مقدمة
أما الفرس فأهل الشرف الشامخ. والعز الباذخ. وأوسط الأمم داراً. وأشرفهم إقليماً. وأسوسهم ملوكاً. تجمعهم وتدفع ظالمهم عن مظلومهم. وتحملهم من الأمور على ما فيه حظهم على اتصال ودوام. واحسن التئام وانتظام. وخواص الفرس عناية بالغة بصناعة الطب ومعرفة ثاقبة بأحكام النجوم. وكانت لهم أرصاد قديمة. وقال يعض علماء العجم : أول من ملك بعد الطوفان كيومرت من بني سام بن نوح وكان ينزل فارس.واتخذ الآلات لإصلاح الطرق وحفر الأنهار وذبح ما يؤكل من الحيوان وقتل السباع. وما زال الملك في ولده إلى أن ملك دارا بن دارا الذي غزاه الاسكندر وقتل في المعركة. ثم ملكت الاشكانية أولهم اشك. ثم اشك بن اشك وهو أول من تسمى بالشاهية. ودام الملك فيهم إلى أن ظهرت المملكة الساسانية أولهم اردشير بن بابك بن ساسان من بني كشتاسب. فأحسن السيرة وبسط العدل. وتوارث بنوه الملك إلى أن ملك يزجرد ابن شهريار بن قباذ بن فيروز بن هرمز بن كسرى انوشروان المعروف بالعادل. وهو آخر ملوك الفرس. فلما ملك انتقضت عليه الدول وتفاقمت أمورها وطلعت أعلام الإسلام بالنصرة وقتل كما يأتي شرح ذلك في موضعه
“ داريوش المادي “
واليونانيون يسمونه نابونبذس. ملك سنة واحدة. وقيل تسع سنين. وبه بطلت مملكة النبط الكلدانيين منتقلة إلى الفرس المجوس. وهذا الملك استولى على الملك وهو من أبناء اثنتين وستين سنة. وحسنت منزلة دانيال النبي عنده. وأقام في ولايته مائة وعشرين قائداً ورأس عليهم ثلاثة رجال أحدهم دانيال. وكان يرجع في سرائره إليه. فساء ذلك أرباب الدولة وجعلوا يطلبون عليه حجة يوقعونه بها عن مرتبته. فلم يظفروا منه بهفوة غير إنه يدين بغير دين الملك. فساروا إلى الملك وقالوا : إن دانيال يعبد إلهاً غريباً. وفي سنتنا أن من دان في أرضنا بدين غير ديننا وتعدى سنة أهل ماه وفارس قذف به في جب الأسد. فلما لم يقدر الملك على إبطال شريعة قومه تقدم بقذف دانيال في جب الأسد وقال له : إلهك ينجيك. وانصرف إلى منزله وبات طاوياً وطار عنه نومه إشفاقاً على دانيال. وكان حبقوق النبي في الشام قد طبخ طبيخاً ومضى يطعم الحواصيد فأخذه ملاك الرب بشعر رأسه ووضعه في بابل على فم الجب فقال : دانيال دانيال قم خذ الطعام الذي أنفذ لك ربك. فقال دانيال : ذكرني الله ولم يهملني. وأخذ الملاك لحبقوق ووضعه في موضعه. وجاء الملك داريوش بعد سبعة أيام ليبكي على دانيال لكثرة اهتمامه له. فلما دنا من الجب ناداه : يا دانيال هل قدر معبودك أن ينجيك من السباع. أجابه دانيال قائلاً : أيها الملك عش خالداً إن الهي بعث لي ملاكة وسد أفواه الأسد فلم تهلكني. فحسن موقع ذلك من الملك جداً وأخرج دانيال من الجب وألقى وشاته فيه مع نسائهم وبنيهم وذريتهم. فما استقروا في قرار الجب إلا ومزقتهم الأسد ورضت عظامهم رضاً
***
وفي هذا الزمان اشتهر فراخوديس مصنف القصص معلم فيثاغورس.
***
” كورش الفارسي ”
ملك إحدى وثلاثين سنة واستولى على ملك العراق وخراسان وأرمينية والشام وفلسطين وغزا بلاد الهند وقتل ملكها. هذا كورش تزوج أخت زوربابيل ابن شلاثيل بن يوياخين بن يوياقيم ملك يهوذا. ولما دخل بها ارتفعت عنده وقال لها : اطلبي مني ما شئت. فطلبت منه عود بني إسرائيل إلى أورشليم وأن يأذن لهم بعمارتها. فجمعهم كورش الملك وخيرهم قائلاً : من اختار الصعود فليصعد ومن أباه فليقم. فكان عدد مؤثري الصعود خمسين ألفاً من الرجال غير النساء والأولاد. فحصل زوربابيل ملكهم ويشوع بن يوزاداق كاهنهم. وعنهما قال ملاك الرب لزخريا النبي : إن هذين ابنا الدلال وهما يقومان بين يدي رب العالمين. فصعدت هذه الشرذمة من بني إسرائيل في السنة الأولى من ملك كورش إلى أورشليم وهموا بعمارتها. ولأن الفلسطينيين مجاوريهم اعنتوهم كان تشييدهم الهيكل على التراخي في ست وأربعين سنة كما قال يوحنا الإنجيلي. ولاختلاط كورش بنسل داود قال عنه اشعيا النبي قبل ولاده : قال الله لمسيحه كورش الذي عضدت بيمينه. وعظم كورش أيضاً شأن دانيال وفوض إليه سياسة ملكه. فغار لله غيرة وكسر الصنم المسمى بيل وقتل التنين معبود البابليين. فمقت ورمي في جب فيه سبعة أسد ونجا منها وهلك مبغضوه. ثم رأى الرؤيا على نهر الفرات وعرفه ملاك الرب مدة السنين التي بقين من السبي ومن ظهور السيد المسيح وآلامه وموته. ومات دانيال ودفن في قصر شوشن اعني مدينة ششتر
” قمباسوس بن كورش ”
ملك ثماني سنين. وفي أيامه كانت يهوديث المرأة العبرية التي احتالت على الفرنا الماجوجي صاحب جيش قمباسوس وقطعت رأسه وأمنت اليهود بأسه.
***
وفي هذا الزمان كان زرادشت معلم المجوسية وأصله من بلد أذربيجان. وقيل : من بلاد أثور. وقيل : إنه من تلامذة اليَّا النبي. وهو عرف الفرس بظهور السيد المسيح وأمرهم بحمل القرابين إليه وأخبرهم أن في آخر الزمان بكراً تحمل بجنين من غير أن يمسها رجل وعند ولادته يظهر كوكب يضيء بالنهار ويرى في وسطه صورة صبية عذراء. وانتم يا أولادي قبل كل الأمم تحسون بظهوره. فإذا شاهدتم الكوكب امضوا حيث يهديكم واسجدوا لذلك المولود وقربوا قرابينكم فهو الكلمة مقيمة السماء.
***
” داريوش بن بشتسب ”
ملك ستاً وثلاثين سنة على رأي قليميس واوسابيوس واندرونيقوس. وفي السنة الأولى من ملكه بالقرب من نجاز بنيان هيكل الرب بأورشليم أعني قبله بست سنين تمت السبعون سنة التي للسبي كما أوحى الله إلى ارميا النبي أن تبقى الأمة جالية ببابل. ويؤكد ذلك حجي وزخريا النبيان بابتهالهما إلى الله قائلين : حتام لا ترحم أورشليم وقد أتى على خرابها سبعون سنة. وذلك إذا عددناها مبتدئين من آخر ملك صدقيا وهي السنة الرابعة والعشرون من ملك بختنصر التي فيها احترق الهيكل وخربت أورشليم وجلي اليهود عن أوطانهم إلى بابل الجلاء الكلي. وأما افريقيانوس فإنه يعدها مبتدئاً من أول ملك صدقيا ليتم في أول ملك كورش عند إرساله الجماعة من بني إسرائيل إلى أورشليم وتقدمه إليهم بعمارتها
***
وفي هذا الزمان توفي فيثاغورس الحكيم ابن خمس وتسعين سنة. هذا جعل مبادئ الأكوان الأعداد بدليل أن المركبات مبادئها البسائط. ولا أبسط من الأعداد إذ كل ما عداها يلزمه التركيب من إضافة العدد إليه. واشتهر في الفلسفة ديموقراطيس وهو القائل بانحلال الأجسام إلى أجزاء لا تتجزأ. وديوجانيس الكلبي وكان قد راض أصحابه رياضة فارق فيها اصطلاح أهل المدن من اطراح التكليف. وكان أحدهم يتغوط غير مستتر عن الناس. ويقول فيما يأتيه من ذلك : لا يخلو إما أن يكون ما يفعله قبيحاً على الإطلاق فلا يحسن في موضع دون موضع وعلى صورة دون صورة. وإن كان مما يحسن في موضع دون موضع وعلى صورة دون صورة فهذا أمر اصطلاحي فلا أقف معه. وكانوا يحبون من قرب منهم ويكرهون من بعد عنهم. فقال أهل زمانهم : هذه الأفعال تشبه أفعال الكلاب فسموهم الكلبيين. ومن مشاهير هذا الزمان انكساغورس الطبيعي وفينذارس وسيموندس الموسيقيان وفروطوغورس واسوقراطيس السفسطانيان واريسطوفنيس وقحاليس الشاعران الهاجيان
وفي هذا الزمان أيضاً عرف ابقراط الطبيب. هذا كان يسكن مدينة حمص ويتردد إلى مدينة دمشق ويأوي إلى بستان كان له فيها ومكانه معروف إلى يومنا هذا في واد هناك يسمى النيرب. وكان رجلاً إلهياً يداوي المرضى مجاناً. وقد أحسن جالينوس في وصفه حيث قال : إن جالينوس أدبه الدرس وأبقراط أدبته الطبيعة. وقال أيضاً : إن ابقراط انغمس في الطبيعة وسرى معها حتى انتهى إلى أعماقها وأخبر عما شاهد هناك. وله من الكتب كتاب افوريسمون أي الفصول وكتاب بروغنوسطيقون أي تقدمة المعرفة وكتاب ابيذيميا أي الأمراض الوافدة وكتاب ماء الشعير وكتاب الأخلاط وكتاب قسطران أي كتاب المدن والماء والهواء وكتاب طبيعة الإنسان وكتاب شجاج الرأس وكتاب دياثيقي أي العهد
ومن الحكماء المعاصرين لابقراط فيليمون وكان عالماً في فن من فنون الطبيعة اعني الفراسة إذا رأى شخصاً استدل بتركيب أعضائه على أخلاقه. وله فيها كتاب عندنا نسخته بالسرياني. وحكي أنه اجتمع تلاميذ ابقراط وقال بعضهم لبعض : هل تعلمون في زماننا هذا أعلم من هذا الرجل يعنون ابقراط. فقالوا : لا. فقالوا : نمتحن به فيليمون فيما يدعي من الفراسة. فصوروا صورة ابقراط ثم نهضوا إلى فيليمون. وكانت يونان تحكم الصورة بحيث تحكيها على الوجه في قليل أمرها وكثيرها لأنهم كانوا يعبدون الصور فأحكموا لذلك التصور ويظهر التقصير في التصوير من غيرهم ظهوراً بيناً. فلما انهم حضروا عند فيليمون وقف على الصورة وتأملها وأنعم النظر فيها ثم قال : هذا رجل يحب الزنا. وهو لا يدري من هو المصور. فقالوا : كذبت هذه صورة ابقراط. فقال : لا بد لعلمي أن يصدق فاسألوه. فلما رجعوا إلى ابقراط واخبروه الخبر قال : صدق فيليمون أحب الزنا ولكن أملك نفسي
***
” احشيرش بن داريوش ”
ملك إحدى وعشرين سنة. وفي السنة الثانية من ملكه استولى على مصر. وبعد تسع سنين فتح مدينة اثيناس واحرقها. وقيل في زمانه كانت قضية استير العفيفة ومردخاي البار من أهل يهوذا. وهذا القول غير سديد وإلا لما أهمل ذكرها في كتاب عزرا المستوعب جميع ما جرى لليهود في زمان هذا الملك. والصحيح إنها جرت في أيام ارطحششت المدبر
” ارطبانس ”
ملك سبعة اشهر معدودة مع سني احشيرش
“ ارتحششت الطويل اليدين “
ويسمى أيضاً اريوخ. ملك إحدى وأربعين سنة. وفي سنة سبع من ملكه أمر عزرا الحبر وهو الذي تسميه العرب العزير أن يصعد إلى أورشليم ويجتهد في عمارتها. وفي سنة عشرين من ملكه أرسل نحميا الساقي الخصي أيضاً ليجد في ترميمها
***
وفي هذا الزمان لم يكن لليهود نار قدس لأنهم رموها في بئر وقت جلائهم. فأتوا بحمأة منها ووضعوها على حطب القربان فاشتعلت بأمر الله بعد أن طفئت مائة سنة وأربعين سنة بالتقريب. ولما رأى عزرا المعجز استف من سفساف تلك البئر ثلث سفات فأعطي منحة الروح القدس وأنطقه الله بجميع كتب الوحي وأعادها كما كانت
***
” احشيرش الثاني ”
ويسمى اردشير. ملك شهرين. ثم قتله سغدينوس وملك بعده مدة يسيرة
” سغدينوس ”
ملك سبعة أشهر وهي مع الشهرين المتقدمين معدودة مع سني اريوخ
” داريوش نوثوش ”
أي ابن الأمة. ملك تسع عشرة سنة. وفي سنة خمس عشرة من ملكه خلع المصريون ربقة طاعة الفرس من أعناقهم ونصبوا لهم ملكاً بعد مائة وأربع وعشرين سنة لتسلط الفرس عليهم
” ارطحششت الثاني ”
المعروف بالمدبر واليونانيون يسمونه ارطاكسراكسيس. ملك أربعين سنة وتزوج باستير العبرية الصالحة وصلب هامان العملقي الذي زاول زوال الجالية من بني إسرائيل. وذلك بدعاء استير ومردخاي الصديق صاحبها. وفي سنة خمس عشرة من مملكة هذا ارطحششت أخرب افريقيانوس قائد الإفرنج مدينة قرخيذونيا وسمي بلدها باسمه إفريقية
***
وفي هذا الزمان كان ميطن واقطمين وهما إمامان في علوم الفلك اجتمعا بالإسكندرية على أحكام آلات الارصاد ورصدا ما أحبا من الكواكب. وقيل أن بين زمانهما وبين بطليموس صاحب المجسطى خمسمائة سنة وسبعين سنة
***
” ارطحششت الثالث ”
المعروف بالأسود. واليونانيون يسمونه اوخوس. ملك سبعاً وعشرين سنة واستعاد ملك مصر وهزم نقطابيوس ملكها وصار يسيح في بلاد اليونانيين بزي منجم لأنه كان ماهراً في علم الفلك وأسرار الحركات السماوية. وقيل أنه تلطف لمجامعة ألومفيذا امرأة فيليفوس ملك مقدونيا في تنجيمه لها. فحملت منه بالاسكندر ذي القرنين
” ارسيس بن اوخوس ”
ملك أربع سنين. وفي زمانه اشتهر سقراطيس الحكيم المتأله. هذا زهد في الدنيا ومتاعها إلى حد انه سكن الحب. وقيل له : إن انكسر الحب ماذا تعمل؟ فقال : إن انكسر الحب لم ينكسر مكانه. وكان يقول : حسن الظاهر تابع للحسن الباطن فيستدل على حسن النفس بحسن البدن. ولأنه كان يختار للتعليم الأحداث الوسام نسبه الاثنيون إلى الفحشاء. ولكثرة تقييده الملك المشتهر بالفجور علم ابنيه انطوس وميليطوس الإفساد عليه وأماته مسموماً
***
وبعد موت سقراط صار الصيت لأفلاطون. هذا كان شريف الوالدين نسب أبيه يرتقي إلى فوسيديون ونسب أمه إلى سولون واضع النواميس للاثنيين. وقيل : انه تميز في حداثته في علم الشعر. فلما رأى سقراط يهجن هذا الفن من جملة العلوم أحرق كتبه الشعرية وتلمذ له خمسين سنة ومنه اقتبس الحكمة الفيثاغورية وقال : إن المبادئ ثلاثة الإله والهيولى والصورة. وأثبت وجود الأمثال النوعية في الخارج مجردة عن المواد. وادعى تناسخ النفوس وإن وجدوها قبل وجود الأبدان. كان يأذن لمن عجز عن مكابدة العزوبة من تلامذته أن يشاركه النفر منهم في زوجة واحدة لما في ذلك من قلة المؤنة وكثرة المعونة. وقد عد له ثاون الإسكندري ثلاث وثلاثين كتاباً. والموجود منها الآن كتاب فادن وكتاب طيماوس وكتاب النواميس وكتاب سياسة المدن. ومات وقد بلغ من العمر اثنتين وثمانين سنة. وخلف بستانين ومملوكين وكأساً واحداً وقرطاً كان معلقاً في شحمة أذنه شعاراً بشرفه. وباقي ماله كان قد أخرجه على تزويج بنات أخيه. وكتب على قبره : هاهنا وضع رجل إلهي فاق الناس كلهم في العلم والعفة والنباهة والأخلاق العادلة. فكل من مدح الحكمة فقد مدحه إذ فيه أكثرها. وكتب في الجانب الآخر من التربة : يا أيتها الأرض وإن كنت مخفية جسد أفلاطون لكنك لا يمكنك الدنو من نفسه التي لا تموت. وتولى بعده مدرسته سفوسيفوس ابن عمه
وفي هذا الزمان اشتهر في الطب روفس وتصدر للتعليم وله في ذلك تصانيف. إلا إنه كان ضعيف النظر مدخول الأدلة رد على أكثر أقواله ارسطوطاليس في كتبه الطبيعيات. ورد عليه جالينوس أيضاً مثل ذلك وأقاما الحجج الواضحة على غلطه. ولم تكن الصناعة تحققت في زمانه تحققها في زمان هذين الفاضلين.
***
” داريوش بن ارشك ”
هو دارا بن دارا. ملك ست سنين. ولما بلغه خروج الاسكندر بن فيليفوس اليوناني المقدوني جيش والتقاه في الشام. فانتصر اليونانيون على الفرس وانهزم داريوش طالباً الثغور. فأدركه الاسكندر عند مدينة أياس التي هي فرضة البحر ببلد قيليقيا وقتله وتزوج ابنته المسماة روشنك. وبطلت وقتئذ مملكة الفرس باستيلاء الاسكندر على الأرض.
***
وفي هذا الزمان اشتهر في الفلسفة ارسطوطاليس بن نيقوماخس الطبيب من قرية طاجيرا من أعمال مقدونيا. ونسبه من والديه يرتقي إلى اسقليبياذيس. وأخذ الحكمة من أفلاطون وهو ابن سبع عشرة سنة ولازمه عشرين سنة. وكان إذا لم يحضر في الدرس يقول أفلاطون : العقل لم يحضر. كأن الغافلين عن الحق صمٌّ هم عما هم سامعوه. وصار له منزلة عظيمة عند الملوك. وبرأيه كان يسوس الاسكندر ملكه ويتوجه إلى محاربة ملوك الأرض. وتفرغ ارسطوطاليس لتصنيف الكتب المنطقية والحكمة العلمية والعملية. ويسمى معلماً أول لا لأنه اخترع المنطق اختراعاً كما ظن. لكن لأنه جمع أشتاته ورتبه ترتيباً كما قال حاكياً عن نفسه : إنه قد كان لنا في الصنائع المنطقية أصول مأخوذة ممن سبقنا مستعملة في جزئيات برهانية مثلاً في الهندسة جدلية وخطابية في السؤال والجواب.
وإما في صورة القياس وصورة قياس القياس فأمر قد كددنا في طلبه مدة من العمر حتى استنبطناه. وكان لا يفتر عن الدرس والمطالعة إلا عسى عند النوم. وكان إذا سئل لا يبادر الجواب إلا بعد الفكر. ولا قصد في البحث إلا الحق دون الغلبة. وكان يقول في إبطاله التناسخ : أفلاطون صديق والحق أيضاً صديق فإذا لحظتهما كان اختياري وإكرامي للحق. وكان إذا شعر بتقصير من نفسه لم يستنكف من أن يدفعه. وكان معتدلاً في الملابس والمأكل والمشرب والمنكح والحركات. ومات وله ثمان وستون سنة. وخلف ابناً وابنة صغيرة وخلف مالاً كثيراً.
واعلم وفقك الله أن الحكماء الذين نظروا في أصول الموجودات دهريون وطبيعيون وإلهيون. فأما الدهريون فهم فرقة قدماء جحدوا الصانع المدبر للعالم وقالوا إن العالم لم يزل موجوداً بنفسه لم يكن له صانع صنعه. والطبيعيون فهم قوم بحثوا عن أفعال الطبائع وانفعالاتها وما صدر عن تفاعلها من الموجودات حيوان ونبات. وفحصوا عن خواص النبات وتركيب أعضاء الحيوانات فمجدوا الله وتحققوا بمخلوقاته انه قادر حكيم عظيم. إلا أنهم رأوا أن النفس تهلك بهلاك الجسد وأن لا بقاء لها بعده. وأما الآلهيون فهم المتأخرون من حكماء يونان مثل سقراط وهو شيخ أفلاطون. وافلاطون شيخ ارسطوطاليس. وارسطو هو مرتب هذه العلوم ومحررها ومقرر قواعدها ومزين فوائدها ومخمر فطيرها ومنضج قديرها وموضح طرق الكلام وتحقيق قوانينه والراد على الدهرية والطبيعية والمندد عليهم والقائم بإظهار فضائحهم. وهذب كلام أفلاطون وسقراط وحققه ونمقه ورتبه فجاء كلامه ابضع كلام وأحكم معاني. وكل من نقل كلامه من اليوناني إلى لغة أخرى حرّف وجزّف وما أنصف. وأقرب الجماعة حالاً في تفهمه الفارابي وابن سينا فإنهما تحملا علمه على الوجه المقصود. واعذبا منه لوارد منهله المورود. وكان لارسطو ابن أخ اسمه ثاوفريسطس وهو أحد تلاميذه الآخذين الحكمة عنه وهو الذي تصدر بعده للإقراء بدار التعليم. وكان فهماً عالماً مقصوداً لهذا الشأن. وقرئت عليه كتب عمه وصنف التصانيف الجليلة واستفيدت منه ونقلت عنه. فمنها كتاب الآثار العلوية وكتاب الأدب وكتاب ما بعد الطبيعة نقله من السرياني إلى العربي يحيى بن عدي. وكتاب الحس والمحسوس نقله أيضاً إبراهيم بن بكوس. وكتب أسباب النبات نقله أيضاً إبراهيم المذكور. وأما نيقوماخس والد ارسطوطاليس فكان متطبباً لفيليفوس أبي الاسكندر وكان حكيماً فيثاغوري المذهب وله من التصانيف كتاب الارثماطيقي وكتاب النغم
***