إدمون اسحق
سعيد اسحق رئيسا للجمهورية في سوريا لساعات فقط
في تاريخ محافظة “الحسكة” رجال أشداء كتبوا مسيرة حياتهم بالعرق والدم ليحيا الوطن عزيزاً كريماً، ومن هؤلاء “سعيد اسحق” البرلماني العريق القادم إلى “دمشق” من “ماردين”، “الوطني إلى حد الإدمان” بحسب قول “شمس الدين العجلاني”.
كان لنا حديث مع ابنه المهندس “بسام اسحق” خريج أكبر جامعات الولايات المتحدة، الذي اختار العودة لأرض أجداده كي يكمل طريقاً بدأه والده في خدمة سورية، فحدثنا “بسام اسحق” بالقول: «كان جل ما يتمناه ويحلم به والدي هو أن يعود إلى سورية، وإلى بلدته الصغيرة “عامودا” التي احتضنته وشهدت أجمل سني شبابه، ولكن أطباءه في “أميركا” لم يسمحوا له بالعودة بسبب ضعف قلبه، كانت أمنيته أن يلف بالعلم السوري، كي يحتضن جسده حتى في الممات، وتحقق له ما أراد، لقد كانت سورية عشقه الأول والأخير». ويتابع “اسحق” حديثه: «”سعيد اسحق المقدسي” من مواليد عام 1902 في قرية قلعة “الأمراء” من أعمال ولاية “ماردين”، وسكانها من “السريان”، تعلم في المرحلة الإعدادية القرآن الكريم وأركان الإسلام ومبادئه، وأتقن اللغات التركية والكردية والعربية إضافة إلى لغته الأم السريانية، انتقل وهو شاب مع الكثير من بني قومه إلى بلدة “عامودا” في الجزيرة السورية إثر رسم الحدود بين تركيا وسورية، تنقل في العمل في أماكن عده نتيجة الظروف السياسية، كافح واضطر أن يعمل عاملاً بسيطاً في مد سكة الحديد بين “حلب” و”العراق” بطعام يومه، ولقمة عيشه مع عدد من أفراد أسرته ليتقي شر العوز، ثم اشتغل بالتجارة وبيع الأقمشة». وعن بداية دخوله المعترك السياسي يقول “اسحق”: «عام 1928 دخل مجال العمل السياسي حين انتخب رئيساً للمجلس البلدي في مدينه “عامودا”، وفي عام 1931 فاز بالنيابة عن مناطق “الحسكة، القامشلي ودجلة”، وأعيد انتخابه في عام 1936، وفي عام 1943 تم انتخابه للمرة الثالثة في المجلس النيابي وفاز بمنصب المراقب،وعام 1949 فاز عنقضاء “القامشلي” وانتخب بتاريخ 12 كانون الأول 1949 مراقباً للجمعية التأسيسية، والتي تحولت إلى مجلس النواب، وانتخب بتاريخ 1/10/1951 نائباً لرئيس مجلس النواب، وكان أيضاً نائباً لرئيس مجلس النواب في مجلس 1953، وفي شباط 1954 وبعد استقالة رئيس الجمهورية ومغادرته البلاد أصبح رئيس المجلس النيابي قائماً بأعمال رئيس الجمهورية في حين تولى نائبه “سعيد اسحق” رئاسة مجلس النواب، وفي أجواء أزمة دستورية ووطنية سيطرت على البلاد اجتمع البرلمان يوم 27 شباط 1954 برئاسة “سعيد اسحق”، والذي تمكن بحكمته ودرايته من إقناع النواب بإعلان حل البرلمان لإفساح المجال أمام إجراء انتخابات نيابية، وخرج من الساحة السياسية بعد مجلس عام 1953، وحين حصلت سورية على استقلالها منح وسام الاستحقاق السوري لجهوده الوطنية».
ويتابع “اسحق” متحدثاً عن كيفية تولي النائب “سعيد اسحق” منصب رئيس الجمهورية: «قدم “حسن الحكيم” رئيس وزراء سورية 9 آب 1951 – 28 تشرين الثاني1951 استقالة حكومته إلى رئيس الجمهورية آنذاك “هاشم الأتاسي” نتيجة أزمة سياسية مع المجلس النيابي، الذي كان يرأسه “ناظم القدسي” ونائبه “سعيد اسحق”، فقام رئيس الجمهورية بمشاوراته مع الكتل البرلمانية لتكليف رئيس للحكومة، فاستقر الرأي على المرحوم “معروف الدواليبي”، شكل حكومته بتاريخ 28 تشرين الثاني عام 1951 استمرت هذه الحكومة أربعة أيام فقط، واجتمع ضباط الجيش ورفضوا هذه الحكومة، وتم اعتقال رئيس المجلس النيابي “ناظم القدسي” والوزراء و”رشدي كيخيا” زعيم حزب الشعب وعدد من النواب وأودعهم سجن “المزة”، وبعد يومين قدم رئيس الجمهورية “هاشم الأتاسي” استقالته إلى “سعيد اسحق” النائب الأول لرئيس المجلس النيابي وذلك بتاريخ 2 كانون الأول من عام 1951، وهكذاوبموجب الدستور وبما أنه أصبح رئيسا للمجلس النيابي، فقد أصبح مكلفاً بتسيير أمور رئاسة الجمهورية إلى حين انتخاب رئيس جديد، ولكن بعد انتهاء الدوام الرسمي من يوم 19 كانون الأول سنة 1951 أصدر الجيش البلاغ رقم 1 من الإذاعة السورية بتعطيل الدستور، وحل المجلس النيابي، وتعيين الزعيم “فوزي سلو” رئيساً للحكومة، ثم صدر مرسوم بتشكيل الوزارة وانتهاء العمل بالدستور المعمول به في البلاد».
وعن الجوانب الأخرى لشخصية “سعيد اسحق” يقول: «عملت معرفة والدي العميقة بالأديان المختلفة وإتقانه لغات عدة على معرفة مكونات الشعب السوري بمختلف أطيافه، واحترامهم وتقديرهم وأكسبته مصداقية في التعامل مع الآخرين، وساعده الانفتاح والاحتكاك بالثقافات على أن يكون ناجحاً في حياته، كما شكلت معاصرته ومزاملته لرموز النضال الوطني آنذاك أمثال “سعد الله الجابري” و”فارس الخوري” في نضالهم من أجل تحرير سورية، والذي شارك فيه جميع فئات الشعب على صقل شخصيته المنفتحة للجميع، والتي كان شعاره مبدأ الانتماء الوطني فوق كل انتماء». ويتابع “اسحق” حديثه: «كان يلقب في “عامودا” بأبي الفقراء، حيث كان يرسل المعونات بشكل سري للفقراء، دون تفريق فقد كان يحب التنوع في المحافظة، ويعتبره أمراً إيجابياً ما جر عليه نقمة الفرنسيين، حيث وضع تحت الإقامة الجبرية عدة مرات وصودرت محاصيله الزراعية». وعن “سعيد اسحق” الأب يقول: «رغم مشاغله الكثيرة والمهام الجسام التي كان يشغلها، كانت عائلته الصغيرة حاضرة في ذهنه وكان يمنحها وقتاً يقضيه مع أولاده، ويتابع دراستهم ويسأل عن مشاكلهم، كان مثالاً للأب الحنون المتفهم لأبنائه». يقول عنه الباحث والأديب “صالح هواش المسلط”: «كان رجلاً شجاعاً لا يهادنن ولا يحابي على مصلحة الوطن والأمة، وكثيراً ما وقف كالطود شامخاً بوجه الدسائس والفتن والنعرات الطائفية التي كانت تغذيها “فرنسا”، وتوصل فيما بعد إلى مراكز عليا في الدولة إبان الكتلة الوطنية، حيث كان واحداً من أقطابها الكبار». أما الأديب “عيسى فتوح” فيقول عنه: «هذا الرجل الوطني الفذ لعب دوراً هاماً في الحياة الوطنية والسياسية في سورية مدة نصف قرن تقريباً، فاشترك في النضال ضد المستعمر التركي ثم الفرنسي، ودخل السجن أكثر من مرة، حتى استطاع أن يصنع لنا الاستقلال الذي ننعم به اليوم، مع حفنة من أصدقائه المخلصين».
**********************
سعيد اسحق رئيسا للجمهورية في سوريا
المحامي لؤي اسماعيل
تميزت المرحلة السياسية التي عاشتها سورية بعد الاستقلال بعدم الانتظام والاضطراب بشقيه السياسي والاقتصادي وبدا الرئيس شكري القوتلي عاجزا عن ضبط الأمور السياسية في البلاد وجاءت نكبة فلسطين عام 1948 لتزيد الوضع سوءا حيث عمت الفوضى السياسية والمظاهرات و توجت الأحداث باستقالة حكومة جميل مردم في الأول من كانون الأول عام 1948 الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه للتدخل العسكري المباشر في شؤون الحكم حيث عمد قائد الجيش آنذاك حسني الزعيم وفي الثالث من كانون الأول عام 1948 إلى التدخل العسكري المباشر لوضع ” حد للاضطرابات الواسعة وأخضع الصحافة لرقابة قاسية ونجح خالد العظم بتشكيل حكومة حكمت تحت مظلة الجيش حتى أواخر 1949 وفي صباح 30 آذار 1949 قام الزعيم حسني الزعيم بتسلم زمام الأمور في سوريا فعمد في 3 نيسان إلى حل المجلس النيابي رسمياً وقام بـ7 نيسان بإعلان إقالة كل من شكري القوتلي وخالد العظم ووضعهما في سجن المزة. شكل الزعيم في 17 نيسان 1949 حكومة وترأسها بنفسه ثم انتخب رئيساً للجمهورية بالإجماع ثم شكل حكومة رأسها محسن البرازي .
لم تستتب الأمور طويلا لمصلحة حسني الزعيم إذ عاجله سامي الحناوي في 13 آب بإنقلاب عسكري أطاح بالزعيم وبعد يومين على الانقلاب سلّم سامي الحناوي السلطة رسمياً إلى هاشم الأتاسي ، وفي 19 كانون الأول 1949 قام العقيد أديب الشيشكلي بالتحرك عسكرياً واحتجز اللواء سامي الحناوي وأعلم الرئيس الأتاسي بالأمر وطلب منه تشكيل حكومة جديدة ، وعندما لم ينجح بذلك ، قام خالد العظم بتشكيل حكومة جديدة وأدى الرئيس الأتاسي القسم الدستوري .
لكن الخلافات لم تحل المشكلة وبدت الحكومات عاجزة ومترهلة لا تقوى على النهوض بنفسها حيث تغيرت عدة حكومات في هذا العهد فبعد حكومة خالد العظم قام ناظم القدسي بتشكيل حكومتين متتاليتين وكان الجيش ممثلاً بوزير الدفاع فوزي سلو ، ثم عاد خالد العظم وشكل وزارة جديدة في آذار عام 1951 وفي شهر تموز قدم استقالته ليقوم حسن الحكيم بتشكيل حكومة جديدة بموجب المرسوم التشريعي رقم 1191 بتاريخ 9- 8-1951 لكن لم يكتب لهذه الحكومة العيش مطولا نتيجة الخلاف المستمر مع البرلمان الذي كان يرأسه ناظم القدسي ونائبه سعيد اسحق حيث قدم السيد حسن الحكيم استقالة حكومته التي استمرت قرابة الثلاثة أشهر , بعد ذلك دخلت البلاد في أزمة وزارية لمده 19 يوما تم على أثرها تكليف السيد معروف الدواليبي بترؤس الحكومة فشكل حكومته بتاريخ 28 /11 عام 1951 ولكنها اصطدمت برفض الجيش لها مما دفع الجيش للتدخل عسكريا بعد يوم واحد فقط من إعلان الحكومة أي في 29 – 11 – 1951 واستلم الجيش زمام الأمور وتم اعتقال رئيس الوزراء معروف الدواليبي وناظم القدسي رئيس مجلس النواب كما تم إعتقال بعض الوزراء والنواب الآخرين , وقدم الدواليبي ( شفهيا ) استقالة حكومته لرئيس الجمهورية هاشم الاتاسي بتاريخ 1 كانون الأول 1951 من سجن المزة , وبتاريخ 2 كانون الأول قدم رئيس الجمهورية هاشم الاتاسي استقالته للمرحوم سعيد اسحق النائب الأول لرئيس مجلس النواب كون رئيس المجلس ناظم القدسي رهن الاعتقال وسجلت هذه الاستقالة في ديوان مجلس النواب برقم 177 تاريخ 2-12-1951 ( مقالة للأستاذ شمس الدين العجلاني ) وفي نفس اليوم ( 2 كانون الثاني ) صدر المرسوم رقم ( 1) عن رئيس الأركان العامة رئيس المجلس العسكري الأعلى العقيد أديب الشيشكلي هذا نصه :
إن المجلس العسكري الأعلى بناء على استقالة فخامة رئيس الجمهورية السورية وعدم وجود حكومة في البلاد تتولى شؤونها، يأمر بما يلي:
1- يتولى رئيس الأركان العامة (فوزي سلو) رئيس المجلس العسكري الأعلى مهام رئاسة الدولة ، ويتمتع بكافة الصلاحيات الممنوحة للسلطة التنفيذية.
2- تصدر المراسيم اعتبارا من 2 كانون الأول 1951 عن رئيس الأركان العامة رئيس المجلس العسكري الأعلى.
3- ينشر هذا الأمر العسكري ويبلغ من يلزم لتنفيذ أحكامه .
وكان أول مرسوم يصدر عن الشيشكلي بصفته رئيس المجلس العسكري الأعلى هو مرسوم حل مجلس النواب في 2/12 / 1951 علماً أن هذه المراسيم نشرت بتاريخ 3 كانون الثاني في الجريدة الرسمية بالعدد رقم ( 55 ) وهذا يعني من حيث الضرورة وجود شاغر دستوري في الفترة الواقعة بين الثاني من كانون الأول تاريخ صدور المراسيم وبين الثالث منه تاريخ نشرها لتصبح نافذة قانونا لذلك كان لا بد عمليا من العودة إلى النصوص الدستورية لمعرفة من قام بمهام رئيس الجمهورية في هذه الساعات الـ 24 تقريبا ؟ حيث أنه حدث فراغاً دستورياً نتيجة استقالة رئيس الوزراء السيد معروف الدواليبي وإيداع رئيس مجلس النواب ناظم القدسي قيد الاعتقال وقيام رئيس الجمهورية السيد هاشم الأتاسي بتقديم استقالته إلى نائب رئيس مجلس النواب السيد سعيد اسحق لذلك وطبقا للدستور القائم آنذاك في مادته السابعة والثمانين :
” يمارس رئيس مجلس النواب صلاحيات رئيس الجمهورية حين لا يمكنه القيام بها وفي حالتي الوفاة والاستقالة يجتمع مجلس النواب لانتخاب رئيس جمهورية جديد أما إذا كان مجلس النواب منحلاً أو بقي لانتهاء ولايته اقل من شهرين فان رئيس المجلس يستمر في ممارسة الصلاحيات المذكورة “
وعليه يصبح السيد سعيد اسحق من الناحية الدستورية رئيسا للجمهورية العربية السورية بالوكالة ولمدة 24 ساعة تقريبا أي لحين نشر المراسيم التشريعية التي أصدرها المجلس العسكري الأعلى بالجريدة الرسمية وهنا لا بد من تقديم نبذة عن حياة سعيد اسحق و المفارقة الدستورية التي حصلت بتوليه لرئاسة الجمهورية بالوكالة :
ولد سعيد اسحق في مدينة ماردين من عائلة ” مسيحية ” وأتقن اللغتين العربية والسريانية، وألمّ باللغة التركية ثم انتقل وهو شاب مع الكثير من بني قومه إلى بلدة “عامودا” في الجزيرة السورية اثر رسم الحدود بين تركيا وسورية وإلحاق منطقة “ماردين” وتوابعها بالدولة التركية عام 1928 حيث دخل مجال العمل السياسي حين انتخب رئيسا للمجلس البلدي في مدينه عامودا رغماً عن إرادة الفرنسيين .
شكل عام 1932 منعطفاً هاماً في حياة سعيد اسحق حيث خاض غمار أول تجربة برلمانية له حيث انتخب نائباً عن “الجزيرة” في مجلس النواب السوري كما تم انتخابه أمينا لسر المجلس النيابي وتوالى انتخابه نائباً عن الجزيرة خمس دورات انتخابية، حيث نجح في انتخابات عام 1936 عن منطقة الجزيرة , وأيضا كان عضوا في مجلس عام 1943 وفاز بمنصب المراقب وذلك في آب من عام 1943, وعام 1949فاز عن قضاء القامشلي وانتخب بتاريخ 12 كانون الأول 1949 مراقبا للجمعية التأسيسية والتي تحولت إلى مجلس النواب وانتخب بتاريخ 1-10 -1951 نائبا لرئيس مجلس النواب قبل أن يتولى رئاسة الجمهورية بالوكالة .
وبالطبع فإن المفارقة الدستورية تكمن هنا في كونه ” مسيحيا ” في الوقت الذي يذهب فيه الدستور السوري إلى اشتراط الإسلام دينا لرئيس الجمهورية وهنا نذهب إلى رأي الزميل عبد الله علي في قوله ” أن ذلك ممكن في إطار تفسير النص الدستوري على أنه يشترط شرط الإسلام في المرشح الذي يخضع لانتخابات أو استفتاء شعبي أما الرئيس المكلف فإنه لا يشترط فيه شرط الإسلام لأنه لا تتوافر فيه صفة المرشح التي تتطلب هذا الشرط” .
وبذلك يكون السيد سعيد اسحق دستوريا رئيسا للجمهورية العربية السورية بالوكالة في سابقة دستورية هي الأولى من نوعها في البلاد .