10
في الفصل السابق درسنا بإمعان رسالة الرهبان الموجهة إلى البابا هرمزدا وكذلك وثائق مماثلة قدمها هؤلاء الرهبان إلى المجمع المنعقد في القسطنطينية عام 536 والتي تضم اتهامات مختلفة ضد سويريوس الأنطاكي وأسقفه بطرس الأفامي. قد يكون من المفيد تلخيص النقاط الرئيسة في هذه الرسائل، وخاصة لأن الموارنة يستـشهدون بها كدليل يدعم رأيهم بأن دير مارون كان موجوداً منذ القرن الخامس، وأن رهبانه كانوا متمسكين بإيمان خلقيدونية وهو إيمان كنيسة روما. ولذلك يدّعي الموارنة أنهم كانوا متّحدين مع كنيسة روما منذ القرن الخامس
يبني الموارنة ادعاءهم على بضعة تواقيع مريبة تذيل رسائل يُشكُ بأمرها إلى حدٍّ كبير. تواقيع هؤلاء الرهبان الذين يسمون أنفسهم ممثلين لدير مارون في سورية الجنوبية لا يمكن أن تكون برهاناً حاسماً على الادعاء بأنهم كانوا من نفس الدير الذي يعتقد بأنه الدير ” الوحيد ” لمارون. فهي رسائل قدّمها رهبان ساخطون إلى المجمع الذي التأم في القسطنطينية عام 536. كما ان مضمون هذه الرسائل وخاصة الاتهامات الموجهة الى سويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي يلقي ظلاً قاتماً من الشك على تصديقها. إن ما يقنعنا بأن هذه الرسـائل غير موثوقة هو حقيقة عدم وجود اي دليل، غير ما جاء في هذه الرسائل، على أن سويريوس بطريرك أنطاكية أو أسقفه بطرس، قد ارتكبا يوماً مثل هذه الجرائم المستـنكرة. ومما يؤكد بأن هذه الرسالة مفتعلة لأنها تصور سويريوس وبطرس بأنهما من مرتكبي القتل الجماعي ومضطهدي أناس أبرياء، وهما ايضاً من متعطشي الدماء وقطاع الطرق وناهبي الكنيسة وغواة النساء، وسماسرة الفحشاء وعبدة الشيطان بل كانا من الوثنيين
اذا استثنينا كتابات أعداء سويريوس او مؤيديه في الوثائق التي تمت مناقشتها أعلاه، فإن المعلومات المتوفرة فيما يتعلق بهذا البطريرك تصوره كناسك قديس طاهر عظيم ولاهوتي من الطراز الأول ذو شخصية أخلاقية لا غبار عليها. لكن نظراً لعدائه لمجمع خلقيدونية ونبذه لتعريف المجمع للإيمان فقد تجاهله الكتّاب الخلقيدونيون حتى عهد قريب ونالوا من هباته اللاهوتية. بل اتهمه الإمبراطور يوسطينيان الأول بالدفاع عن النساطرة أحياناً وعن الأوطاخيين أحياناً أخرى. والحقيقة هي أن سويريوس جادل بشدة ضد هؤلاء الهراطقة . ثم يجيء كاتب معاصر هو و.ك. برينتيس لا ليروي بأن سويريوس كان مسؤولاً عن قتل 350 راهباً فحسب بل يتهمه ظلماً بأنه طرد من أكثر من دير بسبب ” عاداته الفاسقة أو آرائه المنافية للدين القويم، أو بسبب كليهما ” . أما الباحثون الآخرون الذين درسوا حياته وأفكاره اللاهوتية وكتاباته فقد اعترفوا بتفوقه وإنجازاته ومنهم الباحث غستاف باردي. قد لا يؤيد باردي العقيدة التي دافع عنها سويريوس الأنطاكي إلا أنه يقول أن نشاطه يشابه نشاط أثناسيوس. ويسمي باردي سويريوس “بالمناضل” و “البطريرك الذي لا يقهر”، بل كان “رجلاً موهوباً وواحداً من أقوى الشخصيات في فترة مشوبة بالأسى” . اما الكاتب المعاصر و.هـ.س. فرند، الذي استـشهد بمذبحة الـ 350 راهباً دون أن يثبت صحتها، فإنه يصف سويريوس على أنه ” أحد الشخصيات العظيمة في تاريخ شرق البحر الأبيض المتوسط الديني ” . ويضيف قائلاً عن تبحر سويريوس في الكتاب المقدس والحياة النسكية:
كان (سويريوس) علاّمة في الكتاب المقدس من طراز أوريجينس وباسيل (باسيليوس) وكان مثلهم ناسكاً ومصلحاً. وكان تعليمه اللاهوتي اداة استطاع بها أن يقود شعبه نحو الله بكونه مثالاً يقتضيه التبحر في الحياة النسكية
لا يقودنا الدليل التاريخي كذلك إلى قبول سيادة دير مارون على جميع أديرة سورية الجنوبية. فضلاً عن ذلك، ليس هناك من دليل على أن رهبان هذا الدير كانوا مدافعين عن إيمان مجمع خلقيدونية؛ إذ لم يذكر أحد من مؤرخي الكنيسة القدماء مثل هذا الادعاء أو يؤيده. من الغريب أن التاريخ ينبئنا الشيء الكثير عن دير القديس باسوس قرب أفاميا في سورية الجنوبية، الذي يُـقال بأنه آوى في وقت واحد أكثر من ستة آلاف راهبٍ، ومع ذلك بقي هذا التاريخ صامتاً عن دير مارون الذي يقع في نفس المقاطعة وبالقرب من دير مار باسوس حتى النصف الأول من القرن السابع . بل ان ما لا يمكن تصديقه ألا يترك رهبان هذين الديرين، بالرغم من قبولهم أو رفضهم لمجمع خلقيدونية، اي أثر يدل على وجود صلة بينهما سواء كانت حسنة أم سيئة. كما ينفي الدليل على أن رهبان دير القديس باسوس الذين كانوا خاضعين لسلطة سويريوس الأنطاكي دخلوا في جدل شخصي أو لاهوتي مع رهبان دير مارون المجاور الذين كانوا معادين لسويريوس. هذا بكل تأكيد أمر غير مألوف، إذا أخذنا بعين الاعتبار الروح العاطفية جداً في تلك الأزمنة والتي زادت من حدتها النزاعات العقائدية وفقدان التسامح الديني حيث كانت العقيدة المسيحية القضية التي شطرت ولاء المسيحيين للكنيسة والدولة معاً
هناك نقطة أخرى تتوجب الإيضاح وهي إن كان الـ 350 راهباً الذين يُزعم بأن كميناً نصب لهم وجرى قتلهم بتحريض من سويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي كلهم من دير مارون. يعتقد الموارنة بأن الرهبان كلهم كانوا من دير مارون ، ولهذا السبب تحتـفل الكنيسة المارونية بذكراهم في 31 تموز من كل عام ” كشهداء ” وتلامذة الناسك مارون
لا يوجد دليل على أن جميع هؤلاء الرهبان كانوا ينتمون إلى دير مارون. تدل رسالة الرهبان الموجهة إلى البابا هرمزدا والتي مرت مناقشتها أن غالبية الرهبان جاءوا من جميع أرجاء سورية الجنوبية لا من دير واحد كدير مارون. إذ يوقّع العديد منهم كرؤساء أديرة، مشيرين بذلك إلى أنهم جاءوا من أديرة مختلفة في سورية وإن كانوا لا يحددون هوية هذه الأديرة. وأظهر مثال على ذلك ان الأب شيخو استـناداً إلى رسالة الرهبان الموجهة إلى البابا هرمزدا يضع قائمة بأسماء ما لا يقل عن 25 ديراً كان بعض الثلاثمائة وخمسين راهباً الذين يزعم أنهم قتلوا، ينتمون إليها . كما ان رسالة الرهبان الموجهة إلى هرمزدا وقائمة الأسماء الملحقة بها، كما تظهران في مجموعة مانسي الذي يستـشهد به شيخو لا تذكر أسماء رؤساء أديرة خلا اسم اسكندر رئيس دير القديس مارو أو مارون . بيد أن شيخو نفسه يوضح أن هؤلاء الرهبان كانوا من أديرة مختلفة في أفاميا ووادي نهر العاصي . في الحقيقة ان تقويم الأعياد في كنيسة روما في 31 تموز لا يشير إلى أن الرهبان المنكوبين كانوا من دير مارون . إضافة إلى ذلك ليس هناك من دليل بأن الكنيسة المارونية قد احتـفلت يوماً بذكرى هؤلاء ” الشهداء ” قبل عام 1744. وحتى المجمع الماروني المنعقد في لبنان عام 1736، والذي حدّد، بين المسائل الأخرى التي تناولها، الأعياد والأيام التذكارية للقديسين الموارنة، لم يدرج يوماً تذكارياً ” لهؤلاء الشهداء “. يقول الأب لويس شيخو أن البابا بينيدكتس الرابع عشر أصدر في 12 آب 1744 صكوك غفران إلى كنيسة روما بأجمعها، ومنها الكنيسة المارونية المتحدة بها إحياء لذكرى هؤلاء الرهبان وبأن ” الكنيسة المـارونية ربما تكون قد بدأت منذ ذلك التاريخ بإحياء ذكرى هؤلاء الشهداء “
هناك دليل واحد يورده بعض الكتّاب للبرهان على أن دير مارون كان موجوداً في القرن الخامس وبأن رهبانه كانوا مدافعين عن إيمان خلقيدونية وهو رسالة موجهة من رهبان هذا الدير إلى جماعة من الرهبان السريان الأرثودكس أو المناوئين للخلقيدونية في أنطاكية والرد على هذه الرسالة. ويظهر ان علماء الكنيسة لم يكونوا على علم بهذه الرسالة او الرد عليها. لكن الكاتب الانكليزي وليم رايت يورد في المجلد الثاني من فهرسه الحافل، مقتطفات من كلتا الرسالتين استناداً على المخطوطة السريانية 12، 155 ، التي يُرجع رايت تاريخها إلى القرن الثامن ومن عنوان المخطوطة وهو ” كتاب البرهان من الآباء الأطهار ضد الهرطقات المتـنوعة ” يمكننا ان نستنتج بأنها مجموعة من الوثائق “المونوفيزية” (المناوئة للخلقيدونية) غايتها دحض العقيدة الخلقيدونية حول طبيعتي المسيح المتحدتين في شخص واحد مع بقائهما منفصلتين بعد الاتحاد . وقد نشر الأب فرانسوا نو هاتين الرسالتين عام 1903 مع ترجمة فرنسية وتعليقات . كما أعطى نسخاً من هاتين الرسالتين إلى المطران الماروني يوسف الدبس الذي ترجمهما من السريانية إلى العربية ونشرهما في كتابه : الجامع المفصَّل
الا ان الرسالتين قيد البحث لا توضحان الأسباب والظروف التي دعت إلى كتابتهما. قد يكون من المحتمل ان فاتحة رسالة رهبان مارون والتي تشير الى ” خمسة اقتراحات بعثها رهبان مارو، في أرمناز قرب أفاميا، في رسالة، بيدي اسحق وسرجيوس، إلى الرهبان الذين وقفوا إلى جانب بطرس ” هي التي دعت نو للتكهن بأن هاتين الرسالتين كانتا مرتبطتين بنزاع عقائدي جرى في زمن بطريرك أنطاكية السرياني الأرثوذكسي، بطرس الثالث الرقّي (581 ـ 591) . واذا رجعنا إلى تاريخ ديونيسيوس التلمحري، لوجدنا ما ينم عن الظروف التي قد تلقي الضوء على هاتين الرسالتين في عهد بطريركية بطرس الرقي
يقول التلمحري انه ظهر في الاسكندرية في زمن دميان بطريرك الاسكندرية (570 ـ 605 ؟)، شخص يُدعى اسطفان (ستيفن نيوبس) علّم قائلاً: ” إن اعترفنا بطبيعة واحدة في الرب المسيح فلن يكون من الممكن بعد ذلك القول بأن الفرق بين خصائص الطبيعتين لم يزل موجوداً ” . إن مايريده اسطفان هو أن طبيعتي المسيح اتحدتا في التجسد إلى حدٍّ بحيث لم يعد بالإمكان تمييز خصائصهما الواحدة عن الأخرى. بعبارة أخرى، إن إحدى هاتين الطبيعتين، على الأرجح الطبيعة الإلهية، قد استوعبت الطبيعة الأخرى. وبالطبع فقد كان هذا التعليم بالنسبة لكنيسة الاسكندرية وكنيسة أنطاكية السريانية معاً تعليماً هرطوقياً. ولهذا عنف دميان اسطفان منذراً إياه بالامتناع عن هذا التعليم، إلا أنه لم يفعل ذلك. ثم صدف أن زار مصر يومئذ البطريرك بطرس (الرقي) لأن بولس الأسود، وهو أحد بطاركة الاسكندرية الذي خلع من منصبه عام 581، كان يخلق المتاعب للكنيستين السريانية والمصرية. وكان بصحبة بطرس عالمان سريانيان، هما يوحنا بربور وبروبوس. وحين التقى هذان الرجلان باسطفان واصغيا إلى آرائه اللاهوتية انجرفا إليه وإلى تعليمه. كان كلاهما يرغبان بأن يصيرا أسقفين إلا أن البطريرك لم يكن جاداً في تلبية أمنيتيهما بسبب ميلهما للتعليم الهرطوقي لاسطفان. وبعد عودة البطريرك بطرس إلى سورية بقي يوحنا وبروبوس في مصر وأعلنا على الملأ إيمانهما بهرطقة اسطفان. فما كان من دميان الا أن طردهما من مصر فذهبا إلى سورية لنشر معتقداتهما. في الوقت نفسه قام بطرس بقطع يوحنا وبروبوس عن شركة الكنيسة في مجمع كنسي عقد في دير الجب الخارجي مما حدا بهما الى الاتصال بأنستاسيوس بطريرك أنطاكية الخلقيدوني والانتماء إلى جماعته فأصبحا بذلك خلقيدونيين
عندما توفي البطريرك بطرس عام 591، طلب يوحنا وبروبوس من أنستاسيوس دعوة الرهبان السريان المناوئين للخلقيدونية إلى اجتماع في أنطاكية لمناقشة التعليم الجديد لأن يوحنا وبروبوس اتهما البطريرك الراحل بطرس بالضلال في مسائل تتعلق بالإيمان. كان البطريرك بطرس قد كتب مقالاً فنّد فيه تعليم اسطفان وتابعيه يوحنا بربور وبروبوس. وفي هذه الآونة التقى الرهبان السريان بيوحنا وبروبوس وناقشوا معهما بنجاح مسائل الإيمان. لا يذكر التلمحري المدة التي دامت فيها المناظرة كما أنه لا يخبرنا ما حل بيوحنا بربور وبروبوس ولكنه يشير الى أن أتباع بروبوس عادوا إلى الإيمان الصحيح بعد وفاة البطريرك بطرس . من المحتمل جداً ان يكون اسم البطريرك بطرس الموجود في التوطئة المكتوبة في رسالة رهبان دير مارون في أرمناز الموجهة إلى جماعة من الرهبان السريان المونوفيزيين المناوئين للخلقيدونية في أنطاكية هو الذي دفع الأب نو على التكهن بأن رسالة الرهبان عينها هي الرسالة التي وجهها أنستاسيوس إلى الرهبان السريان في أنطاكية. ولكن يجب أن نلاحظ في هذا السياق وجود رسالتين مختلفتين ـ إحداهما من رهبان دير مارون في أرمناز إلى مجموعة من الرهبان السريان المناوئين للخلقيدونية في أنطاكية والرد على هذه الرسالة؛ والأخرى من أنستاسيوس بطريرك أنطاكية الخلقيدوني، يدعو فيها جماعة من الرهبان السريان المناوئين للخلقيدونية في أنطاكية إلى مناظرة ـ وأن الظروف التي كُتبت فيها الرسالتان كانت مختلفة أيضاً
ان رسالة رهبان مارون لا تعين موقع ديرهم، إلا أن رد المعارضين لهم، والذي كتبه راهب يدعى ثيودور، يبين بأن رهبان دير مارون هؤلاء جاءوا من قرية أرمناز في مقاطعة أفاميا. وهذه في الحقيقة أول مرة يرد فيها ذكر دير مارون في قرية محددة الهوية تدعى أرمناز، ولكن ليس هناك من دليل على أن هذا الدير هو نفس دير مارون الواقع على نهر العاصي في مكان ما بين حماه وأفاميا. سبق القول أن الموارنة أنفسهم يختلفون حول موقع دير مارون. يرى بعض الكتّاب ـ تشالينكو، على سـبيل المثال ـ أن هذا الدير ربما كان في نفس الموقع المعروف اليوم بالدوير ـ على بعد خمسة كيلومترات إلى الجنوب الشرقي من أرمناز. مما يدل على أنه ليس نفس الدير الذي يدّعي الموارنة بأنه ديرهم. يستـشهد الأب ضو بتشالينكو، إلا أنه يخفق في مطابقة هذا الدير في أرمناز مع دير مارون في أفاميا . كما انه من الصعب التصديق أن إيمان رهبان دير يعتبره الموارنة ” كبير الأديرة بين سائر أديرة سورية الجنوبية “، بني على اساس قوة مراسلةٍ وحيدة مريبة . والذي يدعو الى الارتياب بصحة وجود هذه الرسالة هو ان مؤرخاً سريانياً او غيره قد تطرق الى ذكرها. والمهم هو إن كانت مثل هذه المراسلة قد حدثت يوماً ما، فمن المنطقي أن يكون حدوثها في القرن الثامن عندما دخل رهبان دير مارون، كمونوثيليين، في جدل لاهوتي مع جماعات دينية أخرى في سورية (الملكيين الخلقيدونيين مثلاً) للدفاع عن معتقدهم بالمشيئة الواحدة للمسيح (المونوثيلية) . كما انهم دخلوا في نفس الجدل مع السريان الأرثوذكس (المونوفيزيين) للدفاع عن تمسكهم بإيمان خلقيدونية كما تظهر المراسلة. وقدعالج القس الماروني برناردو غبيرة الغزيري بشكل صحيح المراسلة قيد البحث بين رهبان دير مارون في أرمناز والرهبان السريان في أنطاكية باعتبارها تعود إلى القرن الثامن
الموارنة ورسائل الرهبان من سورية الجنوبية
الدكتور