر إلى مدينة بلبيس. فخرج إليهم أخو ضرغام بعسكر المصريين ولفيهم فانهزم. وخرج ضرغام من القاهرة فقتل وقتل أخوه أيضاً. وخلع على شاور وأعيد إلى الوزارة. وأقام أسد الدين بظاهر القاهرة فغدر به شاور وعاد عما كان قرره لنور الدين وأرسل إلى الفرنج يستمدهم فسارعوا إلى تلبية دعوته ونصرته وتجهزوا وساروا. فلما قارب الفرنج مصر فارقها أسد الدين وقصد مدينة بلبيس وجعلها ظهراً يتحصن به فحصره بها العساكر المصرية والفرنج ثلاثة أشهر وهو يغاديهم القتال ويراوحهم فلم يبلغوا منه غرضاً. فراسل الفرنج أسد الدين في الصلح والعود إلى الشام فأجابهم إلى ذلك وصار إلى الشام.
و في سنة ثلاث وستين وخمسمائة فارق زين الدين علي بن سبكتكين النائب عن قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل خدمة صاحبه بالموصل وسار إلى إربل وكان هو الحاكم في الدولة وأكثر البلاد بيده. فلما عزم على مفارقة الموصل إلى بيته بإربل سلم جميع ما كان بيده من البلاد إلى قطب الدين مودود وبقي معه إربل حسبُ. وكان شجاعاً عادلاً حسن السيرة سليم القلب كثير العطاء للجند وغيرهم مدحه الحيص بيص بقصيدةٍ فلما أراد أن ينشده قال : أنا لا أعرف ما تقول ولكني أعلم أنك تريد شيئاً. وأمر له بخمسمائة دينار وفرس وخلعة سنية وثياب مجموع ذلك ألف دينار ولم يزل بإربل إلى أن مات بها هذه السنة.
وفي سنة أربع وستين وخمسمائة ملك نور الدين قلعة جعبر. وملك أسد الدين شيركوه مصر وقتل الوزير. ولما ثبت قدم أسد الدين وظن أن لم يبق له منازع أتاه أجله فتوفي يوم السبت الثاني والعشرين من جمادى الآخرة وكانت ولايته شهرين. وأما ابتداء أمره فإنه كان هو وأخوه نجم الدين أيوب ابنا شاذي من بلد دوين وأصلهما من الأكراد الروادية فقدما العراق وخدما مجاهد الدين بهروز شحنة بغداد. فرأى من نجم الدين أيوب عقلاً ورأياً وكان أكبر من شيركوه فجعله مستحفظاً لقلعة تكريت. فسار إليها ومعه أخوه شيركوه. ثم أن شيركوه قتل كاتباً نصرانياً بتكريت لملاحاةٍ جرت بينهما فأخرجهما بهروز من قلعة تكريت فسارا إلى زنكي. ولما ملك بعلبك جعل أيوب مستحفظاً لها فلما قتل زنكي وتسلم عسكر دمشق بعلبك صار هو أكبر الأمراء بدمشق واتصل أخوه شيركوه بنور الدين فأقطعه حمص والرحبة وجعله مقدم عسكره. فلما أراد أن يرسل العسكر إلى مصر لم ير هناك من يصلح لهذا الأمر العظيم والمقام الخطير غيره فأرسله فملكها
ولما توفي أسد الدين شيركوه طلب جماعة من الأمراء النورية ولاية الوزارة للعاضد العلوي صاحب مصر فأرسل العاضد إلى صلاح الدين بن أيوب بن شاذي أحضره عنده وخلع عليه وولاه الوزارة بعد عمه ولقبه الملك الناصر وكان اسمه يوسف. فكان الذي حمله على ذلك أن أصحابه قالوا له :ليس في الجماعة أضعف ولا أصغر سناً من يوسف فإذا ولي لا يرفع علينا رأساً مثل غيره. فثبت قدم صلاح الدين ومع هذا فهو نائب عن نور الدين وكان نور الدين يكاتبه بالأمير الاسفهسلار ويكتب علامته على رأس الكتاب تعظيماً عن أن يكتب اسمه وكان لا يفرده بكتاب بل يكتبه : الأمير الاسفهسلار صلاح الدين وكافة الأمراء بالديار المصرية يفعلون كذا وكذا. واستمال صلاح الدين قلوب الناس وبذل الأموال فمالوا إليه وأحبوه وضعف أمر العاضد. ثم أرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين أن يرسل إليه إخوته وأهله فأرسلهم إليه وشرط عليهم طاعته.
وفي سنة خمسٍ وستين وخمسمائة في شوال مات قطب الدين مودود بن زنكي ابن اقسنقر صاحب الموصل. ولما اشتد مرضه أوصى بالملك بعده لابنه الأكبر عماد الدين زنكي ثم عدل عنه إلى ابنه الآخر وهو سيف الدين غازي وإنما فعل ذلك لأن القيم بأمور دولته كان خادماً له يقال له فخر الدين عبد المسيح وكان يكره عماد الدين لأنه كان طوع عمه نور الدين وكان نور الدين يبغض عبد المسيح فاتفق عبد المسيح وخاتون ابنة حسام الدين تمرتاش بن ايلغازي وهي والدة سيف الدين علي صرف الملك عن عماد الدين إلى سيف الدين. ورحل عماد الدين إلى عمه نور الدين مستنصراً به ليعينه على أخذ الملك لنفسه.
وفي سنة ستٍ وستين وخمسمائة تاسع ربيع الآخرتوفي الإمام المستنجد بالله أبو المظفر يوسف بن المقتفي وكانت خلافته إحدى عشرة سنة وعمره ستاً وخمسين سنة. وكان من أحسن الخلفاء سيرةً مع الرعية عادلاً قبض على إنسان كان يسعى بالناس فأطال حبسه فشفع فيه بعض أصحابه المختصين بخدمته وبذل عنه عشرةآلاف دينار. فقال : أنا أعطيك عشرة آلاف دينار وتحضر لي إنساناً آخر مثله أحبسه فأكف شره عن الناس. ولم يطلقه. وكان سبب موته أنه كتب إلى وزيره مع طبيبه ابن صفية يأمره بالقبض على أستاذ الدار وقطب الدين قايماز وصلبهما وكان قد اشتد مرضه. فاجتمع الطبيب بهما وأوقفهما على الخط. فقالا له : عد إليه وقل له : إنني أوصلت الخط إلى الوزير وفعل ذلك. ثم دخل المذكوران على المستنجد ومعهما أصحابهما فحملوه وهو يستغيث إلى الحمام وألقوه وأغلقوا الباب عليه وهو يصيح إلى أن مات.
” المستضيء بن المستنجد “
ولما أظهروا موت المستنجد أحضر ابنه أبو محمد الحسن وبايعه أهل بيته البيعة الخاصة يوم توفي أبوه أي تاسع ربيع الآخر سنة ست وستين وخمسمائة وبايعه الناس من الغد في التاج بيعةً عامةً ولقب المستضيء بأمر الله وأظهر من العدل أضعاف ما عمل أبوه وفرق أموالاً جليلة المقدار. ولما بلغ نور الدين محمود ابن زنكي وفاة أخيه قطب الدين مودود صاحب الموصل وملك ولده سيف الدين غازي الموصل وتحكم فخر الدين عبد المسيح عليه أنف لذلك وسار بجريدةٍ في قلةٍ من العسكر وعبر الفرات عند قلعة جعبر وملك الرقة والخابور ونصيبين وحاصر سنجار وملكها وسلمها إلى عماد الدين ابن أخيه وأتى مدينة بلد وعبر دجلة عندها مخاضةً إلى الجانب الشرقي ونزل على حصن نينوى. ومن العجب أنه يوم نزوله سقط من سور الموصل بدنةً كبيرةً فأرسل فخر الدين عبد المسيح إلى نور الدين في تسليم البلد إليه على أن يقره بيد سيف الدين ويطلب لنفسه الأمان ولماله وأهله فأجيب إلى ذلك وشرط أن فخر الدين يأخذه معه إلى الشام ويعطيه إقطاعاً مرضية. فتسلم البلد ودخل القلعة وأمر بعمارة الجامع النوري وسلم الموصل إلى سيف الدين وسنجار لعماد الدين وعاد إلى الشام واستصحب معه فخر الدين عبد المسيح وكان مقامه بالموصل أربعة وعشرين يوماً. وفي سنة سبعٍ وستين وخمسمائة لما ثبت قدم صلاح الدين بمصر وضعف أمر الخليفة العاضد بها وصار قصره يحكم فيه صلاح الدين ونائبه قراقوش وقو خصي من أعيان الأمراء الأسدية كلهم يرجعون إليه عزم على قطع خطبة العاضد وكان يخاف المصريين. وكان قد دخل إلى مصر رجلٌ أعمى يعرف بالأمير العالم فلما رأى ما هو فيه من الإحجام وأن واحداً لا يتجاسر يخطب للعباسيين قال : أنا أبتدئ بالخطبة للمستضيء. فلما كان أول جمعة من المحرم صعد المنبر قبل الخطيب ودعا للمستضيء فلم ينكر أحدٌ ذلك فقطع الخطباء كلهم بمصر خطبة العاضد وخطبوا للمستضيء ولم ينتطح فيها عنزان. وتوفي العاضد يوم عاشوراء ولم يعلموه بقطع خطبته.
وفيها عبر الخطا نهر جيحون يريدون خوارزم. فسار صاحبها خوالازم شاه أرسلان بن اقسز في عساكره إلى أموية ليقاتلهم ويصدهم فمرض فأقام بها وسير جيشه مع أميرٍ كبيرٍ فلقيهم فانهزم الخوارزميون وأسر مقدمهم ورجع به الخطا إلى ما وراء النهر. وعاد خوارزم شاه إلى خوارزم مريضاً وتوفي بها وملك بعده ابنه سلطان شاه محمود. وكان ابنه الأكبر علاء الدينتكش مقيماً في جند فقصد ملك الخطا واستمده علىأخيه فسير معه جيشاً كثيفاً مقدمهم فوما وساروا حتى قاربوا خوارزم فخرج سلطان شاه منها ومعه أمه وقصد خراسان وملك تكش خوارزم. وفي سنة تسعٍ وستين وخمسمائة توفي نور الدين محمود بن زنكي بن اقسنقر صاحب الشام وديار الجزيرة ومصر يوم الأربعاء حادي عشر شوال ولم يكن في سير الملوك أحسن من سيرته ولا أكثر تحرياً للعدل منه وكان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف في الذي يخصه إلا من ملكٍ كان له قد اشترته من سهمه من الغنيمة. ولقد شكت إليه زوجته من الضائقة فأعطاها ثلاثة دكاكين في حمص كانت له يحصل منها في السنة نحو العشرين ديناراً. فلما استقلتها قال : ليس لي إلا هذا وجميع ما بيدي أنا فيه خازنٌ للمسلمين لا أخونهم فيه ولا أخوض نار جهنم لأجلكِ. ولما مات ملك بعده ابنه الملك الصالح اسمعيل وكان عمره إحدى عشرة سنة وأطاعته الناس بالشام وصلاح الدين بمصر وخطب له بها وضرب السكة باسمه. وفي سنة سبعين وخمسمائة لما ملك سيف الدين غازي الديار الجزرية خاف الأمراء الذين في دمشق وحلب لئلا يعبر إليهم سيف الدين فسيروا الملك الصالح ومعه العساكر إلى حلب ليصد سيف الدين عن العبور إلى الشام. فلما خلت دمشق عن السلطان والعساكر سار إليها صلاح الدين فملكها وملك بعدها حمص وحماة وبعلبك وسار إلى حلب فحصرها. فركب الملك الصالح وهو صبي عمره اثنتا عشرة سنة وجمع أهل حلب وقال لهم : قد عرفتم إحسان أبي إليكم ومحبته لكم وسيرته فيكم وأنا يتيمكم وقد جاء هذا الظالم الجاحد إحسان والدي إليه يأخذ بلدي ولا يراقب الله ولا الخلق. وقال من هذا كثيراً وبكى فأبكى الناس واتفقوا على القتال دونه فكانوا يخرجون ويقاتلون صلاح الدين عند جبل جوشن ولا يقدر على القرب من البلد فرحل عنه. وفيها ملك البهلوان مدينة تبريز. وفي سنة إحدى وسبعين ملك صلاح الدين قلعة عزاز ونازل حلب وبها الملك الصالح وقد أقام العامة في حفظ البلد المقام المرضي وترددت الرسل بينهم في الصلح فوقعت الإجابة إليه من الجانبين ورحل صلاح الدين عن حلب بعد أن أعاد قلعة عزاز إلى الملك الصالح فإنه أخرج إلى صلاح الدين أختاً له صغيرةً طفلة. فأكرمها صلاح الدين وقال لها : ما تريدين. قالت : أريد قلعة عزاز. وكانوا قد علموها ذلك. فسلمها إليهم ورحل. وفي سنة ثلاث وسبعين قتل عضد الدين وزير الخليفة المستضيء ووزر ظهير الدين المعروف بابن العطار وكان خيراً حسن السيرة كثير العطاء وتمكن تمكناً كثيراً.
وفي سنة خمسٍ وسبعين وخمسمائة ثاني ذي القعدة توفي الإمام المستضيء بأمر الله وكانت خلافته نحو تسع سنين وعمره تسع وثلاثون سنة وكان عادلاً حسن السيرة في الرعية قليل المعاقبة على الذنوب محباً للعفو فعاش حميداً ومات سعيداً.
وكان في هذا الزمان من الحكماء المشهورين بالمشرق السموءل بن ايهوذا المغربي الأندلسي الحكيم اليهودي قدم هو وأبوه إلى المشرق وكان أبوه يشدو شيئاً من الحكمة وكان ولده السموءل قد قرأ فنون الحكمة وقام بالعلوم الرياضية وأحكم أصولها وفوائدها ونوادرها وله في ذلك مصنفات وصنف كتباً في الطب وارتحل إلى أذربيجان وخدم بيت بهلوان وأمراء دولتهم وأقام بمدينة مراغة وأولد أولاداً هناك سلكوا طريقته في الطب ثم أسلم وصنف كتاباً في إظهار معايب اليهود ومواضع الدليل على تبديلهم التوراة ومات بالمراغة قريباً من سنة سبعين وخمسمائة. وكان في هذا الأوان أيضاً الرحبي الطبيب نزيل دمشق من أهل الرحبة أصله كان من الرحبة حسن المعالجة لطيف المباشرة نزه النفس يعاني التجارة ورزق بها مالاً جماً وأولاداً مرضيي الطريقة لهم اشتغال جيد في هذا الفن وكان كثير التنعم حسن المركب والملبس والمأكل والمنزل يلزم في أموره قوانين حفظ الصحة الموجودة. وقيل له : ما ثمرة هذا. قال : أن يعيش الإنسان العمر الطبيعي. فقيل له : أنت قد بلغت من السن ما لم يبق بينك وبين العمر الطبيعي إلا القليل فأي حاجةٍ إلى هذا التكلف. فقال : لأبقي ذلك القليل فوق الأرض وأستنشق الهواء وأتجرع الماء ولا أكون تحت التراب بسوء التدبير. ولم يزل على حالته إلى أن أتاه أجله في أوائل سنة اثنتين وثلاثين وستمائة وخلف ثلاثة بنين اثنان منهم طبيبان فاضلان وسيأتي ذكرهما. قال الرحبي هذا : استدعاني نور الدين محمود في مرضه الذي توفي فيه مع غيري من الأطباء فدخلنا إليه وهو في بيتٍ صغير بقلعة دمشق وقد تمكنت منه الخوانيق وقارب الهلاك فلا يكاد يسمع صوته وكان يخلو فيه للتعبد فابتدأ به المرض فلم ينتقل عنه. فلما دخلنا ورأينا ما به قلت له : كان ينبغي أن لا تؤخر احضارنا إلى أن يشتد بك المرض. الآن ينبغي أن تعجل الانتقال من هذا الموضع إلى مكان فسيح مضيء فله أثر في هذا المرض. وشرعنا في علاجه وأشرنا بالفصد فقال : ابن الستين لا يفتصد. وامتنع عنه فعالجناه بغيره فلم ينجع فيه الدواء.
” الناصر بن المستضيء “
و لما مات المستضيء قام ظهير الدين ابن العطار في أخذ البيعة لولده الناصر لدين الله أبي العباس أحمد. فلما تمت البيعة صار الحاكم في الدولة مجد الدين أبو الفضل بن الصاحب. وفي سابع ذي القعدة سنة خمسٍ وسبعين وخمسمائة قبض على ابن العطار ووكل عليه في داره ثم نقل إلى التاج وقيد وطلبت ودائعه وأمواله ثم أخرج ميتاً على رأس حمالٍ سراً فغمز به بعض العامة فثار به العامة فألقوه عن رأس الحمال وكشفوا سوءته وشدوا في ذكره حبلاً وسحبوه في البلد وكانوا يضعون بيده مغرفةً ويقولون : وقع لنا يا مولانا. إلى غير ذلك من الأفعال الشنيعة. ثم خلص من أيديهم ودفن. هذا فعلهم به مع حسن سيرته فيهم وكفه عن أموالهم وأراضهم. وفي سنة ستٍ وسبعين ثالث صفر توفي سيف الدين غازي بن مودود بن زنكي صاحب الموصل وولي أخوه عز الدين الموصل وأعطى جزيرة ابن عمر وقلاعها لولده معز الدين سنجر شاه وأعطى قلعة شوش وبلد الحميدية لابنه الصغير ناصر الدين كبك وكان المدبر لدولة عز الدين مجاهد الدين قيماز واستقرت الأمور ولم يختلف اثنان.
وفيها توفي شمس الدولة تورانشاه بم أيوب أخو صلاح الدين الأكبر بالإسكندرية.و في سنة سبعٍ وسبعين في رجب توفي الملك الصالح اسمعيل بن نور الدين محمود صاحب حلب بها وعمره نحو تسع عشرة سنة. فلما آيس من نفسه أحضر الأمراء ووصاهم بتسليم البلد إلى ابن عمه عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي فتسلم حلب ثم سلمها لأخيه عماد الدين وأخذ عوضاً عنها مدينة سنجار. وفي سنة ثماني وسبعين سير صلاح الدين أخاه سيف الإسلام طغتكين إلى اليمن فتملكها وتغلب عليها. وفيها عبر صلاح الدين الفرات إلى الديار الجزرية وملك الرها وحران والرقة وقرقيسياء وماكسين وعربان ونصيبين وسار إلى الموصل وبها عز الدين صاحبها ونائبه مجاهد الدين قد جمعا بها العساكر الكثيرة من فارسٍ وراجلٍ وأظهرا من السلاح وآلات الحصار ما حارت له الأبصار. فلما قرب صلاحالدين من البلد رأى ما هاله وملأ صدره وصدور أصحابه ومع هذا نزل عليها وأنشب القتال. وخرج إليه يوماً بعض العامة فنال منه وأخذ لالكة من رجله فيها المسامير الكثيرة ورمى بها أميراً يقال له جاولي الأسدي وهو مقدم الأسدية وكبيرهم فأصاب صدره فوجد لذلك الماً شديداً وأخذ اللالكة وعاد عن القتال إلى صلاح الدين وقال له : قد قابلنا أهل الموصل بحماقاتٍ ما رأينا مثلها بعد. وألقى اللالكة وحلف أنه لا يعود يقاتل عليها أنفةً حيث ضرب بها. فلما رأى صلاح الدين أنه لا ينال من الموصل غرضاً ولا يحصل على غير العناء والتعب سار عنها إلى سنجار وملكها. وفي سنة تسعٍ وسبعين ملك صلاح الدين مدينة آمد وسلمها إلى نور الدين محمد بن قرا أرسلان صاحب الحصن وكان صلاح الدين قد نزل بحرزم وطمع أن يملك ماردين فلم ير لطمعه وجهاً فسار عنها إلى إلى آمد على طريق البارعية. وفيها سار صلاح الدين إلى حلب فنزل بجبل جوشن وأظهر أنه يريد يبني مساكن له ولأصحابه وعساكره. فمال عماد الدين زنكي إلى تسليم حلب وأخذ العوض عنها فتقرر الصلح على أن يسلم حلب إلى صلاح الدين ويأخذ عوضها سنجار ونصيبين والخابور والرقة وسروج. وجرت اليمين على ذلك فباعها بأوكس الأثمان أعطى حصناً مثل حلب وأخذ عوضها قرىً ومزارع فقبح الناس كلهم ما أتى.
وفي سنة ثمانين وخمسمائة مات قطب الدين بن إيلغازي بن نجم الدين البي بن تمرتاش ابن إيلغازي بن أرتق صاحب ماردين وملك بعده ابنه حسام الدين يولق أرسلان وهو طفل وكان شاه أرمن صاحب خلاط خال قطب الدين فحكم في دولته بعد موته فرتب نظام الدين التقش مع ولده وقام بتربيته وتدبير مملكته وكان دياً خيراً فأحسن تربية الولد وتزوج أمه فلما كبر الولد لم يمكنه النظام من مملكته لخبطٍ وهوجٍ كان فيه. ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن مات الولد وله أخ أصغر منه لقبه قطب الدين فرتبه النظام في الملك وليس له منه إلا الاسم والحكم إلى النظام وإلى مملوكٍ له اسمه لؤلؤ فبقي كذلك إلى سنة إحدى وستمائة. فمرض التقش النظام فأتاه قطب الدين يعوده فلما خرج من عنده خرج معه لؤلؤ فضربه قطب الدين بسكينٍ معه فقتله. ثم دخل إلى النظام فقتله أيضاً وخرج وحده ومعه غلامٌ له وألقى الرأسين إلى الأجناد فأذعنوا له بالطاعة واستولى على قلعة ماردين وقلعة البارعية والصور وحكم فيها وحزم في أفعاله.
وفي سنة إحدى وثمانين وخمسمائة حصر صلاح الدين الموصل مرةً ثانيةً فسير أتابك عز الدين صاحبها والدته إليه ومعها ابنة عمه نور الدين محمود وغيرهما من النساء وجماعة من أعيان الدولة يطلبون المصالحة. وكل من عنده ظنوا أنهن إذا طلبن منه الشام أجابهن إلى ذلك لا سيما ومعهن ابنة مخدومه وولي نعمته نور الدين. فلما وصلن غليه أنزلهن واعتذر بأعذارٍ غير مقبولةٍ وأعادهن خائباتٍ. فبذل العامة غيظاً وحنقاً لرده النساء. فندم صلاح الدين على رد النساء وجاءته كتب القاضي الفاضل وغيره يقبحون فعله وينكرونه. وكان عامة الموصل يعبرون دجلة فيقاتلون من الجانب الشرقي من العسكر ويعودون. فعزم صلاح الدين على قطع دجلة عن الموصل إلى ناحية نينوى ليعطش اهل الموصل فيملكها بغير قتال ثم علم أنه لا يمكن قطعه بالكلية وإن المدة تطول والتعب يكثر فأعرض عنه ورحل إلى ميافارقين لأنه سمع أن شاه أرمن صاحب خلاط توفي ولم يخلف ولداً وقد استولى على بلاده مملوكٌ اسمه بكتمر. فسير صلاح الدين في مقدمته ابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه ومظفر الدين بن زين الدين وغيرهما فساروا إلى خلاط فنزلوا بطوانة. وسار صلاح الدين إلى ميافارقين وسار البهلوان بن ايلدكر صاحب أذربيجان فنزل قريباً من خلاط وترددت رسل أهل بينهم وبين البهلوان وصلاح الدين. ثم أنهم أصلحوا أمرهم مع البهلوان وصاروا من حزبه وخطبوا له.
وفي سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة توفي البهلوان محمد بن ايلدكر صاحب بلاد الجبل والري وأصفهان وأذربيجان وأران وملك بعده أخوه قزل أرسلان واسمه عثمان. وفي سنة ثلاث وثمانين ملك صلاح الدين مدينة طبرية وقلعتها وسار عنها ونزل على عتكة. ولما صمم على الزحف إلى البلد خرج الأعيان من أهلها إليه يطلبون الأمان فأجابهم إلى ذلك وأمنهم على نفوسهم وأموالهم وخيرهم بين الإقامة والظعن فاختاروا الرحيل وساروا منها متفرقين وحملوا ما أمكنهم من أموالهم وتركوا الباقي على حاله. وسلم صلاح الدين البلد إلى ولده الفضل وغنم المسلمون ما بقي مما لم يطق الفرنج حمله. وفيها ملك صلاح الدين قيسارية وحيفا وصفورية والشقيف والفولة. ويافا وتبنين وصيدا وبيروت وجبيل وعسقلان.
ولما فرغ صلاح الدين من أمر هذه الأماكن سار إلى بيت المقدس فلما نزل عليه المسلمون رأوا على سوره من الرجال ما هالهم وبقي صلاح الدين خمسة أيام يطوف حول المدينة لينظر من أين يقاتل لأنه في غاية الحصانة والامتناع فلم يجد عليه موضع قتال إلا من جهة الشمال نحو باب عمود أو كنيسة صهيون فانتقل إلى هذه الناحية في العشرين من رجب فنزلها ونصب تلك الليلة المنجنيقات ونصب الفرنج على سور البلد المنجنيقات وتقاتل الفريقان أشد قتال كل منهما يرى ذلك ديناً وحتماً واجباً فلا يحتاج فيه إلى باعث سلطاني بل كانوا يمنعون ولا يمتنعون ويزجرون ولا ينزجرون. فلما رأى الفرنج شدة قتال المسلمين وتحكم المنجنيقات بالرمي المتدارك وتمكن النقابين من النقب أرسلوا باليان بن نيرزان صاحب الرملة إلى صلاح الدين يطلب الأمان. فأبى السلطان وقال : لا أفعل بكم إلا كما فعلتم بالمسلمين حين ملكتموه سنة إحدى وتسعين وأربعمائة من القتل والسبي. فقال له باليان : ايها السلطان العظيم اعلم أننا في هذه المدينة في خلقٍ كثير وإنما يفترون عن القتال رجاء الأمان. فإذا رأينا الموت لا بد منه فوالله لنقتلن أولادنا ونساءنا ونحرق أموالنا ولا نترككم تغنمون منا ديناراً ولا درهماً ولا تسبون وتأسرون رجلاً أو امرأة. فإذا فرغنا من ذلك أخربنا الصخرة والمسجد الأقصى ثم نقتل من عندنا من اسارى المسلمين وهم خمسة آلاف أسير ولا نترك لنا دابةً ولا حيواناً إلا قتلناه ثم خرجنا إليكم كلنا وحينئذٍ لا يقتل الرجل منا حتى يقتل أمثاله ونموت أعزاء أو نظفر كرماء فاستشار صلاح الدين أصحابه فأجمعوا على إجابتهم إلى الأمان وأن لا يحرجوا ويحملوا على كوب ما لا يدري عاقبة الأمر فيه عن أي شيءٍ ينجلي. فأجاب صلاح الدين حينئذٍ إلى بذل الأمان للفرنج واستقر أن يزن الرجل عشرة دنانير يستوي فيه الغني والفقير وتزن المرأة خمسة دنانير ويزن الطفل من الذكور والإناث دينارين فمن أدى ذلك إلى أربعين يوماً فقد نجا وإلا صار مملوكاً. فبذل باليان عن الفقراء ثلاثين ألف دينار فأجيب إلى ذلك وسلمت المدينة يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب.
ولما فرغ صلاح الدين من أمر بيت المقدس سار إلى مدينة صور وقد خرج إليها المركيس وصار صاحبها وقد ساسها أحسن سياسة. فقسم صلاح الدين القتال على العسكر كل جمع لهم وقتٌ معلوم يقاتلون فيه بحيث يتصل القتال على أهل البلد على أن الموضع الذي يقاتلون فيه قريب المسافة تكفيه الجماعة اليسيرة من أهل البلد تحفظه وعليه الخنادق التي قد وصلت إلى البحر فلا يكاد الطائر يطير عليها لأن المدينة كالكف في البحر والساعد متصل بالبر والبحر في جانبي الساعد والقتال إنما هو في الساعد فلذلك لم يتمكن منها صلاح الدين ورحل عنها. وكان للمسلمين خمس قطعٍ من الشواني مقابل ميناء صور ليمنعوا من الخروج منه والدخول إليه فنازلتهم شواني الفرنج وقت السحر وضايقتهم وأوقعت بهم فقتلوا من أرادوا وأخذوا الباقين بمراكبهم وأدخلوهم ميناء صور والمسلمون من البر ينظرون إليهم. ورمى جماعةٌ من المسلمين أنفسهم من الشواني فمنهم من سبح ونجا منهم من غرق. وفي سنة أربع وثمانين فتح صلاح الدين جبلة واللاذقية وصهيون وشغر بكاس ودربساك وبغراس والكرك وصفد. وهادن صلاح الدين البرنس بيموند صاحب إنطاكية وطرابلس ثمانية أشهر.
وفي سنة سبع وثمانين وصلت إمداد الفرنج في البحر إلى الفرنج النازلين على عكة يحاصرونها. وكان أول من وصل منهم فيليب ملك افرنسيس وهو من أشرف ملوكهم نسباً وإن كان ملكه ليس بالكثير فقويت به نفوسهم أي الذين كانوا على عكة ولجوا في قتال المسلمين الذين فيها. وكان صلاح الدين على شفرعم فكان يركب كل يوم ويقصد الفرنج ليشغلهم بالقتال على مزاحفة البلد وكان فيه الأمير سيف الدين الهكاري المعروف بالمشطوب فلما رأى أن صلاح الدين لا يقدر لهم على نفعٍ ولا يدفع عنهم ضراً خرج إلى الفرنج وقرر معهم تسليم البلد وخرج من فيه بأموالهم وبذل لهم عن ذلك مائتي ألف دينار وخمسمائة أسير من المعروفين وإعادة صليب الصلبوت وأربعة عشر ألف دينار للمركيس صاحب صور فأجابوه إلى ذلك وأن تكون مدة تحصيل المال والأسراء إلى شهرين. فلما حلفوا له سلم البلد إليهم فدخله الفرنج سلماً واحتاطوا على من فيه من المسلمين وعلى أموالهم وحبسوهم إلى حين ما يصل إليهم ما بذل لهم وراسلوا صلاح الدين في إرسال المال والأسرى والصليب حتى يطلقوا من عندهم. فشرعوا في جمع المال وكان هو لا مال له إنما يخرج ما يصل إليه من دخل البلاد أولاً بأول فلما اجتمع عنده من المال مائة ألف دينار أشار الأمراء بأن لا يرسل شيئاً حتى يعاود يستحلفهم على الإطلاق من أصحابه. فقال ملوك الفرنج : نحن لا نحلف إنما ترسل إلينا المائة الألف ديناراً التي حصلت والأسارى والصليب ونحن نطلق من نريد ونترك من نريد حتى يجيء باقي المال فنطلق الباقين منهم. فلم يجبهم السلطان إلى ذلك. فلما كان يوم الثلاثاء السابع والعشرون من رجب ركب الفرنج وخرجوا ظاهر البلد بالفارس والراجل وركب المسلمون إليهم وحملوا عليهم فانكشفوا عن موقفهم وإذا أكثر من كان عندهم من المسلمين قتلى قد وضعوا فيهم السيف وقتلوهم واستبقوا الأمراء ومن كان له مال وقتلوا من سواهم من سوادهم وأصحابهم ومن لا مالله. فلما رأى صلاح الدين ذلك رحل إلى ناحية عسقلان وأخربها. وفي سنة ثمان وثمانين رحل الفرنج نحو عسقلان وشرعوا في عمارتها. وفبها عقدت الهدنة بين صلاح الدين والانكتار ملك الفرنج لمدة ثلاث سنين وثمانية أشهر أولها يوم أول أيلول.
وفيها منتصف شعبان توفي السلطان قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان ابن سليمان بن قتلميش بن سلجوق بمدينة قونية وكان ذا سياسةٍ حسنةٍ وهيبةٍ عظيمةٍ وعدلٍ وافرٍ وغزواتٍ كثيرةٍ إلى بلاد الروم. فلما كبرفرق بلاده على أولاده فاستضعفوه ولم يلتفتوا إليه وحجر عليه ولده قطب الدين. ثم أخذه وسار به إلى قيسارية ليأخذها من أخيه فحصرها مدةً فهرب منه والده ودخل إلى قيسارية. ولم يزل قلج أرسلان يتحول من ولدٍ إلى ولدٍ وكل منهم يتبرم به حتى مضى إلى ولده غياث الدين كيخسرو فسار معه لإي عساكره إلى قونية فملكها وبها توفي قلج أرسلان ويقي ولده غياث الدين في قونية مالكاً لها حتى أخذها منه أخوه ركن الدين.
وفي سنة تسعٍ وثمانين وخمسمائة توفي صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاذي بدمشق وعمره سبع وخمسون سنة وكان حليماً كريماً حسن الأخلاق متواضعاً صبوراً على ما يكره كثير التغافل عن ذنوب أصحابه. وحكي أنه كان يوماً جالساً وعنده جماعةٌ فرمى بعض المماليك بعضاً بسرموزةٍ فأخطأته ووصلت إلى صلاح الدين فوقعت بالقرب منه. فالتفت إلى الجهة الأخرى يكلم جليسه هناك ليتغافل عنها. وطلب مرةً الماء فلم يحضر فعاود الطلب في مجلسٍ واحدٍ خمس مراتٍ فلم يحضر فقال : يا أصحابنا والله قد قتلني العطش. وأما كرمه فإنه كان كثير البذل لا يقف في شيءٍ يخرجه. ويكفي دليلاً على كرمه أنه لما مات لم يخلف في خزانته غير دينارٍ واحدٍ صوري وأربعين درهماً ناصرية. ولما توفي صلاح الدين ملك بعده ولده الأكبر الأفضل نور الدين دمشق والساحل والبيت المقدس وبعلبك وصرخد وبصرى وبانياس وهونين وتبنين إلى الداروم. وكان ولده الملك العزيز عثمان بمصر فاستولى عليها. وكان ولده الملك الظاهر غازي بحلب فملكها وأعمالها مثل حارم وتل باشر واعزاز ودربساك ومنبج. وكان بحماة محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب فأطاع الملك الظاهر. وكان بحمص شيركوه ابن محمد بن شيركوه فأطاع الملك الأفضل. وكان الملك العادل أخو صلاح الدين بالكرك فسار إلى دمشق. فجهز الأفضل معه عسكراً وسار إلى بلاد الجزرية وهي له ليمنعها من عز الدين صاحب الموصل. وفيها أول جمادى الأولى قتل سيف الدين بكتمر صاحب خلاط وكان بين قتله وموت صلاح الدين شهران. فإنه أسرف في إظهار الشماتة بموت صلاح الدين وفرح كثيراً فلم يمهله الله تعالى. وملك بعده ظهير الدين هزار ديناري خلاط وهو أيضاً من مماليك شاه أرمن. وفيها سلخ شعبان توفي اتابك عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي بن اقسنقر صاحب الموصل بالموصل وملك بعده ابنه نور الدين أرسلان شاه. وكان عز الدين خيراً محسناً حليماً قليل المعاقبة حيياً كثير الحياء لم يكلم جليساً له إلا وهو مطرق وما قال في شيءٍ سئله حباً وكرم طبع.
وفي سنة إحدى وتسعين وخمسمائة كتبالفنش ملك الفرنج ومقر ملكه طليطلة إلى يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن كتاباً يقول فيه : إنك أمير المسلمين ولا يخفى عليك ما هم عليه رؤساء الأندلس من التخاذل وإهمال الرعية واشتمالهم على الراحات وأنا أسومهم الخسف وأخلي الديار وأسبي الذراري وأمثل بالكهول وأقتل الشبان ولا عذر لك في التخلف عن نصرتهم وأنت تعتقد أن الله فرض عليكم قتال عشرةٍ منا بواحدٍ منكم. والآن نخفف عنكم فنحن نقاتل عدداً منكم بواحدٍ منا. ثم بلغني عنك أنك أخذت في الاحتفال وتمطل نفسك عاماً بعد عام تقدم رجلاً وتؤخر أخرى ولا أدري الجبن أبطأ بك أم التكذيب بما أنزل عليك. وأنا أقول ما فيه المصلحة أن تتوجه بجملة من عندك في الشواني والمراكب وأجوز إليك بجملتي وأبارزك في أعز الأماكن عندك فإن كانت لك فغنيمةٌ عظيمةٌ جاءت إليك وهدية مثلت بين يديك وإن كانت لي كانت يدي العليا عليك واستحققت ملك الملتين والتقدم على الفئتين. فلما قرأ يعقوب كتابه جمع العساكر وعبر المجاز إلى الأندلس واقتتلوا قتالاً شديداً فكانت الدائرة أولاً على المسلمين ثم عادت على الفرنج فانهزموا أقبح هزيمةٍ وغنم المسلمون منهم شيئاً عظيماً. فلا يفخرن ثروان بثروته ولا جبار بجبروته ومن يفتخر فبالله تعالى فليفتخر كما جاء في الكتاب الإلهي. ثم إن الفنش عاد إلى بلاده وركب بغلاً وأقسم أنه لا يركب فرساً حتى تنصره ملوك فرنجة فجمعوا الجموع العظيمة وجرت لهم مع المسلمين وقائع كثرة إلى أن ملكوا الآن أكثر مدن الأندلس.
وفي سنة اثنتين وتسعين سار الملك العزيز من مصر إلى دمشق وحصرها وأرسل إلى أخيه أن يفارق القلعة ويسلم البلد على قاعدة أن تعطى قلعة صرخد له ويسلم جميع أعمال دمشق. فخرج وتسلم العزيز القلعة ودخلها واقام بها أياماً ثم سلمها إلى عمه الملك العادل وعاد إلى مصر فسار الأفضل إلى صرخد. وفي سنة ثلاث وتسعين ملك العادل يافا من الفرنج وملك الفرنج بيروت من المسلمين.
وفي سنة أربع وتسعين توفي عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي بن اقسنقر صاحب سنجار ونصيبين والخابور والرقة وملك بعده ابنه قطب الدين محمد وملك نور الدين مدينة نصيبين. وفيها قصد خوارزمشاه بخارا وكان قد ملكها الخطا فنازلها وحصرها وامتنع أهلها منه وقاتلوه مع الخطا لما رأوا من حسن سيرتهم معهم حتى أنهم أخذوا كلباً أعور وألبسوه قباءً وقلنسوةً وقالوا : هذا خوارزمشاه. لأنه كان أعور. وطافوا به على السور ُم ألقوه في منجنيق إلى العسكر وقالوا : هذا سلطانكم. فلم يزل هذا دأبهم حتى ملك خوارزمشاه البلد بعد أيامٍ يسيرةٍ عنوةً وعفا عن أهله وأحسن إليهم.
وفيها حصر الملك العادل أبو بكر بن أيوب قلعة ماردين في شهر رمضان وكان صاحبها حسام الدين يولق أرسلان صبياً فسلم بعض أهلها الربض بمخامرة فنهب الهسكر أهلها نهباً قبيحاً فلما تسلم العادل الربض تمكن من حصر القلعة وقطع الميرة عنها وبقي عليها إلى أن رحل عنها سنة خمسٍ وتسعين. وفي سنة
خمسٍ وتسعين في العشرين من المحرم توفي الملك العزيز صاحب مصر وأرسل الأمراء من مصر إلى الأفضل أخيه يدعونه إليهم ليملكوه لأنه كان محبوباً إلى الناس يريدونه فدخل إلى مصر وملكها. وفي سنة ستٍ وتسعين سار العادل فنزل على القاهرة وحصرها فأرسل الأفضل إليه في الصلح فتقرر أن يسلم الديار المصرية إلى ابن عمه ويأخذ العوض عنها ميافارقين وحاني وجبل جور وتحالفوا على ذلك. وخرج الأفضل من مصر وسار إلى صرخد وأرسل من يتسلم ميافارقين وحاني وجبل جور فامتنع نجم الدين أيوب بن الملك العادل من تسليم ميافارقين وسلم ما عداها. فترددت الرسل في ذلك والعادل يزعم أن ابنه عصاه. فأمسك الأفضل عن المراسلة في ذلك لعلمه أن هذا فعله بأمر العادل. وفيها في شهر رمضان توفي خوارزمشاه تكش بن أرسلان وولي ملك خوارزم بعده ابنه قطب الدين محمد ولقب علاء الدين لقب أبيه. وفي سنة سبعٍ وتسعين في شهر رمضان ملك ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان مدينة ملطية وكانت لأخيه معز الدين قيصر شاه فسار إليه وحصره أياماً وملكها وسار منها إلى ارزن الروم وكانت لولد الملك محمد بن صلتق وهم بيتٌ قديمٌ قد ملكوا ارزن الروم. فلما قاربها ركن الدين خرج صاحبها إليه ثقةً به ليقرر معه الصلح على قاعدة يؤثرها ركن الدين فقبض عليه واعتقله عنده وأخذ البلد وهذا كان آخر أهل بيته الذين ملكوا. وفيها حصر الملك الظاهر وأخوه الملك الأفضل ابنا صلاح الدين مدينة دمشق وهي لعمهم الملك العدل وعادوا إلى تجديد الصلح على أن يكون للظاهر منبج وأفامية وكفر طاب والمعرة ويكون للأفضل سميساط وقلعة نجم وسروج ورأس عين وجملين. وسار الظاهر إلى حلب والأفضل إلى سميساط ووصل العادل إلى دمشق. وفي سنة تسعٍ وتسعين وخمسمائة في المحرم سير الملك العادل عسكراص مع ولده الملك الأشرف موسى إللا ماردين فحصروها وشحنوا على أعمالها وأقام الأشرف ولم يحصل له غرض. فدخل الملك الظاهر بن صلاح الدين صاحب حلب في الصلح بينهم وأرسل إلى عمه العادل في ذلك فأجاب إليه على قاعدة أن يحمل له صاحب ماردين مائة وخمسين ألف دينار فجاء صرف الدينار أحد عشر قيراطاً من أميري ويضرب اسمه على السكة ويكون عسكره في خدمته أي وقتٍ طلبه.
وفيها وهي سنة ألف وخمسمائة وأربع عشرة للإسكندر كان ابتداء دولة المغول وذلك إن في هذا الزمان كان المستولي على قبائل الترك المشارقة أونك خان وهو المسمى ملك يوحنا من القبيلة التي يقال لها كريت وهي طائفةٌ تدين بدين النصرانية وكان رجل مؤيد من غير هذه القبيلة يقال له تموجين ملازماً لخدمة أونك خان من سن الطفولية إلى أن بلغ حد الرجولية وكان ذا بأس في قهر الأعداء فحسده الأقران وسعوا به إلى أونك خان وما زالوا يغتابونه حتى اتهمه بتغير النية وهم باعتقاله والقبض عليه. فانضم إليه غلامان من خدم أونك خان فألماه القضية وعينا له الليلة التي فيها يريد أونك كبسه وفي الحال أمر تموجين أهله بإخلاء البيوت عن الرجال وتركها على حالها منصوبةًو كمن هو مع الرجال بالقرب من البيوت. وفي وقت السحر لما هجم أونك وأصحابه على بيت تموجين لقيها خاليةً من الرجال وكر عليه تموجين وأصحابه من الكمين وأوقعوا بهم وناوشوهم القتال وأثخنوا فيهم وهزموهم وحاربوهم مرتين حتى قتلوه وأبطاله وسبوا ذراريه. وفي أثناء هذا الأمر ظهر بين المغول أميرٌ معتبر كان يسيح في الصحارى والجبال في وسط الشتاء عرياناً حافياً ويغيب أياماً ثم يأتي ويقول : كلمني الله وقال لي أن الأرض بأسرها قد أعطيتها لتموجين وولده وسميته جنكزخان فسماه جنكزخان تبت تنكري وكان يرجع إلى قوله ولا يعدل عن رأيه. ولما علا شأن جنكزخان أرسل الرسل إلى جميع شعوب الترك فمن أطاعه وتبعه سعد ومن خالفه خذل وأنعم على ذينك الغلامين وذريتهم بأن جعلهم ترخانية والترخان هو الحر الذي لا يكلف بشيء من الحقوق السلطانية ويكون ما يغنم من الغزوات له مطلقاً لا يأخذ منه نصيبٌ للملك وزاد لهؤلاء أن يدخلوا على الملوك بغير إذنٍ ولا يعاقبوا على ذنبٍ إلى تسعة ذنوب وكان لجنكز خان من الأولاد الذكور والإناث جماعة وكانت الخاتون الكبيرة زوجته تسمى أويسونجين بيكي. وفي رسم المغول اعتبار أبناء الأب الواحد بالشرف إنما يكون بالنسبة إلى الأمهات. وكان لهذه خاتون أربعة بنين ولاهم جنكزخان الأمور العظان في مملكته. الأول توشي ولي أمرالصيد والطرد وهو أحب الأمور إليهم. والثاني جغاتاي ولي أمر الحكومات والسياسة أي الناموس والقضاء. والثالث أوكتاي ولي تدبير الممالك لغزارة عقله وإصابة رأيه. والرابع تولي ولي أمر الجيوش وتجهيز الجنود والنظر في مصالح العساكر. وكان لجنكزخان أخ يقال له أوتكين فعين له ولكل واحدٍ من الأولاد بلاداً يقيمون بها. أما أوتكين فأقام بحدود الخطا. وتوشي أقام بحدود قباليغ وخوارزم لإلى أقصى سقسين وبلغار. وجغاتاي بحدود بلاد الإيغور بالقرب من المايغ إلى سمر قند وبخارا. وأقام أوكتاي وهو ولي العهد بحدود إيميل وقوتاق وجوره تولي أيضاً في تلك النواحي وهي وسط مملكتهم كالمركز بالنسبة إلى الدائرة.
وفي سنة ستمائة ملك الفرنج مدينة القسطنطينية من الروم. أقام الفرنج بظاهرها محاصرين للروم من شعبان إلى جمادى الأولى وكان بالمدينة كثيرٌ من الفرنج مقيمين نحو ثلاثين ألفاُ ولعظم البلد لا يظهر أمرهم فتواضعوا هم والفرنج الذين بظاهر البلد ووثبوا فيه وألقوا النار فاحترق نحو ربع البلد. فاشتغل الروم بذلك ففتح الفرنج الأبواب ودخلوها ووضعوا السيف ثلاثة أيامٍ وقتلوا حتى الأساقفة والرهبان والقسيسين الذين خرجوا إليهم من كنيسة إييا سوفيا العظمى وبأيديهم الأناجيل والصلبان يتوسلون بها ليبقوا عليهم. فلم يلتفتوا إليهم وقتلوهم أجمعين ونهبوا الكنيسة. وكان الفرنج ثلاثة ملوك ذوقيس البنادقة وفي مراكبه ركبوا إلى القسطنطينية وهو شيخ أعمى إذا ركب يقاد فرسه. والثاني المركيس مقدم الافرنسيس. والثالث كندافلند وهو أكثرهم عدداً. فلما استولوا اقترعوا على الملك فخرجت القرعة على كندافلند فملكوه عليها وتكون لذوقس البنادقة الجزائر مثل اقريطش ورودس وغيرهما ويكون لمركيس البلاد التي هي شرقي الخليج مثل نيقية ولاذيق وفيلادلف ولم تدم له فإنها تغلب عليها بطريق من بطارقة الروم اسمه لشكري.
وفيها في ذي القعدة توفي السلطان ركن الدين صاحب الروم وملك ابنه قلج أرسلان وكان صغيراً. وكان غياث الدين كيخسرو أخو ركن الدين يومئذٍ بقلعة من قلاع القسطنطينية ولما سمع بموت أخيه سار إلى قونية وقبض على الصبي وملكها وجمع الله له البلاد جميعها وعظم شأنه وقوي أمره وكان ذلك في رجب سنة إحدى وستمائة. وفيها أغارت الكرج على أذربيجان وأكثروا النهب والسبي ثم اغاروا على خلاط وارجيش فأوغلوا في البلاد حتى بلغوا ملازكرد ولم يخرج إليهم من المسلمين أحد يمنعهم فجاسوا خلال البلاد ينهبون ويأسرون. وفي سنة ثلاث وستمائة قبض عسكر خلاط على صاحبها محمد بن بكتمر وملكها بلبان مملوك شاه أرمن بن سكمان. وفي سنة أربع وستمائة ملك الملك الأوحد نجم الدين أيوب بن الملك العادل مدينة خلاط. ولما سار عنها إلى ملاذكرد ليقرر قواعدها وثب أهلها على من بها من العسكر فأخرجوه من عندهم وعصوا ونادوابشعار شاه أرمن وإن كان ميتاً يعنون بذلك رد الملك إلى أصحابه ومماليكه. فعاد إليهم الأوحد وقتل بها خلقاً كثيراً من أعيان أهلها فذل أهل خلاط وتفرقت كلمة الفتيان وكان الحكم إليهم وكفي الناس شرهم فإنهم كانوا يقيمون ملكاً ويقتلون آخر والسلطنة عندهم لا حكم لها وإنما الحكم لهم وإليهم. وفي سنة ستٍ وستمائة ملك الملك العادل أبو بكر بن أيوببلد الخابور ومدينة نصيبين وحصر سنجار ثم عاد عنها.
وفيها استولى جنكزخان على بلاد قراخطا وكان أمير بلاد الايغور وهم طائفةٌ كثيرةٌ من الترك في طاعة ملك الخطا فلما صار الصيت لجنكزخان وشاع ذكره في البلاد أرسل إليه أمير الايغور وهو الذي يسمونه ايدي قوب أي صاحب الدولة يطلب الأمانلنفسه ورعيته والدخول في زمرته. فأكرم جنكزخان رسله وتقدم بوصوله إليه. فبادر ايدي قوب إلى الحضور في خدمته من غير توقف. فأقبل عليه جنكزخان وأحسن قبوله وأعاده إلى بلاده مكرماً.
وفي سنة سبعٍ وستمائة أواخر رجب توفي نور الدين أرسلان شاه بن مسعود ابن مودود بن زنكي بن اقسنقر صاحب الموصل وكانت مدة ملكه ثماني عشرة سنة وكان شهماً شجاعاً ذا سياسةٍ للرعايا شديداً على أصحابه أعاد ناموس البيت الأتابكي وجاهه وحرمته بعد أن كانت قد ذهبت. ولما حضره الموت رتب في الملك ولده الملك القاهر عز الدين مسعود وأمر أن يتولى تدبير مملكته ويقوم بحفظها وينظر في مصالحها مملوكه بدر الدين لؤلؤ لما رأى من عقله وسداد رأيه وحسن سياسته وكمال السيادة فيه. وأعطى ولده الأصغر عماد الدين زنكي قلعة العقر الحميدية وقلعة شوش وسيره إلى العقر.
في سنة تسعٍ وستمائة قصد ثلاثة نفر تجار من البخاريين ديار التاتار ومعهم البضائع من الثياب المذهبة والكرباس وغيرهما مما يليق بالمغول بما سمعوا أن للمتاع عندهم قيمة وافرة وأن الطرق قد أقام بها جنكزخان جماعة يسمونهم قراقجية أي مستحفظين يخفرون المترددين إليهم فقوي عزمهم على ذلك فساروا نحوهم. ولما وصلوا إلى نواحيهم وافاهم المستحفظون ووقفوا على ما معهم من السلع فرأوا قماش واحدٍ منهم اسمه أحمد لائقاً للخازن فسيروه مع صاحبيه إليه. فعرض أحمد متاعه على الحجاب وطلب في ثمن كل ثوبٍ كان مشتراه عليه عشرة دنانير إلى عشرين ديناراً ثلاثة بواليش. فغضب لذلك جنكزخان وقال : هذا الغافل كأنه يظن أننا ما رأينا ثياباً قط وأمر الخازن فأراه من الأقمشة التي هداها إليه ملوك الخطا أشياء نفيسة وتقدم أن يكتب ما معه وأنهبه لمن حضر من الحاشية واعتقل أحمد. وطلب صاحبيه فعرضا عليه متاعهما برمته وقالا : هذا كله إنما أتينا به لنقدمه خدمةً للخان لا لنبيعه عليه. فألحوا عليهما أن يثمناه فلم يفعلا. فأمر جنكزخان أن يعطيا لكل ثوبٍ مذهبٍ باليش من ذهب ولكل كرباسين باليش من فضةٍ وعوض لأحمد أيضاً مثل ما أعطاهما وتقدم إلى الأولاد والخواتين والأمراء أن ينفذوا معهم جماعةً من أصحابهم ومعهم بواليش الذهب والفضة ليجلبوا لهم من ظرائف البلاد ونفائسها ما يصلح لهم فامتثلوا ما أمرهم به فاجتمع معهم مائة وخمسون تاجراً من مسلمٍ ونصرانيٍ وتركيٍ وأرسل معهم رسولاً إلى السلطان محمد يقول له : إن التجار وصلوا إلينا وقد أعدناهم إلى مأمنهم سالمين غانمين وقد سيرنا معهم جماعةً من غلماننا ليحصلوا من ظرائف تلك الأطراف فينبغي أن يعودا إلينا آمنين ليتأكد الوفاق بين الجانبين وتنحسم مواد النفاق من ذات البين. فلما وصل التجار إلى مدينة أترار طمع أميرها غاير خان فيما معهم من الأموال فطالع السلطان محمد في أمرهم وحسن له إبادتهم واغتنام مالهم فأذن له في ذلك فقتلهم طراً إلا واحداً منهم فإنه هرب من السجن. ولما رأى ما جرى على أصحابه لحق بديار التاتار وأعلمهم بالمصيبة. فعظم ذلك جنكزخان وتأثر منه إلى الغاية وهجر النوم وصار يحدث نفسه ويفتكر فيما يفعله. وقيل أنه صعد إلى رأس تلٍ عالٍ وكشف رأسه وتضرع إلى الباري تعالى طالباً نصره على من باداه بالظلم وبقي هناك ثلاثة أيامٍ بلياليها صائماً. وفي الليلة الثالثة رأى في منامه راهباً عليه السواد وبيده عكازة وهو قائم على بابه يقول له : لا تخف افعل ما شئت فإنك مؤيد. فانتبه مذعوراً ذعراً مشوباً بالفرح وعاد إلى منزله وحكى حلمه لزوجته وهي ابنة أونك خان. فقالت له : هذا زي أسقفٍ كان يتردد إلى أبي ويدعو له ومجيئه إليك دليل انتقال السعادة إليك. فسأل جنكزخان من كان في خدمته من نصارى الايغور. هل ههنا أحدٌ من الأساقفة. فقيل له عن مار دنحا. فلما طلبه ودخل عليه بالبيرون الأسود قال : هذا زي من رأيت في منامي لكن شخصه ليس ذاك. فقال الأسقف : يكون الخان قد رأى بعض قديسينا. ومن ذلك الوقت صار يميل إلى النصارى ويحسن الظن بهم ويكرمهم. وفي سنة عشرٍ وستمائة قصد جنكزخان بلاد السلطان محمد ولما وصل إلى نواحي تركستان أتاه الأمير أرسلان خان من غياليغ والأمير ايدي قوب من بيشباليغ والأمير سفتاق من الماليغ وساروا في عساكرهم. ولما اجتمعت العساكر جميعها بقصبة مدينة أترار سير جنكزخان ابنه الكبير فب تومانين عسكر إلى جانب خجند وتوجه هو بنفسه إلى بخارا ورتب على محاصرة أترار ولديه جغاتاي وأوكتاي فدام القتال عليها مدة خمسة أشهرٍ لأن السلطان محمداً كان قد سير إليها غاير خان في خمسة آلاف فارسٍ وقراجا خاص حاجب في عشرة آلاف وكانوا كلهم بها. ولما ضاقت الحيلة بمن في المدينة وعجزوا عن المقاومة شاور قراجا لغاير خان في الصلح وتسليم البلد. فأبى غاير خان إلا المجاهدة حتى الموت لعلمه أن المغول لا يبقون عليه فلم ير في المصالحة مصلحةً. فتوقف قراجا إلى هجوم الليل وخرج في أكثر عسكره إلى خارج من باب دروازه الصوفي. فعوقوه إلى الصبح ثم حمل إلى ابني جنكزخان فاستنطقاه واستعلما منه كنه أحوال البلد وأمرا بقتله وقتل كل من معه قائلين : إذا كنت ما أبقيت على مخدومك وولي نعمتك فلا تبقيو لا علينا. وزحف العسكر إلى المدينة فدخلوها وأخرجو أهلها جميعهم إلى ظاهرها وأغاروا على ما فيها. وبقي غاير خان في عشرين ألفاً من عسكره متفرقين في دروب المدينة لم يتمكن منهم المغول وكانوا يخرجون خمسين خمسين يكاوحون ويطعنون في عسكر المغول ويقتلون ثم يقتلون. وكان هذا دأبهم شهراً إلى أن بقي غاير خان ومعه نفران يجالدون في سطح دار السلطنة وكان قد برز مرسوم الخان أن لا يقتل غاير خان في الحرب لكن يحمل إليه حياً. فلذلك كثر التعب معه وقتل صاحباه وبقي وحده يقاتل بالآجر الذي كان الجواري يناولنه من الجدار. فلما عجز عن المناولة أحاطبه المغول وقبضوه وحملوه إلى جنكزخان بعد عوده من بخارا إلى سمرقند وقتل هناك في كوك سراي. وفي سنة اثنتي عشرة في شعبان ملك السلطان محمد مدينة غزنة وكان استولى قبل ذلك على عامة خراسان وملك باميان. لا علينا. وزحف العسكر إلى المدينة فدخلوها وأخرجو أهلها جميعهم إلى ظاهرها وأغاروا على ما فيها. وبقي غاير خان في عشرين ألفاً من عسكره متفرقين في دروب المدينة لم يتمكن منهم المغول وكانوا يخرجون خمسين خمسين يكاوحون ويطعنون في عسكر المغول ويقتلون ثم يقتلون. وكان هذا دأبهم شهراً إلى أن بقي غاير خان ومعه نفران يجالدون في سطح دار السلطنة وكان قد برز مرسوم الخان أن لا يقتل غاير خان في الحرب لكن يحمل إليه حياً. فلذلك كثر التعب معه وقتل صاحباه وبقي وحده يقاتل بالآجر الذي كان الجواري يناولنه من الجدار. فلما عجز عن المناولة أحاطبه المغول وقبضوه وحملوه إلى جنكزخان بعد عوده من بخارا إلى سمرقند وقتل هناك في كوك سراي. وفي سنة اثنتي عشرة في شعبان ملك السلطان محمد مدينة غزنة وكان استولى قبل ذلك على عامة خراسان وملك باميان.
وفي سنة ثلاث عشرة في العشرين من جمادى الآخرة توفي الملك الظاهر غازي ابن صلاح الدين يوسف بن أيوب وهو صاحب مدينة حلب وخلف أولاداً ذكوراً من جملتهم الملك العزيز محمد من ابنة عمه الملك العادل وكان عمر ولده هذا سنتين وشهورا ًو وصى به إلى مملوكه شهاب الدين طغرل الخادم فصار أتابكه وقام بتربيته أحسن قيام. وفي سنة خمس عشرة وستمائة توفي الملك القاهر عز الدين مسعود بن أرسلان شاه ابن مسعود بن مودود بن زنكي بن اقسنقر صاحب الموصل ليلة الاثنين لثلاث بقين من ربيع الأول وكانت ولايته سبع سنين وتسعة أشهرٍ وأوصى بالملك لولده الأكبر نور الدين أرسلان شاه وعمره حينئذٍ نحو عشر سنين وجعل الوصي عليه والمدبر لدولته بدر الدين لؤلؤاً. وكان عمه عماد الدين زنكي بن أرسلان شاه صاحب العقر يحدث نفسه بالملك. فرقع بدر الدين ذلك الخرق ورتق ذلك الفتق وأحسن السيرة مع الخاص والعام وخلع على كافة الناس وغير ثياب الحداد عنهم فلم يخص بذلك شريفاً دون مشرف ولا كبيراً دون صغير. وبعد أيامٍ وصل التقليد من الخليفة لنور الدين بالولاية ولبدر الدين بالنظر في أمور دولته والتشريفات لهما أيضاً. وكان مظفر الدين كوكبري بن زين الدين صاحب اربل قام في نصر عماد الدين زنكي فملكه قلعة العمادية وباقي قلاع الهكارية والزوزان. فراسله بدر الدين يذكره الأيمان والعهود ويطالبه بالوفاء بها ثم نزل عن هذا ورضي منه بالسكوت لا لهم ولا عليهم. فلم يفعل وأظهر معاضدة زنكي. فأرسل بدر الدين إلى الملك الأشرف موسى بن الملك العادل وهو صاحب ديار الجزيرة وخلاط وانتمى إليه وصار في طاعته وطلب منه المعاضدة. فأجابه بالقبول وبذل له المساعدة وأرسل إلى مظفر الدين يقبح هذه الحالة ويقول له أن يرجع إلى الحق وإلا قصده هو بنفسه وعسكره. فلم تحصل الإجابة منه إلى شيءٍ من ذلك إلى أن حضرت الرسل من الخليفة الناصر ومن الملك الأشرف في الصلح فأطاعوا واصطلحوا وتحالفوا بحضور الرسل. ولما تقرر الصلح توفي نور الدين أرسلان شاه بن الملك القاهر صاحب الموصل ورتب في الملك بعده أخوه ناصر الدين محمود وله من العمر نحو ثلاث سنين وحلف له الجند وركبه بدر الدين فطابت نفوس الناس إذ علموا أن لهم سلطاناً من البيت الأتابكي. وفيها توفي الملك العادل أبو بكر بن أيوب سابع جمادى الآخرة وكان عمره ثلاثاً وسبعين سنة وكانت مدة مملكته ثماني عشرة سنة. وخلف ولده الملك الكامل صاحب مصر. والملك المعظم صاحب دمشق. والملك الأشرف صاحب حران والرها وخلاط. والملك المظفر شهاب الدين غازي صاحب ميافارقين. والملك الحافظ صاحب قلعة جعبر. والملك العزيز صاحب بانياس. والملك الصالح اسمعيل صاحب بصرى. والملك الفائز يعقوب والملك الأمجد عباس والملك الأفضل والملك القاهر.
ولما مات نور الدين الملك القاهر صاحب الموصل وملك أخوه ناصر الدين تجدد لعماد الدين ومظفر الدين الطمع لصغر سن ناصر الدين فجمعا الرجال وتجهزا للحركة. فلما بلغ ذلك بدر الدين لؤلؤاً أرسل إلة عز الدين ايبك مقدم عسكر الأشرف الذي بنصيبين يستدعيهم ليعتضد بهم فساروا إلى الموصل رابع رجب سنة خمس عشرة واستراحوا أياماً ثم عبروا دجلة ونزلوا شرقيها على فرسخٍ من الموصل. وجمع مظفر الدين عسكره وسار إليهم ومعه زنكي فعبر الزاب وسبق خبره. وعند انتصاف الليل سار ايبك ولم يصبر إلى الصبح فتقطعوا في الليل والظلمة والتقوا هم والخصم على ثلاثة فراسخ من الموصل. فأما عز الدين فحمل على ميسرة مظفر الدين فهزمها وبها زنكي. وميمنة مظفر الدين حملت على ميسرة بدر الدين وهزمتها. وبقي بدر الدين في النفر الذي معه في القلب وتقدم إليه مظفر الدين في من معه في القلب إذ لم يتفرقوا فلم يمكنه الوقوف فعاد إلى الموصل هارباً وعبر دجلة إلى القلعة وتبعه مظفر الدين وأقام وراء تل حصن نينوى ثلاثة أيامٍ ورحل ليلاً من غير أن يضربوا كوساً وبوقاً. ثم ملك عماد الدين قلعة الكواشي وملك بدر الدين تل أعفر وملك الأشرف سنجار وسار يريد الموصل ليجتاز منها إلى اربل. فقدم بين يديه عسكره ثم وصل هو في آخرهم يوم الثلاثاء تاسع عشر جمادى الأولى سنة ست عشرة وستمائة وكان يوم وصوله مشهوداً ترجل له بدر الدين وحمل الغاشية بين يديه. وأتاه رسل الخليفة ومظفر الدين في الصلح وبذل تسليم القلاع المأخوذة جميعها إلى بدر الدين ما عدا قلعة العمادية وطال الحديث في ذلك نحو شهرين. ثم رحل الأشرف يريد مظفر الدين فوصل قرية السلامية بالقرب من الزاب وكان مظفر الدين نازلاً عليه من جانب اربل فأعاد الرسل إلى الاشرف في طلب الصلح وكان عسكر الاشرف قد طال بيكاره والناس قد ضجروا فوقعت الإجابة إلى الصلح وعاد الاشرف إلى سنجار وكان رحيله عن الموصل ثاني شهر رمضان من سنة سبع عشرة وستمائة. وفي سنة ست عشرة وستمائة توفي السلطان عز الدين كيكاوس بن كيخسرو ابن قلج أرسلان صاحب بلاد الروم ولم يخلف ولداً يصلح للملك لصغر سنهم. وأخرج الجند أخاه علاء الدين كيقباذ من قلعة المنشار التي على الفرات بقرب ملطية وكان مسجوناً بها فملكوه وحلف الناس له فأحسن تدبيره لملكه وكان شديداً على أصحابه ذا عزم وحزم وهيبة عظيمة.
وفي سنة سبع عشرة وستمائة في أوائل المحرم نزل جنكزخان في عساكره على مدينة بخارا وأحاط بها العساكر من جميع جوانبها. زوكان بها من عسكر السلطان محمد عشرون ألفاً مقدمهم كوك خان وسونج وكشلي خان. ولما تحققوا عجزهم عن مقاومة المغول خرجوا من الحصار بعد غروب الشمس فأدركهم المحافظون من عسكر المغول على نهر جيحون فأوقعوا فيهم وقتلوهم كافةً ولم يبقوا منهم أثراً. فلما فارق المقاتلون المدينة لم يبق لأهلها حيلة إلا التسليم والخروج وطلب الأمان فخرج الايمة والأعيان إلى خدمة جنكزخان يتضرعون إليه ويطلبون حقن دمائهم حسب. فتقدم باخراج كل من بالمدينة إلى ظاهرها فخرجوا ودخل هو وولده تولي إلى المدينة فوقف على باب مسجد الجامع وقال : هذا دار السلطان. فقالوا : لا بل خانة يزدان أي بيت الله. فنزل ودخل الجامع وصعد إلى المنبر وقال لاكابر بخارا : إن الصحراء خاليةٌ عن العلف فأنتم أشبعوا الخيل مما عندكم في الانبار. ففتحوها وصاروا ينقلون ما فيها من الغلات ورموا ما في الصناديق من الكتب وجعلوها اواري للخيل وأحضروا الطعام والشراب هناك وأكلوا وشربوا وطربوا. ثم خرج جنكزخان إلى منزله وجمع الايمة والمشايخ والسادات والعلماء وقال لهم : إن الله ملك الكل وضابط الكل أرسلني لأطهر الأرض من بغي الملوك الجائرة الفسقة الفجرة وذكر لهم ما فعله أمير اترار بإذن سلطانه بالتجار إلى غير ذلك ثم أمرهم أن يعتزلوا الأغنياء وأصحاب الثروة بمعزل عن الفقراء فعزلوهم وكانوا مائتي ألف وثمانين ألفاً. فقال لهم :إن الأموال التي فوق الأرض لا حاجة بنا إلى استعلامها منكم وإنما نريد أن تظهروا لنا الدفائن تحت الأرض. فقبلوا بالسمع والطاعة. ووكلوا مع كل قوم باسقاقاً يستخرج المال وأشار سراً إلى المستخرجين أن لا يكلفوهم ما لا يطيقونه ويرفقوا بهم وذلك لما رأى من حسن إجابتهم إلى ما أمروا به. ولأن جماعة من عسكر السلطان كانوا مختفين بالمدينة أمر فرموا في محالها النار فاحترقت المدينة بأسرها لأن جل عمائرها من خشب فبقيت عرصة بخارا قاعاً صفصفاً وتفرق أهلها منتزحين إلى خراسان.
وفيها في ربيع الأول نزل جنكزخان على مدينة سمرقند وكان قد رتب السلطان محمد فيها مائة ألف وعشرة آلاف فارس يقومون بحراستها. فلما نازلها منع أصحابه عن المقاتلة وأنفذ سنتاي نوين ومعه ثلاثون ألف محارب في أثر السلطان محمد. وغلاق نوين وبسور نوين إلى جانب طالقان. وأحاط باقي العسكر بالمدينة وقت سحر فبرز إليهم مبارزو الخوارزمية ونازعوهم القتال وجرحوا جماعةً كثيرةً من التاتار وأسروا جماعة وأدخلوهم المدينة فلما كان من الغد ركب جنكزخان بنفسه ودار على العسكر وحثهم على القتال فاشتد القتال ذلك اليوم بينهم ودام النهار كله من أوله إلى أول الليل ووقف الأبطال من المغول على أبواب المدينة ولم يمكنوا أحداً من المجاهدين من الخروج فحصل عند الخوارزمية فتور كثير ووقع الخلف بين أكابر المدينة وتلونت الآراء فبعض مال إلى المصالحة والتسليم وبعض لم يأمن على نفسه وإن أومن خوفاً من غدر التاتار فقوي عزم القاضي وشيخ الاسلام على الخروج فخرجا إلى خدمة جنكزخان وطلبا الأمان لهما ولأهل المدينة فلم يجبهما إلا إلى أمان أنفسهما ومن يلوذ بهما. فدخلا إلى المدينة وفتحا أبوابها فدخل المغول واشتغلوا ذلك اليوم بتخريب مواضع من السور وهدم بعض الأبرجة ولم يتعرضوا إلآ احد إلى أن هجم الليل فدخلوا إلى المدينة وصاروا يخرجون من الرجال والنساء مائةً مائةً بالعدد إلى الصحراء ولم ينكفوا إلا عن القاضي وشيخ الاسلام وعمن التجأ إليهما فاحتمى بهما نيفٌ وخمسون ألفاً من الخلق. ولما أصبح الصباح شرع المغول في نهب المدينة وقتل كل من لحقوه مختبئاً في المغائر ومتوارياً بالستائر وقتلوا تلك الليلة نحو ثلاثين ألف تركي وقنقلي وقسموا بالنهار ثلاثين ألفاً على الأولاد والأمراء وأطلقوا الباقي ليرجعوا إلى المدينة ويجمعوا من بينهم مائتي ألف دينار ثمن أرواحهم وكان المحصل لهذا المال ثقة الملك والأمير عميد وهما من أكابر سمرقند والشحنة طايفور. ومن هناك توجه جنكزخان بعساكره إلى نواحي خوارزم وأنفذ الرسل إليهم يدعوهم إلى الايلية والدخول في طاعته وشغلهم أياماً بالوعد والوعيد والتأميل والتهديد إلى أن اجتمعت العساكر ورتب آلات الحرب من منجنيق وما يرمى بها. ولأن صقع خوارزم لم يكن فيه حجر كان المغول يقطعون من أشجار التوت قطعاً كالحجارة ويرمون بها وملأوا الخندق بالتراب والخشب والهشيم وأنشبوا الحرب والقتال على المدينة من جميع جوانبها حتى عجز من فيها عن المقاومة فملكوا سورها وأضرموا النار في محالها فأتت على أكثر دورها وما فيها فأيس المغول من الانتفاع بشيءٍ من غنائمها فأعرضوا عن الحريق وصاروا يملكون محلةً محلةً لأن أهلها كانوا يمتنعون فيها أشد امتناع. ولم يزالوا كذلك إلى أن ملك المغول كل المحال وأخرجوا الخلائق كافةً إلى الصحراء وفرزوا الصناع والمحترفين إلى الناحية وكانوا مائة ألف وأسروا البنين والبنات والنساء اللواتي ينتفع بهن وقسموا الباقي من الرجال والنساء والعجائز على العسكر ليقتلوهم فقتل كل واحدٍ منهم أربعاً وعشرين شخصاً. وفي أوائل سنة ثماني عشرة وستمائة عبر جنكزخان نهر جيحون وقصد مدينة بلخ فخرج إليه أعيانها وبذلوا له الطاعة وحملوا الهدايا وأنواعاً من الترغو أي المأكل والمشرب.فلم يقبل عليهم بسبب أن السلطان جلال الدين بن السلطان محمد كان في تلك النواحي يهيئ أسباب الحرب ويستعد للقتال فأمر بخروج أهل بلخ إلى الصحراء ليعدوهم كالعادة فلما خرجوا بأسرهم رمى فيهم السيف. ومن هناك توجه نحو الطالقان وقتل أكثر أهلها وأسر من صلح للأسر وأبقى البعض. وسار إلى الباميان فعصى أهلها وقاتلوا قتالاً شديداً واتفق أن أصيب بعض أولاد جغاتاي بسهم جرح فقضى نحبه وكان من أحب أحفاد جنكزخان إليه فعظمت المصيبة بذلك واضطرمت النيران في قلوب المغول وجدوا في القتال إلى أن فتحوها وقتلوا كل من فيها حتى الدواب والبقر والأجنة التي في بطون الحبالى أيضاً ولم يأسروا منها أحداً قط وتركوها أرضاً قفراً ولم يسكنها أحدٌ إلى اليوم وسموها ماوباليغ أي قرية بؤس.
ولما فرغ جنكزخان من تخريب بلاد خراسان سمع أن السلطان جلال الدين قد استظهر بالعراق فسار نحوه ليلاً ونهاراً بحيث أن المغول لم يتمكنوا من طبخ لحمٍ إذا نزلوا. فحين وصلوا إلى غزنة أخبروا بأن جلال الدين من خمسة عشر يوماً رحل عنها وهو عازمٌ على أن يعبر نهر السند. فلم يستقر جنكزخان ورحل في الحال وحمل على نفسه بالسير حتى لحقه في أطراف السند فطاف به العسكر من قدامه ومن خلفه وداروا عليه دائرةً وراء دائرةٍ كالقوس الموتورة ونهر السند كالوتر وهو في وسط. وبالغ المغول في المكاوحة وتقدم جنكزخان أن يقبض حياً ووصل جغاتاي وأوكتاي أيضاً من جانب خوارزم. فلما رأى جلال الدين أنه يوم عملٍ شهمٍ وضرغم أبطال المغول وتطلب أطلابهم وحمل عليهم حملاتٍ وشق صفوفهم مرةً بعد مرةٍ وطال الأمر بمثل ذلك لامتناع المغول عن رميه بالنشاب ليحضروه غير مؤوف بين يدي جنكزخان امتثالاً لمرسومه فكانوا يتقدمون إليه قليلاً قليلاً. فلما عاين تضييق الحلقة عليه نزل فودع أولاده بل أكباده من نسائه وخواصه باكياً كئيباً ثم رمى عنه الجوشن وركب جنيبه وهو كالأسد الغيور وهم بالعبور واقحم فرسه النهر فانقحم وعام وخلص إلى الساحل وجنكزخان وأصحابه ينظرون إليه ويتأملونه حيارى. ولما شاهد ذلك جنكزخان وضع يده على فمه متعجباً والتفت إلى ولديه وقال لهما : من أبٍ مثل هذا الابن ينبغي أن يولد. إذا نجا من هذه الوقعة فوقائع كثيرة تجري على يديه. ومن خطبه لا يغفل من يعقل. وأراد جماعة من البهادورية أن يتبعوه في الماء فمنعهم جنكزخان قائلاً : إنكم لستم من رجاله لأنه كان يرامي المغول بالسهام وهو في وسط الشط. فلما فاتهم أخذوا أمر الخان بإحضار حرمه وأولاده وتقدم بقتل جميع الذكور حتى الرضع. ولأن جلال الدين عندما أراد الخوض في النهر ألقى جميع ما كان صحبته من آنية الذهب والفضة والنقرة فيه أمر الغواصين فأخرجوا منها ما أمكن إخراجه. وكان هذا الأمر الذي هو من عجائب الأنام ودواهي الأيام في رجب فقيل في المثل : عش رجباً تر عجباً.
وفيها أعني سنة ثماني عشرة وستمائة كان اجتماع الملك المعظم والملك الأشرف مع نجدة صاحب ماردين وعسكر حلب والملك الناصر صاحب حماة والملك المجاهد صاحب حمص واتصال الجميع بالملك الكامل على عزم قصد الفرنج ورد دمياط منهم. فأحاطوا بهم وضيقوا السبيل عليهم فأجابوا إلى الصلح على تسليم دمياط وإطلاق ما بأيديهم من أسراء المسلمين وإطلاق ما بأيدي المسلمين من أسراهم وقرر الصلح عاماً مع الدكادنائب البابا وملك عكا وملوك فرنجة ومقدمي الداوية والاسبتارية وتسلم الكامل دمياط يوم الأربعاء تاسع عشر رجب. وكانت مدة مقام الفرنج بها سنة كاملة وأحد عشر شهراً. وفي سنة إحدى وعشرين وستمائة توفي الملك الأفضل علي بن صلاح الدين وقد نزل عن ملك مصر والشام وقنع بسميساط كرهاً. وكان عنده علمٌ وفطنةٌ لكنه كان ضعيف الرأي قليل العزم كثير الغفلة عما يجب للدول وتدبير الممالك. ولما أخذت منه البلاد كتب إلى الخليفة الناصر كتاباً ضمنه شكاية عمه العادل وأخيه العزيز حيث أخذا منه البلاد ونكثا عهد أبيه له بها. وكتب في أول الكتاب بيتين من الشعر عملهما وأحسن فيهما وهما
مولاي إن أبا بكرٍ وصاحبه … عثمان قد أخذا بالسيف حق علي
فانظر إلى حرف هذا الاسم كيف لقي … من الأواخر ما لاقى من الأولِ
يريد بأبي بكر عمه وبعثمان أخاه وبعلي نفسه. فأجابه الناصر عن كتابه بكتابٍ كتب فيه
وافى كتابك يا ابن يوسف معلناً … بالصدق يخبر أن أصلك طاهرُ
غصبوا علياً حقه إن لم يكن … بعد النبي له بيثرب ناصرُ
فاصبر فإن غداً عليه حسابهم … وأبشر فناصرك الإمام الناصرُ
وكان الملك الأفضل قد شغله أبوه في صباه بشيءٍ من العلم فحصل منه طرفاً من العربية والشعر وكان ينظمه ويعتني به بالنسبة إلى حاله
و في سنة اثنتين وعشرين وستمائة توفي الخليفة الناصر لدين الله أبو العباس أحمد في ليلة عيد الفطر وكان عمره سبعين سنة ومدة خلافته ستاً وأربعين سنة وأحد عشر شهراً
وكان في الأيام الامامية الناصرية الحكيم عبد السلام بن جنكي دوست الجبلي البغدادي قد قرأ علوم الأوائل وأجادها واشتهر بهذا الشأن شهرةً تامة وحصل له بتقدمه حسدٌ من أرباب الشر فثلبه أحدهم بأنه معطل فأوقعت الحفظة عليه وعلى كتبه فوجد فيها الكثير من علوم الفلاسفة وبرزت الأوامر الناصرية باخراجها إلى موضعٍ ببغداد يعرف بالرحبة وأن يحرق الجم منها بحضور الجمع ففعل ذلك وأحضر لها عبيد الله التيمي المعروف بابن المارستانية وجعل له منبر وصعد عليه وخطب خطبةً لعن بها الفلاسفة ومن يقول بقولهم وذكر الركن هذا بشر وكان يخرج الكتب التي له كتاباً كتاباً يتكلم عليه ويبالغ في ذمه وذم مصنفه ثم يلقيه من يده لمن يلقيه في النار. قال القاضي الأكرم الوزير جمال الدين بن القفطي رحمه الله : أخبرني الحكيم يوسف السبتي الاسرائيلي قال : كنت بغداد يومئذٍ تاجراً وحضرت المحفل وسمعت كلام ابن المارستانية وشاهدت في يده كتاب الهيئة لابن الهيثم وهو يقول : وهذه الداهية الدهياء والنازلة الصماء والمصيبة العمياء. وبعد إتمام كلامه خرقها وألقاها في النار. فاستدللت على جهله وتعصبه إذ لم يكن في الهيئة كفرٌ وإنما هي طريقٌ إلى الإيمان ومعرفة قدر الله جل وعز فيما أحكمه ودبره. واستمر الركن عبد السلام في السجن معاقبةً على ذلك إلى أن أفرج عنه سنة تسعٍ وثمانين وخمسمائة.
وفي هذه السنة توفي يحيى بن سعيد بن ماري الطبيب النصراني صاحب المقامات الستين صنفها وأحسن فيها وكان فاضلاً في علوم الأوائل وعلم العربية والشعر يرتزق بالطب. ومن شعره في الشيب
نفرت هند من طلائع شيبي … واعترتها سآمةٌ من وجومي
هكذا عادة الشياطين ينفر … ن إذا ما بدت نجوم الرجومِ
ومن أطباء الدار الامامية الناصرية صاعد بن هبة الله بن المؤمل أبو الحسن النصراني الحظيري المتطبب وأخوه أبو الخير الاركيذياقون وهما أخوا الجاثليق المعروف بابن المسيحي. أما صاعد فخدم الخليفة الناصر وتقرب قرباً كثيراً وكانت له المعرفة التامة بالطب والمنطق وصنف كتاباً صغير الحجم سماه الصفوة جمع فيه أجزاء الطب علميها وعمليها وألحق في آخر الفن الأول من الجزء الثاني ثلاثة فصول في الختانة لكونها منوطة بالأطباء ببغداد وإن كان لا يسمع لأحدٍ من المتقدمين ولا المتأخرين فيها قولاً بل فيما يطول القلفة. وكان ينسخ بخطه كتب الحكمة. ومات في آخر سنة إحدى وتسعين وخمسمائة. وأما الاركيذياقون وكان أيضاً فاضلاً صنف كتاباً مختصراً لخص فيه مباحث كتاب الكليات من القانون سماه الاقتضاب ثم اختصره وسمى المختصر انتخاب الاقتضاب. وحكى لي بعض الأطباء ببغداد أن أباه حمله وهو مترعرع إلى ابن التلميذ ليشغله فقال : هذا ابنك صغيرٌ جداً. فقال : غرضي التبرك منك. فأقرأه المسألة الأولى من مسائل حنين.
وفي سنة أربع وتسعين وخمسمائة توفي محمد بن عبد السلام المقدسي ثم المارديني كان أبوه قاضي ماردين وجده قاضي دنيسر قرأ الطب على ابن التلميذ فبلغ منه الغاية حتى أن الملوك كانت تخطبه من النواحي والأقطار وكان على علو السن يكرر على كتب كبار. وقرأ عليه الشهاب السهروردي شيئاً من الحكمة. ولم يصنف كتاباً مع غزارة علمه وتمكنه وحسن تصرفه فيه إلا أنه شرح أبيات ابن سينا التي أولها :هبطت إليك. وكان أبو الخير بن المسيحي يفخم أمره ويعظم شأنه.
وفي سنة خمسٍ وستمائة مات موسى بن ميمون اليهودي الأندلسي وكان قد قرأ علم الأوائل بالأندلس وأحكم الرياضيات وقرأ الطب هناك فأجاده علماً ولم يكن له جسارةع لى العمل. وأكره على الإسلام فأظهره وأسر اليهودية. ولما التزم بجزيات الإسلام من القراءة والصلاة فعل ذلك إلى أن أمكنته الفرصة في الرحلة بعد ضم أطرافه فخرج عن الأندلس إلى مصر ومعه أهله ونزل مدينة الفسطاط بين يهودها فأظهر دينه وارتزق بالتجارة في الجوهر وما يجري مجراه. ولما ملك العزيز مصر وانقضت الدولة العلوية اشتمل عليه القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني ونظر إليه وقرر له رزقاً وكان يشارك الأطباء ولا ينفرد برأيه لقلة مشاركته ولم يكن وقفاً في المعالجة والتدبير. وكان عالماً بشريعة اليهود وصنف كتاباً في مذهب اليهود سماه بالدلالة وبعضهم يستجيده وبعضهم يذمه ويسميه الضلالة. وغلب عليه النحلة الفلسفية وصنف رسالة في المعاد الجسماني وأنكر عليه مقدمو اليهود فأخفاها إلا عمن يرى رأيه.و رأيت جماعة من يهود بلاد الفرنج الغتم بإنطاكية وطرابلس يلعنونه ويسمونه كافراً. وله تصنيفات حسنة في الرياضيات ومقاربة في الطب. وابتلي في آخر زمانه برجلٍ من الأندلس فقيه يعرف بأبي العرب وصل إلى مصر وحاققه على إسلامه ورام أذاه فمنعه عنه القاضي الفاضل وقال له : رجلٌ يكره لا يصح إسلامه شرعاً. ولما قرب وفاته تقدم إلى مخلفيه أن يحملوه إذا انقطعت رائحته إلى بحيرة طبرية فيدفنوه هناك لما فيها من قبور صالحيهم ففعل به ذلك .
وفي سنة ست وستمائة في ذي الحجة توفي بهراة الإمام الفخر الرازي محمد بن عمر المعروف بابن الخطيب بالري. وكان من أفاضل أهل زمانه بز القدماء في الفقه وعلم الأصول والكلام والحكمة ورد على أبي علي بن سينا واستدرك عليه. وكان يركب وحوله السيوف المجذبة وله المماليك الكثيرة والمرتبة العالية والمنزلة الرفيعة عتد السلاطين الخوارزمشاهية. وعن له أن تهوس بعمل الكيمياء وضيع في ذلك مالاً كثيراً ولم يحصل على طائل.و سارت مصنفاته في الأقطار واشتغل بها الفقهاء. ورحل إلى ما وراء النهر لقصد بني مارة ببخارا ولم يلق منهم خيراً وكان فقيراً يومئذٍ لا جدة له فخرج من بخارا وقصد خراسان واتفق اجتماعه بخوارزمشاه محمد بن تكش فقربه وأدناه ورفع محله وأسنى رزقه.و استوطن مدينة هراة وتملك بها ملكاً وأولد أولاداً وأقام بها حتى مات ودفن في داره.و كان يخشى أن العوام يمثلون بجثته لما كان يظن به من الانحلال. وفي مسيره إلى ما وراء النهر يقصد بخارا في حدود سنة ثمانين وخمسمائة اجتاز بعبد الرحمن بن عبد الكريم السرخسي الطبيب ونزل عليه فأكرمه وقام بحقه مدة مقامه بسرخس فأراد أن يفيده مما لديه فشرع له في الكلام على كليات القانون وشرح المستغلق من ألفاظ هذا الكتاب ورسمه باسمه وذكره في مقدمته ووصفه وأثنى عليه. وفي سنة ثماني وستمائة توفي المسيحي ابن أبي البقاء النيلي نزيل بغداد وكنيته أبو الخير ويعرف بابن العطار وكان خبيراً بالعلاج قيماً به له ذكر وقرب من دار الخليفة يطب النساء والحواظي عاش عمراً طويلاً وحصل مالاً جزيلاً وخلف ولداً طبيباً لم يكن رشيدأ يكنى أبا علي. ولما مات أبوه اتفق أن كان على بعض مسراته إذ كبس في ليلة الجمعة حادي عشر ربيع الأول من سنة سبع عشرة وستمائة وعنده امرأة مسلمة تعرف بست شرف. فلما قبض عليه أقر على جماعة من المسلمات كن يأتينه لأجل دنياه من جملتهن زوجة ابن البخاري صاحب المخزن اسمها اشتياق. فخرج الأمر بسجن المرأتين بسجن الطرارات وفدى أبو علي نفسه بستة آلاف دينار .
وفي سنة تسع عشرة وستمائة في المحرم توفي علي بن أحمد أبو الحسن الطبيب المعروف بابن هبل وكان من أهل بغداد عالماً بالطب والأدب ولد ببغداد ونشأ بها ثم جاز إلى الموصل وخرج إلى أذربيجان وأقام بخلاط عند صاحبها شاه أرمن يطبه وقرأ الناس عليه. وفارق تلك الديار لسببٍ وهو أن بعض الطشتدراية قال له يوماً وقد نظر قارورة الملك في بعض أمراضه : يا حكيم لم لا تذوقها. فسكت عنه. فلما انفصل المجلس قال له في خلوةٍ : قولك هذا اليوم عن أصل أم من قول غيرك أو هو شيءٌخطر لك. فقال : إنما خطر لي لأني سمعت أن شرط اختبار القارورة ذوقها. فقال : الأمر كذلك ولكن لا في كل الأمراض وقد أسأت إلي بهذا القول لأن الملك إذا سمع هذا ظن أنني قد أخللت بشرطٍ واجبٍ من شروط خدمته. ثم أنه عمل على الخروج لأجل هذه الحركة والخوف من عاقبتها بعد أن رشا الطشت دار حتى لا يعود إلى مثلها. وخرج وعاد إلى الموصل وقد تمول فأقام بها إلى حين وفاته. وعمر حتى عجز عن الحركة وعدم بصره فلزم منزله قبل وفاته بسنتين ومات وعمره خمس وتسعون سنة. وكان الناس يترددون ويقرأون عليه. وصنف كتاباً حسناً في الطب سماه المختار يجيء في أربع مجلدات .
وفي سنة عشرين وستمائة ثامن وعشرين جمادى الأولى ليلة الخميس قتل أبو الكرم صاعد بن توما النصراني الطبيب البغدادي ويلقب بأمين الدولة. كان فاضلاً حسن العلاج كثير الإصابة وكان من ذوي المروآت تقدم في أيام الإمام الناصر إلى أن صار في منزلة الوزراء واستوثقه على حفظ أمواله وخواصه وكان يودعها عنده ويرسله في أمورٍ خفيةٍ إلى الوزير ويظهر له كل وقت. وكان حسن الوساطة جميل المحضرتقضى على يده حاجات الناس. وكان الإمام الناصر في آخر أيامه قد ضعف بصره وأدركه سهو في أكثر أوقاته. ولما عجز عن النظر في القصص استحضر امرأةً من النساء البغداديات تعرف بست نسيم وقربها وكانت تكتب خطاً قريباً من خطه وجعلها بين يديه تكتب الأجوبة وشاركها في ذلك خادمٌ اسمه تاج الدين رشيق فصارت المرأة تكتب في الأجوبة ما ترد فمرةً تصيب ومراراً تخطئ. واتفق أن كتب الوزير القمي المدعو بالمؤيد مطالعةً وعاد جوابها وفيه إخلالٌ بين فتوقف الوزير وأنكر ثم استدعى الحكيم صاعد بن توما وسأله عن ذلك سراً. فعرفه ما الخليفة عليه من عدم البصر والسهو الطارئ في أكثر الأوقات وما يعتمده المرأة والخادم من الأجوبة. فتوقف الوزير عن العمل بأكثر الأمور الواردة عليه. وتحقق الخادم والمرأة ذلك وحدسا أن الحكيم هو الذي دله على ذلك. فقرر رشيق مع رجلين من الجند أن يغتالا الحكيم ويقتلاه وهما رجلان يعرفات بولدي قمر الدين من الأجناد الواسطية. فرصدا الحكيم في بعض الليالي إلى أن خرج من دار الوزير عائداً إلى دار الخليفة فتبعاه إلى باب الغلة المظلمة ووثبا عليه بسكينيهما وجرحاه وانهزما. فبصر بهما وصاح : خذوهما. فعادا إليه وقتلاه وجرحا النفاط الذي بين يديه. وحمل الحكيم ابن توما إلى منزله ودفن بداره في ليلته. وبعد تسعة أشهر نقل إلى تربة آبائه في لبيعة بباب المحول. وبحث الخليفة والوزير عن القاتلين فعرفا وأمر بالقبض عليهما وفي بكرة تلك الليلة أخرجا إلى موضع القتل وشق بطناهما وصلبا على باب المذبح المحاذي لباب الغلة التي جرح في بابها .
“ ظاهر بن الناصر “
ولما توفي الناصر لدين الله بويع ابنه الإمام الظاهر بأمر الله عدة الدين أبو نصر محمد في ثاني شوال من سنة اثنتين وعشرين وستمائة. وكان والده قد بايع له بولاية العهد وكتب بها إلى الآفاق وخطب له بها مع أبيه على سائر المنابر. ومضت على ذلك مدة ثم نفر عنه بعد ذلك وخافه على نفسه فإنه كان شديداً قوياً أيداً عالي الهمة فأسقط من ولاية العهد في الخطبة واعتقله وضيق عليه ومال إلى أخيه الصغير الأمير علي إلا أنه لم يعهد إليه. فاتفقت وفاة الأمير علي الصغير في حياة والده وخلف أولاداً أطفالاً فبعث بهم إلى ششتر. فعلم الإمام الناصر أنه لم يبق له ولد تصير الخلافة إليه بعده غيره فعهد إليه وبايع له الناس وهو في الحبس مضبوط عليه وكانت عامة أهل بغداد يميلون إليه. فلما توفي الناصر أخرجه أرباب الدولة وبايعوه بالخلافة. وقال لما بويع : كيف يليق أن يفتح الإنسان دكاناً بعد العصر. قد نيفت على الخمسين سنة وأتقلد الخلافة. ثم أظهر من العدل والأمن ما لم يمكن وصفه وأزال الظلم ورد على الناس أموالاً جزيلةً وأملاكاً جليلةً كانت قد أخذت منهم وأزال مكوساً كثيرةً وكانت قد . وارتفع عن الناس ما كانوا ألفوه من الخوف في زمان والده فأظهروا نعمتهم وامتنع المفسدون من السعايات. وعقد لبغداد جسراً ثانياً عظيماً جديداًو أنفق عليه مالاً كثيراً فصار في بغداد على دجلتها جسران. وما زالت دولته كذلك عادلةً آمنةً منذ ولي إلى أن توفي في رابع عشر شهر رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة بعد تسعة أشهرٍ من ولايته .
وفيها مات يوسف بن يحيى بن اسحق السبتي المغربي. هذا كان طبيباً من أهل قادس وقرأ الحكمة بجلادةٍ فشدا فيها وعانى شيئاً من علوم الرياضة فأجادها وكانت حاضرة على ذهنه عند المحاضرة. ولما ألزم اليهود في تلك البلاد بالإسلام أو الجلاء كتم دينه وارتحل إلى مصر بماله واجتمع بموسى بن ميمون القرطبي رئيس اليهود بمصر وقرأ عليه شيئاً وسأله إصلاح هيئة ابن أفلح الأندلسي فإنها صحبته من سبتة فاجتمع هو وموسى على إصلاحها وتحررها.و خرج من مصر إلى الشام ونزل حلب وأقام بها واشترى ملكاً قريباً وتزوج وخدم أطباء الخاص في الدولة الظاهرية بحلب وكان ذكياً حاد الخاطر. قال القاضي الأكرم رحمه الله : كان بيني وبين يوسف هذا مودة طالت مدتها فقلت له يوماً : إن كان للنفس بقاءٌ وتعقل به حال الموجودات من خارج بعد الموت فعاهدني على أن تأتيني إن مت قبلي وآتيك إن مت قبلك. فقال : نعم. ووصيته أن لا يغفل. ومات وأقام سنتين ثم رأيته في النوم وهو قاعد في عرصة مسجد من خارجه في حضيرةٍ له وعليه ثيابٌ جدد بيضٌ من النصفي فقلت له : يا حكيم ألست قررت معك أن تأتيني لتخبرني بما ألفيت. فضحك وأدار وجهه فأمسكته بيدي وقلت : لا بد أن تقول لي كيف الحال بعد الموت. فقال لي : الكلي لحق بالكل وبقي الجزئي في الجزء. ففهمت عنه في حاله كأنه أشار إلى النفس الكلية عادت إلى عالم الكل والجسد الجزئي بقي في الجزء وهو المركب الأرضي. فتعجبت بعد الاستيقاظ من لطيف إشارته. نسأل الله العفو عند العود إليه بعد الموت.
” المستنصر بن الظاهر “
ولماتوفي الإمام الظاهر بأمر الله بويع ابنه جعفر المنصور ولقب المستنصر بالله بويع يوم مات والده. ولما بويع البيعة العامة ركب للناس ركوباً ظاهراً واستمر على هذه الحالة مدةً طويلةً لا يختفي في ركوبه من الناس وأظهر من العدل وحسن السيرة أضعاف ما أظهره والده وأفاض من الصدقات ما أربى على من تقدمه وتقدم بإنشاء مدرسته المعروفة بالمستنصرية التي لم يعمر في الدنيا مثلها فعمرت على أعظم وصف في صورتها وآلاتها واتساعها وزخرفها وكثرة فقهائها ووقوفها. ووقفها على المذاهب الأربعة ورتب فيها أربعة من المدرسين في كل مذهبٍ مدرساً وثلاثمائة فقيه. لكل مذهب خمسة وسبعون فقيهاً. ورتب لهم من المشاهرات والخبز والطعام في كل يوم ما يكفي كل فقيه ويفضل عنه وبنى لهم داخل المدرسة حماماً خاصاً للفقهاء وطبيباً خاصاً يتردد إليهم في بكرة كل يوم يفتقدهم ومخزناً فيه كل ما يحتاج إليه من أنواع ما يطبخ من الأطعمة ومخزناً آخر فيه أنواع الأشربة والأدوية.
وفي سنة أربع وعشرين وستمائة توفي الملك المعظم عيسى بن الملك العادل صاحب دمشق في سلخ ذي تاقعدة وكان عمره ثمانياً وأربعين سنة. وكانت همته عالية وصار ملكه بدمشق والقدس والسواحل إلى ولده الملك الناصر صلاح الدين داود فاستقر ملكه بها وحمل عمه الملك العزيز وعمه الملك الصالح الغاشية بين يديه .
وفيها قفل جنكزخان من الممالك الغربية إلى منازله القديمة الشرقية ثم رحل من هناك إلى بلاد تنكوت وهنالك عرض له مرض من عفونة ذلك الهواء الوخيم ولما قوي من مرضه استدعى أولاده جغاتاي وأوكتاي والغ نوين وكلكان وجورختاي وأوردجار وقال لهم : إنني قد أيقنت مفارقة الدنيا لعجز قوتي عن حمل ما بي من الآلام ولا بد من شخصٍ يقوم بحفظ المملكة على حالها والذب عنها. وقد أعلمتكم غير مرة أن ابني أوكتاي يصلح لهذا الشأن لما رأيت من مزية رأيه المتين وعقله المبين والآن فقد جعلته ولي عهدي وقلدته ما بيدي من جميع الممالك فما قولكم في هذا الذي استصوبته. فجثا الأولاد والنوينية المذكورون على ركبهم وقالوا : جنكزخان هو المالك للرقاب ونحن العبيد السامعون المطيعون في جميع ما يتقدم به على وفق مراده ومرسومه. وعند فراغه من الوصية اشتد وجعه وتوفي لأربعٍ مضين من شهر رمضان سنة أربع وعشرين وستمائة وكان مدة ملكه نحو خمس وعشرين سنة. فأرسل الولدان والأمراء الرسل إلى باقي الأولاد والأمراء ليجتمعوا في القوريلتاي أي المجمع الكبير.
وفي سنة خمس وعشرين وستمائة ترددت الرسل بين الفرنج والملك الكامل في طلب الصلح فاتفق على تسليم البيت المقدس إلى الفرنج فتسلموه ومواضع كثيرة أخر من بلاد الساحل. وإنما أجابهم الكامل لما رأى من كثرة عساكرهم وإمداد البحر لهم بالرجال والأموال فخاف على بلاده أن تؤخذ منه عنوةً فأرضاهم بذلك.
وفي سنة ست وعشرين وستمائة تم اجتماع الأولاد وأمراء المغول فوصل من طرف القفجاق الأولاد توشي هردو باتو سيبان تنكون بركه بركجار بغاتيمور أقناس جغاتاي. ومن طرف أتميل أوكتاي. ومن طرف المشرق عمهم أوتكين وبلكتاي نوين والجتاي نوين والغ نوين. وأما الأولاد الصغار فكانوا في أردو جنكزخان. وفي زمن الربيع حضروا كلهم في عساكرهم وثلاثة أيام متوالية فرحوا جميعاً ثم شرعوا فيما تقدم به جنكزخان من الوصية والعهد بالمملكة إلى أوكتاي فامتثلوا كلهم الأوامر الجنكزخانية واعترفوا بأهليته لذلك. فاستقالهم أوكتاي الولاية قائلاً : إن أمر الوالد وإن كان لا اعتراض عليه لكن ههنا أخٌ أكبر مني وأعمامٌ هم أولى مني بها. فلم يقيلوه إياها وأصروا على أنه لا بد من امتثال مرسوم الوالد وداموا على إصرارهم أربعين يوماً وما زالوا يتضرعون إليه ويلحون عليه بالمسألة حتى أجاب إلى ذلك فكشفوا رؤوسهم ورموا مناطقهم على أكتافهم وأخذ جغاتاي أخوه الكبير بيده اليمنى وأوتكين عمه بيده اليسرى فأجلساه على سرير المملكة ولقباه قاان ولزم له الغ نوين كأس شراب فسقاه وجثا كل من كان حاضراً داخل الخزكاه وخارجها على ركبتيه تسع مرات ودعوا له ثم برزوا كلهم إلى خارج وجثوا ثلاث مرات حيال الشمس. وإنما اختص ألغ نوين بلزوم الكاس لأنه أصغر أولاد جنكزخان وفي عادة المغول أن الابن الصغير لا يقتسم ولا يخرج عن بيت أبيه وإذا مات الأب فهو يتولى تدبير المنزل. ففي تلك الأربعين يوماً كان يقول أوكتاي : إن الغ نوين هو صاحب البيت وأكثر مواظبةً لخدمته وأبلغ مني تعلماً لسياسته فالمصلحة تفويض هذا الأمر إليه. فلذلك سبق الجميع بتصريح الطاعة. وأما الأمراء فانتخبوا من بناتهم الأبكار الصالحة لخدمة قاان أربعين بنتاً وحملوهن مزيناتٍ بالحلي الفاخرة والخيول الرائعة إلى خدمته. ولما فرغ من هذه الأمور صرف همته إلى ضبط الممالك وجهز جورماغون في ثلاثين ألف فارسٍ وسيرهم إلى ناحية خراسان وأنفذ سنتاي بهادر في مثل ذلك العسكر إلى جانب قفجاق وسقسين وبلغار وجماعة أخرى إلى التبت وقصد هو بنفسه بلاد الخطا .
وفي سنة سبعٍ وعشرين وستمائة في أوائلها نزل السلطان جلال الدين خوارزمشاه على خلاط وحاصرها أشد حصار وشتى عليها ونصب عليها عشرين منجنيقاً على ناحية البحر وفيها أخو الملك الأشرف تقي الدين عباس ومجير الدين يعقوب والأمير حسام الدين القيمري وعز الدين ايبك مملوك الأشرف. فدام الحصار على أهل خلاط واشتد حتى أكلوا لحوم الكلاب وبلغ الخبز كل رطل بالشامي بدينار مصري فتسلم خوارزمشاه المدينة والقلعة وانهزم حسام الدين القيمري وأفلت على فرسٍ وحده ومضى إلى قلعة قيمر ثم تجهز إلى خدمة الملك الأشرف إلى الرقة وأقام عز الدين ايبك وتقي الدين ومجير الدين مع خوارزمشاه يركبون معه ويلعبون بالكرة. ولما طارت الأخبار إلى الملك الأشرف بذلك انزعج وأسار جريدة إلى أبلستين. فتلقاه صاحب الروم علاء الدين كيقباذ من فراسخ واجتمعا ولحقت الملك الأشرف عساكره وخرج علاء الدين بعساكره إلى اق شهر هو والملك الأشرف وخرج الخوارزمي من خلاط للقائهم وكان في أربعين ألفاً والتقوا اقتتلوا قتالاً شديداً في يوم الجمعة وكان الغلبة فيه للملك الأشرف والرومي وباتوا ليلة السبت على تعبيتهم إلى الفجر من يوم السبت فالتقوا واقتتلوا فانكسر الخوارزمي كسرةً عظيمةً وانهزم وقتل من أصحابه خلقٌ لا يحصي عددهم إلا الله وانهزم مثلهم وأسر مثلهم وبلغت هزيمتهم إلى جبال طرابيزون فوقع منهم في شقيف هناك ألف وخمسمائة رجل. وساق خوارزمشاه إلى صوب خرتبرت فوصلها في يوم وليلة ونجا بنفسه ومضى إلى بلاد العجم فأقام في خوى. وكان قد بعث تقي الدين عباس أخا الأشرف أسيراً مقيداً إلى بغداد هدية فأعاده الخليفة المستنصر مكرماً إلى الأشرف فوصل الأشرف إلى خلاط وأصلح أحوالها ورممها ثم بعث رسولاً إلى خوارزمشاه يسأله الإحسان إلى من معه من الأسارى فأجابه بأن عندي منكم ملوكاً وعندكم منا مماليك فإن أجبتم إلى الصلح فأنا موافق عليه. فأجابه الملك الأشرف : إنك فعلت ببلادنا ما فعلته وما أبقيت من سوء المعاملة والمقابحة شيئاً إلا وقد عملته خربت البلاد وسفكت الدماء فإن أردت الصلح فانزل عن البلاد التي تغلب عليها ولم تكن لأبيك لنعمر منها ما خربت. وأما قولك بأن عندك منا ملوكاً فالذي عندك أخي مجير الدين يعقوب نحن نقدر أنه مات فأخوتي عوضه ونحن بحمد الله في جماعة أهل بيت وأولاد وأقارب نزيد على ألفي فارس وأنت أبتر ما لك أحد وخلفك أعداءٌ كثيرة. فمضى الرسول بهذا الجواب فلم يجبه الخوارزمي إلى ما طلبه ولا استقر بينهما أمر. وكان عز الدين ايبك قد سجنه خوارزمشاه في قلعة اختمار فأحضر وقتل. ثم وصله خبر عبور جورماغون نوين نهر أموية في طلبه فتوجه إلى تبريز وأرسل رسولاً إلى الخليفة وآخر إلى الملك الأشرف وصحبته زوجة الأمير حسام الدين القيمري التي كان قد أسرها من خلاط ورسولاً إلى السلطان علاء الدين صاحب الروم يستجيشهم ويعلمهم كثرة عساكر التاتار وحدة شوكتهم وشدة نكايتهم وأنه إذا ارتفع هو من البين يعجزون عن مقاومتهم وانه كسد الاسكندر يمنعهم عنهم فالرأي أن يساعده كلٌ منهم بفوجٍ من عسكره ليرتبط بذلك جأش أصحابه ويحجم بهم العدو عن البلاد فيحجم. قال من هذا النوع وأكثر واستصرخهم فلم يصرخوه واستغاثهم فلم يغيثوه فشتى بأرمية وأشتوا. وفي الربيع توجه إلى نواحي ديار بكر وصار يزجي أوقاته بالتمتع واللهو والشراب والطرب كأنه يودع الدنيا وملكها الفاني. وبينما هو في ذلك يسر لا بل يغر فجئه هجوم بايماس نوين في عسكره ليلاً فتكلف للانتباه وعاين نيران المغول بالقرب من مكانه فتقدم إلى الأمير أورخان أن يلم به الجماعة ويشغل المغول عند الصبح بالاقدام تارةً والاحجام أخرى وفر هو مع ثلاثة نفر من مماليكه تائهاً في جبال ديار بكر. فلما أصبحوا ظن المغول أن جلال الدين خوارزمشاه فيهم فجدوا في طلبهم طاردين في أعقابهم وهم منهزمون بين أيديهم ولما تحققوا أنه ليس معهم رجعوا عنهم. فأما جلال الدين خوارزمشاه فأوقع به قومٌ من الأكراد ببعض جبال آمد ولم يعرفوه وقدروه من بعض جند الخوارزمية فقتلوه والمملوكين طمعاً في ثيابهم وخيلهم وسلاحهم. استنبط ذلك من جهة أن بعد مديدةٍ يسيرةٍ دخل بعض أولئك الأكراد إلى آمد وعليه من سلاح جلال دين. فعرفه مملوكٌ له كان قد لجأ إلى صاحب آمد فقبض الكردي وقرر فأقر بما افتعله هو وأصحابه فأحضرهم وقتلهم حنقاً عليهم. وقال قوم أن المقتول لم يكن جلال الدين وإنما كان سلاحداره لأنه يومئذٍ لم يحمل سلاحاً ولا كان يلبس ثياب العادة وإنما كان بزي الصوفية مع اصحابه ولذلك دائماً كان يرجف الناس أن جلال الدين خوارزمشاه قد رأوه بالبلد الفلاني وبالمدينة الفلانية حتى أنه في سنة اثنتين وخمسين وستمائة اتفق جماعة من التجار عابرين على نهر جيحون وهناك القراغول وهم مستحفظو الطرق فأنكروا على فقيرٍ كان صحبة التجار مجهول فلما قرروه أقر أنه جلال الدين خوارزمشاه فقبضوه وكرروا عليه العذاب والسؤال فلم يغير كلامه إلى أن مات تحت العقوبة. فإن لم يكن هو واعتمد ذلك إلى هذه الغاية فلا شك أن الجنون فنون.ن. فعرفه مملوكٌ له كان قد لجأ إلى صاحب آمد فقبض الكردي وقرر فأقر بما افتعله هو وأصحابه فأحضرهم وقتلهم حنقاً عليهم. وقال قوم أن المقتول لم يكن جلال الدين وإنما كان سلاحداره لأنه يومئذٍ لم يحمل سلاحاً ولا كان يلبس ثياب العادة وإنما كان بزي الصوفية مع اصحابه ولذلك دائماً كان يرجف الناس أن جلال الدين خوارزمشاه قد رأوه بالبلد الفلاني وبالمدينة الفلانية حتى أنه في سنة اثنتين وخمسين وستمائة اتفق جماعة من التجار عابرين على نهر جيحون وهناك القراغول وهم مستحفظو الطرق فأنكروا على فقيرٍ كان صحبة التجار مجهول فلما قرروه أقر أنه جلال الدين خوارزمشاه فقبضوه وكرروا عليه العذاب والسؤال فلم يغير كلامه إلى أن مات تحت العقوبة. فإن لم يكن هو واعتمد ذلك إلى هذه الغاية فلا شك أن الجنون فنون .
ولما استقر قاان في الملك وانقاد له القاصي والداني من جيوش المغول عزم على فتح بلاد الخطا وسير في مقدمته أخويه جغاتاي والغ نوين وباقي الأولاد في عساكر عظيمة. فساروا ونازلوا أولاً مدينةً يقال لها حرجا بنو يقسين وهي على شط قراموران فأحاطوا بها وحصروها مدة أربعين يوماً وكان فيها عشرة آلاف من فرسان الخطا فلما عاينوا العجز عن مقاومة المغول ركبوا السفن التي كانوا أعدوها هاربين. وطلب أهل البلد الأمان فأومنوا ورتب المغول عندهم الشحاني وقصدوا باقي المواضع. وجهز قاان أخاه الغ نوين وولده كيوك وسيرهم في عشرة آلاف فارس في المقدمة وسار هو بعقبهم فتمهل ومعه العسكر الكبير. فجيش التون خان ملك الخطا مائة ألف من شجعانه وقدمم عليهم أميراً من أمرائه وأنفذهم للقاء المغول. فلما وصلوا إليهم استحقروهم لقلتهم بالنسبة إليهم وتهاونوا في أمرهم وأرادوا أن يسوقوهم كما هم إلى ملكهم التون خان ليفرجوا بهم عنه غمه إذا هو ضرب عليهم حلقة وصادهم صيداً. فشغلهم المغول بفتور المكافحة وأطمعوهم إلى أ، وصلت الأفواج التي مع قاان فأوقعوا بعسكر الخطا ولم يفلت منهم إلا النزر. وكان التون خان بمدينة تسمى نامكينك فلما بلغه الخبر بما جرى على أصحابه ارتاع وآيس من حياة الدنيا وجمع أولاده ونساءه وكل من يعز عليه ودخلوا بيتاً من بيوت الخشب وأمر بضرب النار فيه فاحترق هو ومن معه أنفةً من الوقوع في أسر المغول. ودخلت عساكر المغول إلى المدينة ونهبوا وأسروا البنين والبنات وأمنوا الباقي. وفتحوا غيرها من المدن المشهورة ورتب بها قاان الشحاني وقفل إلى مواضعه القديمة وبنى بها مدينة سماها اردوباليق وهي مدينة قراقورم وأسكنها خلفاً من أهل الخطا وتركستان والفرس والمستعربين. وبينما هم مسرورون بفتح بلاد الخطا توفي تولي خان وكان أحب الأخوة إلى قاان فاغتم لذلك كثيراً وأمر أن زوجته المسماة سرقوتنى بيكي وهي ابنة أخي اونك خان تتولى تدبير عساكره وكان لها من الأولاد أربعة بنين مونككا قوبلاي هولاكو أريغ بوكا. فأحسنت تربية الأولاد وضبط الأصحاب وكانت لبيبة مؤمنة تدين بدين النصرانية تعظم محل المطارنة والرهبان وتقتبس صلواتهم وبركتهم وفي مثلها قال الشاعر .
فلو كان النساء كمثل هذه … لفضلت النساء على الرجالِ
وبعد قليل مات أيضاً الأخ الكبير وهو المسمى توشي وخلف سبعة بنين وهم تمسل هردو باتوا سيبقان تنكوت بركه بركجار. ومن بين هؤلاء لباتوا سلم قاان البلاد الشمالية وهي بلاد الصقالبة واللان والروس والبلغار وجعل مخيمه على شاطىء نهر اتلو غزا هذه النواحي فقتل فيها خلائق بلغ عددهم مائتي ألف وسبعين ألفاً علم ذلك من آذان القتلى التي قطعوها امتثالاً لمرسوم قاان لأنه تقدم بقطع الأذن اليمنى من كل قتيل. وبعد فراغ باتوا من أمر الصقالبة تجهز للدخول إلى نواحي القسطنطينية فبلغ ذلك ملوك الفرنج فجاؤوا حافلين حاشدين والتقوا المغول في أطراف بلد البلغار وجرت بينهم حروب كثيرة انجلت عن كسرة المغول وهزيمتهم وهربهم فقفلوا من غزاتهم هذه ولم يعودوا يتعرضون إلى بلاد يونان وفرنجة إلى يومنا هذا.
وفي سنة ثلاثين وستمائة أرسل السلطان علاء الدين كيقباذ صاحب الروم رسولاً إلى قاان وبذل الطاعة. فقال قاان للرسول : اننا قد سمعنا برزانة عقل علاء الدين وإصابة رأيه فإذا حضر بنفسه عندنا يرى منا القبول والإكرام ونوليه الاختاجية في حضرتنا وتكون بلاده جارية عليه. فلما عاد الرسول بهذا الكلام تعجب منه كل من سمعه واستدل على ما عليه قاان من العظمة. وفيها أخذ علاء الدين خلاط وسرمارى من الملك الأشرف وغزا الأشرف مدينة حصن منصور وأغار عليها وأخذ الكامل مدينة آمد من صاحبها وعوضه عنها قرى بالشام. وفيها توفي مظفر الدين كوكبري بن زين الدين علي كوجك صاحب اربل في رمضان وحمل إلى مكة فدفن بها وولي اربل إنسان شريف يقال له أبو المعالي محمد بن نصر بن صلايا من قبل الخليفة المستنصر. وفي سنة إحدى وثلاثين وستمائة مات ناصر الدين محمود بن القاهر نور الدين صاحب الموصل ووصل التقليد من الخليفة لبدر الدين لؤلؤ بالولاية فخطب له على المنابر بالسلطنة. وفي سنة اثنتين وثلاثين حصر السلطان علاء الدين مدينة الرها وملكها عنوةً فدخلها الروميون ووضعوا السيف بها ثلاثة أيام وقتلوا النصارى والمسلمين فتكاً ونهباً فأصبح الرهاويون فقراء لا يملكون شيئاً ونهبت البيع وأخذ ما فيها من الكتب والصلبان وآلات الذهب والنقرة وحمل أهل حران مفاتيح قلعتها فملكوها هدنة وملكوا الرقة والبيرة أيضاً. فلما عاد عنها عسكر الروم قصد الملك الكامل الرها وحاصرها أربعة أشهر ثم ملكها وهدم برجاً كبيراً من أبرجة قلعتها وحمل من وجد بها من الروميين كل اثنين على جمل وبعث بهم إلى مصر مقيدين .
وفي سنة ثلاث وثلاثين وستمائة غزا التاتار بلد اربل وعبروا إلى بلد نينوى ونزلوا على ساقية قرية ترجلى وكرمليس فهرب أهل كرمليس ودخلوا بيعتها وكان لها بابان فدخلها المغول وقعد أميران منهم كل واحد على باب وأذنوا للناس في الخروج عن البيعة فمن خرج من أحد بابيها قتلوه ومن خرج من الباب الآخر اطلقه الأمير الذي على ذلك الباب وأبقاه فتعجب الناس لذلك.
وفي سنة أربع وثلاثين وستمائة توفي السلطان علاء الدين كيقباذ صاحب الروم بغتة لأنه كان قد صنع دعوةً عظيمة حضر بها الأمراء الأكابر وأتباعهم وأكثر الجند. فبينما هو يظهر السرور والفرح ويتباهى بما أعطي من الملك إذ حس بوجع في أحشائه وأخذته خلفة فاختلف إلى المتوضأ فانسهل برازاً دموياً صرفاً كثير المقدار وسقطت قوته في الحال. وفي اليوم الثاني من هذا العرض مات وكان ملكه ثماني عشرة سنة وكان عاقلاً عفيفاً ذا بأس شديد على حاشيته وأمرائه وكانت الدولة السلجوقية قبله محلولةً بسبب الخلف الواقع بين أولاد قلج أرسلان فلما وليها علاء الدين أعاد جدتها وجدد ناموسها وألقى الله هيبته في قلوب الخلق فأطاعوه واتسع ملكه جداً ودان له العالم وبحق قيل له سلطان العالم وحضر عنده الملوك وأذعنوا له بالطاعة وكان قاسي القلب. ولما توفي أحضر الأمراء ولده غياث الدين كيخسرو فبايعوه وحلفوا له. وفيها توفي الملك العزيز بن الملك الظاهر بن صلاح الدين صاحب حلب وولي بعده ابنه الملك الناصر صلاح الدين وهو آخر الملوك من بيت أيوب قتله هولاكو في سنة ثماني وخمسين وستمائة. وفيها أعني سنة أربع وثلاثين في شهر شوال غزا التاتار بلد اربل وهرب أهل المدينة إلى قلعتها. فحاصروها أربعين يوماً ثم أعطوا مالاً فرحلوا عنها. ولما ولي السلطان غياث الدين كيخسرو السلطنة ببلد الروم قبض على غاير خان أمير الخوارزمية فهرب باقي الخوارزمية وأمراؤهم ولما اجتازوا بملطية وكاختين وخرتبرت أسروا سيف الدولة السوباشي وقتلوا ببرمير سوباشي خرتبرت وأغاروا على بلد سميساط وعبروا إلى السويداء فأقطعهم الملك الناصر صاحب حلب ما بين النهرين الرها وحران وغيرهما فكفوا عن الفساد والغارات. وفي سنة خمس وثلاثين وستمائة توفي الملك الأشرف بن الملك العادل بن أيوب بدمشق وكان عمره ستين سنة وكان كريماً سخياً مقبلاً على التمتع بالدنيا ولذاتها يزجي أوقاته برفاغية من العيش. وفيها مات أيضاً الملك الكامل بن الملك العادل بن أيوب صاحب مصر بدمشق ودفن بها وكان عمره سبعين سنة وكان عاقلاً فاضلاً حسن السياسة كثير الإصابة سديد الرأي شديد الهيبة عظيم الهمة محباً للفضائل وأهلها .
وفيها غزا التاتار العراق ووصلوا إلى تخوم بغداد إلى موضع يسمى زنكاباذ وإلى سرمرأى. فخرج إليهم مجاهد الدين الدويدار وشرف الدين إقبال الشرابي في عساكرهما فلقوا المغول وهزموهم وخافوا من عودهم فنصبوا المنجنيقات على سور بغداد. وفي آخر هذه السنة عاد التاتار إلى بلد بغداد ووصلوا إلى خانقين فلقيهم جيوش بغداد فانكسروا وعادوا منهزمين إلى بغداد بعد أن قتل منهم خلقٌ كثير وغنم المغول غنيمة عظيمة وعادوا. وفيها حدث ببغداد مد دجلتها مداً عظيماً هائلاً وغرق دور كثيرة وغرق سفينتان فهلك فيهما نحو خمسين نسمة. وفي سنة سبع وثلاثين وستمائة جهز السلطان غياث الدين جيوشاً إلى ارمينية فامتنع المغول من الدخول إلى بلد الروم .
و في سنة ثماني وثلاثين وستمائة ظهر ببلد اماسيا من أعمال الروم رجل تركماني ادعى النبوة وسمى نفسه بابا فاستغوى جماعة من الغاغة بما كان يخيل إليهم من الحيل والمخاريق. وكان له مريد اسمه اسحق يتزيا بزي المشايخ فأنفذه إلى أطراف الروم ليدعو التركمانيين إلى المصير إليه. فوافى اسحق هذا بلد سميساط وأظهر الدعوة لبابا فاتبعه خلقٌ كثير من التركمان خصوصاً وكثف جمعه وبلغ عدد من معه ستة آلاف فارس غير الرجالة فحاربوا من خالفهم ولم يقل كما يقولون لا إله إلا الله بابا رسول الله فقتلوا خلقاً كثيراً من المسلمين والنصارى من أهل حصن منصور وكاخنتين وكركر وسميساط وبلد ملطية ممن لم يتبعهم وكانوا يهزمون كل من لقيهم من العسكر حتى وصلوا إلى أماسيا. فأنفذ إليهم السلطان غياث الدين جيشاً فيه جماعة من الفرنج الذين في خدمته فحاربوهم وكان الجند المسلمون لم يتجرأوا عليهم ويحجموا عنهم لما توهموا منهم. فأخر الفرنج المسلمين وتولوا بأنفسهم محاربة الخوارج فكشفوهم ورموا فيهم السيف وقتلوهم طراً وأسروا الشيخين بابا واسحق فضرب عنقاهما وكفوا الناس شرهم .
وفي سنة تسع وثلاثين حاصر جرماغون نوين مدينة ارزن الروم وملكها عنوةً وقتل فيها خلائق من أهلها وسبى الذراري وشن الغارة عليها وقتل سنان سوباشها. وفي سنة أربعين وستمائة سار السلطان غياث الدين كيخسرو إلى ارمينية في جمع كثيف وجهاز لم يتجهز أحد مثله في عساكره وعساكر اليونانيين والفرنج والكرج والأرمن والعرب لمحاربة التاتار فالتقى العسكران بنواحي ارزنكان بموضع يسمى كوساذاغ وأوا وهلة باشر المسلمون ومن معهم الجيوش النصرانية الحرب وهلوا وادبروا ولوا هاربين فانهزم السلطان مبهوتاً فأخذ نساءه وأولاده من قيسارية وسار إلى مدينة انقورة فتحصن بها. وأقام المغول يومهم ذلك مكانهم ولم يقدموا على التقدم فظنوا أن هنال كميناً إذ لم يروا قتالاً يوجب هزيمتهم وهم في تلك الكثرة من الأمم المختلفة. فلما تحققوا الأمر انتشروا في بلاد الروم فنازلوا أولاً مدينة سيواس فملكوها بالأمان وأخذوا أموال أهلها عوضاً عن أرواحهم وأحرقوا ما وجدوا بها من آلات الحرب وهدموا سورها. ثم قصدوا مدينة قيسارية فقاتل أهلها أياماً ثم عجزوا ففتحوها عنوة ورموا فيها السيف وأبادوا أكابرها وأغنياءها معاقبين على اظهار الأموال وسبوا النساء والأولاد وخربوا الأسوار وعادوا ولم يتوغلوا في باقي بلاد السلطان. ولما سمع أهل ملطية ما فعل التاتار بقيسارية هلعوا وجزعوا أفحش الجزع. فأجفل رشيد الدين الخويني أميرها ومعه أصحابه طالبين حلب وكذلك من أمكنه الهرب من أماثلها. وكان من جملة من يريد الخروج بأهله والدي فأحضر الدواب وكان لنا فيها بغل للسرج فلما أرادوا شد الاكاف عليه ليحملوه شمص وتفلت. فبينما هم يتبعونه في الزقاق ليلزموه قالوا لهم : إن الفتيان من العامة وثبوا في باب المدينة وينهبون كل من رأوه يخرج. فأمسك والدي عن الخروج واجتمع بالمطران دينوسيوس وتشاوروا في مرابطة المدينة وجمعا المسلمين والنصارى في البيعة الكبيرة وتحالفوا أن لا يخون بعضهم بعضاً ولا يخالفوا المطران في جميع ما يتقدم إليهم من مداراة التاتار والقيام بحفظ المدينة والبيتوتة على أسوارها وكف أهل الشر عن الفساد. فنظر الله إلى حسن نياتهم ودفع العدو عنهم ووصلوا بالقرب من ملطية ولم يتعرضوا إليها. وأما الذين خرجوا من المدينة مجفلين فأدركهم المغول عند قرية يقال لها باجوزة على عشر فراسخ من المدينة فقتلوا الرجال وسبوا النساء والأولاد ومن سلم منهم في المغائر والشعاب والأودية الغائرة من النساء والرجال عاد إلى ملطية عرياناً حافياً وكان ذلك في شهر تموز سنة الف وخمسمائة وأربع وخمسين للإسكندر. وكر المغول على مدينة ارزنكان وملكوها عنوة وقتلوا رجالها وسبوا الذراري ونهبوها وخربوا سورها ومضوا. ولما راى السلطان العجز عن مقاومة التاتار أرسل إليهم رسلاً يطلب الصلح فصالحوه على مال وخيل وأثواب وغيرها يعطيهم كل سنة مبلغاً معيناً مقاطعة .
وفيها توفي الإمام المستنصر بالله الخليفة ببغداد وكان عاقلاً عادلاً لبيباً كريماً كثير الصدقات عمر المدارس والمساجد والرباطات القديمة وكان قد تهدم معظمها ومن شدة غرامه بمدرسته المعروفة بالمستنصرية اعمر لصقها بستانا خاصاً له فقل ما يمضي يوم إلا ويركب في السيارة ويأتي البستان يتنزه فيه ويقرب من شباك مفتح في إيوان المدرسة ينظر إلى البستان وعليه ستر فيجلس وراء الستر وينظر إلى المدرسة ويشاهد أحوالها وأحوال الفقهاء ويشرف عليهم ويتفقد احوالهم. وكانت مدة خلافته نحو ثماني عشرة سنة .
وفي سنة خمس وعشرين وستمائة توفي حسنون الطبيب الرهاوي وكان فاضلاً في فنه علماً وعملاً ميمون المعالجة حسن المذاكرة بما شاهده من البلاد. وكان أكثر مطالعته في كتاب اللوكري في الحكمة. وكان شيخاً بديناً بهياً دخل إلى مملكة قلج أرسلان وخدم أمراء دولته كأمير اخور سيف الدين واختيار الدين حسن واشتهر ذكره. ثم خرج لى ديار بكر وخدم من حصل هناك من بيت شاه أرمن وهزارديناري ثم الداخلين على تلك الديار من بيت ايوب ورجع إلى الرها. ولما تحقق أن طغرل الخادم تولى أتابكية حلب وله به معرفة من دار أستاذه اختيار الدين حسن في الديار الرومية جاء إليه إلى حلب ولم يجد عنده كثير خير وخاب مسعاه فإنه كان منكسراً عند اجتماعه به وانفصاله عنه. فلما عوتب الخادم على ذلك من أحد خواصه قال : أنا مقصر بحقه لأجل النصرانية. ولما عزم على الارتحال إلى بلده أدركته حمى أوجبت له إسهالاً سحجياً ثم شاركت الكبد في ذلك فقضى نحبه ودفن في بيعة اليعاقبة بحلب .
وفي سنة ست وعشرين وستمائة توفي يعقوب بن صقلان الطبيب النصراني الملكي المقدسي وكان مولده بالقدس الشريف وبه قرأ شيئاً من الحكمة على تاذوري الفيلسوف الانطاكي وسيأتي ذكره بعد هذا التاريخ. وأقام يعقوب هذا بالقدس على حالته في مباشرة البيمارستان إلى أن ملكه الملك الأعظم بن الملك العادل بن أيوب فاختص به ولم يكن عالماً وإنما كان حسن المعالجة بالتجربة البيمارستانية ولسعادة كانت له. ثم نقله الملك المعظم إلى دمشق وارتفعت عنده حاله وكثر ماله وأدركه نقرس ووجع مفاصل أقعده عن الحركة حتى قيل أن الملك المعظم كان إذا احتاج إليه في أمراضه استدعاه بمحفة تحمل بين الرجال. ولم يزل على ذلك إلى أن مات المعظم صاحبه ومات هو بعده بقليل.
ومن الأطباء المشهورين في هذا الزمان الحكيم أبو سالم النصراني اليعقوبي الملطي المعروف بابن كرابا خدم السلطان علاء الدين كيقباذ صاحب الروم وتقدم عنده وكان قليل العلم بالطب إلا أنه كان أهلاً لمجلسه لفصاحة لهجته في اللسان الرومي ومعرفته بأيام الناس وسير السلاطين. وفي سنة اثنتين وثلاثين لما سار علاء الدين من ملطية إلى خرتبرت ليملكها تخلف عنه أبو سالم هذا ولم يسر في ركابه وكان السلطان لا يصبر عنه ساعة. ولما بات السلطان على الفرات ولم يأته الحكيم أمر الشحنة الذي على الزواريق أن نهار غد إن جاء أبو سالم قبل الزوال فليعبر وإن جاء بعده لا تمكنه من العبور. فلما كان من الغد تأخر مجيئه إلى العصر فأخبره الشحنة بمرسوم السلطان فأحس بتغير فعاد إلى منزله وشرب سماً ومات. ومنهم الحكيم شمعون الخرتبرتي وكان أيضاً ضعيف العلم لكنه كان خيراً ديناً كثير الصوم والصلاة. وانتشى له ولد حسن محصل وأجاد الخط العربي وصار فيه طبقة ومات في حداثة سنه ففجعت مصيبته أباه .
وفي هذا الزمان كان جماعة من تلامذة الإمام فخر الدين الرازي سادات فضلاء أصحاب تصانيف جليلة في المنطق والحكمة كزين الدين الكشي وقطب الدين المصري بخراسان وأفضل الدين الخونجي بمصر وشمس الدين الخسروشاهي بدمشق وأثير الدين الأبهري بالروم وتاج الدين الارموي وسراج الدين الارموي بقونية. حكى النجيب الراهب المصري الحاسب بدمشق عن الملك الناصر داود بن الملك المعظم بن الملك العادل ابن ايوب صاحب الكرك أنه كان يتردد إلى شمس الدين الخسروشاهي يقرأ عليه كتاب عيون الحكمة للشيخ أبي علي بن سينا وكان إذا وصل إلى رأس المحلة التي بها منزل الخسروشاهي أومأ إلى من معه من الحشم والمماليك ليقفوا مكانهم ويترجل ويأخذ كتابه تحت إبطه ملتفاً بمنديل ويجيء إلى باب الحكيم ويقرعه فيفتح له ويدخل ويقرأ ويسأل عما خطر له ثم يقوم ولم يمكن الشيخ من القيام له .
” المستعصم بن المستنصر “
وفي سنة أربعين وستمائة بويع المستعصم يوم مات أبوه المستنصر وكان صاحب لهو وقصف شغف بلعب الطيور واستولت عليه النساء وكان ضعيف الرأي قليل العزم كثير الغفلة عما يجب لتدبير الدول وكان إذا نبه على ما ينبغي أن يفعله في أمر التاتار إما المداراة والدخول في طاعتهم وتوخي مرضاتهم أو تجيش العساكر وملتقاهم بتخوم خراسان قبل تمكنهم واستيلائهم على العراق فكان يقول : أنا بغداد تكفيني ولا يستكثرونها لي إذا نزلت لهم عن باقي البلاد ولا أيضاً يهجمون علي وأنا بها وهي بيتي ودار مقامي. فهذه الخيالات الفاسدة وأمثالها عدلت به عن الصواب فأصيب بمكاره لم تخطر بباله .
وفي سنة إحدى وأربعين غزا يساور نوين الشام ووصل إلى موضع يسمى حيلان على باب حلب وعاد عنها لحفيٍ أصاب خيول المغول واجتاز بملطية وخرب بلدها ورعى غلاتها وبساتينها وكرومها وأخذ منها أموالاً عظيمة حتى خشل النساء وصلبان البيع ووجوه الأناجيل وآنية القداس المصوغة من الذهب والفضة ثم رحل عنها. وطلب طبيباً يداويه في سحج عرض له فأخرج إليه والدي وسار معه إلى خرتبرت فدبره حتى برأ. ثم جاء ولم يطل المقام بملطية ورحل بنا إلى إنطاكية فسكناها. وأقحطت البلاد بعد ترحال التاتار ووبئت الأرض فهلك عالم وباع الناس أولادهم باقراص الخبز .
وفي سنة اثنتين وأربعين أغر التاتار على بلد بغداد ولم يتمكنوا من منازلتها. وفيها سير السلطان غياث الدين جيشاً عظيماً إلى مدينة طرسوس فحاصروها مدة وضيقوا عليها وكادوا يفتحونها عنوة فاتفق أن مات السلطان غياث الدين في تلك الأيام. فلما بلغهم موت السلطان رحلوا عنها خائبين وكان الوقت خريفاً وتواترت على الروميين الأمطار وتوحلت خيولهم فنال منهم رجالة الأرمن وغنموا أثقالهم. وكان السلطان غياث الدين مقبلاً على المجون وشرب الشراب غير مرضي الطريقة منغمساً في الشهوات الموبقة تزوج ابنة ملك الكرج فشغفه حبها وهام بها إلى حد أن أراد تصويرها على الدراهم فأشير عليه أن يصور صورة أسد عليه شمس لينسب إلى طالعه ويحصل به الغرض. وخلف غياث الدين ثلاثة بنين عز الدين وأمه رومية ابنة قسيس وركن الدين وأمه أيضاً رومية وعلاء الدين وأمه الكرجية. فولي السلطنة عز الدين وهو الكبير وحلف له الأمراء وخطب له على المنابر وكان مدبره والأتابك له الأمير جلال الدين قرطاي رجل خير دين صائم الدهر ممتنع عن أكل اللحم ومباشرة النساء لم ينم في فراش وطيء وإنما كان نومه على الصناديق في الخزانة أصله رومي وهو من مماليك السلطان علاء الدين وتربيته وكان له الحرمة الوافرة عند الخاص والعام. وفي سنة ثلاث وأربعين ترددت رسل المغول في طلب السلطان عز الدين ليحضر بنفسه في خدمة قاان. فتعلل محتجاً بمعاداة من يجاوره من ملوك اليونانيين والأرمن اياه وأنه متى فارق بلاده ملكها هؤلاء وكان يرضي الرسل بالهدايا وبذل الأموال ويدافعهم من وقت إلى وقت. ثم سير أخاه ركن الدين وفوض تدبيره إلى بهاء الدين الترجمان وجعله أتابكه وأرسله صحبته واستوزر عز الدين لنفسه رجلاً اصفهانياً وهو صاحب علم وفضل يلقب بشمس الدين فتمكن من الدولة إلى حد أن تهيأ له التزوج بأم السلطان عز الدين فثقل ذلك على الأمراء طراً .
وفيها مرض قاان ولما اشتد مرضه سير رسولاً في طلب ابنه كيوك فأهرع إليه من غير توقف فلم يمهل القضاء ليجتمع بالوالد فأقام بالمكان الذي بلغه فيه وفاته وكانت والدته توراكينا خاتون ذات دهاء كافية فطنة فاتفق جغاتاي وباقي الأولاد على أنها تتصرف في تدبير الممالك إلى وقت القوريلتاي لأنها أم الأولاد الذين لهم استحقاق الخانية. وفي سنة أربع وأربعين وستمائة تم اجتماع الأولاد والأحفاد وأمراء المغول في وقت الربيع وحضر في المجمع من غير المغول أيضاً مما وراء النهر وتركستان الأمير مسعود بيك ومن خراسان الأمير أرغون آغا وصحبته أكابر العراق واللور وأذربيجان وشروان. ومن الروم السلطان ركن الدين. ومن الأرمن الكندسطبل اخو التكفور حاتم. ومن كرجستان الداودان الكبير والصغير. ومن الشام أخو الملك الناصر صاحب حلب. ومن بغداد فخر الدين قاضي القضاة ومن علاء الدين صاحب الالموت محتشمو قهستان. فإذ تم هذا المجمع العظيم الذي لم يعهد مثله وقع الاتفاق على كيوك. وكان له أخوان آخران أحدهما يسمى كوبان والآخر طفل يسمى سيرامون. وإنما اختير هو من دونهما لكونه مشهوراً بالغلبة والشطط والاقتحام والتسلط وكان هو أكبر الأخوة فأهل للولاية وأجلس على سرير الملك وخدموه ودعوا له كالعادة وأطاعوه وكيوك خان سموه. وفي سنة خمس وأربعين وستمائة ولى كيوك خان على بلاد الروم والموصل والشام والكرج نويناً اسمه ايلجيكتاي. وعلى ممالك الخطا الصاحب يلواج. وعلى ما وراء النهر وتركستان الأمير مسعود. وعلى بلاد خراسان والعراق وأذربيجان وشروان واللور وكرمان وفارس وطرف الهند الأمير أرغون آغا. وقلد سلطنة بلد الروم السلطان ركن الدين. وأمر بعزل السلطان عز الدين. وجعل داود الصغير المعروف بابن قيز ملكاً محكوماً لداود الكبير صاحب تفليس. وأما رسول الخليفة فخاطبه خطاب واعد وموعد بل واعظ ومنذر.و أما رسل الملاحدة فصرفهم مذلين مهانين. وكتب يراليغ عهد وامان للتكفور والملك الناصر صاحب حلب .
وكان بمقام الأتابكية لكيوك خان أمير كبير اسمه قداق وكان معمداً مؤمناً بالمسيح وشاركه في ذلك أمير آخر اسمه جينقاي فهذان أحسنا النظر إلى النصارى وحسنا يقين كيوك خان ووالدته وأهل بيته بالمطارنة والأساقفة والرهابين فصارت الدولة مسيحية وارتفع شأن الطوائف المنتمية إلى هذا المذهب من الفرنج والروس والسريان والأرمن. والتزم الخاص والعام من المغول وغيرهم ممن هو بينهم أن يقولوا في السلام برخمر وهو لفظ مركب سرياني معناه بارك مالكي.
وفي سنة ست وأربعين وستمائة وصل السلطان ركن الدين وبهاء الدين الترجمان إلى بلد الروم ومعهما ألفا فارس من المغول. فهم الوزير شمس الدين الأصفهاني أن يأخذ السلطان عز الدين ويصعد إلى بعض القلاع التي على البحر ويقيما هناك عاصيين إلى أن يفعل الله ما يشاء. فعلم بذلك جلال الدين قرطاي الرجل الصالح فقبض على الوزير الأصفهاني وسير فأعلم بهاء الدين الترجمان بذلك فأنفذ جماعة من أمراء المغول فأتوا إلى قونية وقرروا الوزير على الأموال والخزائن ثم قتلوه. واجتمع بهاء الدين الترجمان بجلال الدين قرطاي واتفقا على أن توزع البلاد على الأخوين فتكون قونية واقسرا وانقرة وإنطاكية وباقي الولايات الغربية لعز الدين. وقيسارية وسيواس وملطية وارزنكان وارزن الروم وغيرها من الولايات الشرقية لركن الدين. وأقطعا لعلاء الدين الأخ الصغير من الأملاك الخاصة ما يكفيه وضربوا السكة باسم الثلاثة وكتبوا السلاطين الأعاظم عز وركن وعلاء .
وفي سنة سبع وأربعين وستمائة توفيت توراكينا خاتون أم كيوك خان فتشاءم كيوك خان بذلك المقام ورحل عنه متوجهاً إلى البلاد الغربية. ولما وصل إلى ناحية قمستكي وبينها وبين مدينة بيش بالغ خمس مراحل أدركه أجله في تاسع ربيع الآخر فأرسلت زوجته المسماة اغول غانميش رسولاً إلى باتوا وأعلمته بالقضية وتوجهت هي إلى جانب قوتاق وإيميل وأقامت بالمكان الذي كان يقيم به كيوك خان أولاً. فسيرت سرقوتني بيكي زوجة تولي خان وهي أكبر الخواتين يومئذٍ إليها رسولاً تعزيها وحمل إليها ثياباً وبوقتاقاً. وفيها سار باتوا من بلاده الشمالية متوجهاً إلى المشرق ليجتمع بكيوك خان لأنه كان يلج إليه بالمسير إليه فلما وصل إلى موضع يقال له الاقماق وبينه وبين مدينة قياليق ثماني مراحل بلغه وفاة كيوك خان فأقام هناك وسير رسولاً إلى أغول غانميش زوجة كيوك خان وأذن لها بالتصرف في الممالك إلى أن يقع الاتفاق على من يصلح أن يلي الأمر وأرسل أيضاً إلى الجوانب ليجتمع الأولاد والعشائر والأمراء .
وفيها خرج ريدافرنس ملك فرنجة قاصداً للديار المصرية فجمع عساكره فأرسلها وراجلها جموعاً عظيمة وأزاح عليهم فسار عن بلاده بأموال جزيلة وأهبة جميلة وأرسى بعكا وانبث أصحابه في جميع بلاد الساحل. فلما استراحوا جاؤوه حاشدين حافلين وساروا في البحر إلى دمياط وملكوها بغير تعب ولا قتال لأن أهلها لما بلغهم ما هم عليه الفرنج من القوة والكثرة والعدة الكاملة هالهم أمرهم فرحلوا عنها مخفين. فوصل إليها الفرنج ولقوها خالية عن المقاتلين غير خاوية من الأرزاق فدخلوها وغنموا ما فيها من الأموال. وكان الملك الصالح بن الملك الكامل صاحب مصر يومئذٍ بالشام يحاصر مدينة حمص. فلما سمع بذلك بأن الفرنج قد ملكوا دمياط رحل عن حمص وسار مسرعاً إلى الديار المصرية ومرض في الطريق وعند وصوله إلى المنصورة عرض له في فخذه الداء الذي يسمونه الأطباء غانغرانا ثم استحكم الفساد فيها حتى آل أمرها إلى سفاقلس وهو موت العضو أصلاً فقطعوها وهو حي. وبينما هو يكابد الشدائد في هذه الحالة وافاه مقدمو دمياط الذين أخلوها منهزمين فلما قيل له ما صنعوا لأنهم فروا عنها من غير أن يباشروا حرباً وقتالاً عظم ذلك عليه فأمر بصلبهم وكانوا أربعة وخمسين أميراً فصلبوا كما هم بثيابهم ومناطقهم وخفافهم. ثم مات من غد ذلك اليوم. وتولى تدبير المملكة الأمير عز الدين المعروف بالتركماني وهو أكبر مماليك الترك. وكان مرجوعه في جميع ذلك مما يعتمده من الأمور إلى حظية الملك الصالح المتوفى المسماة شجر الدر وكانت تركية داهية الدهر لا نظير لها في النساء حسناً وفي الرجال حزماً. فاتفقا على تمليك الملك المعظم بن الملك الصالح. وكان يومئذٍ مقامه بحصن كيفا من ديار بكر فأرسلا رسولاً في طلبه وحثاه على المصير إليهم. فسار إلى الديار المصرية من غير توقف فبايعوه وحلفوا له وسلموا إليه ملك أبيه .
في سنة ثماني وأربعين وستمائة سير ريدافرنس عسكراً نحو ألفي فارس نحو المنصورة ليجس بهم ما هم عليه المصريون من القوة. فلقيهم طرف من عسكر المسلمين فاقتتلوا قتالاً ضعيفاً فانهزم المسلمون بين أيديهم فدخل الفرنج المنصورة ولم ينالوا منها نيلاً طائلاًلأنهم حصلوا في مضايق أزقتها وكان العامة يقاتلونهم بالحجارة والآجر والتراب وخيولهم الضخمة لم تتمكن من الجولان بين الدروب. وكان القائد لعسكر المسلمين فخر الدين عثمان المعروف بابن السيف أحد الأمراء المصريين شيخ كبير أحاط به الفرنج وهو في الحمام يصبغ لحيته فقتلوه هناك. وعادوا إلى ريدافرنس وأعلموه بما تم لهم مع ذلك العسكر وبالمدينة. فزاد طمعه وطمع من معه من البطارقة ظانين أنه إذا كان الالتقاء خارج الجدران بالصحراء لم يكن للمسلمين عليهم مقدرة.فعبى جيوشه وسار بهم طالباً أرض مصر. فصبر المصريون إلى أن عبر الفرنج الخليج من النيل المسمى اشمون وهو بين البرين بر دمياط وبر المنصورة. فتوجهوا نحوهم والتقى العسكران واقتتل الفريقان قتالاً شديداً. وانجلت الحرب عن كسرة الفرنج وهزموا افحش هزيمة ومنعهم الخليج المذكور من أن يفوزوا وينجوا بأرواحهم فغرق منهم خلق كثير وقتل آخرون وأسر الملك ريدافرنس ومعه جماعة من خواصه وأكابره. فلما حصل ملك الفرنج في قبضة الملك المعظم قال له المماليك الصغار أقرانه : إننا نرى الأمر كله إلى شجر الدر والأمراء وليس لك من السلطنة إلا اسمها فلو كنت في الحصن كنت أرفه خاطراً منك وأنت صاحب مصر والحكم لغيرك والسبب في هذا ليس إلا حاجتك إليهم في مقاومة الفرنج وليس لك عدو سواهم فالرأي أن تصالح هذا الملك ومن معه من أمرائه إلى أي مدة شئت فإنه لا يخالفك في جميع ما تريد منه إذا اصطنعته ووهبت له روحه وتأخذ منه الأموال والجواهر التي له في دمياط ويسلم إليك دمياط ويذهب في حال سبيله وتأمن شره وشر أهل ملته وتستريح من الأمراء واستخدام الجند وتبقي في ملكك من اخترت وتزيل من كرهت. فصغا المعظم إلى قولهم واستصوب رأيهم ودبر الأمر مع ريدافرنس وحلفه كما أراد من غير أن يشاور الأمراء الكبار في شيءٍ من ذلك. فأحسوا بالقضية وتحققوا تغير المعظم عليهم وما قد نوى أن يفعل بهم فنقموا عليه ووثبوا به فهرب منهم وصعد إلى برج من خشب كان هناك فضربوا فيه النار فلما وصلت إليه وشاطته رمى نفسه إلى الخليج النيلي. فجاؤوا إليه ورموه بالنشاب وهو في الماء فمات غريقاً جريحاً .
واتفق الأمراء التراك وقدموا عليهم أميراً منهم يلقب بعز الدين التركماني ونهضوا إلى ريدافرنس وجددوا معه اليمين وافتدي منهم بألف ألف دينار وتسلم دمياط فأطلقوه ثم سار التركماني من المنصورة إلى مصر وأقطع الإسكندرية لأمير من الترك يقال له فارس اقطاي وتزوج شجر الدر وصار ملك مصر في قبضتهما. وأما ريدافرنس لما وصل إلى دمياط أخذ أهله ومن تخلف من أصحابه وخرج عنها وسلمها إلى المسلمين وأقام هو بعكا وبنى مدينة قيسارية وأصلحها وأسكنها جماعة ثم سار إلى بلده.
ولما ولي التركماني الديار المصرية كان الأمر كله إلى شجر الدر لا تمكنه التصرف إلا فيما يصدر عن رأيها فكره ذلك ولم يطق احتماله وهم بإهلاكها. فشعرت بذلك وسبقته. ففعلت به ما أراد أن يعمل بها وأشلت عليه المماليك الصغار. وفي بعض الأيام لما دخل الحمام وكانوا يسكبون على رأسه الماء ليغتسل جرحوه بالسكاكين فقتلوه. وقيل مقلوا رأسه في الماء داخل الخزانة إلى أن اختنق مغطوطاً. وأمرت شجر الدر أن يخرج ويدفن فأخرجوه ودفنوه في الدار. ولما بلغ ذلك الأمراء الكبار عظم عليهم فعلها فوثبوا بها وقتلوها ورموها في الخندق فأكلتها الكلاب. وقدموا عليهم واحداً منهم اسمه قوتوز فحلفوا له وملكوه ولقبوه الملك المظفر. ولما استولى المماليك على الديار المصرية سار الملك الناصر صاحب حلب بجريدة إلى دمشق فسلمها إليه أهلها فملكها وأقام بها وصارت دار مملكته. ثم راسله بعض المماليك من مصر ليسير إليهم فيسلموا له مصر فعبى عسكره وسار إلى نحو الديار المصرية ليملكها كما ملك دمشق. فلمابلغ أمراء الترك ذلك بادروا إليه في عساكرهم والتقوا الشاميين بناحية غزة وكسروهم وهزموهم فعاد الملك الناصر فيمن معه خائباً خاسراً. وفيها ملك بدر الدين لؤلؤ جزيرة ابن عمر وأسر صاحبها الملك مسعود بن الملك المعظم من بيت أتابك زنكي وسيره في ركوة إلى الموصل وتقدم إلى من وكل به ليرميه ليلة في دجلة فغرقوه وأخبروا أنه رمى نفسه وهم نيام ولم يحسوا بما فعل.
وفيها وهي سنة ألف وخمسمائة وثلاث وستين للإسكندر توجه حاتم ملك الأرمن إلى خدمة مونككا قاان أخذ قربان خميس الفصح ورحل عن مدينة سيس يوم الجمعة الصلبوت وخرج متنكراً مع رسول له بزي بعض الغلمان وأخذ على يده جنيباً يجذبه خلف الرسول لأنه كان خائفاً من السلطان صاحب الروم. وذكر الرسول اين ما جاء واجتاز من بلد الروم أنه قد أرسله الملك حاتم ليأخذ له الأمان من مونككا قاان فإذا أمنه توجه هو بنفسه إلى حضرته. حدثني الملك حاتم عند اجتماعي به بمدينة طرسوس بعد سنين من عودته من خدمة مونككا قاات قال : عبرت بقيسارية وسيواس مع الرسول ولم يعرفني أحد من أهلها قط إلا لما دخلنا مدينة ارزنكان عرفني رجل من السوقية كان قد سكن عندنا فقال : إن كانتا هاتان عيني فهذا ملك سيس. فلما سمع الرسول كلامه التفت إلي ولطمني على خدي وقال : يا نذل صرت تتشبه بالملوك. فاحتملت اللطمة لأزيل بها ظن من كان ظنه يقيناً .
وفي سنة إحدى وخمسين وستمائة توجه هولاكو إيلخان من نواحي قراقورم إلى البلاد الغربية. وسير معه مونككا قاان الجيوش من كل عشرة اثنين وصحبه أخوه الصغير سنتاي أغول ومن جانب باتوا بلغاي بن سبقان وقوتار أغول وقولي في عساكر باتوا. ومن قبل جغاتاي تكودار أغول بن بوخي أغول. ومن جانب جيحكان بيكي بوقا تيمور في عسكر الاويرات. ومن ناحية الخطا ألف بيت من صناع المنجنيقات وأصحاب الحيل في إصلاح آلات الحرب. فكان أمير الترك كيدبوقا الباورجي. وكان القائم مقام هولاكو بأردو مونككا قاان ولده جومغار بسبب أن أمه أكبرخواتين هولاكو أبيه. وأخذ صحبته ابنه الكبير اباقا وابنه الآخر يسمون ومن الخواتين الكبار دوقوز خاتون المؤمنة المسيحية والجاي خاتون. وفي سنة اثنتين وخمسين وستمائة تواترت الايلجية في طلب السلطان عز الدين صاحب الروم ليحضر هو بنفسه في خدمة مونككا قاان. فتجهز وسار حتى وصل إلى مدينة سيواس. ولما سمع أن الأمراء قد مالوا إلى ركن الدين أخيه ويرومون تمليكه عاد مسرعاً إلى قونية وأرسل أخاه علاء الدين وكتب معه كتباً يذكر فيها : إنني قد سيرت أخي علاء الدين وهو سلطان مثلي وأنا لم يمكنني المجيء بسبب أن أتابكي ومدبري جلال الدين قرطاي قد مات وظهر لي أعداء من ناحية المغرب فإذا كفيت شرهم جئت المرة الأخرى. فلما سار علاء الدين توفي في الطريق ولم يصل إلى الاردو. وأراد عز الدين أن يقتل ركن الدين أخاه الآخر ويأمن غائلته فأحس الأمراء بذلك وهربوه بأن ألبسوه ثياب بعض غلمان الطباخين ووضعوا على رأسه خوانجه فيها طعام وأخرجوه من الدار والقلعة في جماعة من الصبيان قد حملوا طعاماً إلى بعض الدور. فلما خرج أركبوه فرساً وساروا به حتىأوصلوه إلى قيسارية وانضم إليهم هناك جماعة من الأمراء وجيشوا وتوجهوا نحو قونية ليحاربوا عز الدين. فبرز إليهم عز الدين بمن نعه من العسكر فكسرهم وهزمهم وأسر ركن الدين أخاه واعتقله بقلعة دوالوا. وفي سنة ثلاث وخمسين وستمائة وصل رسول بايجو نوين إلى السلطان عز الدين يطلب منه مكاناً يشتي به لأن بلد موغان الذي كان يشتوبه صار مشتى لهولاكو. فأبى السلطان أن يجيبه إلى ذلك وطمع فيه وظنه منهزماً بين يدي هولاكو وجيش وحاربه عند خان السلطان بين قونية واقسرا وانكسر عز الدين وهرب متوغلاً في بلاده الداخلة. فأخرج بايجو اخاه ركن الدين من الحبس وملكه على جميع بلاد الروم .
وفيها وصل الملك حاتم ودخل بلده أول أيلول وكان مجيئه صحبة بايجو نوين. وفيها في شهر شعبان نزل هولاكو بمروج مدينة سمرقند واقام بها أربعين يوماً. وهناك أدرك أخاه سنتاي أغول أجله وأخبر بوفاة أخيه الآخر في طرف بلادر فتكدر خاطره لهاتين الوقعتين فوصل إليه الأمير أرغون وأكثر أكابر خراسان وقووا عزمهم فعبروا ماء جيحون وكان الوقت شتاءً شديد البرد لا يقشع الغيم ولا ينقطع وقوع الثلج من تلك البقاع إلى وقت حلول الشمس برج الحمل. فأمر الأمراء أن يقصدوا في عساكرهم قلاع الملاحدة وكان مقدم الاسمعيلية يومئذٍ ركن الدين خوزشاه بن علاء الدين فأخرب خمس قلاع من قلاعه التي لم يكن فيها ذخائر للحصار. وأقبل رسول هولاكو إلى حد قصران. وكان كيدبوقا قد سبق ففتح قلعة شاهديز وثلثاً آخر من قلاعهم. ولما وصل إيلخان إلى عباساباذ سير ركن الدين إلى العبودية صبياً عمره نحو سبع أو ثماني سنين وذكر أنه ولده. فلم يخف صنيعه على هولاكو ولكن لم يكاشفه في ذلك بل أعز الصبي وأكرمه ثم أعاده إليه. وبعد وصول هذا الابن المزور إلى ركن الدين سير أخاه شيرازنشاه في ثلاثمائة رجل على سبيل الحشر. فسير هولاكو الثلاثمائة إلى جمالاباذ من بلد قزوين وأعاد أخاه محملاً رسالة إليه وهي أنه إلى خمسة أيام إن لم يصل بنفسه إلى الخدمة يحكم قلعته ويستعد للحرب. فأرسل رسولاً يقول : إنه لا يتجاسر على الخروج خوفاً من حشمه الذين معه داخل القلعة لئلا يثبوا به فإذا وجد فرصة جاء. فعرف هولاكو أنه مماطل مدافع من وقت إلى آخر فرحل رابع عشر شوال من سنة أربع وخمسين وستمائة من بيشكام ونزل على القلعة المحاذية لميمون دره وتقدم بقتل الثلاثمائة رجل من الملاحدة الذين كانوا بجمالاباذ قزوين سراً وصار أهل قزوين يضربون بذلك مثلاً لمن يقتل فيقولون انبعث إلى جمالاباذ. ولما عاين ركن الدين نزول هولاكو بالقرب سير رسولاً يقول : إن سبب تماطلي لم يكن غير أنني ما كنت أحقق وصوله المبارك والآن أنا نازل اليوم أو غداً. وكان تلك الليلة ليلة الميلاد. فلما عزم على الخروج ثاوره العلاة من الملاحدة وواثبه الفدائيون ولم يمكنوه من الخروج. فسير إلى هولاكو وأعلمه ما هم عليه من التمرد. فأمره أن يداري الوقت معهم محافظاً نفسه منهم وكيف ما كان يحتال للنزول ولو متنكراً. وتقدم إلى الأمراء ليحتفوا بالقلعة وينصبوا المنجنيقات ويقاتل كل منهم من يقاتله من الاسمعيلية. فلما اشتغل الملاحدة بقتال المغول نزل ركن الدين ومعه ولده وخواصه إلى عبودية هولاكو وأظهر الخجلة بل الندامة معترفاً بما اقترفه في الأيام الماضية من الجرائم والآثام. فشملته لطائف عواطف ايلخان وبدل ما عند ركن الدين من الاستيحاش والاستنفار بالاستيناس والاستبشار. ولما تحقق من بالقلعة ما نال صاحبهم من الطمأنينة والكرامة سلموا القلعة ونزلوا عنها فحاول المغول هدمها وفتحوا أيضاً جميع القلاع التي في ذلك الوادي. وتوجه ايلجي إلى متولي قلعة الموت ليتبع مولاه ركن الدين في توخي الايلية وتسليم القلعة. فأبى إلا العصيان إلى أن نازله بلغاي أغول في عساكر جمة فطلب الأمان وسلمها وخرج عنها في أواخر ذي القعدة من السنة المذكورة. وفي تلك الأيام وصل شمس الدين محتشم قلاع قهستان وأخذ يرليغاً وسار معه أصحاب ركن الدين إلى قهستان ليخرب جميع القلاع التي هناك وهي تزيد على خمسين حصناً حصيناً وتسلموها وفتحوها إلا قلعتين منها هما كرذكوه وكمشير فإنهم لم يطيقوا فتحها في الحال إلا بعد سنتين. ووصل أكابر الديلم صالحوا المغول على تخريب قلاعهم. وفي أواسط ذي الحجة عاد هولاكو إلى الاردو بناحية همذان وسير ركن الدين وبنيه وبناته وأزواجه إلى قزوين. وفي سنة خمس وخمسين وستمائة التمس ركن الدين خوزشاه من هولاكو أن يسيره إلى عبودية مونككا قاان. فأعجبه ذلك وأرسله ومعه تسعة نفر من أصحابه صحبة الايلجية. فلما وصلوا إلى مدينة بخارا خاصم الايلجية وتسافه عليهم فحقدوا عليه. فلما وصلواإلى قراقورم لم يؤذن لركن الدين أن يحضر وبرز مرسوم مونككا قاان إليه أن : يجب عليك العود إلى بلدك والتقدم إلى نوابك ليسلموا قلعتي كرذكوه وكمشير فإذا سلموهما وأخربتهما تحضر مرة أخرى ويكون لك التليشميشي أي الإكرام والقبول. فنكص ركن الدين بهذا الرجاء على عقبه. وفي الطريق أهلك مع من كان معه من أصحابه. ووصل يرليغ مونككا قاان إلى هولاكوليقتل الملاحدة بأسرهم ولا يبقى منهم أثر. فأرسل قراقاي اليبتكتجي إلى قزوين وقتل بني ركن الدين وبناته وإخوته وأخواته مع جميع عساكر الملاحدة وأوتكو حنا نوين أيضاً أخرج من رعايا الاسمعيلية بحجة الحشر اثني عشر ألف رجل وقتلهم كلهم وأخلى الأرض من كل من ألحد في دينه.قبول. فنكص ركن الدين بهذا الرجاء على عقبه. وفي الطريق أهلك مع من كان معه من أصحابه. ووصل يرليغ مونككا قاان إلى هولاكوليقتل الملاحدة بأسرهم ولا يبقى منهم أثر. فأرسل قراقاي اليبتكتجي إلى قزوين وقتل بني ركن الدين وبناته وإخوته وأخواته مع جميع عساكر الملاحدة وأوتكو حنا نوين أيضاً أخرج من رعايا الاسمعيلية بحجة الحشر اثني عشر ألف رجل وقتلهم كلهم وأخلى الأرض من كل من ألحد في دينه .
وفيها سير السلطان عز الدين رسولاً إلى خدمة هولاكو شاكياً على بايجو نوين أنه أزاحه عن ملكه. فأمر هولاكو أن يتقاسما الممالك هو وأخوه ركن الدين. فظهر عز الدين فأتى إلى قونية ومضى ركن الدين مع بايجو نوين إلى مخيمه. ولخوف عز الدين من بايجو نوين وجه مملوكه طفلاً إلى نواحي ملطية وخرتبرت ليستخدم له عسكراً من الأكراد والتركمان والعرب. فوصل هذا المملوك وسير في طلب شرف الدين أحمد ابن بلاس من بلد الهكار وشرف الدين محمد بن الشيخ عدي من بلد الموصل الكرديين فأتياه. فأقطع ابن بلاس ملطية وابن الشيخ عدي خرتبرت. أما ابن بلاس فلم يقبله اهل ملطية لأنهم كانوا مستحلفين لركن الدين فكان يضطهدهم ويجور عليهم. فما احتملوه وآل أمرهم معه إلى أن وثبوا بأصحابه وقتلوا منهم نحو ثلاثمائة رجل وهرب هو مع من تبعه من أصحابه واجتازوا ببلد قلوذيا وأحرقوا دير ماذيق يوم الشعانين وعبروا إلى بلد آمد وهناك أدركهم صاحب ميافارقين وقتل ابن بلاس وأسر أصحابه. وأما ابن الشيخ عدي فرحل من خرتبرت ليتصل بالسلطان عز الدين فأدركه أنكورك نوين وقتله ومن معه. ثم ولى السلطان عز الدين ملطية رجلاً بطلاً شجاعاً يقال له علي بهادر فقبله أهل ملطية خوفاً من صرامته. وهذا علي حارب الاعجزية وهم قوم مفسدون من التركمان كانوا يغيرون على؟ البلاد ويقتلون أهلها ويسبون الذراري فأسر مقدمهم المسمى جوتي بك وسجنه بقلعة المنشار وهزم جيوشهم . فأمن الناس شرهم وانفتحت السبل وامتار الناس الطعام وفرج الله عنهم غمهم قيلاً. وبينما هم فرحون بذلك إذ وافاهم بايجو نوين في عساكره وصاروا يقاتلون متسلمي القلاع ليسلموها إلى ركن الدين. ونزلوا على مدينة ابلستين وقتلوا من أهلها نحو ستة آلاف رجل وأسروا النساء والبنين والبنات. وجاؤوا إلى ملطية فهرب علي بهادر إلى كاختة. وخرج أهل ملطية إلى خدمة بايجو نوين بأنواع الترغو والتحف. وكن ذلك في منتصف أيلول سنة ألف وخمسمائة وثماني وستين للإسكندر. فحلفهم لركن الدين ورحل عنهم بعد أن أخذ أموالاً وولى ركن الدين على ملطية مملوكاً له اسمه فخر الدين اياز. ولما خرج بايجو من حدود الروم طالباً للعراق عاد علي بهادر إلى ملطية فأغلق أهلها الأبواب ولم يمكنوه من الدخول خوفاً من بايجو. فحصرها أياماً واشتد الغلاء بها وبلغ المكوك من الملح إلى أربعين درهماً والحنطة المكوك بسبعين درهماً. فضجر الناس وضاقت بهم الحيلة ففتح العامة الحاكة وغيرهم باباً من أبواب المدينة في بعض الليالي فدخلها علي بهادر وأصحابه التركمانيون عنوةً وأصعد إلى المنابر جماعة ينادون ويقولون : إن الأمير قد أمن الرعية النصارى منهم والمسلمين فليخرج كل واحدٍ إلى عمله ودكانه وليشتغل ببيعه وشرائه فإنما كلامه مع الحكام.فلما أصبحوا قبض على فخر الدين اياز مملوك السلطان ركن الدين وسجنه وأركب شهاب الدين العارض على بهيم حقير وطوفه بملطية ثم قتله وشد أحد طرفي رسن في رقبة المعين الايكد بشاسي والطرف الآخر في رقبة كلب ومشاه بالأسواق ثم ضرب عنقه. وعاقب المستوفي الرومي القسيس قالويان وولده كيريوري واخويه باسيل ومانويل واستصفى أموالهم ثم قتلهم. وقتل أيضاً الأمراء الثلاثة أولاد الأمير شهاب الدين إيسو الكردي. واشتد الجوع بملطية وبلدها حتى أكل الناس الكلاب والسنانير وكانوا ينقعون الجلود اليابسة التي لدم بها النعال فيأكلونها مطبوخة. واجتاز جماعة من أصحابنا بقرية اسمها باعبدون ببلد جوباس من أعمال ملطية فرأوا جماعة من النساء قد اجتمعن في بيت وقدامهن ميت ممدود وبأيديهن السكاكين وهن يشرحن لحمه ويشوينه ويأكلن. وامرأة أخرى شوت ابنها الصغير في تنورٍ لها ولما كبسها مجاوروها حلفت أنها لم تقتله وإنما مات ففعلت به ذلك زاعمة أنها به أولى من الديدان.و بعد ما فعل علي بهادر تلك الرزايا بأعيان ملطية ومثل بأماثلها لم يهنأ له بها عيش لما كان أهلها عليه من البلاء والجلاء والجدب. فخرج عنها ملماً بالسلطان عز الدين .
و فيها مرض ثاوذوروس ملك الروم بمدينة نيقية وكان في خدمته بطريق يقال له ميخائيل ويلقب بباليولوغس أي الكلام المتقدم. وذلك أن العلماء من الروم بعد تغلب الافرنج على القسطنطينية تقدموا فقالوا إن ملكاً في اسمه الميم والخاء من حروف اليونانيين ينزع الفرنج عنها ويعيدها إلى الروم. فكان الملك ثاوذوروس يخاف هذا ميخائيل لئلا يتغلب على الملك. ولما اشتد خوفه منه سجنه واعتقله ببعض قلاع بلد تسالونيقي ولم يمكنه إهلاكه بغير جريمة تظهر منه. وفي مرضه هذا أرسل بطريقاً يقال له غاذينوس ليأتيه به. فلما وصل غاذينوس هذا إلى ميخائيل قال له سراً : أنت الملك فكن لبيباً وأسلم نفسك إلي ولا تظهر كراهية أصلاً ورأساً ليزول بذلك ما حصل عند الملك من الخيالات في شأنك. فأجاب ميخائيل إلى ذلك وحمله مقيداً إلى الملك. ولما مثل بين يديه بكى وأظهر الكآبة العظيمة. فرق له الملك وحن إليه وأقبل عليه وأوصى إليه في تربية قالويان ابنه وتدبيره وكان الابن وقتئذٍ طفلاً وأشرك معه في ذلك البطريرك ارسانيوس. وبعد مدة مديدة توفي ثاوذوروس ودفن في دير مغنيسيا. وكان له أخت تسمى كيرايلونيا ولها ختن على ابنتها يقال له موزالون فخرجت معه إلى الدير بحجة زيارة قبر الملك وأقاما به أياماً يتشاوران في أمر الملك واتفقا على أن يقبضا على ميخائيل ومن يرى رأيه ويتولى تدبير الطفل موزالون. فشعر ميخائيل بدسيستهما وسير عليهما جماعة من جند الفرنج الذين كانوا في خدمته وأمرهم أن يقتلوهما معاً حيث وجدوهما. فدخل الفرنج الدير ولقوهما في البيعة وقت صلاةالعشاء فقطعوهما موضعهما ونادوا بشعار ميخائيل بمدينة نيقيا قائلين : ميخائيل يا منصور ميخائيل ملك يونان باليولوغس أوطوقراطور رومانيا. ومن هناك سار ميخائيل إلى مدينة نيقية وخطب له بالمملكة بجميع تلك البلاد واعتقل الطفل قالويان ابن الملك ببعض القلاع ونفى البطريرك ارسانيوس الذي وبخه على فعله هذا. ولما تمكن من الملك لم يكن له اهتمام إلا بأخذ قسطنطينية فسار إليها مرة ولم يقدر على فتحها فصبر إلى أن ثارت الفتنة بين البنادقة والجنوية بمدينة عكا فسار البنادقة أجمعين عن القسطنطينية إلى عكا لنصرة أصحابهم وكانوا هم الحفظة لها. واحتال حيلة أخرى بأن أشار إلى متولي بعض قلاع الروم ليكاتب بغدوين الفرنجي صاحب القسطنطينية ويقول له : إن هذا ميخائيل قد تغلب على مملكة الروم بغير استحقاق وهو ظالم معتد على بيت أستاذه وأنا كاره له وأنت أولى بهذه القلعة منه لأنك ملك ابن ملك وميخائيل خارجي. فابعث لي عسكراً وأنا أسلمها إليهم ولا بد من منجنيقات تكون معهم فينصبونها ويظهرون القتال والزحف ليكون لي عذر عند الناس إذا سلمتها. فاغتر بغدوين الفرنجي بكلامه وقدره صادقاً بما قال فأرسل من كان عنده من المقاتلين إلى تلك القلعة ونازلوها واشتغلوا بنصب المنجنيقات والاستعداد للقتال. وحينئذٍ عبرميخائيل في عساكره خليج القسطنطينية ونزل عليها وهي خالية عن رجال الحرب وحال بينها وبين العسكر الذي كان على القلعة المذكورة. فدله بعض الرعاة على باب عتيق للمدينة قد عفا أثره ولم يفتح من عهد قسطنطينوس فنبشوه ودخلوا المدينة وملكوها ليلاًو تغافلوا عن بغدوين صاحبها عمداً حتى خرج في أهل بيته وصار إلى بلاد الفرنج في البحر. وكان مدة بقاء القسطنطينية بيد الفرنج نحو ثلاث وخمسين سنة ثم عادت إلى الروم كما كانت أولاً .
و فيها في شهر شوال رحل هولاكو عن حدود همذان نحو مدينة بغداد. وكان في أيام محاصرته قلاع الملاحدة قد سير رسولاً إلى الخليفة المستعصم يطلب منه نجدة فاراد أن يسير ولم يقدر ولم يمكنه الوزراء والأمراء وقالوا : إن هولاكو رجل صاحب احتيال وخديعة وليس محتاجاً إلى نجدتنا وإنما غرضه إخلاء بغداد عن الرجال فيملكها بسهولة. فتقاعدوا بسبب هذا الخيال عن إرسال الرجال. ولما فتح هولاكو تلك القلاع أرسل رسولاً آخر إلى الخليفة وعاتبه على إهماله تسيير النجدة. فشاوروا الوزير فيما يجب أن يفعلوه فقال : لا وجه غير إرضاء هذا الملك الجبار ببذل الأموال والهدايا والتحف له ولخواصه. وعندما أخذوا في تجهيز ما يسيرونه من الجواهر والمرصعات والثياب والذهب والفضةو المماليك والجواري والخيل والبغال والجمال قال الدويدار الصغير وأصحابه : إن الوزير إنا يدبر شأن نفسه مع التاتار وهو يروم تسليمنا إليهم فلا نمكنه من ذلك. فبطل الخليفة بهذا السبب تنفيذ الهدايا الكثيرة واقتصر على شيءٍ نزر لا قدر له. فغضب هولاكو وقال : لا بد من مجيئه هو بنفسه أو يسير أحد ثلاثة نفر إما الوزير وإما الدويدار وإما سليمانشاه. فتقدم الخليفة إليهم بالمضي فلم يركنوا إلى قوله فسير غيرهم مثل ابن الجوزي وابن محيي الدين فلم يجديا عنه. وأمر هولاكو بايجو نوين وسونجاق نوين ليتوجها في مقدمته على طريق اربل وتوجه هو على طريق حلوان. وخرج الدويدار من بغداد ونزل بجانب ياعقوبا. ولما بلغه أن بايجو نوين عبر دجلة ونزل بالجانب الغربي ظن أن هولاكو قد نزل هناك فرحل عن ياعقوبا ونزل بحيال بايجور ولقي يزك المغول أميراً من أمراء الخليفة يقال له ايبك الحلبي فحملوه إلى هولاكو فأمنه أن تكلم بالصحيح وطيب قلبه فصار يسير أمام العسكر ويهديهم. وكتب كتاباً إلى بعض أصحابه يقول لهم : ارحموا أرواحكم واطلبوا الأمان لأن لا طاقة لكم بهذه الجيوش الكثيفة. فأجابوه بكتاب يقولون فيه : من يكون هولاكو وما قدرته ببيت عباس من الله ملكهم ولا يفلح من يعاندهم ولو أراد هولاكو الصلح لما داس أرض الخليفة ولما أفسد فيها. والآن إن كان يختار المصالحة فليعد إلى همذان ونحن نتوسل بالدويدار ليخضع لأمير المؤمنين متخشعاً في هذا الأمر لعله يعفو عن هفوة هولاكو. فلما عرض ايبك الكتاب على هولاكو ضحك واستدل به على غباوتهم. ثم سمع الدويدار أن التاتار قد توجهوا نحو الأنبار. فسار إليهم ولقي عسكر سونجاق نوين وكسرهم وهزمهم وفي هزيمتهم التقاهم بايجو نوين فردهم وهجموا جميعاً على عسكر الدويدار فاقتتلوا قتالاً شديداً وانجلت الحرب عن كسرة الدويدار فقتل أكثر عسكره ونجا هو في نفر قليل من أصحابه ودخل بغداد .
وفي منتصف شهر المحرم من سنة ست وخمسين وستمائة نزل هولاكو بنفسه على باب بغداد وفي يوم وليلة بنى المغول بالجانب الشرقي سيباً أعني سوراً عالياً وبنى بوقاتيمور وسونجاق نوين وبايجو نوين بالجانب الغربي كذلك وحفروا خندقاً عميقاً داخل السيبا ونصبوا المنجنيقات بإزاء سور بغداد من جميع الجوانب ورتبوا العرادات وآلات النفط. وكان بدء القتال ثاني وعشرين محرم. فلما عاين الخليفة العجز في نفسه والخذلان من أصحابه أرسل صاحب ديوانه وابن درنوش إلى خدمة هولاكو ومعهم تحف نزرة. قالوا : إن سيرنا الكثير يقول : قد هلعوا وجزعوا كثيراً. فقال هولاكو : لم ما جاء الدويدار وسليمانشاه. فسير الخليفة الوزير العلقمي وقال : أنت طلبت أحد الثلاثة وها أنا قد سيرت إليك الوزير وهو أكبرهم. فأجاب هولاكو : إنني لما كنت مقيماً بنواحي همذان طلبت أحد الثلاثة والآن لم أقنع بواحد. وجد المغول بالقتال بإزاء برج العجمي وبوقاتيمور من الجانب الغربي حيث المبقلة وسونجاق نوين وبايجو نوين من جانب البيمارستان العضدي. وأمر هولاكو البتيكتجية ليكتبوا على السهام بالعربية : ان الاركاونية والعلويين والداذنشمدية وبالجملة كل من ليس يقاتل فهو آمن على نفسه وحريمه وأمواله. وكانوا يرمونها إلى المدينة. واشتد القتال على بغداد من جميع الجوانب إلى اليوم السادس والعشرين من محرم. ثم ملك المغول الأسوار وكان الابتداء من برج العجمي. واحتفظ المغول الشط ليلاً ونهاراً مستيقظين لئلا ينحدر فيه أحد. وأمر هولاكو أن يخرج إليه الدويدار وسليمانشاه وأما الخليفة إن اختار الخروج فليخرج وإلا فليلزم مكانه. فخرج الدويدار وسليمانشاه ومعهما جماعة من الأكابر. ثم عاد الدويدار من الطريق بحجة أنه يرجع ويمنع المقاتلين الكامنين بالدروب والأزقة لئلا يقتلوا احداً من المغول فرجع وخرج من الغد وقتل. وعامة أهل بغداد أرسلوا شرف الدين المراغي وشهاب الدين الزنكاني ليأخذ لهم الأمان. ولما رأى الخليفة أن لا بد من الخروج أراد أو لم يرد استأذن هولاكو بأن يحضر بين يديه فأذن له وخرج رابع صفر ومعه أولاده وأهله. فتقدم هولاكو أن ينزلوه بباب كلواذ وشرع العساكر في نهب بغداد ودخل بنفسه إلى بغداد ليشاهد دار الخليفة وتقدم بإحضار الخليفة فأحضروه ومثل بين يديه وقدم جواهر نفيسة ولآلىء ودرراً معباة في أطباق ففرق هولاكو جميعها على الأمراء وعند المساء خرج إلى منزله وأمر الخليفة أن يفرز جميع النساء التي باشرهن هو وبنوه ويعزلهن عن غيرهن ففعل فكن سبعمائة امرأة فأخرجهن ومعهن ثلاثمائة خادم خصي. وبقي النهب يعمل إلى سبعة أيام ثم رفعوا السيف وبطلوا السبي. وفي رابع عشر صفر رحل هولاكو من بغداد وفي أول مرحلة قتل الخليفة المستعصم وابنه الأوسط مع ستة نفر من الخصيان بالليل وقتل ابنه الكبير ومعه جماعة من الخواص على باب كلواذ وفوض عمارة بغداد إلى صاحب الديوان والوزير وابن درنوش. وأرسل بوقا تيمور إلى الحلة ليمتحن أهلها هل هم على الطاعة أم لا. فتوجه نحوها ورحل عنها إلى مدينة واسط وقتل بها خلقاً كثيراً أسبوعاً. ثم عاد لى هولاكو وهو بمقام سياكوه .
و كان من الفضلاء المعتبرين في هذه السنين القاضي الأكرم جمال الدين بن القفطي مصنف كتاب تاريخ الحكماء مولده بقفط من أعمال صعيد مصر سنة ثماني وستين وخمسمائة رحل به أبوه طفلاً وأسكنه القاهرة المعزية وبها قرأ وكتب وشدا شيئاً من الأدب. ثم خرج إلى الشام فأقام بحلب وصحب بها الأمير المعروف بالميمون القصري. واجتمع في هذه المدة بجماعة من العلماء واستفاد بمحاضرتهم وفقه بمناظرتهم. ثم لازم منزله بعد وفاة الأمير المذكور إلى أن ألزم بالخدمة في أمور الديوان في أيام الملك الظاهر فتولى ذلك وهو كاره للولاية متبرم بها. فلما مات الملك الظاهر عاد فانقطع في منزله مستريحاً من معاناة الديوان مجتمع الخاطر على شأنه من المطالعة والفكرة منقبضاً عن الناس محباً للتفرد والخلوة لا يكاد يظهر لمخلوقٍ حتى قلده الملك العزيز وزارته سنة ثلاث وثلاثين وستمائة. فلم يزل في هذا المنصب مدة أيام الملك العزيز والملك الناصر ابنه حتى توفي ثالث عشر رمضان سنة ست وأربعين وستمائة .
من حكماء هذا الزمان نجم الدين النخجواني كان ذا يد قوية في الفضائل وعارضة عريضة في علوم الأوائل تفلسف ببلاده وسار في الآفاق وطوف ودخل الروم وولي المناصب الكبار ثم كره كدر الولاية ونصبها فارتحل إلى الشام وأقام بحلب منقطعاً في دار اتخذها لسكناه لا يمشي إلى مخلوق ولكن يمشى إليه إلى أن مات بها. وكان شديد الميل إلى مذهب التناسخ وله مؤاخذات على منطق الإشارات وشرحها أيضاً وتناول الأفضل الخونجي بالاستنقاص وزيف أقواله في كتاب الكشف فيما يتعلق بعكس النقيض والموضوع الخارجي والحقيقي ومنعه إنتاج الصغرى الممكنة في الشكل الأول وانعكاس السالبة الكلية الضرورية كنفسها إلى غير ذلك.
ومنهم الحكيم ثاذري الإنطاكي اليعقوبي النحلة أحكم اللغة السريانية واللاطينية بإنطاكية وشدا بها شيئاً من علوم الأوائل. ثم هاجر إلى الموصل وقرأ على كمال الدين ابن يونس مصنفات الفارابي وابن سينا وحل أوقليذس والمجسطي. ثم عاد إلى إنطاكية ولم يطل المكث بها ولما رأى في نفسه من التقصير في التحصيل فعاد مرة ثانية إلى ابن يونس وأنضج ما استنهأ من علمه وانحدر إلى بغداد وأتقن علم الطب وقيد أوابده وتصيد شوارده وقصد السلطان علاء الدين ليخدمه فاستغربه ولم يقبل عليه فرحل إلى الأرمن وخدم قسطنطين أبا الملك حاتم ولم يستطب عشرتهم فسار مع رسول كان هناك للأمبرور ملك الفرنج فنال منه أفضالاً ووجد له به نوالاً وأقطعه بمدينة كما هي بأعمالها. فلما صلح حاله وكثر ماله اشتاق إلى بلده وأهله ولم يؤذن له بالتوجه فأقام إلى أن امكنته الفرصة بخروج الملك في بعض غزواته إلى بلاد المغرب فضم أطرافه وجمع أمواله وركب سفينة كان قد أعدها لهربه وسار في البحر مع من معه من خدمه يطلبون بر عكا. فبينما هم سائرون ذهبت عليهم ريحٌ رمت بهم إلى مدينة كان الملك قد أرسى بها فلما أخبر ثاذري بذلك تناول شيئاً من سم كان معه ومات خجلاً لا وجلاً لأن الملك لم يكن يسمح بإهلاك مثله.
ومن الأطباء المشاهير في هذا الزمان الحكيم مسعود البغدادي المعروف بابن القس طبيب حاذق نبيل خدم الخليفة المستعصم واختص به وطب حرمه وأولاده وخواصه وارتفعت منزلته لديه. ولما جرى ببغداد ما جرى انقطع عن الناس ولزم منزله إلى أن مات. وخلف ولده غرس النعمة أبا نصر وكان أبو نصر فاضلاً عاقلاً ذا فنون خبيراً بأصول الهندسة فاكاً مشكلاتها وكان ضئيلاً مسقاماً لا يقطع استعمال ماء الشعير صيفاً وشتاءً وكان غزاؤه دوائياً نزراً ومات كهلاً.
ومنهم الحكيم عيسى البغدادي المعروف بابن القسيس الحظيري كان أبوه طبيباً فاضلاً يقرأ عليه ويؤخذ منه. وكان حاد المزاج يسرع إليه الغضب. جرى لي معه مفاوضة في أمر تقديم السريان الليل على النهار مستدلين التوراة وهو قوله تعالى : وصار مساء وصار صباح يوماً واحداً. قلت : هذه الحجة عليهم لا لهم لأنها تنبئ عن تقدم نهار آخره مساء وتأخر ليلٍ آخره صباح ليتم بمجموعهما يوم واحد لأن الحاصل من المساء إلى الصباح إنما هو ليلة واحدة وهي نصف يوم لا يوم تام. فلم ينصفني في هذا ولا أجاب عنه بشيء أكثر من قوله : هذا مذهب أهل ملتك فكيف يسعك تكذيبهم. فقلت : أنا تابع فيه لليونانيين وأقيم عذر السريانيين وهو أن شهورهم قمرية والقمر إنما يرى استهلاله مساءً لا صباحاً فجعلوا مبادئ تواريخهم أوائل الليل ومثلهم العبرانيون والعرب لأن الليل مقدم على النهار في نفس الأمر. ومما يستدل به على علو همة الحكيم عيسى ابن القسيس أنه نسخ كتاب القانون بخطه في شبيبته ثم خرجت النسخة عن ملكه بحكم شرعي وحصلت في خزانة المدرسة المستنصرية. فلما أسن طلب النسخة وقابلها وصححها وأعادها إلى مكانها. فنسبه باغضوه إلى فضول ومحبوه إلى مثوبة يتوخاها. فقال : كلا الفريقين مخطئ وإنما فعلت ذلك لئلا يزرى علي بعد موتي. وعمر طويلاً ومات شيخاً كبيراً .
ومنهم تقي الدين الرأس عيني المعروف بابن الخطاب طبيب مشهور الذكر متقن لصناعة الطب علمها وعملها غاية الاتقان خدم السلطان غياث الدين وبعده ابنه عز الدين وصار له منزلة عظيمة منهما ورفعاه من حد الطب إلى المعاشرة والمسامرة وأقطعاه إقطاعات جزيلة وكان في خدمتهما بزي جميل وأمر صالح وغلمان وخدم وصادف من دولتهما كل ما سره.
ومنهم شرف الدين بن الرحبي وأخوه جمال الدين الدمشقيان. أما شرف الدين فكان بارعاً بالجزء النظري من الطب له معرفة تامة به واطلاع على أصوله تصدر لإفادة هذا الشأن وأخذ عنه جماعة من الطلبة وكان قليل التعرض لمباشرة المرضى. وسمعت وقت تحصيلي بدمشق أن له نعاليق وحواشي على القانون ولم أرها. وأما جمال الدين أخوه فكان له عناية تامة في الجزء العملي من الطب وتجارب فاضلة فيه ونفوذ مشهور في المعالجة. صحبته مدة أباشر معه المرضى بالبيمارستان النوري بدمشق وكان حسن الأخلاق لم أر في الجماعات أحسن منه زياً وصمتاً ونطقاً ومبسماً .
ومنهم بدر الدين المعروف بابن قاضي بعلبك كان فاضلاً خبيرا بالمباشرة والمعالجة جميل التحيل للبرء وصنف كتاباً لطيف الحجم سماه مفرح النفس جمع فيه جملة ما يتعلق بالحواس الخمسة من المفرحات وأضاف إليه الأدوية المفردة القلبية ومركبات أيضاً حارة وباردة ومعتدلة للملوك والفقراء وأوساط الناس وأخذ فيه على الرئيس في جعله الكسفرة عديدة المفرحات .
ومنهم نفيس الدولة الدمشقي النصراني الملكي المعروف بابن طليب وسيأتي ذكره في جملة أطباء هولاكو إذ هو أكبرهم.
ومنهم الموفق يعقوب الدمشقي السامري كان طبيباً حاذقاً مصيباً في علاجه مستحضراًللشروح وكان ضنيناً بما يحسنه يشارط من قصده من سائر البلاد للاستفادة على إسماعه أي كتاب أراد قراءته دراهم معلومة. وهذه خساسة مباينة للأنفس الفاضلة.
ومن فضلاء هذا الزمان في علوم الأوائل وجميع الفضائل نجم الدين الدمشقي المعروف بابن اللبودي تولى أمور الديوان وقلد الوزارة والغالب عليه الهندسة والعدد .
ومنهم عز الدين الضرير كان من الأفاضل والأعيان المعدودين من حسنات الزمان. وله مشاركة حسنة في سائر الأنواع الفلسفية والآداب العربية وكان قوي الذكر والتخيل بحيث أنه كان يقرأ عليه وهو مكفوف ست مقالات من كتاب أوقليذس وكان يحفظ الأشكال بحروفها ويتكلم في حلها .