مدينة انطاكية.. ملكة الشرق والعاصمة المنسية (1)
“ودعي التلاميذ مسيحيين في أنطاكيا أولاً”. *سفر الأعمال (11: 26)
بقلم حسني حنا
مدينة انطاكية هي عاصمة سوريا التاريخية والثقافية. تقع في شمال غرب سوريا، على الضفة اليسرى لنهر العاصي قرب مصبه على بعد (15) ميلاً من ساحل البحر المتوسط.. وهي على نحو (60) ميلاً غربي مدينة حلب، وتبعد عن الحدود السورية التركية المؤقتة بنحو (12) ميلاً. كما أنها تعد من أهم المدن في سوريا الطبيعية، وبلاد الأناضول. وفي هذه المدينة، أسس القديس بطرس، أول أسقفية مسيحية، وهي لاتزال عاصمة المسيحية السورية، حنيناً وواقعاً، وتحمل في إرثها محطات كبيرة من التاريخ السوري.
إنشاء المدينة
أنشأ مدينة أنطاكيا القائد (سلوقوس) (213- 280 ق.م) وهو أحد أبرع وأقدر، قادة الاسكندر المكدوني الكبير، بناها تخليداً لذكرى والده (أنطيوخوس) وهو الذي أمر ببناء أكثر من ثلاثين مدينة أيضاً، منها مدينة اللاذقية على اسم والدته (Laudice) ومدينة أفاميا، على اسم زوجته الفارسية أما مدينة (Seleucia) مرفأ انطاكيا على البحر المتوسط، فقد أعطاها اسمه.
وضع المهندس (كزينوس) مخطط مدينة أنطاكيا، حسب طراز المدن اليونانية، المعروفة برقعة الشطرنج، ذو الشوارع المستقيمة، المتقاطعة بزوايا قائمة. يتجه قسم منها من الشرق الى الغرب والآخر من الشمال الى الجنوب.
وكانت انطاكيا تنقسم الى اربعة احياء هامة، وقد أحيطت بسور حصين، وشيد فيها مقر مجلس الشيوخ، ومعبد لـ (زيوس Zeus) وكان النحات اليوناني الاشهر (برياكسيس) قد نحت تمثالاً لافلاطون (دفنه Daphne) ونصب فيها تمثال رائع باسم (ثروة أنطاكيا Tyche of Antioch) للنحات Eutychides وكان سلوقوس قد أطلق نسراً، من على قمة جبل (سلبيوس Silpins) المطل على السهول الخصبة، التي يمر فيها نهر العاصي، وأمر بان تبنى المدينة في ذات المكان، الذي حط فيه النسر.. ويروى أيضاً أن الاسكندر المكدوني نفسه، كان قد اختار هذا الموقع من قبل!..
وقد ظلت مدينة أنطاكيا عاصمة الامبراطورية السلوقية، منذ تأسيسها في عام (300 ق.م) حتى عام (64 ق.م) حين احتلها الرومان والحقوها بامبراطوريتهم . وكانت (الامبراطورية السلوقية) تمتد من الساحل الشرقي للبحر المتوسط غرباً الى حدود الهند شرقاً، متضمنة سوريا الكبرى (الطبيعية) كما حددها (هيرودوت) في تاريخيه (اواخر القرن 5 ق.م) وبلاد الرافدين، وبلاد فارس، فيما عرف باسم (العالم السوري) كما كان البحر المتوسط، يعرف باسم (البحر السوري).
إن من الصعب أن نصدق أن عدد سكان مدينة أنطاكيا قد كان فى أواخر القرن التاسع عشر (17) الف نسمة فقط، وهو اليوم لايتجاوز (40) الفاً.. وقد كانت في زمن مضى (ملكة الشرق) بسكانها الذين كان يبلغ عددهم (700) الف نسمة؟!..
لمحة جغرافية
شيدت مدينة أنطاكيا، في أرض فسيحة للغاية، كثيرة الري تحتف بها عدة سلاسل جبلية، تكسبها منظراً بهيجاً ومنها: جبال اللكام (Amanus) حيث يقع جبل النور. والجبل الأقرع (Casius) وقد سمي بهذا الاسم، بسبب قمته الكلسية الجرداء. وهو جبل مخروطي الشكل، سفحه الغربي يلامس شاطئ البحر، وهو يرتفع بمقدار (1709) متراً عن سطح البحر، وقد ذكر مراراً في اساطير (أوغاريت Ougarit) الكنعانية باسم (الجبل الشمالي) أو جبل (Zaphon) حيث مسكن الآلهة.
والى الشمال من مدينة أنطاكيا، تقع منطقة (كيليكيا Cilicia) حيث بوابات سوريا، وهي عبارة عن ممرات جبيلة ضيقة، ذات قيمة استراتيجية كبيره. ويسقي اراضى انطاكيا وبساتينها (نهر العاصي Orontes) الغني بأنواع السمك، لاسيما (الانكليس والسلور) والى الشرق من أنطاكيا، يقع سهلها الواسع، الذي يدعى (العمق) وهو من أعظم سهول سوريا اتساعاً وخصوبة وجودة أرض، ترويه عدة أنهار صيفاً وشتاء، منها (نهر يغرا) و (نهر عفرين) و (النهر الاسود) التي كانت تصب فى بحيرة أنطاكيا، في وسط سهل العمق، ومنها يخرج نهر يصب في العاصي قرب (باب الحديد) وقد تم تجفيف هذه البحيرة مؤخراً..
وهواء أنطاكيا طيب معتدل، لايشتد فيه الحر صيفاً، ولا البرد شتاءً، وهي غزيرة الأمطار، والفواكه فيها كثيرة جداً، ويذكر المؤرخون أنه لما كان (Mr.parker) الانكليزي قنصلاً في مدينة حلب في آواخر القرن التاسع عشر، غرس في بعض قرى أنطاكيا، كثيراً من أشجار الفاكهة، التي كان قد جلبها معه من أماكن بعيدة مثل (الأكي دنيا) و (التين الأفرنجي) والمشمش الكبير
الحجم والبرتقال الملكي وغير ذلك. وقد امتدت زراعة هذه الفواكه، من هناك الى انحاء كثيرة.
مدينة أنطاكية.. ملكة الشرق والعاصمة المنسية (2)
“وهل هناك أعظم من أنطاكية بين كنائس المسكونة”
القديس باسيليوس الكبير
لمحة تاريخية
كانت منطقة (لواء اسكندرون) في شمال غرب سوريا، مأهولة منذ العصور الحجرية، وقد حكمها الأكاديون في النصف الأول من الألف الثالثة قبل الميلاد، ثم أصبحت جزءاً من مملكة (يمحاض) الآرامية، التى كانت عاصمتها مدينة (حلب) في الألفية الثانية قبل الميلاد.
وفي نهاية القرن (17 ق.م) خضعت لحكم (الحثيين Hittits) سكان بلاد الأناضول القدماء، وهم من العرق الآري. ويؤكد العديد من المؤرخين ان الحثيين هم أجداد (الآرمن) الحاليين، وقد استمر حكمهم، حتى زوال امبراطوريتهم في عام (1190 ق.م) ثم خضعت لحكم (الآشوريين) حتى سقوط عاصمتهم (نينوى) على يد التحالف الكلداني-الفارسي في عام (612 ق.م) وفي عام (539 ق.م) صارت تحت حكم (الفرس) الى أن أصبحت تحت حكم الاسكندر المكدوني وخلفائه، بعد انتصاره الكبير فى معركة (إيسوس Issus) الفاصلة التي جرت في عام (333 ق.م) وهي ممر ضيق استطاع الاسكندر بجيشه الصغير ومهاراته العسكرية الانتصار على جيش الفرس الضخم بقيادة ملكهم (داريوس) وبقرب موقع المعركة، تم تشييد مدينة (اسكندرون Alexandretta) على اسم الاسكندر تخليداً لذكرى تلك المعركة. ثم حكمها السلوقيون خلفاء الاسكندر.
كانت مدينة أنطاكيا فيما مضى، ثالث أكبر مدينة فى العالم، بعد روما والأسكندرية. وكانت عاصمة الامبراطورية السلوقية، التي امتدت من الشواطئ السورية على المتوسط غرباً، الى بلاد الهند شرقاً. الى جانب كونها عاصمة سوريا لمدة تزيد عن (900) عام، منذ تأسيسها عام (300 ق.م) حتى مطلع القرن السابع حين اجتاحتها جحافل العرب الغازية عام (637م).
أنطاكيا والمسيحية
لمدينة أنطاكيا اهمية كبرى لدى المسيحيين فى الشرق، فهى أحدى الكراسي الرسولية، إضافة لى روما والقسطنطينية والاسكندرية والقدس وموسكو، ولاتزال الكنيسة حتى اليوم في دمشق تحمل لقب كنيسة أنطاكيا، وبطاركتها لقب بطريرك أنطاكيا وسائر الشرق.
وتحتل انطاكيا موقعاً هاماً في تاريخ المسيحية، فيها بشر القديس (بولس St.paul) وألقى أولى مواعظه، وفيها دعي أتباع السيد المسيح (مسيحيين) لأول مرة (أعمال الرسل 11: 26) وكانت أنطاكيا منطلقاً رئيساً، في الرحلات التبشيرية التي قام بها القديسان بوليس وبرناباس بين عامي (47 – 55م) وقد قدمت أنطاكيا عدداً كبيراً من الشهداء المسيحيين الأوائل.
ولمدينة أنطاكيا امتياز وتفوق لأنها تأسست من قبل الرسولين العظيميين بطرس وبولس. وقد أصبح القديس بطرس أول بطاركتها، والى جانب هذا، كانت أنطاكيا مقراً لعدة مجامع دينية مسيحية، الا أن وجود كبار رجال الدين، لم يمنع سكانها عن اجراء الاحتفالات والأعياد، وحياة البذخ والمسرات، وسائر مظاهر الحياة المترفة. وقد عرفت كنيسة أنطاكيا باسم: (كنيسة مدينة الله أنطاكيا العظمى) وكان المؤرخ (الدكتور أسد رستم) قد وضع كتاباً هاماً بهذا العنوان مؤلفاً من ثلاثة أجزاء.
ونظراً لأهمية أنطاكيا الدينية الممتازة، فقد أصبحت مركزاً لدراسة العلوم الدينية، وعلى أرضها قامت كنيسة القديس بطرس وهى مهداة الى السيدة العذراء مريم، إضافة الى مجموعة كبيرة من الأبنية الدينية الأخرى المتعددة، وفي أنطاكيا يوجد قبر الأمبراطور الألماني (فردريك برباروسا) منذ زمن حروب الفرنج في الشرق.
كهف القديس بطرس
كانت المسيحية في أنطاكيا عام (40م) فبعد موت المسيح على الصليب، وقيامته وصعوده الى السماء، قام أحد تلاميذه وهو (القديس بطرس St.peter) بالقدوم الى أنطاكيا من أجل التبشير بالدين الجديد، ونشر بشارة المسيح، وقد جمع عدداً من المؤمنين والمتحولين الى الدين المسيحي. وكان مجبراً في أول الامر مع المسيحيين الاوائل، على التعبد فى كهف سري، في سفح جبل (سلييوس Selbius) المطل على مدينة انطاكيا من جهتها الشرقية، والكهف اليوم مصلى، يزروه الملايين كل عام، من كافة أنحاء العالم، وهو معروف باسم (كهف القديس بطرس St.Peter’s Grotto) هنا أوجد القديس بطرس الرابطة الأخوية المسيحية، وقد أدرج الفاتيكان هذا المكان كمكان مقدس في عام (1983) ومع نمو وازدياد عدد المؤمنين الجدد، توسع الكهف وحفرت الانفاق فى الصخر، للحماية من هجمات الوثنيين.
ملامح من التاريخ السياسي
تعرض المسيحيون الأوائل في مدينة أنطاكيا وسواها، الى أعنف الاضطهادات مثل الحرق بالنار، والإلقاء بهم الى الوحوش الجائعة في المسارح الرومانية لمدة ثلاثة قرون..
وفي مطلع القرن الرابع للميلاد، اعتنق الامبراطور الروماني قسطنطين الكبير الديانة المسيحية، التي مالبثت أن أصبحت الديانة الرسمية للامبراطورية الرومانية، مع تزايد أعداد المؤمنين بشكل كبير، وهكذا ظلت مدينة أنطاكيا تتمتع بمركز ديني وسياسي هام.
وكانت أنطاكيا مركز قيادة رئيس للأمبراطور (جوليان المرتد) الذي حاول خلال فترة حكمه القصيرة (661 – 663) أن يستأصل الديانة المسيحية ويعيد عبادة الاوثان، لكنه فشل في ذلك فشلاً ذريعاً.
الحياة الاقتصادية والاجتماعية
كانت الحياة العامة السياسية والاقتصادية والدينية معروفة جيداً في النصف الثاني من القرن الرابع للميلاد. وذلك من خلال كتابات المعلم والاديب الوثني (ليبانيوس Libanius) ومن خلال )المواعظ Sermons) والأبحاث والرسائل التي قدمها الواعظ (يوحنا الذهبي الفم Chrystostom) وقد جلب القرنان الرابع والخامس الازدهار والنمو الكبير لأنطاكيا من خلال انتاج زيت الزيتون، من المزارع والاراضي الواقعة الى الشرق من انطاكيا (منطقة جبل الزاوية وجبل سمعان) وقد كان العديد من هذه المزارع ملكاً لسكان أنطاكيا، الذين كانوا يصدرون زيت الزيتون عن طريق سلوقيا (السويدية) مرفأ أنطاكيا على البحر المتوسط. وقد دخلت (دودة القز) من الشرق البعيد، في زمن الأمبراطور جوستنيان الأول ustinian1 (527- 565) كما تم جلب أشجار التوت من اجل تربية واطعام دود القز. وفي أنطاكيا تطورت صناعة الحرير.
في أجواء القلق
في القرن الخامس والسادس، وجدت أنطاكيا نفسها، مع باقي أنحاء سوريا، متورطة في النزاعات والمجادلات السياسية والدينية، التي سادت الأجواء في الدولة البيزنطية. وقد أخذت سوريا بمذهب الطبيعة الواحدة للسيد المسيح. هذا المذهب كان يعارض ويقاوم بعنف، من قبل أصحاب العقيدة الأرثوذكسية في القسطنطينية. وقد سادت البلاد في تلك الفترة، أحداث شغب واراقة دماء، عندما حاول البيزنطيون أن يفرضوا بالقوة العقيدة الأرثوذكسية على الرافضين والمعارضين.
وقد جلب القرن السادس لمدينة أنطاكيا، سلسلة فريدة، لانظير لها من الخراب. الذي لم تستفق منه المدينة، وتسترد عافيتها، إلا بعد زمن. حيث اندلعت فيها النيران في عام (525) التي أعقبت الزلازل وتكرر ذلك في عام (526) و (528) وخضعت المدينة الى حين لسيطرة الفرس في عام (546) وعام (611) ثم استحوذت جحافل العرب الغازية على المدينة في عام (637) التي نالت نصيبها من الدمار، وتم فرض الجزية على أهلها.
الروم يستعيدون أنطاكية
بقيت أنطاكيا بيد العرب المسلمين، حتى عام (906م) حين استردها منهم الامبراطور البيزنطي (نقفور الثاني Nicephorus 2) الذي استرد معها مدن الساحل السوري، ومدينتي حمص ودمشق، لكن المدينة عادت فوقعت بيد الأتراك السلاجقة في عام (1085) وقد حفل القرنان الثاني عشر والثالث عشر، بالعديد من الأحداث المتلاحقة والعاصفة..
أنطاكيا تحت حكم السلاجقة
السلاجقة قبيلة تركية من الرعاة، ينتسب أفرادها الى جدهم (سلجوق) قدمت من موطنها الأصلي في اواسط آسيا، واحتلت مساحات في أراضي الدولة البيزنطية في شرق البلاد، وأقامت إمارة كانت عاصمتها مدينة (قونية) وكان السلاجقة قبل احتلالهم مدينة أنطاكيا، قد انتصروا على جيش الروم في معركة مانزكرت عام (1084) وقد كان ذلك النصر أحد أهم الاسباب التي أدت الى غزوات الفرنج للشرق العربي، فيما عرف باسم (الحروب الصليبية) وقد بسط السلاجقة نفوذهم على بعض أجزاء سوريا الشمالية، لكن (صاحب أنطاكيا) يتمتع بنوع من الاستقلال تحت مظلتهم.