8
ربما كان الأكثر مدعاة الى الارباك في رسالة الرهبان إلى البابا هرمزدا هو القسم المذكور آنفاً في ” الفصل الخامس ” بخصوص بطرس القصَّار ، بطريرك أنطاكية وصلته بالتقديسات الثلاث. قال الرهبان في رسالتهم فيما يتعلق ببطرس : ولكي نحيط قدس ملاككم علماً بالمعلومات الاكيدة فإننا نحرم في استرحامنا هذا بالذات ، وهو أيضاً بيان بالمعلومات ، كل أولئك الذين فُصلوا عن شركة الكرسي الرسولي. إننا نُشير إلى نسطور الذي كان أسقف القسطنطينية وبطرس الذي كان يدعى بالقصَّار .
إن ما عناه الرهبان بالكرسي الرسولي هو أن نسطور وبطرس القصّار اللذين قام الرهبان بحرمانهما كانا قد فصلا نفسيهما عن كرسي روما. وهو ادعاء يفتقر الى اساس تاريخي. ولكن النقطة المهمة في هذا الموضوع هي ليست ” انفصال ” هذين الرجلين عن كرسي روما الرسولي؛ بل قضية بطرس القصَّار وما أضافه على ما يزعم إلى التقديسات الثلاث. يتهم الخلقيدونيون ، ومنهم الموارنة المعاصرون ، بطرس القصَّار بإضافة العبارة التالية إلى التقديسات الثلاث : يا من صٌلبت لأجلنا ارحمنا. أما النص الأصلي للتقديسات الثلاث فقد كان على النحو التالي : قدوسٌ أنت الله ، قدوسٌ أنت القوي ، قدوسٌ أنت غير المائت ارحمنا . ليس المهم ان يكون بطرس القصَّار قد أضاف العبارة السابقة إلى التقديسات الثلاث مع أن هناك دليلاً قوياً حتى في المصادر الخلقيدونية بأن التقديسات الثلاث ، مع الإضافة المزعومة ، قد استعملها الشرقيون ، أي أهالي سورية قبل عهد بطرس القصَّار بسنوات عديدة. نحن نعلم من أفرام الآمدي ، بطريرك أنطاكية الخلقيدوني (527ـ545) ، أن التقديسات الثلاث ، ومن ضمنها عبارة ، يا من صُلبت لأجلنا ، قد استعملت في سورية قبل عهد بطرس القصَّار وكانت موجهة للشخص الثاني من الثالوث . ان أفرام الآمدي صائب في قوله. فقد اخبرنا زكريا أسقف مدللي أن عبارة يا من صُلبت لأجلنا كانت مستعملة في أنطاكية منذ القرن الرابع في زمن اسطاثيوس ، أسقف أنطاكية (325ـ330) . وبعد أكثر من قرن قام مارينوس الأفامي ، وهو مستـشار الإمبراطور أنستاسيوس وكاتم أسراره ، بحث الإمبراطور على الاشارة باستعمال عبارة ، يا من صُلبت لأجلنا في القسطنطينية وهذا يعني بأنها لم تكن مستعملة من قِـبَـل الكنيسـة في العاصمة؛ وكما يقول زكريا فان الإمبراطور قام بذلك
ينسب كاتب كلداني كاثوليكي ، هو الأسقف أدى شير ، استعمال التقديسات الثلاث ، ومن ضمنها عبارة يا من صُلبت من لأجلنا ، إلى رابولا ، أسقف الرها (ت 435) ، وهو أحد أتباع القديس كيرلس الاسكندري . ومهما يكن الأمر ، فإن هذا الدليل يؤيد بأن التقديسات الثلاث ، باضافة عبارة يا من صُلبت لأجلنا ، قد استعملتها كنيسة أنطاكية منذ بداية القرن الرابع ، قبل أن يصبح بطرس القصَّار أول مرة بطريرك لأنطاكية عام 471 بمئة وأربعين عاماً. لذا ، من الخطأ أن تـنسب إضافة عبارة يا من صُلبت لأجلنا إلى التقديسات الثلاث إلى بطرس القصَّار. ومما هو أكثر أهمية ، أن الموارنة يعتبرون بطرس القصَّار هذا ذاته ” هرطوقياً ” والعبارة المضافة إلى التقديسات الثلاث ” هرطقة “. وفي هذا الصدد يجادل البطريرك اسطفان الدويهي بأن بطرس القصَّار ” بهرطقته ” الجديدة كان قد حوّل الثالوث إلى رابوع. كما يقول أن نيّة بطرس كانت استمالة المؤمنين إما إلى الإيمان بأن المسيح قد تألم في لاهوته ، أو الإيمان بوجود شخصين في المسيح ـ احدهما إلهي قدير ، والآخر ، الذي عانى الصلب والموت ، إنساني وضعيف. ويُعلق الدويهي قائلاً : عندما وصل بطرس القصَّار إلى حماه وتناهى نبأ وصوله إلى تلك المدينة إلى أسماع رهبان دير مارون ، وافقوا بالإجماع على منع يوحنا (مروَّج نص بطرس الجديد للتقديسات الثلاث) من دخول مقاطعتهم. بل طرد هؤلاء الرهبان يوحنا وأمروا بأن ترنم التقديسات الثلاث في صلوات الصباح والمساء وفقاً للصيغة التي كانوا قد تلقوها من الآباء الأوائل للكنيسة. كما أمروا بأن يكون لمجمع خلقيدونية نفس شأن مجامع نيقية والقسطنطينية وأفسس
لا يترك الدويهي مجالاً للشك بأن بطرس القصَّار لم يكن فقط ” هرطوقياً ” بل حاول نشر نصه ” الهرطوقي ” للتقديسات الثلاث ، المتضمن لعبارة يا من صُلبت لأجلنا ، في الكنيسة. من المدهش حقاً أن هؤلاء الرهبان شجبوا بطرس القصَّار في رسالتهم الموجهة إلى البابا هرمزدا ، على أنه ” هرطوقي ” بينما يبرهن تقليد الكنيسة المارونية بأجمعه أن رهبان دير مارون استعملوا التقديسات الثلاث في الصيغة التي يُزعم بأن بطرس القصَّار قد بدأ باستعمالها أي ، المتضمنة عبارة يا من صُلبت لأجلنا ارحمنا. وهنا يبدي المطران السرياني أقليميس يوسف داود ملاحظة بالقول أن هؤلاء الرهبان ليسوا برهبان دير مارون الذي هو قيد البحث ، أو أنهم كانوا أناساً لا مبدأ لهم . يتابع داود القول بأن هؤلاء الرهبان كانوا ينتمون إلى دير بنفس الاسم لا للدير الذي يعتبره الموارنة ديراً لهم. يتكهن داود أبعد من ذلك قائلاً بأن رهبان مارون هؤلاء قد يكونون أرثوذكسيين ، بمعنى خلقيدونيين ، لكنهم أصبحوا في الفترة التالية للمجمع الخامس (553) ، مناوئين للخلقيدونية (أي ، سرياناً أرثودكس “يعاقبة”) حيث تبنوا المونوثيلية (مشيئة واحدة في المسيح) ، مازجين بذلك في طقوسهم بعض العقائد ” اليعقوبية ” والنسطورية. وفي أجيال لاحقة ، كما يقول داؤد انضموا إلى كنيسة روما ، مع أنهم احتفظوا بالعديد من معتقداتهم السابقة. تعتبر هذه المعتقدات ، فيما عدا الاعتراف بإيمان خلقيدونية ، معتقداتٍ مطابقة بمعتقدات ” اليعاقبة “. ويستمر داؤد لتأييد رأيه قائلاً بأن يوحنا مارون يستشهد في كتابه عن الايمان ” بالملحد سويريوس السيء السمعة ” ويعني بهذا بطريرك أنطاكية . يحاول داود الإثبات بأن الادعاء بأن رهبان دير مارون كانوا خلقيدونيين ، يتعارض مع الحقيقة وهي ان الكنيسة المارونية تستشهد بآراء عدو لمجمع خلقيدونية في المسائل العقائدية. مهما يكن الأمر فلا مبرر لأن يصف داود سويريوس الأنطاكي بأنه ” ملحد ” وبينما كنيسته السريانية نفسها تفتتح حتى اليوم خدمة القداس بتلاوة معنيث (نشيد) مار سويريوس ومطلعه ” اعظمك ايها الملك الابن وكلمة الاب السماوي الخ …”.
يورد بعض الموارنة تـفسيراً مختلفاً لاستعمال التقديسات الثلاث ليثبتوا تمسكهم بكنيسة روما. ومن هؤلاء المطران يوسف الدبس الذي اعترف بأن الموارنة استعملوا في كتبهم الكنسية التقديسات الثلاث مع عبارة يا من صُلبت لأجلنا ، لكنه يحاول الجدل بأنهم استعملوها فقط بمدلول ” كاثوليكي ” ـ أي ، بتوجيه هذه العبارة إلى الشخص الثاني في الثالوث ـ المسيح . ويردف قائلاً أن التقديسات الثلاث في هذه الصيغة لم تستعمل من قِـبَـل الموارنة بشكل متعمد وبأن الأحبار الرومان سمحوا باستعمالها فقط إن كان المقصود بها أن تكون موجهة إلى السيد المسيح. ويستـشهد المطران الدبس بأفرام الآمدي ، بطريرك أنطاكية الخلقيدوني ، الذي يبين ، في دفاعه عن مجمع خلقيدونية وطومس لاون ، أن الشرقيين (أهالي سورية وأنطاكية) وجهوا عبارة يا من صُلبت لأجلنا إلى المسيح وحده ، وهذا أمر مسموح به ، بينما رفض أهالي القسطنطينية العبارة لأنهم اعتقدوا بأن المقصود بها هو الثالوث بأجمعه. وبناء على هذا الرأي ، ينتهي الدبس إلى القول بأن استعمال هذه العبارة بأي من هذين المعنيين هو استعمال أرثوذكسي . واذا عدنا الى المؤرخ أيفاغريوس نجده يقول بأن العديد من الناس في القسطنطينية اعتبروا الإضافة إلى التقديسات الثلاث أمراً مستـنكراً لاعتقادهم بأنها موجهة إلى الثالوث بأجمعه ، مما يعني بأن لاهوت المسيح قد تألم وعانى الموت (عقيدة مؤلهي اللاهوت) (
إن ما يستأثر بالاهتمام هو أن المطران الدبس يستشهد بكتّاب مناوئين للخلقيدونية (على سبيل المثال ، الحبر السرياني الذائع الصيت يعقوب السروجي للبرهان على أن استعمال التقديسات الثلاث مع عبارة يا من صُلبت لأجلنا كان استعمالاً أرثودكسياً . ويحاول على غرار العديد من الكتّاب الخلقيدونيين ، خطأ بالطبع أن ينسب ” الهرطقة ” الى بطرس القصَّار ، بقوله أنـه استعمل الإضافة الى التقديسات الثلاث بمعنى مقسم للإله . ولن يفوتنا ان نذكر بان المؤرخ اللاهوتي الالماني الكاثوليكي هيفيلي ايضاً على خطأ في القول بأن بطرس القصَّار ، سعياً وراء تعزيز الجماعة المونوفيزية (المناوئة لمجمع خلقيدونية) قد أدخل إلى التقديسات الثلاث عبارة يا من صُلبت لأجلنا . لقد بيَّنا بأن كنيسة أنطاكية استعملت التقديسات الثلاث مع هذه العبارة قبل أن يصبح بطرس القصَّار بطريركاً على أنطاكية عام 471 بأكثر من قرن من الزمان. ويتابع هيفيلي شرح الكيفية التي استعملت فيها هذه الإضـافة إلى التقديسات الثلاث بالمعنيين الأرثودكسي واللاأرثودكسي فهو يقول : ” بوسعنا القول (Per communicationem idiomatum) ( اي بالمدلول اللغوي كمجرد إصطلاح لا يفهم منه انه ذو معنى مستقل بذاته ) دون ثمة اعتراض على تعبير ” الله صُلب “. ولكن عندما يرد مصطلح ” صُلب ” او يا من صلبت لاجلنا في التقديسات الثلاث ، حينئذٍ يكون معناه أن الآب مع الابن والروح القدس قد تألم أيضاً ” على الصليب ” .
يضيف هيفيلي الى رأيه المزيد من التعقيد بقوله بأن امتداد الألم إلى الآب والروح القدس بالنسبة للأوطاخيين هو أمر ” متلائم مع إيمانهم بأنه لم تكن في المسيح بعد الاتحاد سوى طبيعة واحدة ، وهي الطبيعة الإلهية ” . الأمر ليس كذلك. إذ لم يسبق لبطرس القصَّار يوماً أو لكنيسة أنطاكية السريانية التي كان ينتمي إليها التمسك بعقيدة أوطاخي. والحقيقة هي ان هذه الكنيسة تدين أوطاخي بالهرطقة ولاهوتها قائم بشكل أساسي على عقيدة القديس كيرلس الاسكندري ، الذي جاهر بكل اصرار بأنه لم تكن بعد اتحاد طبيعتي المسيح ، اللاهوتية والناسوتية ، سوى طبيعة واحدة متجسدة للوغوس الإلهي. وهذا مناف لرأي أوطاخي القائل أنه بالرغم من أن المسيح كان إلهاً تاماً وإنساناً تاماً ، فإن جسده لم يكن متساوياً في الجوهر (أي من نفس الجوهر) معنا. والذي يعنيه أوطاخي بهذا القول أن طبيعة المسيح البشرية استوعبت فقط طبيعته الإلهية ولم تتحد معها بحيث لم تكن للمسيح سوى طبيعة واحدة إلهية مع جسد بشري هو بمثابة بطانة للطبيعة الإلهية . لذلك ، من الخطأ اتهام بطرس القصَّار باستعمال الإضافة إلى التقديسات الثلاث بالمدلول الذي يوحي بأن الذات الإلهية بأجمعها قد عانت الصلب والموت. ولكن المشكلة هي أن هيفيلي وغالبية الخلقيدونيين قد خلطوا بين الأوطاخية وعقيدة القديس كيرلس اللاهوتية واصمين إياهما بالمونوفيزية. إن كنيسة أنطاكية السريانية قد وجهت على الدوام التقديسات الثلاث ومن ضمنها عبارة يا من صُلبت لأجلنا إلى المسيح ، الشخص الثاني في الثالوث. يقول ديونيسيوس ابن الصليبي (ت 1172) بخصوص التقديسات الثلاث : يُعرف مما يلي بأن هذه التقديسات الثلاث تُـشير إلى الابن الذي تليق به؛ وهي معروفة بقولنا ” قدوس أنت أيها الله الابن ” لانه تجسد مع بقائه إلهاً؛ ونقول “قدوس أنت القدير” لانه لبس جسدنا الضعيف مع أنه بقي قديراً في ألوهته؛ ونقول ” قدوس أنت السرمدي ” ، لأنه مات بالجسد مع أنه بقي سرمدياً كالله . وإثباتاً لدعواه ، يستـشهد ابن الصليبي باللاهوتي الكبير القديس غريغوريوس النزينزي (ت 389) حول الفصح الذي كتب أن الله صار جسداً وصُلب ومات
هنا نخلص إلى القول بأن بعض الرهبان من سورية الجنوبية قد حرموا بطرس القصَّار في رسالتهم إلى البابا هرمزدا بسبب اضافته المزعومة الى التقديسات الثلاث ، بينما قبلوا هم وبقية الكنيسة ، فيما عدا أهالي القسطنطينية ، التقديسات الثلاث مع هذه العبارة المضافة وهي يا من صُلبت لأجلنا. وسوف نرى بعدئذ أن الكنيسة المارونية استمرت ، حتى أواخر القرن السادس عشر بترنيم التقديسات الثلاث مع هذه الإضافة
بطرس القصار والتقديسات الثلاث
الدكتور