مقدمة
من عهد أغسطوس قيصر إلى أن أقام طيباريوس قيصر والمدة قريبة من ستمائة سنة. كان الملوك على القسطنطينية والبطارقة وجلّ الجند روميين أعني إفرنجا. غير أن الوزراء والكتّاب والرعايا كافة كانوا يونانيين. ثم صارت المملكة أيضاً يونانية. والسبب في ذلك أن يوسطينيانس الأخير لما ابتلي بالمرض الشديد ويئس من حياته لم ير في أهل بيته وخاصته من يفي بسياسة الملك غير وزيره طيباريوس وهو رجل يوناني فبايعه ووضع له التاج بيده. ومن حينئذ صارت مملكة القسطنطينية يونانية. إلى أن استعادها الإفرنج في سنة ألف وخمسمائة وخمس عشرة للاسكندر وهي سنة ستمائة للهجرة. ثم فتحها اليونانيون في أيامنا سنة ألف وخمسمائة وثماني وستين للاسكندر وهي سنة خمس وخمسون وستمائة للهجرة
” طيباريوس قيصر “
ملك أربع سنين. وغزت الفرس رأس العين فوجه إليهم طيباريوس كبير بطارقته المسمى موريقي. فلقيهم هناك فهزمهم. ثم لحق طيباريوس مع موريقي أجناده فغزا الفرس وسبى منهم زهاء ألف نفس ومضى بهم فأسكنهم جزيرة قبرس. وعرضت في هذه السنة زلزلة عظيمة. وعرض في الصيف أمطار كثيرة وبرد شديد وأظلم الجو وظهر جراد كثير فأكل عامَّة الزروع والعنب والبقول. وفيها عرض وباء شديد. ووجد الناس يعبدون الأوثان فقتلوا. وفي السنة الرابعة لطيباريوس زوج ابنته لموريقي عظيم قواده وبايع له بالعهد وملَّكه وتوفي
“ موريقي قيصر “
ملك عشرين سنة. وكان حسن السيرة سهل المعاملة كثير الصدقة. وكان في كل سنة يهيئ طعاماً للفقراء والمساكين ستين مرة ويقوم هو وزوجته من ملكهما فيتوليان خدمتهم وإطعامهم واسقاءهم. وفي السنة الرابعة لموريقي عرض وباء شديد بقسطنطينية ومات من أهلها زهاء أربعمائة ألف نفس. وفي السنة الثامنة لموريقي وثب الفرس على هرمز ملكهم فسملوا عينيه ثم قتلوه وملكوا عليهم بهرام المرزبان. وكان لهرمز ابن حدث اسمه كسرى وهو المعروف بأنوشروان العادل فتنكر كأنه سائل وشق سلطان الفرس حتى جاء نصيبين وصار إلى الرها ومنها إلى منبج وكتب إلى موريقي كتاباً نسخته : للأب المبارك والسيد المقدم موريقي ملك الروم من كسرى بن هرمز ابنه السلام. أما بعد فأني أُعلم الملك أن بهرام ومن معه من عبيد أبي جهلوا قدرهم ونسوا أنهم عبيد وأنا مولاهم وكفروا نعم آبائي لديهم فاعتدوا علي وأرادوا قتلي. فهممت أن أفزع إلى مثلك فأعتصم بفضلك وأكون خاضعاً لك لأن الخضوع لملك مثلك وإن كان عدواً أيسر من الوقوع في أيدي العبيد المردة ولأن يكون موتي على أيدي الملوك أفضل وأقل عاراً من أن يجري على أيدي العبيد. ففزعت إليك ثقةً بفضلك ورجاء أن تترأف على مثلي وتمدني بجيوشك لأقوى بهم على محاربة العدو وأصير لك ولداً سامعاً ومطيعاً إن شاء الله تعالى. فلما قرأ موريقي كتاب كسرى بن هرمز عزم على إجابة مسألته لأنه لجأ إليه وأنجده بعشرين ألفاً وسيَّر له من الأموال أربعين قنطاراً ذهباً. وكتب إليه كتاباً نسخته : من موريقي عبد ايشوع المسيح إلى كسرى ملك الفرس ولدي وأخي السلام. أما بعد فقرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه من أمر العبيد الذين تمردوا عليك وكونهم غمطوا أنعم آبائك وأسلافك غمطاً وخروجهم عليك ودحضهم إياك عن ملكك. فداخلني من ذلك أمرً حركني على الترأف بك وعليك وإمدادك بما سألت. فأما ما ذكرت من أن الاستتار تحت جناح ملك عدو والاستظلال بكنفه آثر من الوقوع في أيدي العبيد المردة والموت على أيدي الملوك أفضل من الموت على أيدي العبيد. فإنك اخترت أفضل الخصال ورغبت إلينا في ذلك. فقد صدقنا قولك وقبلنا كلامك وحققنا أملك وأتممنا بغيتك وقضينا حاجتك وحمدنا سعيك وشكرنا حسن ظنك بنا ووجهنا إليك بما سألت من الجيوش والأموال وصيرتك لي ولداً وكنت لك أباً. فاقبض الأموال مباركاً لك فيها وقد الجيوش وسر على بركة الله وعونه. ولا يعترينك الضجر والهلع بل تشمر لعدوك ولا تقصر فيما يجب لك إذا تطأطأت من درجتك وانحططت عن مرتبتك. فإني أرجو أن يظفرك الله بعدوك ويكّبه تحت موطئ قدميك ويرد كيده في نحره ويعيدك إلى مرتبتك برجاء الله تعالى. فلما وردت الجيوش على كسرى وقبض الأموال وتشجع بقراءة كتاب موريقي سار مع جيوش الروم نحو بهرام فلقيه بين المدائن وواسط فصارت الهزيمة على بهرام وقتل أصحابه كلهم واستباح كسرى عساكر بهرام ورجع إلى مملكته فجلس فيها وبايعه الناس كلهم. ودعا بالروم فأحسن جائزتهم وصرفهم إلى صاحبهم. وبعث إلى موريقي من الألطاف والأموال أضعاف ما كان أخذ منه. ورد دارا وميَّافارقين إلى الروم وبنى هيكلين للنصارى بالمدائن وجعل أحدهما باسم السيدة والآخر باسم مار سرجيس الشهيد.
وفي السنة السادسة عشرة لموريقي كان مطر شديد غرقت به مدن كثيرة مع أهلها ودوابها ومواشيها. ولأن موريقي بعد مصلحته للفرس قطع أرزاق جنوده فاجتمع عظماءُ الروم إلى مدينة هرقلة وأرادوا تمليك فطري أخي موريقي. فهرب منهم ومضى إلى قسطنطينية. وهرب أيضاً موريقي إلى خلقيذونية. فلحقته الروم فألفوه وعليه خلقان في ذي الفقراء والسؤال فقتلوه وملّكوا عليهم رجلاً من بطارقتهم يقال له فوقا.
” فوقا قيصر ” ملك ثماني سنين. ولم يكن من بيت الملك. فلما بلغ كسرى بن هرمز قتل موريقي نقض العهد وغزا دارا فافتتحها وافتتح أيضاً آمد وحلب. ثم عطف على قنّسرين ورجع إلى الرها. وفي السنة الثامنة لفوقا خرج عليه خارجيّان أحدهما هرقل والآخر غريغور بإفريقية ووَّجها جيوشاً مع ابنيهما وهما هرقل بن هرقل ونقيطا بن غريغور وتقدما إليهما بقتل فوقا وتعاقدا بينهما أن الملك للسابق إلى القسطنطينية إذا قتل فوقا. فركب هرقل البحر وسار نقيطا في البر وألفى هرقل البحر هادئاً ساكناً فسبق ودخل المدينة وقتل فوقا وملك
“ هرقل قيصر “
ملك إحدى وثلاثين سنة وخمسة أشهر. وفي أول سنة من ملكه أرسل وفداً إلى ملك الفرس ليصالحه. فلم يجبه إلى ذلك بل غزا إنطاكية وفامية وحمص وقيسارية وافتتحها. وفي هذه السنة عرض بالروم جوع شديد حتى أكل الناس الجيف وجلود البهائم. وقصد نقيطا بن غريغور مدينة الإسكندرية فاستولى عليها. وفي السنة الرابعة لهرقل ملكت العرب وهي سنة تسعمائة وخمس وثلاثين للاسكندر. وفي السنة الخامسة لهرقل افتتح الفرس البيت المقدس. وبعد ثلاث سنين افتتحوا الإسكندرية ومصر ووصلوا إلى النوبة وغزوا فلقيذونيا فافتتحوها. وفي السنة العاشرة لهرقل تحركت العرب بيثرب. وفي السنة الخامسة عشرة لهرقل غزا الفرس جزيرة رودس فافتتحوها. وأمر كسرى أن يؤخذ رخام الكنائس التي في جميع المدن التي فتحها وتحدر إلى المدائن. ولقي فيه الناس جهداً جهيداً. وفي هذه السنة غزا أهل هرقل الفرس فافتتحوا مدينة كسرى وسبوا منها خلقاً كثيراً وانصرفوا. وفي السنة السابعة عشر لهرقل أنكسف نصف جرم الشمس وثبت كسوفها من تشرين الأول إلى حزيران ولم يكن يظهر من نورها إلا شيء يسير
***
وفي هذا الزمان كان الحرث بن كلدة طبيب العرب أصله من ثقيف من أهل الطائف رحل إلى أرض فارس وأخذ الطب عن أهل جنديسابور وغيرها في الجاهلية قبل الإسلام وطبب بأرض فارس وحصّل مالاً. ثم أن نفسه اشتاقت إلى بلاده فرجع إلى الطائف واشتهر وأدرك الإسلام. وكان النبي عليه السلام يأمر من كان به علَّة أن يأتيه فيستوصفه. وكان الحرث يقول : من سره البقاء ولا بقاء فليباكر الغذاء وليخفف الرداء وليقل من غشيان النساء. يُريد بخفة الرداء أن لا يكون عليه دين وقيل مات الحرث في أول الإسلام ولم يصح إسلامه. وفي هذا الزمان كان يعرف اهرون القس الإسكندري. وكناشه في الطب موجود عندنا بالسريانية وهو ثلاثون مقالة. وزاد عليها مقالتين أُخريين
***