الأيـام السـتة – في الخلقة الأولى العقلية وغير الجسدية للقوات السماوية الملائكية مار يعقوب الرهاوي

Posted by on Jul 9, 2015 in Articles, Library | Comments Off on الأيـام السـتة – في الخلقة الأولى العقلية وغير الجسدية للقوات السماوية الملائكية مار يعقوب الرهاوي

الكلمة الأولى
في العلة الأولى والخالقة، الأزلية والقادرة على الكل

قسطنطين: لك أن تتحدث أيها المعلم، بقدر ما تستوعبه طبيعة تفكيرنا، وتفكيري الضعيف، ولك أن تسمع وتقبل وتبحث الكتب الإلهيّة التي فيها الكفاية من البراهين. ولقد اتضح لي هذا تماما منذ أمد بعيد، وحسبما أعتقد أن فيه الكفاية. وإذ أعترف بهذا، أعرف أنك كتبت أيضا عن الخلقة التي جيء بها الى الوجود منذ القدم. والآن تحدث وسلم الي، عن كل ما فيها من بلبلة  ونظام، لكي تكون لي وللكثيرين الآخرين الذين سيعثرون عليها في الآجيال القادمة، للاستنارة والفائدة

يعقوب: أنك يا محب الله قسطنطين تطلب، كابن حبيب ووارث، فوائد الكلام… ولئن كانت قليلة لأن الأبناء الحقيقيين يؤثرون أن يرثوا فقط ما ينتقل اليهم من آبائهم مهما كان وكيفما كان، ومثلما يستوجب على الآباء المرتبطين بحب أولادهم، أن يتعبوا ويجمعوا بحسب طاقتهم، وأحيانا أكثر من طاقتهم، ليتركوا لهم بعد موتهم، ارثا من المقتنى والراحة لأمد أطول، كذلك هو شأني بالرغم من أن ما سأورثه قليل ويسير. وكما أن الأبناء ليسوا ملزمين بأن يكنزوا لآبائهم كما كتب، بل أن الآباء هم الملزمون بأن يكنزوا لأبنائهم، ويتركوا ارثا لهم. كما أني على أتم الاستعداد لتلبية طلبك بكل رحابة صدر، ولأن طلبك لم يكن محددا، ولم تعين نوع الخليقة التي أبدعها الخالق، ولم تخبرنا عن أي منها تود أن تسمع، وهل تقصد الخليقة المحسوسة أم العاقلة ؟، لذا كان الأجدر بك وأنت المتمكن من التحكم بكلماتك، أن توضح عن أي من هذه ترغب في أن نتحدث

قسطنطين: اني لعلى يقين، أيها المعلم، أن ليس من اللائق التحدث بكلام عام ومبهم من دون تمييز، لذا فما أريده قبل كل شيء هو الحديث عن الخليقة العاقلة غير الهيولية والروحانية غير الجسدية، وعن أوجه شبهها بصورة الخالق الذي كونها

يعقوب: أني اعلم جيدا، أيها الأخ محب العلم، أن الحديث عن هذا أو عن العلة الأولى الخالقة صعب وغير مدرك، ذلك أن حديثنا ولئن دار حول الطبيعة المخلوقة وغير الازلية، الا أنها هي أيضا غير منظورة ولا مدركة، وهذا أمر يسمو عن معرفة وقوة وادراك كل الفقهاء المحصورين في هذه الظلمات والبيوت الطينية. فكيف يمكن بوسعه أن يرى أبعد الظلام ومحدود ومحصور في بيت من الطين. وليس بوسعه أن يرى أبعد من ذاته، أن يتحدث عن النور ؟. قد يطلب هذا ممن هو بعيد عن الظلام لا ممن هو ملازم له. كذلك هو الحديث بشأن الطبيعة المحررة كليا من الطين والجسد معا. كما ومن كل ما هو محسوس، أعني صفة الأجساد، إذ كيف يمكن أن يخرج (الحديث) عن العقل البشري المغشى بالطين والظلام، وهو ليس سوى قبس ضعيف ونصح يسير من عقل أولئك الذين سنتحدث عنهم، وبالأخص، الكامل ؟ أو كيف يسعى أن يدرك بذهنه ويتحدث بشفتيه عن الكائنات الشبيهة بالله، وعن الأنوار الثانوية، والصور والمثل الحقيقية للنور الأول ؟

لكني الآن، وتلبية لطلب الاخوة الذين يرومون الافادة ويرغبون في أن يسمعوا ويتعلموا ولن يعطوا الا لمرة واحدة، أن نتحدث لهم عن الذي منه كان لهم ما كان. وعن العقل البشري وخلقته وتكوينه واكتسابه قوة ليدردش عن هذه الأمور التي تتسامى عن كلمته. وقد حاول أن يدردش جزئيا عن العقل الكبير والأول والازلي والعلة غير المخلوقة، بل وخالقة كل شيء، التي تدعى، بل هي الله. واننا سنتكلم بما يتيسر لنا، وبحدود عن العقول المخلوقة الثانوية التي هي أشعة من نور خالقها، باعتبارها ناطقة، متكلين على قوة ذاك الذي منه أخذنا قوة الكلام. لذا خصصنا حديثنا المقال الاول عن الله العلة الأولى، كأساس وبداية. والمقال الثاني، عن هؤلاء الثانويين متخذين العلة نفسها سندا وأزرا في البداية وفي الختام

قسطنطين: أن ما قلته جيد، وأنا قانع به

يعقوب: وأنا أقول: أن الله الأزلي والقادر على كل شيء، وهو ملء كل شيء، كان ولا يزال بدون بداية وبلا علة. ويبقى هو هو دون تغيير أو نهاية الى الأبد. وهو وحده يتمتع بالمجد والبهاء الكثير باعتباره هو الحق وحده. ولا أدري بماذا أصف، أو كيف أعبر عن كونه كان وحيدا، ومنذ أية أزمنة أو أجيال أو أوقات. وكيف كان يتمتع وحده بعظمة مجده. فأنا عاجز عن أن أقول أكثر مما أذن لي بقوله: أنه هكذا كان حصرا منذ الأزل والى الأبد، لا بداية له.
ولم ترى انتظر هذه الفترة بمفرده دون أن يوجد مخلوقات تسبحه وتنظر الى عظمة مجده بدهشة، في حين أنه كان ولا يزال الخالق والقادر على كل شيء ؟ أن هذا الأمر لا يعرفه سواه، وهو بعيد المنال عن خلائقه مما هو عمل يديه. ولهم أن يفكروا أو يقولوا: أنه خلق الكون عندما حسن لنعمته. ففي الوقت الذي شاء، وجدت الخليقة فورا. ذلك أن الله عندما يشاء أن يكون شيء ما، تشكل هذه المشيئة بدء وجود ذلك الشيء، ولا يشوب تفكيره أي أرتباك عندما يتحرك نحو ذلك الشيء. وبحسب التعبير البشري أقول: أنها عملية تحويل شيء من العدم الى الوجود

خلق الملائكة

هكذا شاء العقل الأول والأزلي العظيم، فوجدت المخلوقات الثانوية فورا، وهكذا تحرك وأشرق النور غير المنظور الذي لا يدنى منه، فأوجد للوقت الأنوار الثانوية، التي هي أشعة النور الأول. وهكذا أيضا تصرف الكلمة ابن العقل الوالد، وبدون أي ارتباك. فوجدت المخلوقات الثانوية، قويمة ومتكاملة وصورا حية ناطقة للمثال الحي وواهب الحياة، أعني الكلمة الذي خلقها. وقد أعطوا (الملائكة ) جمالا ثانويا شبيها بالجمال الأول الذي لخالقهم. أنهم صالحون بطبعهم ونازعون نحو الصلاح ومحبوه، ومثالا حسنا لمن هو وحده حي وواهب الحياة، غير مخلوق وأزلي وغير مائت الى الأبد. هم مخلوقون منذ الأزل وهم الصورة الحقيقية لمن هو وحده أزلي غير مخلوق، الذين ابتدأوا لكنهم لا ينتهون. انهم قديسو من هو وحده قدوس. وأطهار من هو وحده طاهر. قوات من هو وحده قوي. حكماء من هو وحده حكيم. مشاعل وانوار من هو وحده المشعل والنور الاكثر اضاءة من الكل والذي يسكن في نور لا يدنى منه. العقلاء الذين يدركون ذهنيا فقط. وذوو الفهم، الذين يفهمون بالعقل فقط. غير المنظورين، الذين ينظرون بذهنهم بدقة. غير المحسوسين اطلاقا، وبالفكر فقط يمكن تصورهم، الذين ليسوا مادة ولا جسما ولا شكل لهم أو صورة، ولا يعرفون كما أو نوعا. ذوو طبيعة بسيطة غير مركبة. ومنزهون عن كل ما له علاقة بالأجساد. وهم في طبيعتهم متغيرون كمخلوقين. وفي الوقت ذاته غير متغيرين ولا مائتين نظرا الى النعمة المعطاة لهم من قبل خالقهم، لكي يكونوا هم هم غير متغيرين بالطبع ومتغيرين بالارادة أن شاءوا. انهم سريعوا الحركة والتنقل ومدركون دقيقون، يتالفون بسهولة مع بعضهم البعض أو مع طبائع الاجساد الجامدة. دون أن يقطعوها أو تنقطع من قبلهم مثل الاجساد، بسبب رقة وعدم مادية طبيعتهم. فأنهم لا يحصرون في مكان صغير وضيق، ولا يمتدون أو ينتشرون في مكان واسع، فهم يصلون الى الكل بسهولة، بسبب خفة طبعهم ودقته، وبلمح البصر يطيرون الى جميع الجهات عندما يؤمرون، انهم محدودون في الطبع والصلاح، وليسوا في كل مكان في ان واحد. في حين انهم ينفذون في كل شيء بخفة ودقة

هذه هي الخليقة الأولى التي صنعها الله الخالق، والتي ابتدأت ولا تنتهي. مخلوقة غير مائتة. عاقلة غير جسدية وشبيهة بالله خالقها بقدر ما يمكن للمخلوقين أن يتشبهوا بالخالق. فمن جهة خلقتهم واقتدار طبعهم، فقد اطلقت العنان للكلمة لتتحدث ما في وسعها، وأوضحت كل ما يمكن أو يوضح بكلمات بشرية

معرفة الملائكة

أما بالنسبة الى معرفتهم وأعمالهم، فأن الكلمة البشرية التي تستنير بوحيهم، إذ يخترق شعاع نور المعرفة الوهاج، الذهن الممتزج بطيئة الجنس البشري: تؤكد أن هذه المعرفة، هي معرفة ثابتة وراسخة نظرا الى ما لهم من سلطة ذاتية فاحصة تقودهم الى أن يدركوا أنهم مخلوقون، جاءوا الى الوجود بقوة الله الخالق وأمره، وهم يعرفون ويؤكدون ويعترفون، بأن هذه هي، بالنسبة اليهم، أزليتهم وحياتهم وقوام طبيعتهم، التي تشكل حاجزا راسخا غير متزعزع تصون أزليتهم عندما يشرق عليها شعاع نوره. كما أنهم على يقين من أن لا حياة لأزليتهم، ولا أزلية لحياتهم، ولا ديمومة لطبيعتهم، الا برعاية واشراق نعمته. فأنهم يكتسبون قواما وبقاء ثابتا وتكوينا دائميا غير متغير، وقوة شديدة غير واهية: بامعانهم النظر الى نوره، ويستمرون ثابتين غير متزعزعين في خدمته. فهذه هي معرفتهم. أقول هذا من وجهة نظر بشرية

عمل الملائكة

أما عملهم فمستمر، وهو اطاعة أمر خالقهم، فهم أبدا رهن اشارة مشيئته. وقد كتب في المزامير عن اقتدارهم وتنفيذهم أوامره “خدامه وصانعي مشيئته”. أنهم الخدام الذين ينفذون ارادته، والرسل الذين يوفدون الى من يشاء، من الذين هم عتيدون أن يرثوا الحياة. هذه هي اهتماماتهم ورغبتهم وارادتهم المسالمة. وأقول: أنهم وجدوا ليتقبلوا الأمر باشارة منه، ويسمعوا صوت كلماته، كما كتب، وينفذوا الأوامر بسرعة وبدون ارتباك. هذا هو عمل الخلائق العاقلة السماوية. فأنها منفذة لأوامر العقل الأول والخالق التي لا تتغير أبدا. وهم يسعون تلقائيا الى كل عمل، كبيراً كان أم صغيراً نظراً الى كلفهم واستعدادهم لارضاء الله الآمر. فلئن كانت لهم سلطتهم الذاتية، ولئن اتقدوا، غيرة على انجاز كل ما هو عادل، ولئن كانوا صالحين ومحبي الصلاح، وعاشقي الفضائل مثل الله خالقهم، الا أن أنظارهم موجهة دائما نحو ما يؤمرون به، أو يشار به اليهم بواسطة قبس منسلخ من نوره، فيتآلفون معه ومع بعضهم البعض بوفاق سلمي غير مشكوك فيه. إذ ليسوا متحدين بالطبع وحسب، بل هم، بالاضافة الى هذا، متحدون بالارادة والفكر، بعيدا عن كل تناقض أو شك. وهذا ما يجعلهم يحتفظون بنظامهم ويصونونه، إذ يتقيد كل منهم بالنظام المعطى له دون تشويش أو تذبذب

فمعرفتهم أذن وأعمالهم هي كالتي أوضحتها حتى الآن. أما بالنسبة الى تنظيماتهم وتسمياتهم العامة، فليس لها خصائص ذاتية ورئيسية مثلما للبشر، إذ ليست بحاجة اليها. هذا ما سلم الينا في الكتب المقدسة الموحى بها من قبل الروح

مراتب الملائكة
اننا سمعنا وقرأنا أن هذه الكائنات تسمى ملائكة. وسنبدأ بالحديث عن الرتب الأدنى والأخيرة والاقرب الينا. ثم نشرع بالصعود رويداً رويداً نحو الأعلى والأرفع. والرتبة الأخرى هي رتبة رؤساء الملائكة والرئاسات والسلاطين، والعروش والسادات والقوات، والكروبيم والسرافيم. هذه هي الرتب التسع. في حين أن بعض القديسين الناطقين بالأسرار، رتبوها ثلاث طغمات متميزة فقط وحددوها بثلاثة محافل أي رئاسات. وهناك تقسيم آخر، ونحن نميل اليه، وهو: ملائكة ورؤساء الملائكة ورئاسات. والرتبة الثانية والوسطى تشمل السلاطين والعروش والسادات. أما الرتبة الأولى والاسمى والأقرب الى رؤى الله، والأكثر استنارة بأشعة النور والمعرفة فهي: القوات والكروبيم والسرافيم

هذه هي رتب العقول المقدسة. وعلى هذا النحو تقوم خدمتهم لما يوعزون باشارة من الأمر. حيث يستمد المتقدمون الشعاع المنبثق من النور الأعظم والعقل الأول. ويستوعبونه هم أولاً شيئاً فشيئاً، ثم يوصلون أشعة المعرفة الى من يليهم، كلما وحينما يؤمرون بذلك. أما التسميات العامة والشاملة والسائدة، فهي لتمييز الرتب التي سبق تنظيمها. ولكن من أجل الاختصار وتجنباً للاسهاب، دعاهم فقهاء العبرانيين وحكماؤهم، بالملائكة، باعتبارهم مرسلين ومأموريين. ذلك أن السعاة المرسلين من قبل سلطان ما لتنفيذ أمره، يدعون ملائكة. ومن هذا المنطلق فأنهم يدعون خداماً بدلاً من ملائكة. أما الرتبة الأعلى من هذه، وقد سموها رؤساء الملائكة. وبغية اختصار الكلام عينه، فقد اعتدنا نحن البشر، في مختلف الشعوب، أن نطلق كلمة “رؤساء على الذين يقامون رؤساء على آخرين، فنقول: رؤساء عشرة، رؤساء خمسين، رؤساء مائة، رؤساء ألف، رؤساء ربوات، رؤساء فرق، وحروب، ورؤساء جيوش، ومن هنا أطلقوا تسمية رؤساء الملائكة بدلاً من تسمية زعماء التي نطلقها نحن على البشر. فكلمة الرئاسات مغايرة هي الأخرى لتقليدنا. لأننا اعتدنا أن نطلق لفظة رئاسة على الكليات والجزئيات. وكذلك الأمر بالنسبة الى السلاطين، حيث نقول: سلاطين مختلفين، كباراً وصغاراً، أما العروش أو الكراسي فقد دعوا كذلك باعتبارهم مصدر راحة وتكريم. فالكرسي عندنا هو رمز للراحة والكرامة. وقد سموا الرتبة السادسة، السادات. لأننا اعتدنا أيضاً أن ندعو سادة، أولئك الذين يتمتعون بالسلطة والكرامة لدى السلطان. فأنهم باسم سيدهم، يصيرون موضع تكريم واجلال. وكذلك الأمر بالنسبة الى الرتب الملائكية، فهم يستمدون تسميتهم من الملكوت. أما القوات، فأنها مثل رؤساء القوات ربما استمدت التسمية من كثرة الجند وقوتهم، وبحق دعيت قوات. وقد جاء عنها بأنها المقتدرة كما سلم الروح المرنم. وأطلقوا اسم “كروبيم” على تلك الرتبة السامية والأقرب الى الله، أخذاً عن اللفظة العبرية. إذ أرادوا أن يشيروا الى وسع معرفتهم، واستنارتهم النقية والمبهرة، والأكثر كمالاً وغنى، والأسمى من بقية الرتب الأدنى. لذا سموا بالعبرية “كروبيم” وهي مستعملة حتى في الاشياء المادية المصنوعة بمهارة وعناية كبيرة، وفي كل ما يكون متقنا بصنعه مطابقاً بالشكل للأشياء الطبيعية، إما بمهنة النجارة ونحت الخشب والحجر، أو بالرسوم المنسوجة بأنيار كثيرة وألوان متنوعة، كما يطلعنا “بصلائيل”، حديثه عن مثل هذه الأعمال. أما السرافيم فيبدو أنهم سموا كذلك باللغة العبرية، وكما ذهب الحكماء الروحيون، لأنهم أشد حرارة والتهاباً وتبديداً للمادة الشريرة، مثلما يفعل الجوهر الأول. وأكثر استنارة من الرتب الاخرى التي هي دونهم، وبامكانهم اضاءة وتطهير الآخرين – نظراً الى الاستنارة الزائدة والوفيرة التي يستمدها الأولون من النور الأول والأعظم – وقد يكون هذا السبب في أخذ السرافيم جمرة من المذبح وتقريبها من فم أشعيا النبي، كما كتب

هذه هي التسميات العامة لهذه الرتب التي طرقت مسامعنا ووردت في الكتب الالهية. وما علينا الا أن نأخذ بها فقط، ونتمسك بها باحكام. علماً بأن هنالك بعض القديسين الملهمين شبهوا احدى هذه الرتب بالحيوانات، وربما لأنها ظهرت لهم شبه حيوانات. كما تصور بعض الشيوخ رتبة أخرى شيوخاً، لأنهم تراءوا لهم بالجسد شبه شيوخ، كما كتب يوحنا الرائي في رؤياه، حيث يقول: “أربعة وعشرون شيخاً”. ولجميع هؤلاء تسمية شاملة وفاعلة وأصيلة واحدة هي: الملائكة. كما أن تسمية “القوات” تشمل جميعهم، وكما هي الحال بالنسبة الى جميع القوات التي هي في خدمة الملوك الأرضيين، هكذا هي أيضاً بالنسبة الى القوات السماوية والملك السماوي – فهي تسمى قوات سماوية لملك سماوي، وجنوداً سماوية وروحية وغير هيولية، تمييزاً لها من القوات الأرضية والجسدية، وهي أيضاً قوات روحية غير جسدية، أرواح عاقلة، جماهير الخدم القديسون المستنيرون الأنقياء الذين هم في خدمة اللاهوت الخالق والمعتني ومدير الكل. أن جميع هذه التسميات العامة التي تطلق عليهم وردت في الكتب المقدسة، إذ ليس للعقل والكلمة البشريين، كما ذكر اعلاه، أن يضيفا تسميات أخرى تلائمهم

وكذلك الامر في ما يخص تسميات طغماتهم، فأنها مسلمة الينا من قبل الروح. أما بخصوص كثرتهم وعدم امكانية تعدادهم، فالروح أيضاً قرب ذلك الى مفاهيم البشر بقوله: أن عددهم كعدد الكواكب التي لا حصر لها، فقيل عنها، أنها آلاف آلاف وربوات ربوات. بينما هي أضعاف مضاعفة لما قيل. وقصد – بهذا – عدم امكانية ادراكهم، وعجز النطق البشري وعدم الحاجة الى معرفة العدد أكثر مما حدد. فليس بمقدور أية أمة أو لغة في العالم تحديد عدد أكثر أو أفضل من “ربوات ربوات”، مهما ابتكروا من تسميات أو أسماء أعداد

فبالنسبة الى خلقة وطبيعة تلك الكائنات السماوية والروحانية وغير الجسدية، والى معرفتهم وعملهم، والى رتبهم وتنظيمهم وتسمياتهم العامة، وكثرة عددهم غير المدرك، فقد أوضحت ذلك كله بما فيه الكفاية وبحسب طاقتنا. فهذا ما علي أن أقوله، وما عليك أن تسمعه وتقبله

هل الملائكة متغيرون أم ثابتون

وتتجه الكلمة الآن الى محاولة البحث عن نوعية سلطات ارادتهم الذاتية، فيما إذا كانت قابلة للتغيير أم غير قابلة للتغيير البتة ؟ وهنا لا بد من وقفة، حبا بالبحث والعلم وزيادة للفائدة. فأقول: أنه بناء على خضوعهم وحصر ارادتهم بالله، يبدو أنهم غير متغيرين، ومتزعزعين اطلاقا، في ارادتهم كما في طبعهم. وهم لا ينحرفون البتة عن النظر نحو خالقهم. بيد أني أريد أن أبدي رأيا مغايراً لهذا الرأي بعض الشيء. فأقول: أنهم قد يتغيرون بل وينحرفون بسهولة، لأن لهم سلطاناً ذاتياً ليتحركوا نحو ما يريدون. وأيضاً من جهة ذاك الذي سقط منهم وصار متغيراً ومنحرفاً عن مقامه، ومضاداً لله خالقه ومتمرداً عليه، لذلك دعي بالعبرانية “شيطاناً” فهذا، إذ نظر الى عظمة ومجد طبعه، وما حصل عليه من قوة وحدة وذكاء، وبحسب ما جاء عنه في الاسفار الالهية، من أنه خلق للخدمة الى جانب الكروب في جبل الله المقدس، وكان يضيء من خلال الحجارة النورانية، مثل كوكب الصبح، أكثر من سائر الكواكب العاقلة التي تستمد النور الالهي: ابتلي بمرض الكبرياء، بارادته وفكره فتمرد على الله وعاداه، وكان يقول. من مثلي ؟ ومن هو الاله الذي يشبهني. من يضار عني بالعظمة والقوة، وهل هناك إله آخر غيري ؟ وإذ استكبر قلبه بسبب جماله ومعرفته، أخذ يفكر بتمرد وكبرياء قائلا: أني أصعد الى السماء فوق السحب وأصير مشابهاً للعلي. وإذ كان يفكر جدياً بهذا، تولد فيه الاثم والتمرد على الله خالقه. ففسد جماله ومعرفته، وفسخ من جبل الله، وقذف به بعنف من بين الأحجار النورانية بسبب كثرة إثمه، وصار ظلاماً وحرم نظرة الملائكة واستمداد النور والمعرفة الآلهية وطرح الى الأرض كمتمرد وضد الله، ودعي شيطاناً وشريراً، فبسبب سقوطه هذا وانقلابه من النور الى الظلام، وانتقاله من الخير الى الشر، ومن عبادة الله الى التمرد والعصيان، فأني أجزم بأنهم متغيرون ومنحرفون ومهزوزو الارادة، وربما الطبع أيضاً

أذن واحد فقط هو الكامل أبداً وغير متغير بطبعه، ذاك الذي لا بداية له ولا يطرأ تغيير على طبيعته. أما الذين كان لوجودهم بداية، فلا غرو أن يكونوا متغيرين بطبعهم. فلدى تأملنا بهذه النتيجة الحتمية نجزم بأنهم متغيرون بالطبع باعتبارهم مخلوقين

وإذ رأى أولئك الآخرون، سقوط ذاك وخضوعه للظلام وحرمانه المعرفة بسبب تغيره وتمرده، أصبحوا أكثر رسوخاً وثباتاً وحذراً. وكثيراً ما يحدث مثل هذا الأمر بيننا. فأن الكثيرين يتعظون ويرجعون الى الصواب خوفاً من التأديب الذي يحل بالآخرين. فنحن لا ننعت هؤلاء بالمتزعزعين أو المتغيرين، بل بالعكس أنهم غير متغيرين ولا منحرفين، ومن الأصح أن نصفهم بما لا يحتمل الطعن، بأنهم صعبوا المراس. فهم لا يستسلمون أو تفتر عزيمتهم، نظراً الى ثبات أحداقهم نحو النور مرسلهم وخالقهم ومضيئهم ومديرهم وحافظهم. ويتناول البحث أيضاً أولئك الذين لهم سلطان الارادة الذاتية، شأنه في ذلك شأن سائر الأمور الأخرى

فهل أن الشيطان المارد. منذ الوهلة الأولى لخلقته، قد تأمل عظمة طبعه. فأشاح نظره عن خالقه وابتلى بمرض الكبرياء فتمرد وأظلم وصار غريبا عن الله وعن صنفه، أو أن ذلك قد تم بعد فترة طويلة من خلقه ؟ وهل مكث فترة في المقام والرتبة الملائكية والاستنارة الالهية، أم انه تغير وسقط منذ البداية ؟. نجيب: أن هذا الأمر قد حجب عنا، وهو أسمى من أن يدركه الطبع البشري. فهو اسمى منا، فلا يليق بنا أن نجتازه. وباعتقادي، فأن هذا ليس حتى من شأن الذين نتحدث عنهم أنفسهم. وان ما يعرف حق المعرفة هو: إذا كان الله قد ربط بسلطانه الخاص. الأزمنة والأوقات التي تحدد مسيرة الجنس البشري، بدوران الشمس، وحجب المعرفة والعدد حتى عن العقول المستنيرة، فكيف نجرؤ أن نقول، أنهم يمتلكون معرفة عدد وفترة الزمن الذي تحدد مع خلقتهم، قبل أن يخلق الله هذه الخليقة المحسوسة ؟. لذلك فليس بوسعنا أن ندرك أو نتحدث عن الفترة ما بين خلقتهم وسقوط ذاك. ولا عن المدة التي بين سقوط المتمرد وحى حسن لله أن يخلق هذه الخليقة المنظورة والانسان. فأن موسى العالم بأسرار الخالق، لم يشر بكلمة موجزة كانت أم مسهبة الى الخليقة العاقلة، وان جل ما أوحى به الروح العالم بكل شيء، في الكتب المقدسة، هو كونهم مخلوقين كعقول مقدسة وغير هيولية. أما متى خلقت أو بأية مدة سبقوا الخليقة المحسوسة، فهذا ما لم يطلعنا عليه البتة. لذلك لا يجدر بنا ولا يتطلب منا أن نتفحص هذا الأمر. فليس كل الأمور هي من شأننا، وحتى من شأن الملائكة الشبيهين بالله. فذاك هو شأن الله وحده، فالسرائر هي لله فقط، كما تقول الأسفار المقدسة الموحى بها من قبل الروح، أما المعلنات فلنا ولبنينا وللجنس البشري كله

وهنا أود أن أتساءل عن الطغمات التي منها سقط ذاك وطرح وجرد عن مقام الطغمة الملائكية، فأقول: ما الذي يمتلكه أولئك دونه ؟ وأجيب: أن هؤلاء بوسعهم أن يقتبلوا أشعة النور الآلهي دائماً، وأن ينظروه ويعرفوه، وأن يتمتعوا بلذة مجده وعظيم بهائه، وأن يروا كل ما هو لنا. أما هو فقد حرم كل هذه، ولا يجوز له أن يرى أحدها أو يشترك بها منذ اللحظة التي فيها انطفأ نوره. وليس له أيضاً أن يعرف أو يدرك ما لنا من أفكار، باستثناء ما يحاول أن يعرفه عن طريق العرافين المتشبهين به. أو ما سبق فعرفه عنا، أو ما زرعه فينا هو بذاته من قبل، وهو يتوقع أن يرى ثمار ذلك. فهذا ما يمتلكه كل من هذا وأولئك. وهذا، أيضاً كل ما كان بوسع كلمتي الضعيفة أن توضحه وهو ما يمكن أن تعرفه أيها الابن العزيز، محب الحق، عن خلقة وطبيعة تلك العقول المخلوقة والمشابهة للعقل الأعظم والأول. وكذلك بالنسبة الى معرفتهم وعملهم ورتبهم وتنظيمهم وخدمتهم وقوتهم وسرعتهم واستنارتهم بالنور الأعظم والأول، وثباتهم ورسوخ مقامهم وتواضعهم، وعدم انحراف نظرهم عن خالقهم

قسطنطين: هذه كلها أخذتها من حديثك، وأعترف بأنها اشبعت درساً. وأود أن أضع ما كتب عنهم في الأسفار الآلهية الموحى بها من الروح، جنباً الى جانب مع حديثك، آملاً أن أتمكن من استيعابها بالاستناد الى حديثك يا موجه ومرشد تفكيري الضعيف

يعقوب: بعون الله، سأعمل ما في وسعي من أجل ارضائك، وسأسرد الكلام تباعاً وبصورة مفصلة بمقتضى ما جاء في الأسفار الآلهية. وأوضح خاصة مزايا أولئك القديسين غير المتغيرين، وتلك التي لذاك المتغير الفاسد، كما هو مفصل وموضح أيضاً في الكتاب المقدس الموحى من الروح

مزايا الأرواح

ففي السفر المقدس الذي كتبه موسى: لم ينبس الروح ببنت شفة واحدة عن خلقة الكائنات المقدسة، في حين أنه يتكلم عن المتمرد الشرير الذي سقط، والذي كناه، نظراً الى شره، بالحية في كلامه الرمزي عن الفردوس. حيث قال: “وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الاله، فقالت للمرأة: أحقاً قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة ؟ فقالت المرأة للحية: من ثمر الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله: لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا. فقالت الحية للمرأة: لن تموتا، بل الله عالم أنه يوم تأكلا منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر”. بمثل هذا الكلام يتحدث الكتاب عن ذاك الذي خلق صالحاً كسائر العقول الصالحة عابدة الله، والذي بارادته صار شريراً ومعادياً لله، ولذلك سمي شيطاناً. وأظهر عظم شره، وتعاليه على الله وحسده للانسان. ولذلك يسمى ثلاباً وحاسداً ومبغضاً للناس. فنعته اذن بالحية كان عادلاً وملائماً. فإذا كان البشر الناطقون والمخلوقون على صورة الله، لم تراع كرامتهم، بل شبهوا بالبهائم غير العاقلة، فكم بالحري ذاك الذي خلق صالحاً وانقلب شريراً بارادته، أن ينعت بالحية التي هي أكثر شراً وحيلة وضراراً من سائر الحيوانات على الأرض. أنه حاذق كمحتال ومضل، وشرير لكونه تعالى على الله، وضار قاتل الناس لأنه حسدهم وأضلهم، وعمل على حرمانهم من سعادة الفردوس ومتعته

الملائكة في التوراة

وكتب أيضاً في سفر موسى نفسه: لما كان يعقوب في حران “رأى حلماً وإذا سلم منصوبة على الأرض ورأسها يمس السماء، وهوذا ملائكة الله صاعدة ونازلة عليها، وهوذا الرب واقف عليها”، بهذه الكلمات يتنبأ بصورة رمزية عما كان عتيداً أن يكون من تدبير المسيح حيث شبهه بما رأى في الحلم، مظهراً كرامة تجسد الله وتأنسه، عندما ينزل ويظهر على الأرض، وسوف تكون قوات الملائكة القديسين الذين يدركون هذا، خداماً ومبشرين للناس ولبعضهم البعض في نزوله وصعوده. ولما صعد يعقوب من حران، والخوف يساوره من أخيه عيسو، يقول الكتاب المقدس “فرفع يعقوب عينيه ورأى جيش الله ولاقاه ملائكة الله”، وإذ رآهم قال: “هذا جيش الله فدعا اسم ذلك المكان محنايم”. وقد أراد الله من هذا النظر، ألا يخاف يعقوب عيسو أخاه. وجاء في المزامير: “أن جيشاً من ملائكة الرب تحيط بخائفيه… الخ وتنجيهم من الشرور”. وإذ تأكد يعقوب من مغزى ما رأى، دعا اسم ذلك المكان “جيش الله”، لأنه رأى هناك القوات الملائكية القديسين الذين كانوا يحيطون به، مثل جيوش لجبة. وما زال العبرانيون يدعون ذلك المكان محنايم، وقد أقاموا فيه مدينة شهيرة ومعروفة ومحصنة، التجأ إليها داود النبي عندما هرب من أمام وجه ابنه أبيشالوم

وقد روى الروح الموحي في سفر خروج بني اسرائيل من مصر: أن الله عندما أرسل موسى الى مصر لينقذ اسرائيل من عبودية المصريين، لقيه ملاك الرب وهو في النزل وأراد قتله، يقول: “فأخذت صفورة حجر صوان وقطعت غرلة ابنها ومست رجليه وقالت أنك عرس دم لي” فأنطلق عنها الملاك لأنها قالت “عرس دم من أجل ختان أبني”. وقد أراد بهذا الكلام أن يشير إلى المتمرد وضد الله ومبغض البشر الذي حاول أن يقتل موسى لئلا ينجو اسرائيل. ولم يقصد أياً من الملائكة القديسين المدعوين خداماً وصانعي مشيئته. ويجب ألا نستغرب من تسميته ملاك الرب، لأننا نجد أولئك الأعداء يدعون ملائكة الرب وأرواحاً من الله في أماكن عديدة من الكتاب المقدس. فلملاك الذي قتل أبكار المصريين ومن رافقه من المهلكين، دعاهم الروح ملائكة ومرسلين أشراراً. إذ قال: أرسل اليهم حمى غضبه، أرسل حمى الغضب والضيق بواسطة ملاك شرير، وقد كتب عن هذا: أن الله لم يسمح له أن يدخل بيوت العبرانيين ويهلك. وعندما كان موسى يقيم خيمة الشهادة، سمع الله يأمره قائلاً: وتصنع كروبيم، مشيراً بذلك إلى الكروبيم القديسين، العقول الطاهرة والمستنيرة الذين يرضون خالقهم بخدمتهم

وفي سفر التثنية يقول موسى: “أني أنصب تخوماً للشعوب كعدد ملائكة الله”. وهو هنا يدعو رؤساء الملائكة، ملائكة الله الذين أقامهم الله بعد الطوفان رؤساء ومتسلطين على كل شعب من الشعوب حينما ميز البشر عن بعضهم البعض بتقسيمهم أمماً وشعوباً. وفي السفر نفسه وبذات لهجة التكريم، يقول موسى: “لتبتهج معه السماء وليسجد له جميع ملائكة الله”، معلناً بهذا أن جميع تلك العقول السماوية وقوات الملائكة كانوا عتيدين أن يفرحوا معها عندما سيدخل ابنه البكر إلى أرض البشر، فيرونه بالجسد ويعرفون أنه هو رب المجد فيسجدون له. أما أولئك فبسبب نزوله الى الأرض، وأما هؤلاء فلصعوده إلى السماء. فعن طريق المعرفة المتشعبة يكشف عن حكمته الفائقة للرئاسات والسلاطين في السماء، كقول بولس. أما موسى العظيم والحكيم فلم يأت على ذكر القوات العلوية وغير الهيولية، في أسفار الشريعة، بأكثر من هذه الكلمات. وفي قصة أيوب البار، وبأسلوب متقن وحكيم، وبقدر ما يستوعبه فهم السامعين. جاء قوله: “وكان ذات يوم أن جاء بنو الله ليمثلوا أمام الرب وجاء الشيطان أيضاً في وسطهم ليمثل أمام الرب فقال الرب للشيطان: من أين أتيت ؟ فأجاب الشيطان الرب… ثم قال له: هل جعلت قلبك على عبدي أيوب لأنه ليس مثله في الأرض، رجل كامل ومستقيم يتقي الله”. فلسلمه الله إليه ليضرب أولاده وبناته وممتلكاته وأخيراً جسمه. واستناداً إلى ما طتب باحكام وبأسلوب شعري كما نفعل نحن، نعلن للجميع، أنه بسماح من الله تمت تجربة أيوب … ويقول على لسان اليفاز: “الى ملائكته ينسب حماقة، فكم بالحري سكان بيوت من طين الذين أساسهم في التراب …”. نحن أيضاً مثل أولئك مبنيون من ذات التراب ويسحقون مثل العت، وينحنون أمام الزوابع، وبين الصباح والمساء يحطمون. هذا ما قاله الروح بفم اليفاز: “إذا كان الله لم يأتمن كلياً عبيده الملائكة ولم يمنحهم، لدى خلقتهم، كمالاً في الثبات وعدم التغيير، ولم يعصمهم عن الانحراف والخطيئة، فكيف يمكن للبشر ساكني الطين، ألا يخطئوا أو يذنبوا؟” هذا ما طرحه اليفاز أمام أيوب الذي قال: أن الرب ضربني دون ذنب، ثم أردف يقول له: “فهل لك من مجيب؟ أو الى أي من الملائكة القديسين تلتفت؟ “. وقد أراد أن يوضح له: أن ليس من انسان يستجيب لك وأنت تكتئب. لا ولا أحد من الملائكة القديسين يلتفت إليك لكونهم مخلوقين، لا تتوقع أن ترى الله غير المنظور ليتحدث اليك، لأن الغضب يقتل الجاهل، والحقد يقتل الساخر. ويتحدث اليفاز ثانية إلى أيوب وبنفس اللهجة، متخذاً الملائكة القديسين مثالاً، ليؤكد أن لا انسان بلا ذنب أو خطيئة فيقول: “هو ذا قديسوه لا يأتمنهم والسموات غير طاهرة بعينيه، فبالأحرى مكروه وفاسد الانسان الشارب الاثم كالماء”. ويذكر الروح المجاهد الملائكة على لسان اليهو وهو يبدي اشمئزازه من الانسان الآثم، فيقول: “أيضاً يؤدب بالوجع على مضجعه ومخاصمة عظامه دائمة، فتكره حياته خبزاً، ونفسه الطعام الشهي، فيبلى لحمه عن العيان وتنبري عظامه فلا ترى، وتقرب نفسه إلى القبر وحياته الى المميتين، أن وجد عنده مرسل وسيط واحد من ألف ليعلن للانسان استقامته…”

يوضح هكذا أنه سواء كانوا ملائكة قديسين أرسلوا من قبل الله من أجل من سبب الغضب، أم كانوا أبالسة متمردين، يؤمرون أحياناً بسبب الغضب إذا ما كان الذي قد سبب الغضب يرجع سائلاً الله التوبة، فأنهم لا يقوون على المساس به، لأن الله قد ترحم عليه فمنعهم عنه، هذا ما يقوله بالنسبة إلى من يخطىء فيتوب إلى الرب. أما بالنسبة إلى الآثمة الذين يرفضون معرفة الرب، ولا ينتصحون بالكلمة فيقول: “أما فجار القلب فيدخرون غضباً، لا يستغيثون إذا هو قيدهم، تموت نفسهم في الصبا وحياتهم بين المأبونين. ينجي البائس في ذله ويفتح آذانهم في الضيق”. بهذه الكلمات يوضح جلياً متى ينجو الانسان لما يستغيث، ومتى لا يستجاب ولا ينجو. وفي حديثه إلى أيوب، يقول عندما تراءى له، يقول الله: “عندما صنعت الكواكب مجدني ملائكتي بصوت عظيم”. وقد عني بهذا أنه: عندما فوجىء الملائكة القديسون بخلق النور المحسوس وكواكب السماء، الأمر الذي لم يكن قد رأوه بعد، أخذتهم الدهشة من هذا المنظر الجديد العجيب، فمجدوا الله الخالق. وعندما يتحدث عن الحوت الضخم في الماء أي التنين، سواء المحسوس أو العاقل (ابليس) يقول: “ليس له مثيل على الأرض”. من وضع لسخرية ملائكتي، وهو يريد أن يقول: إذا كان ذلك المحسوس في الماء تسخر منه الملائكة وهي تراه يغتاظ من حيوانات البحر الصغيرة، وتنهشه دون أن يتمكن من نيلها، فكم بالأحرى ذاك التنين الأعظم الذي يتحدث عنه الروح، التنين العاقل والمتمرد، الذي مع كل جبروته، هو موضوع هزء وسخرية البشر الناطقين الذين يستهزئون به عدلاً وحقاً

الملائكة في المزامير

وبلسان موسى، يأتي الروح الموحي، إلى ذكر الملائكة القديسين الذين خلقوا كائنات طاهرة ومستنيرة شبيهة بالكائن الأعظم والأول، والنور الأزلي القدوس الأكثر طهراً، ويوجز مرتل الروح داود الملك، الكلام عن الانسان بصيغة تعجب وتساؤل فيقول: “من هو الانسان حتى تذكره وابن آدم حتى تفتقده وتنقصه قليلاً عن الملائكة وبمجد وبهاء تكلله، تسلطه على أعمال يديك”. أن هذا الكلام ينسب حرفياً للانسان، وروحياً للمسيح الذي صار انساناً من أجل خلاصنا. وقد وصف الانسان بأنه أقل قليلاً من الملائكة، لأن عقله مجبول بالطين، ومختلط بالمادة الكثيفة، في الوقت الذي هو قرين للعقول السماوية، وهو مثلهم صورة الله وشبهه. وعن المسيح، كلمة الله، يقال أنه نقص قليلاً من الملائكة، لأنه صار انساناً حقاً من أجلنا، وتشبه بنا في كل شيء ما عدا الخطيئة. إذ قبل بارادته كل ما هو لنا. وهذا ما يعلمنا اباه أيضاً بولس الالهي إذ يقول: “الذي وضع قليلاً عن الملائكة هو يسوع، من أجل ألم موته”. وفي مزمور آخر يقول: تكلم الله و “ركب على كروب وطار وهف على أجنحة الرياح”. وفي مزمور آخر: “يا جالساً على الكروبيم، أشرق” و “هو جالس على الكروبيم تتزلزل الأرض”، فأنه استمد هذا مما اعتدنا عليه بالنسبة إلى المطايا. ومما جاء في ناموس موسى الذي قال: أن الكروبيم هم مركبة الله.
حيث وضعهم في قدس الاقداس فوق غطاء قبة الشهادة وتابوت عهد الله الخالق القوي الذي ليس بحاجة إلى أية مركبة، بل هو حامل الكل بقوة كلمته، وربما كان يشير رمزيا إلى حادثة نزوله إلى الأرض وتدبيره الخلاصي الفائق الوصف بين البشر. وفي اشارة إلى صعوده، يذكر بتجلة في مزمور آخر، أولئك الذين يأمر بعضهم البعض (الملائكة)، معبراً عنهم بـ “فتح الأبواب” كما هي الحال بالنسبة إلى المأمورين بفتح الأبواب أمام ملوك الأرض حيث يقول: “أرفعن أيتها الارتاج رؤوسكن وارتفعن أيتها الأبواب الدهريات فيدخل ملك المجد. فهؤلاء الذين سبقوا فوقفوا على السر لدى نزوله، وقد رافقوه في صعوده أيضاً، لهم سلطان الأمر. أما الباقون الذين لم يقفوا على السر، فيسألون قادتهم قائلين: من ملك المجد هذا؟ فيجيب أولئك على الفور وبكل استعداد ولياقة قائلين: أنه الرب القوي الجبار، القوي في القتال”. ثم يأمرون السائلين ذاتهم ويقولون: ارفعن أيتها الارتاج رؤوسكن، وارتفعن أيتها الأبواب الدهريات ليدخل ملك المجد. ثم يسأل أولئك ثانية بدهشة قائلين: ومن هو ملك المجد هذا؟. فيوضح الآخرون بشكل أقوى: أنه رب الجنود الذي هو ملك المجد

وفي مزمور آخر يتحدث عنهم وعن خلقتهم بوضوح أكثر فيقول: “بكلمة الله صنعت السموات وبنسمة فيه كل جنودها”. مظهراً بهذا أنهم مخلوقون، وصنع الأيدي، ويعرفون بالقوات السماوية. وقد خلقهم كلمة الله الابن، صانع الكل الذي يدعى أيضاً ملك القوات (أي ملكهم)، كما أن روح الله المساوي للأب ولكلمته هو الآخر خالق وصانع. وبهم، يوجدون ويستمرون ويستنيرون. ويقول في مزمور آخر “جيش ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم “. وأراد بذلك: أنه نظراً لكونهم صالحين وخدام الله، فأنه، منة منه للبشر ولطفاً، جعلهم حراساً لنا ليحرسونا من الشياطين والخصوم الآخرين الذين يصادفون في الخارج. وفي مزمور آخر، إذ أراد أن يظهر حبه لهم كما هو لنا، وانتماءهم إلى الله، منحهم صفة البنين، فيقول: “لأنه من في سماء السموات يعادل الرب، من يشبه الرب من أبناء الله”، فأنه قصد هنا طغمة الملائكة القديسين أو الرعود كما في نسخ أخرى. حيث أن أسم “السموات” قد أطلق عليهم مرات عديدة في الكتاب الإلهي. وفي مزمور آخر يتكلم عن الانسان الذي يحرسه الملائكة القديسون، وفي الوقت نفسه يشير رمزياً إلى المسيح العتيد أن يتجسد ويصير إنساناً، ويحتمل كل شيء من أجلنا، فيقول: “لا يلاقيك شر ولا تدنو ضربه من خيمتك، لأنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك، على الأيدي يحملونك…” وفي أحد المزامير يوصيهم الروح المرتل أن يسجدوا للمسيح الذي ظهر بالجسد وملك على جميع الشعوب، وأدركوا تدبيره الحكيم من أجل خلاصنا، من كنيسة الذين خلصهم ونظروه صاعداً بالجسد عند أبيه، إذ يقول: “اسجدوا له يا جميع ملائكته”. وفي مزمور آخر يوصيهم قائلاً: “باركوا الرب يا ملائكته المقتدرين، قوة الفاعلين أمره عند سماع صوت كلامه، باركوا الرب يا جميع جنوده خدامه العاملين مرضاته”، مظهراً بهذا، أنهم هم وحدهم من دون سائر المخلوقات، قادرون أن يعملوا مرضاته ويسمعوا صوت كلامه، وأن يكونوا خداماً يعملون مرضاته كاملة، باعتبارهم جنوداً سريعي الحركة بطبعهم. ومحررين من كثافة المادة الجسدية. وفي مزمور قال يتحدث عنهم مشيراً إلى سرعة طبيعتهم الهائلة وغيرتهم الوقادة، لدى ممارسة أية خدمة، أو تنفيذ أوامر خالقهم، فيقول “الصانع ملائكته رياحاً وخدامه ناراً ملتهبة”. فبقوله: “صنع”، اوضح أن الكلام ليس عن طبيعتهم، بل عن سرعتهم وغيرتهم فقط. فطبيعتهم ليست هذه النار أو الرياح، لأنهم بغير جسد. وفي مزمور آخر يأتي على ذكرهم، وهم واقفون إلى جانب الله، فيقول: “أمام الملائكة ارنم لك” و “اسجد في هيكل قدسك” و “اشكر اسمك”. وأراد أن يوضح بهذا، أن جميع خائفي الرب يرنمون له أمام الملائكة القديسين، ويسجدون له في الهيكل المقدس إلى جانب أولئك الجنود الروحيين، ويشكرون أسمه القدوس الممجد. وفي مزمور من أواخر المزامير، يوصي الخليقة كلها العاقلة منها والمحسوسة بأن تسبح الله الخالق، بما يتلاءم معه ويناسبه من تنظيم. فيبدأ بالسماء من فوق، أي من العقول السماوية ساكني السماء. فيحثهم قائلاً: “سبحوا الرب من السموات، سبحوه في الأعالي، سبحوه يا جميع ملائكته، سبحوه يا كل جنوده”، فأنه يدعو الجنود الأولين والاقربين إلى الله، سماء بل أعالي، نظراً إلى وداعتهم، وهم السرافيم والكروبيم الذين يستمدون أشعة النور الأولى والمستنيرة، من اللاهوت ومن نظرية المعرفة الأولى الكاملة

في سفر الملوك

وفي سفر الملوك، وعلى لسان داود المرتل الملك، ذكر الروح الموحي، تلك العقول السماوية الشبيهة بالله، بقوله: “فجعل الرب وباء في اسرائيل من الصباح إلى الميعاد فمات من الشعب من دان إلى بئر سبع سبعون ألف رجل. وبسط الملاك يده على أورشليم ليهلكها، فندم الرب عن الشر وقال للملاك المهلك الشعب، كفى الآن رد يدك. وكان ملاك الرب عند بيدر أرونة اليبوسي”. فبهذه الكلمات يعلن الروح عن قوة الملائكة وسرعتهم وغيرتهم الوقادة ضد الذين يأثمون في حق الله ويغضبونه. وحرصهم على خدمة وتنفيذ أوامر الله، الذي يظن بعضهم أنه هو كان هذا الملاك. كما يعلن عن شفقة الله ولطفه بالبشر، وسرعة ميله إلى الرحمة

وقد فعل سليمان مثلما فعل موسى، فصنع كروبيم يظللون في القدس فوق غطاء قبة الشهادة، مشيراً بذلك إلى خدمة ووداعة الكروبيم القديسين، تلك العقول الأولى والمستنيرة لقوات العلي”

لدى الأنبياء

ويستشف من كلام ميخا النبي، أنه، ومثلما هي عادة خدام الملك الأرضي، بتأثير كلام الانسان، يفيض رضى الله ويكثر تسامحه إلى درجة أن يغوي به أخاب الأثيم فيذهب إلى الحرب ويقتل. فقد قال: “قد رأيت الرب جالساً على كرسيه وكل جند السماء وقوف لديه عن يمينه وعن يساره”. وعبر بهذا عن استعدادهم الدائم لخدمة وتنفيذ أمره.
وعن صعود ايليا النبي إلى السماء يقول: “وفيما هما يسيران ويتكلمان إذا مركبة من نار وخيل من نار ففصلت بينهما فصعد ايليا في العاصمة إلى السماء”. وقد كان هذا ليس لأن لهم صورة الخيل أو المركبة، أو صورة جسدية، فهم كائنات غير هيولية ولا جسدية، ولهم صورة العقل الأكبر خالقهم غير المنظور وغير المدرك، بل لكي يجعل له كرامة كتلك التي نبذها الملوك العتاة الصلفون والمتكبرون الذين كانوا يحملون بأبهة على الخيل والمركبات الذهبية. وقال عن اليشع: “وصلى اليشع وقال: يا رب أفتح عينيه فيبصر، ففتح الرب عيني الغلام فأبصر وإذا الجبل مملوء خيلاً ومركبات، نار حول اليشع”. قارن هذا بما قاله داود: “جيش ملائكة الرب حال حول خائفيه وينجيهم من كل شر”. موضحاً أن خيولاً ومركبات نار محاطة بهم لحمايتهم، لكي يرى الصبي خيول ومركبات جيش الأدوميين وهي تحيط بهم، وهم يحاولون أن يمسكوا بها. وفي سفر الملوك نفسه يقول: “وكان في تلك الليلة أن ملاك الرب خرج وضرب من جيش أشور مئة ألف وخمسة وثمانين ألفاً، ولما بكروا صباحاً إذا هم جميعا جثث ميتة”.
وهذه أيضاً كتلك، تظهر قوتهم وسرعتهم وغيرتهم الشديدة، وحرصهم واستعدادهم لتنفيذ أمر سيدهم

وضمن الكلام الذي أودعه الروح الملهم سفر الملوك، يأتي على ذكر تلك القوات السماوية والملائكية، بل العقول الشبيهة بالله، كما يتحدث عنهم أيضاً الروح النبوي، على لسان أشعيا النبي، بواسطة الرؤيا التي رآها. ويقول: “في سنة وفاة عزيا الملك رأيت السيد جالساً على كرسي عال مرتفع وأذياله تملأ الهيكل، السرافيم واقفون فوقه لكل واحد ستة أجنحة باثنين يغطي وجهه. وباثنين يغطي رجليه، وباثنين يطير. وهذا نادى ذاك وقال: قدوس قدوس قدوس رب الجنود مجده ملء كل الأرض”. ومن الضروري أيضاح ما قيل هنا. فبحسب اعتقادي أن هذا الكلام يشير إلى ما يلي: يقول، في سنة وفاة عزيا الملك الذي تجاسر أن يدنو من الله الذي لا يدنى منه ولا يرى ولا يدرك من قبل المخلوقين، ويسعى إلى أمور غير مسموح بها له: فيضع البخور ويصعد الذبائح مثل الكهنة الهارونيين، ويفكر بالعظمة على اعتبار أنه ملك. رأيت الرب جالساً على كرسي عال ومرتفع مثل الذي به يملك الملوك، وهذا معنى قوله: لما مات ذاك الذي تجبر وتكبر وتجاسر بهذا المقدار، دون أن يوبخه أحد من الأنبياء، تراءى الله الذي يجلس على كرسي عال ومرتفع، ومنه يستمد الجنود سلطاناً للجلوس على الكراسي: ليوبخ الذي مات والذين لم يوبخوه. ويقول أيضاً أن البيت كان ملء مجده، كما كانت السماء والأرض كذلك. وقصد من قوله، أن السرافيم يحيطون به، توبيخ ذاك الذي تجبر إذ رأى الجنود يحيطون به وينفذون أوامره… ويقول: كان لكل واحد منهم ستة أجنحة، بأثنين يغطون الوجه، وبأثنين يغطون الأرجل والخ. فهذا لا يعني أن لهم فعلاً أجنحة أو شكلاً جسدياً، بل كذا تراءى للنبي. أما الأجنحة الستة فهي الأشارة إلى الجهات الست المليئة من مجد الخالق. وأراد باللذين يغطيان الوجه، حجبهم بصمت قدم الكمال الالهي الأزلي الذي للأب والابن والروح القدس. فالأجنحة هنا تشير إلى قدم العمل وسموه. وأراد باللذين يغطيان الأرجل أن يشير إلى السر الذي كان عتيداً أن يعلن في النهاية. وبذات الصمت يحجبون هذا ويجلونه، أما الأرجل فهي رمز إلى خاتمة الأمور ونهايتها. وبطيرانهم بجناحين، يشيرون، بصورة رمزية وسرية، إلى أن الكائنات الدائرة في فلك (مركز) هذا كله، دليل على عدم رؤية الله خالقهم. وبقوله: “قدوس” ثلاثاً، أراد أن يشير سرياً إلى انحجاب وعدم ادراك الثالوث الأقدس. وبقوله: السماء والأرض مملوءة من مجده، عنى أن السرافيم الأوائل وخدام المعرفة المتسامية المتكاملة هم المتسلطون، لأنهم هم أولا يقتبلون قبس أشعة معرفة الله الأولى الطاهرة والمستنيرة والمقدسة والفائقة بسطوعها، وهم الذين ينفذون أوامرها، وينقلون نور هذه المعرفة إلى الرتب الأخرى الأدنى، ويدللون على معرفتهم الكاملة بفضل موقعهم ومزاياهم

ويكشف الروح النبوي، بواسطة حزقيال النبي، عن منظر جسدي شبه مركبة أرضية، وشبه حيوانات تحيط بها، وعجلات تدور كالتي عندنا في الأرض. فهذه التي رآها مجتمعة وليس كل على انفراد، كانت تحمل سراً، وترمز إلى ما كان عتيداً أن يحدث في سر مخلصنا العظيم والممجد الذي تم في كنيسة المسيح المفتداة. ورأى حزقيال أيضاً، ستة رجال حاملين بأيديهم سلاح النقمة، وبينهم أخر لابساً بوصا ومتمنطقاً بنطاق اسمانجوني، قد صدر إليه أمر ليضع سمة بين أعين أولئك الرجال الذين شعروا بألم من أجل آثام اسرائيل، وذلك لكي يهلكوا بلا شفقة جميع الذين لم يوسموا. وهؤلاء كانوا ملائكة الرب ومنفذي أوامره وصانعي مشيئته بحسب ما يقول الروح المرنم … وكذلك الأمر بالنسبة إلى الرجل اللابس البوص الذي أمره الرب ليملأ حفنته خمراً ويذرها على المدينة، فجاء ووقف إلى جانب المركبات ولم يرحل. بيد أن أحد الكروبيم بسط إليه يده وأخذ ناراً وألقاها في حفنة الرجل اللابس البوص. وهذا يشير إلى أولوية الكروبيم وسموهم

ويتحدث الروح النبوي بلسان زكريا النبي، عن الملائكة الخدام الذين تراءوا له ويقول: فالراكب على فرس أحمر الذي كان يقف بين الأشجار الوارفة، والذي كان ماسكاً بيده حبل قياس ليقيس أورشليم، وكلم زكريا النبي، والآخر الذي خرج للقائه، وقال له أجر وكلم هذا الغلام. فأنه يعلن بهذه الأحداث التي يتكلم عنها، أن الملائكة منذو ارادة الله. وهو الذي يرسلهم ليعلنوا لبني اسرائيل، بواسطة الأنبياء حجي وزكريا وملاخي، عن قرب دنو زمن تجديد أورشليم. وفي سفر دانيال، كثيراً ما يأتي على ذكر الملائكة بصور مختلفة: الروح النبوي ملهمهم ومرشدهم وقائدهم. فالفتيان الثلاثة الذين ألقوا في أتون نار متقدة، وهم يباركون الله ويعترفون له بخطاياهم وخطايا آبائهم قائلين: مبارك أنت الذي تنظر اللجج وتجلس على الكروبيم، باركوا الرب يا جميع ملائكته. باركوا الرب يا جميع قواته: يصفون الرب بالجالس على الكروبيم، بحسب العادة المألوفة لدى العبرانيين وموسى وداود وسليمان، ويطلقون اسم ملائكة وقوات على جميعهم سواسية، لأن جميعهم اشتركوا بهذه التسمية، وسائلوهم أن يباركوا الرب صحبة الخليقة كلها. فجميع الملائكة مرسلون، وهم يرسلون إلى الذين سيرثون الحياة كما كتب. وجميعهم جند جيش الملك خالقهم. والكتاب الالهي يسمى ملاكاً، ذاك الذي نزل إلى الأتون عند الفتيان، وزجر عنهم السلهبة، ولئن ذهب كثيرون من المفسرين إلى أنه ملاك المشورة العظمى، وربما هذا هو السبب الذي جعل الروح القدس أن يشبهه بلسان نبوخذ نصر، بأبن الله. وكذلك الملاك القديس الذي قال عنه الكتاب المقدس، بأنه نزل من السماء وهتف بقوة قائلاً: “اقطعوا الشجرة” فأنه كان يتحدث عن نبوخذ نصر الملك، بصفته أحد القوات السماوية. وكذلك، الذي تحدث عنه دانيال لداريوس الملك: “أن إلهي أرسل ملاكه واغلق فم الأسود فلم تهلكني”. والرجل الذي جاء إلى دانيال مأموراً مرات عديدة وفسر له الرؤيا كما أمر به، وميخائيل الذي وصف بأنه رئيس الأمة العبرية. والقديس الذي سمعه دانيال يتكلم، والرجل اللابس كتاناً وحقواه متمنطقان بالمجد والكرامة، وهو يقاتل ملك الفرس ووجهه كمنظر البرق وعيناه كمصباحي نار، وذراعاه ورجلاه كعين النحاس المصقول، وصوت كلامه كصوت جمهور، وأخبر دانيال عن مملكة اليونان. وذاك الذي أمسك حبقوق بشعر رأسه وجاء به إلى بابل عند دانيال. هؤلاء جميعاً كانوا رؤساء ملائكة وملائكة خدام وصانعي إرادة الله خالقهم وقائدهم، الذي قال عنه دانيال: “وضعت عروش وجلس القديم الأيام، لباسه أبيض كالثلج وشعر رأسه كالصوف النقي، عرشه لهيب نار وبكراته نار متقدة، نهر نار جرى وخرج من قدامه، ألوف ألوف تخدمه وربوات ربوات وقوف قدامه ” هؤلاء جميعاً هم مأمورو الله خالق الكل. وقد سماهم الكتاب المقدس ملائكة، وأن ألوف الألوف وربوات الربوات الذين رآها دانيال، لا يحدد عددهم، بل بالأحرى تشير إلى عدم ادراك أو احصاء أعدادهم الهائلة والفائقة لكل عدد…

هذه الخصائص والمؤشرات عن القوات الروحية والسماوية، أودعها أسفار العهد القديم، الروح موحي الناموس والأنبياء، الذي يعصمهم دائماً ويعمل فيهم ويقودهم، الروح الذي يدعى روح الله، وهو صانع وخالق مع الأب، ومساو له وللابن في الأزلية والسرمدية، أما أولئك فيدعوك إلى أرواح الله بصفة موفدين وأرواح خادمة…

في رسائل بولس
وبنفس هذه الصفة يذكرهم في العهد الجديد، الروح قائدهم ومرشدهم، ليس فقط على لسان الرسل والمبشرين، بل وعلى لسان كلمة الله العظيم يسوع المسيح خالقهم مع الأب والروح القدس ويقول عنهم الرسول الالهي بولس في رسالته إلى أهل رومية هكذا: “فأنا متيقن أنه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلية، ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا “… وفي الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس يقول الرسول: “فأني أرى أن الله أبرزنا نحن الرسل آخرين كأننا محكوم علينا بالموت، لأننا صرنا منظراً للعالم وللملائكة والناس”. وفي نفس الرسالة ومن خلال حديثه عن السلطان الذي أعطاه الله للمؤمنين يقول هكذا: “ألستم تعلمون أننا سندين ملائكة فبالأولى أمور هذه الحياة. فأن كان لكم محاكم في أمور هذه الحياة.. ألا تعلمون أنا ندين ملوكاً”. فالملائكة الذين ندينهم هم الشياطين الماردين الذين سقطوا من الرتبة الملائكية. ويقول أيضاً في نفس الرسالة وهو يضع تشريعاً لتغطية النساء رؤوسهن “لهذا ينبغي للمرأة أن يكون لها سلطان على رأسها من أجل الملائكة”. وبنفس التصور يقول، وهو يكتب إلى أهل كورنثوس عن المحبة: “أن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة ولكن ليس لي محبة فقد صرت نحاساً يطن أو صنجاً يرن”. وفي رسالته الثانية إليهم يقول: “ولا عجب فأن الشيطان نفسه يغير شكله إلى شبه ملاك نور. فليس عظيماً أن كان خدامه أيضاً يغيرون شكلهم كخدام للبر الذين نهايتهم تكون حسب أعمالهم”. فأنه يدعو الذين يعلمون الايمان المسيحي المستقيم، خدام البر. أما خدام ابليس فهم الهراطقة الذين يعملون ضد الايمان. وفي رسالته إلى أهل فلاطية يقول: “ولكن أن بشرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم به فليكن أناثيما”. ويقول لهم أيضاً: “لقد أعطي الناموس مرتباً بملائكة في يد وسيط”. فأنه يدعو المسيح “الوسيط” الذي أعطى الناموس بواسطة الملائكة حيث صار بتأنسه وسيطاً بين الله والإنسان، وفي رسالته إلى أهل افسس يقول عن المسيح: “وأجلسه عن يمينه في السماء فوق كل رئاسة وسلطان وقوة وسيادة وكل أسم يسمى”. فأنه، كما هو معروف، فوق العروش والكروبيم والسرافيم، هؤلاء الذين يعرفون بالخدام المتقدمين والأكثر سمواً. وفي رسالته إلى أهل كولوسي يكتب أيضاً عن المسيح فيقول: “الذي لنا فيه الفداء بدمه غفران الخطايا. الذي هو صورة الله غير المنظور بكر كل خليقة، فأنه فيه خلق الكل ما في السموات وما على الأرض، ما يرى وما لا يرى، سواء كان عروشاً أم سادات أم رياسات أم سلاطين، الكل به وله قد خلق”. وفي نفس الرسالة وفي حديثه أيضاً عن المسيح يأتي على ذكر الخدام فيقول: “الذي به أنتم أيضاً تنالون الكمال لأنه رئيس جميع الرياسات والسلاطين”. ويواصل الكلام عن المسيح في الرسالة نفسها ويقول: “إذ محا الصك الذي علينا في الفرائض، الذي كان ضداً لنا وقد رفعه من الوسط مسمراً اياه بالصليب”. ويضيف قائلاً: “إذ جرد الرياسات والسلاطين، أشهرهم جهاراً ظافراً بهم فيه”، فهنا يدعو الأبالسة الماردين خدام الشيطان الذين سقطوا من الرتبة الملائكية: رياسات وسلاطين

وكتب في رسالته إلى أهل تسالونيكي: “لأن الرب نفسه بهتاف بصوت رئيس الملائكة وبوق الله سوف ينزل من السماء”. وفي رسالته إلى طيموثاوس يكتب: “وبالاجماع عظيم هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد، تبرر في الروح تراءى لملائكة كرز به بين الأمم وأومن به في العالم رفع في المجد”. ويكرر ذكرهم كثيراً في رسالته إلى العبرانيين، ويقول في خلال حديثه عن المسيح: “صار أعظم من الملائكة بمقدار ما ورث اسماً أفضل منهم، لأنه لمن من الملائكة قال قط أنت ابني أنا اليوم ولدتك”. وأيضاً: “متى أدخل البكر إلى العالم يقول، لتسجد له كل ملائكة الله. وعن الملائكة يقول: “الصانع ملائكته رياحاً وخدامه لهيب نار”. وقال في الرسالة نفسها وهو يتكلم عن المسيح: “أنه لم يأخذ قط من الملائكة لكن أخذ من نسل ابراهيم”. وقد عنى بهذا، أن ليس للملائكة خطيئة ولا جسم أو جسد لكيما يحررهم من الخطيئة أو يأخذ منهم جسداً. ولكن الخطيئة كانت لآدم والذين منه، وكانت بحاجة إلى معالجة. ومن أجل هذا أخذ من نسل ابراهيم نفساً وجسداً لكيما يشفي خطيئة النفس والجسد، بجسد ذي نفس الذي أخذ. فأنه خلص الإنسان بكامله واقامه من السقطة. ويقول في الرسالة نفسها موجها كلامه إلى المؤمنين: “قد أتيتم إلى جبل صهيون وإلى مدينة الله الحي أورشليم السماوية، وإلى ربوات هم محفل ملائكة، وكنيسة أبكار مكتوبين في السموات”. هذا ما قاله وكتبه بولس عن الملائكة

وفي أعمال الرسل

وجاء عنهم في سفر أعمال الرسل: “ولما قال هذا أرتفع وهم ينظرون وأخذته سحابة عن أعينهم، وفيما كانوا يشخصون إلى السماء وهو منطلق إذا رجلان قد وقفا بهم بلباس أبيض وقالا: أيها الرجال الجليلون ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء. أن يسوع هذا الذي أرتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقاً إلى السماء. وضمن حديثه عن الرسل الذين كانوا في السجن، يقول لوقا الانجيلي: “ولكن ملاك الرب في الليل فتح أبواب السجن وأخرجهم قائلاً: اذهبوا قفوا وكلموا الشعب في الهيكل بجميع كلام هذه الحياة”. وفي حديثه عن الشماس الشهيد اسطيفانس يقول: “أن اليهود الذين كانوا ينظرون إليه رأوا وجهه كأنه وجه ملاك”. فقال عنه وهو يوجه كلامه إلى اليهود: “لقد اقتبلتم الناموس بواسطة الملائكة، غير أنكم لم تحفظوه. وفي حديثه عن الشماس المبشر فيلبس يقول: “ثم أن ملاك الرب كلم فيلبس قائلاً: قم واذهب نحو الجنوب على الطريق المنحدرة من أورشليم إلى غزة التي هي برية. فقام وذهب”. وفي حديثه عن كرنيليوس قائد مائة يقول: “أن هذا رأى طاهراً في رؤيا نحو الساعة التاسعة من النهار، ملاكاً من الله داخلاً إليه وقائلاً له: يا كورنيليوس. فلما شخص إليه ودخله الخوف، قال ماذا يا سيد. قال له صلواتك وصدقاتك قد صعدت تذكاراً أمام الله، والآن أرسل إلى يافا رجالا واستدع سمعان الملقب بطرس”. واستطرد قائلاً: فلما انطلق الملاك الذي كان يكلم كرنيليوس، نادى اثنين من خدامه وعسكرياً تقياً من الذين كانوا يلازمونه واخبرهم بكل شيء، فأرسلهم إلى يافا إلى سمعان بطرس، وقد قال له الروح: قم اذهب معهم إلى بيت كرنيليوس. ولما سأله بطرس عن سبب استدعائه، أجاب كرنيليوس: “كنت أصلي في بيتي وإذا رجل قد وقف أمامي بلباس لامع وقال: يا كرنيليوس سمعت صلاتك وذكرت صدقاتك أمام الله، فأرسل إلى يافا واستدع سمعان الملقب بطرس”، ويقول سمعان وهو يقص على التلاميذ في أورشليم ما صنعه الله بواسطته في بيت كرنيليوس: “فقد أخبرني أنه رأى ملاكاً في بيته”. هذه الأحداث كلها التي أوردها الكتاب، أشار بها إلى الملاك الذي ظهر لكرنيليوس

ولما كان في السجن، يقول عنه الكتاب المقدس: “كان بطرس نائماً بين عسكريين مربوطاً بسلسلتين، وكان قدام الباب حرس يحرسون السجن وإذا ملاك الرب أقبل ونور أضاء في البيت فضرب جنب بطرس وأيقظه قائلاً: قم عاجلاً فسقطت السلسلتان من يديه، وقال له الملاك تمنطق والبس نعليك”.. وكان يجهل أن ما جرى بواسطة الملاك كان حقيقة. وظن أنه يرى رؤيا.. فخرجا وتقدما زقاقاً واحداً وللوقت فارقه الملاك، ثم قال سمعان: “الآن علمت يقيناً أن الرب أرسل ملاكه وأنقذني من يد هيرودس الملك”. بهذه الكلمات يشير الكتاب إلى عظمة اقتدار الملائكة لدى تكليف الله إياهم لمساعدة المؤمنين

ويذكر الانجيلي كذلك في سفر أعمال الرسل، الشياطين الماردين وأعداء الله والانسان، أولئك المساوين بالطبع للملائكة القديسين، الذين تمردوا فسقطوا من الرتبة الملائكية. فيروي عن بولس، أن الشياطين كانوا يخرجون من الناس بأمره، “فشرع قوم من اليهود الطوافين المعزمين أن يسموا على الذين بهم الأرواح الشريرة باسم الرب يسوع قائلين: نقسم عليك بيسوع الذي يكرز به يونس”.
وقال عن بولس وهو يمثل امام قائد مئة في أورشليم متهماً من قبل اليهود، وقد علم أن الاتهام صدر عن الصدوقيين والفريسيين، “ولما علم بولس أن قسماً منهم صدوقيون وآخرون فريسيون صرخ في المجمع: أيها الرجال الاخوة أنا فريسي ابن فريسي على رجاء قيامة الأموات أنا أحاكم. ولما قال هذا حدثت منازعة بين الفريسيين والصدوقيين وانشقت الجماعة، لأن الصدوقيين يقولون أنه ليس قيامة ولا ملاك ولا روح. وأما الفريسيون فيقرون بكل ذلك”. ويقول الكتاب المقدس عن بولس أيضاً: “وإذ كانوا في نوء عظيم.. قال: وقف بي هذه الليلة ملاك الاله الذي أنا له وأنا أعبده، قائلاً: لا تخف يا بولس ينبغي لك أن تقف أمام قيصر”. فهذه الاحاديث عن الملائكة، قد سطرها كلها لوقا الالهي والانجيلي في سفر أعمال الرسل…

وفي الانجيل

وفي الاناجيل المقدسة أيضاً ورد ذكر الملائكة وأحداث عنهم منها: “فلما دخل زكريا إلى هيكل الرب، وكان كل جمهور الشعب يصلون خارجاً وقت البخور، فظهر له ملاك الرب واقفاً عن يمين مديح البخور. فلما رآه زكريا اضطرب ووقع عليه خوف. فقال له الملاك: لا تخف يا زكريا لأن طلبتك … فيقول زكريا للملاك: “كيف أعلم هذا. فأنا شيخ وامرأتي متقدمة في أيامها ؟ فأجاب الملاك وقال له: أنا جبرائيل الواقف قدام الله وأرسلت لاكلمك وأبشرك بهذا”. و “في الشهر السادس أرسل جبرائيل الملاك من عند الله إلى مدينة اسمها ناصرة، إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف… فدخل إليها الملاك وقال: سلام لك أيتها الممتلئة نعمة… ثم يقول الملاك: لا تخافي … فقالت مريم للملاك كيف يكون هذا وأنا لا أعرف رجلاً؟ فأجاب الملاك وقال لها: الروح القدس يحل عليك… فمضى من عندها الملاك”. و “يوسف رجلها إذ كان باراً لم يشأ أن يشهرها، أراد تخليتها سراً ولكن فيما هو مفكر في هذه الأمور إذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلاً: يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك… فلما استيقظ يوسف من النوم فعل كما أمره ملاك الرب”. ويقول أيضاً: “وكان في تلك الكورة رعاة يحرسون حراسات الليل على رعيتهم وإذ ملاك الرب وقف بهم ومجد الرب أضاء حولهم، وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوي مسبحين الله وقائلين… ” و “لما انصرف المجوس ظهر ملاك الرب ليوسف في حلم قائلاً: قم خذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر” … “ولما مات هيرودس إذا ملاك الرب قد ظهر في حلم ليوسف في مصر قائلاً: قم وخذ الصبي وأمه واذهب إلى أرض اسرائيل

وفي حادثة تجربة ابليس لالهنا، يقول الانجيل: “ثم أخذه ابليس إلى المدينة المقدسة وأوقفه على جناح الهيكل وقال له: أن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل، لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بك…” ثم يقول: “وتركه ابليس وإذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه”

ويرد كثيراً في الأناجيل المقدسة، ذكر الملائكة القديسين والشياطين الماردين الذين سقطوا من الرتبة الملائكية. مثل لجأون الذين دخلوا أحد الرجال، وكالذين كانوا في مجنونين وطلبوا أن يسمح لهم بدخول قطيع خنازير، ويقول السيد المسيح في تفسيره لتلاميذه مثل الزوان “الزارع الجيد هو ابن الانسان، والحقل هو العالم والزرع الجيد هو بنو الملكوت، والزوان هم بنو الشرير، والعدو الذي زرعه هو ابليس والحصاد هو انقضاء العالم، والحصادون هم الملائكة. فكما يجمع الزوان ويحرق بالنار هكذا يكون في انقضاء هذا العالم، يرسل ابن الانسان ملائكته فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر وفاعلي الاثم ويطرحونهم في أتون النار، ويميزون الأشرار عن الصالحين. وقال أيضاً “انظروا لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار لأني أقول لكم أن ملائكتهم في السموات” متى. وفي تأنيبه للصدوقيين قال: “ففي القيامة لا يتزوجون، بل يكونون مثل ملائكة السموات”. ويقول أيضاً “وينظرون ابن الانسان آتياً على سحاب السماء بقوة ومجد كثير، فيرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت مختاريه من الأربع الرياح من اقصى السموات إلى أقصاها … و “متى جاء ابن الانسان في مجده وجميع الملائكة القديسين معه فحينئذ يجلس على كرسي مجده ويجتمع معه جميع الشعوب”. ويقول الانجيلي عن المسيح: “أن ملاكاً ظهر له من السماء وهو يقف إلى جانبه ويقويه”. وإذ كان في الصراع كان يصلي بحرارة وقال لسمعان الذي استل السيف: “أتظن أني لا أستطيع الآن أن اطلب إلى أبي فيقدم لي أكثر من أثني عشر جيشاً من الملائكة”. وفي نهاية مثل الخروف الضال ومثل الأرملة التي فقدت أحد دراهمها العشرة، يضيف فيقول: “هكذا أقول لكم، يكون فرح قدام ملائكة الله بخاطىء واحد يتوب”. ويقول عن لعازر المسكين: “فمات المسكين وحملته الملائكة إلى حضن ابراهيم”. وفي سياق حديثه مع نثنائيل قال: “الحق أقول لكم من الآن ترون السماء مفتوحة وملائكة الله يصمدون وينزلون على ابن الانسان”. وفي كلامه عن بركة بيت حسدا. يقول الانجيلي: “أن ملاكاً كان ينزل أحياناً في البركة ويحرك الماء”. وعندما قال المسيح للأب: أيها الأب مجد اسمك، فجاء صوت من السماء مجدت وأمجد أيضاً. والجمع الذي كان واقفاً وسمع قال قد حدث رعد، وآخرون قالوا قد كلمه ملاك. وقال المسيح لبيلاطس: “لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلم إلى اليهود. ويقصد بخدامه هنا، الملائكة القديسين. كما قيل عنهم أنهم خدامه الذين يعملون مشيئته

وعن النسوة اللواتي أتين إلى قبر المسيح، يقول الانجيليون: أن ملائكة قديسين ظهروا لهن. لبعضهن ظهر اثنان، وللبعض واحد فقط. وقد تكون الثياب البيضاء التي ظهروا بها اشارة إلى استنارة طبعهم

بمثل هذه الكلمات المدونة والمسموعة بقدر ما يمكن أن تستوعبها المقدرة البشرية، بخصوص ذكر القوات الملائكية الروحية والسماوية الشبيهة بالله، والتي أودعها الكتب المقدسة: الروح القدس ملهمهم وقائدهم ومرشدهم. وقد اتضح جلياً من الكتب الالهية، أنهم مخلوقون، أما بالنسبة إلى زمن خلقهم وفترة أسبقيتهم في الخلق عن سائر خلائق العالم المنظور، أو لماذا لم يخلق العالم المحسوس واياهم سوية؟ ولم فترة زمنية بينهم ؟ ولماذا يتحدث موسى عن خلقتهم، وهو يتحدث عن خلقة هذا العالم ؟. لقد ظلت هذه الأمور محجوبة عنا دون أن توضح، وأعتقد أن هذا يصح أيضاً على الملائكة، لأنها خاصة بالله وحده. وما علينا سوى الأخذ بما كتب عنهم. وقد سبق وقلت: يكفينا أن نفكر ونقول: أن المعلنات لنا ولبنينا، أما السرائر فلله الخالق والعارف بكل شيء، ولكلمته الصانع وروحه القدوس الخالق والضابط الذي يعرف كل شيء، ويستقصي كل شيء حتى أعماق الله، له المجد والعز والسلطان، الآن وكل أوان وإلى أبد الآبدين آمين

انتهى المقال، في القوات الروحية المعروفة بالخلائق السماوية غير الجسدية