3
تشير المصادر القديمة المتوفرة إلى المكان الذي عاش فيه الناسك مارون وموقعه . ولكن قد يميل المرء ، عند قراءته لثودوريطس إلى الاستنتاج بأنه عاش في جوار قورش في الاقليم الذي كان يُعرف آنئذٍ بسورية الاولى (الشمالية) ، على بعد أميال عديدة إلى الشمال الشرقي من أنطاكية . وقد أدَّى الإخفاق في تحديد هوية هذا المكان ، بالموارنة والمتعاطفين معهم ، إلى التكهن حول موقعه . يقول المطران الماروني بيير ديب بأن مارون عاش على قمة جبل قرب أفاميا في سورية الجنوبية ، وهي منطقة بعيدة جداً عن قورش . ويدَّعي آخرون أن مارون عاش في كهف قرب منبع نهر العاصي قريباً من الهرمل في لبنان ؛ ويستشهدون برهاناً على ذلك باسـم الكهف المعروف حتى هذا اليوم باسم كهف مارون
يتكهن المستشرق الأب هنري لامنس بأن مارون عاش على قمة أحد الجبال في الطريق إلى حلب إلى الجنوب الشرقي من قورش ، مع أنه يخفق في ذكر موقع هذا الجبل بالضبط . ويقول المطران يوسف الدبس ، مقتدياً بالسمعاني ، بأن المقام الرهباني لمارون كان على ضفة نهر العاصي في الرستن ، في مكان ما بين حمص وحماه . وسوف يلاحظ أي امرئ على معرفة بجغرافية سورية ، بأن الرستن كانت تقع على نهر العاصي ، إلى الجنوب من حماه وعلى بعد أميال من قورش الواقعة في أقصى شمال سورية
يقول البطريرك اسطفان الدويهي بأن مارون عاش في القورشية (مقاطعة قورش ـ في سورية الشمالية) وأنه حدّد هوية الجبل الذي عاش مارون في أعاليه . ولكن من الضروري الاشارة هنا الى أن ثيودوريطس كان اول من ذكر هذا الجبل من غير ان يحدد اسمه أو موقعه . لكننا نفهم من الدويهي بأنه القى ، وهو ما يزال كاهناً ، عظتين في حلب حدد فيهما هوية الجبل الذي عاش مارون في أعلاه على أنه ” جبل أوليمبوس ” ، دون ان يقدم شرحاً لما كان يعنيه ” بجبل أوليمبوس ” . غير ان الأب بطرس ضو حاول تحديد هوية ” جبل أوليمبوس ” هذا بقوله بأن الدويهي غالباً ما يخلط بين الأسماء الجغرافية وأسماء الاعلام ويبدلها ، ومن أحد هذه الأسماء هو اسم ” جبل أوليمبوس ” . ويردف الاب ضو بقوله اذا اخذنا بنظر الاعتبار ، تحريف الأسماء بسبب تغير اللغة المستمر وبسبب أخطاء الناسخ ، فأن جبل أوليمبوس هذا الذي يتحدث عنه الدويهي ما هو إلا جبل سمعان أو قلعة سمعان التي تقع على بعد خمسة عشر كيلومتراً إلى الجنوب من حلب . وإن جبل سمعان هذا هو نفس الجبل الذي عاش فيه القديس سمعان العمودي والذي ، بعد وفاته عام 459 ، بنيت في موقع قبره على الجبل كنيسة فخمة ، لم يبقَ منها سوى الأطلال التي مازال يشاهد بينها العمود الذي عاش القديس سمعان في أعلاه
ويستمر الأب ضو قائلاً أن ” أوليمبوس ” الذي يتكلم عنه الدويهي هو تحريف لـ نبو أو ينبو (بالسريانية) ، الذي حسبه الدويهي خطأ ” أوليمبوس ” . ويستـشهد بشارل س . كليرمون ـ غانو ، الذي يؤكد بأن جبل سمعان كان يُعرف في السابق بجبل نبو . وقد سمي نبو نسبةً إلى صنم وثني كان يعبده سكان قرية مجاورة أصبحت تعرف باسم كفرنبو (أي قرية نبو) . وبمرور الزمن دعا الناس الجبل بنفس الاسم . وهنا لا نجد الأب ضو واثـقاً بأن جبل سمعان كان سابقاً يدعى نبو فحسب ، بل أن مارون نفسه عاش في قرية كفرنبو وأن معبد نبو هو نفس المعبد الذي جزم ثيودوريطس بأن مارون قد احاله إلى كنيسة . من المؤكد ان ثيودوريطس ، أسقف قورش كان على معرفة تامّة ببلدان وقرى أبرشيته ، ولو أنه عرف أو حتى سمع بأن مارون عاش هناك لكان ذكر كفرنبو ولكنه لم يفعل . ولهذا كان من الصعب ، بالنظر الى الأدلة المتوفرة ، القول بأن ” أوليمبوس ” هو تحريف لكلمة نبو ، وبأن هذا الجبل هو نفس جبل سمعان المسمى باسم القديس سمعان العمودي الشهير . بل لا يوجد اي دليل تاريخي ينص على أن الناسك مارون عاش يوماً في قرية اسمها كفرنبو . والاكثر من ذلك ان هذه النتيجة التي توصل إليها الأب ضو لا تتعارض مع رواية ثيودوريطس الذي يقول بأن مارون عاش في العراء لا في قرية فحسب ، بل تتعارض أيضاً مع ما انتهى إليه المعلقون الموارنة القدماء . ومن ثم كانت النتائج المختلفة التي توصل إليها الكتّاب الموارنة اللاحقون ، في محاولتهم تحديد هوية اسم موطن مارون وموقعه بالضبط ، تفتقر الى دليل تاريخي . بل أدَّى هذا التـشكيك في الواقع إلى خطأ أكثر فداحة فيما يتعلق بموقع الدير المبني بالضبط بعد موت مارون والمسمى باسمه . ولمعرفة ذلك وجب العود مرة أخرى إلى ثيودوريطس
لم يذكر ثيودوريطس في روايته المقتضبة عن مارون المكان الذي عاش فيه مارون بالضبط أو تاريخ وفاته . وكل ما رواه هو نشوب نزاع بعد وفاة مارون بين الناس حول جثمانه . ادى في النهاية ان طرد أهالي القرى المجاورة الآخرين وطالبـوا بالجثمان وبنـوا معبداً كبيراً على رفات بطلهم . ولا زال هذا المعبد مستخدماً حتى اليوم تكريماً لحياته الفاضلة . لا يحدد ثيودوريطس هوية القرية التي انتصر أهلها في النزاع الذي حول جثمان مارون ، كما أنه لا يخبرنا عن المكان الذي أُخذ إليه الجثمان وبُني فيه معبد كبير . هذا ما أدَّى إلى نشوء قدر كبير من التكهن المرتاب بصحته
أشار ثيودوريطس إلى معبد لا إلى دير ، ومن المؤكد بأنه كان يعرف الفرق بين الاثنين . ولسوء الحظ ، فقد فسّر الكتَّاب الموارنة منذ القرن السابع عشر ، وخاصة الدويهي ، كلام ثيودوريطس بشكل خاطئ . وبالرغم من أن الدويهي أقرَّ بأن ثيودوريطس لم يذكر اسم المعبد والمكان الذي بني فيه إلا أنه خمَّن بـأن ثيودوريطس كان يُـشير إلى ” المعبد الذي بناه أهل حماه على نهر العاصي ، في مكان ما بين تلك المدينة ومدينة حمص ” . وقد استنتج بأن هذا المعبد اصبح ” دير مارون ” الذائع الصيت
غير أن الدويهي متقلب حول هذه القضية . فهو يقول مرّة أن “أهل حماه ” اختطفوا جثمان مارون وبنوا معبداً صار بعدئذ ديراً عظيماً في موقع دفن الجثمان ، بينما يقول في مكان آخر أن ” أهالي حمص وحماه ” سوية هم من فعلوا ذلك . ومن الظاهر انه لا يمكن قياس حمص وحماه في سورية البيزنطية في القرن الخامس بأي حال من الأحوال بالقرى المغمورة التي ذكرها ثيودوريطس . فقد كانتا كلتاهما مدينتين قديمتين بلغتا شأواً في الإمبراطورية الرومانية وكانتا تشكلان مجتمعين متمدنين هامين وتضمان عدداً غفيراً من السكان
من المعقول بدرجة كبيرة ان نستخلص من رواية ثيودوريطس أن أهالي القرية المجاورة ذات العدد الاكبر من السكان اختطفوا جثمان مارون وحملوه إلى قريتهم وبنوا فيها معبداً تكريماً له . ولو أن المكان كان حماة لقال ثيودوريطس ذلك . وهنا لا نجد محيصاً من الاستنتاج ، بناء على قول ثيودوريطس ، أن القرية كانت في مقاطعة قورش بين حمص وحماة وهي الرستن كما يعتقد المطران يوسف الدبس .
يؤكد الدويهي على أن دير مارون هذا كان احد الأديرة العديدة المعروفة بنفس الاسم . هذا صحيح ، إلا أنه لا دليل هناك بأن هذه الأديرة قد سُميت باسم مارون ومنها المسماة باسم مارون قرب القسطنطينية ودمشق كما يدَّعي الدويهي . هناك دليل على وجود أكثر من دير واحد معروف باسم دير مارون في جوار حماة . يرى العلاّمة السمعاني في مكتبته الشرقية (1 ، 497) ، تفصيلاً لرواية ثيودوريطس عن مارون واستـشهاداً بالكاتب اللاتيني باغيوس ، أن دير مارون كان يقع على ضفة نهر العاصي بين حمص وحماه . وهذه هي نفس الملاحظة التي أبداها الدويهي سابقاً . نحن نعلم بأنه كان في سورية الجنوبية في القرنين الخامس والسادس أكثر من ناسك واحد يُدعى مارون : فهناك مارون الذي اتصل به سويريوس بطريرك أنطاكية؛ ومارون آخر اتصل به يعقوب السروجي؛ ومارون ثالث العينـزربي الذي كتب فيلكسينوس المنبجي رسالة إليه
يستند السمعاني في رأيه إلى أن موفدين اثنين من دير مارون حضرا المجمع الخامس الذي عقده الإمبراطور يوسـطنيان الأول عام 553 ، حاملين معهما رسالة موجهة إلى الإمبراطور وإلى مينا ، بطريرك القسطنطينية وقّعاها نيابة عن رهبان ذلك الدير . قدَّم هذان الموفدان نفسيهما على أنهما ممثلين لدير القديس مارون ، ” كبير الأديرة في سورية الجنوبية ” . قد يكون هذا صحيحاً ولا ينفي صحة وجود دير يحمل اسم مارون . ولكن هل كان هذا الدير هو نفس الدير الذي بناه اتباع الناسك مارون الذين اختطفوا ، كما يزعم ، جثمانه إلى مكان ما بين حمص وحماه ، وانه نفس الدير الذي اصبح ” كبير الأديرة ” بين سائر أديرة سورية ومعقلاً للدفاع عن عقيدة مجمع خلقيدونية . ان رسالة الموفدين هذه ، سواءً كانت صحيحة من الناحية التاريخية ، لا تثبت أن هذا الدير هو الذي يدَّعي الموارنة بأنه دير مارون ، والذي يحاولون اسناد أصلهم وتسميتهم اليه
ان المؤرخ ثيودوريطس لم يذكر أبداً أن اتباع مارون قد غادروا يوماً المنطقة المجاورة لقورش لبناء دير أو أديرة في أفاميا في سورية الجنوبية أو بجوارها . إلا أنه يروي بأن اثنين من اتباع مرقيانوس القورشي ، في سورية الجنوبية ، وهما أوسابيوس وأغابيتس كانا قد قاما ببناء أديرة في أفاميا . مما اوحى الى الأب هنري لامنس التكهن باحتمال أن يكون تلامذة مرقيانوس الذين كانوا أصلاً من قـورش ، هم الذين بنوا ديراً سمّي باسم مارون . ولكن بما أن هذا القـول يتعارض مع رواية ثيودوريطس ، فمن الصعب ان يؤخذ ما ذهب اليه لامنس على محمل الجد
وبينما تعيّن غالبية الموارنة موقع دير مارون بين حمص وحماه ، فإن الأب بطرس ضو ، يواجهنا بنظرية جديدة حول موقع دير مارون . فتراه يستشهد بياقوت الحموي (ت 1229) ، الذي يذكر في كتابه: معجم البلدان ، مرتين ديراً يُدعى مرّان . يقول ياقوت أن الناس في زمانه كانوا يزورون ضريحاً للخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز ، يقع على جبل يُدعى دير مرّان ، يطل على بلدة كفرطاب . وفي موضع آخر يقول ياقوت الحموي أن دير مرّان هذا يقع على الجبل المطل على كفرطاب قرب المعرة ويعتقد الناس أنه يضم ضـريح الخليفة الاموي عمر بن عبدالعزيز
يستـشهد الأب ضو أيضاً بابن عبدالحق (ت 1308) ، الذي وضع ملخصاً لكتاب ياقوت الحموي معجم البلدان بعنوان: مراصد الإطلاع في أسماء الأمكنة والبقاع ، إلا أن ابن عبدالحق لا يُضيف شيئاً جديداً إلى قول ياقوت الحموي حول موقع دير مرّان . لكنه يقول بأنه نفسه زار الموقع واستفهم من أهالي المعرة عن موقع ضريح الخليفة عمر بن عبدالعزيز . وقد قيل له أن الدير ، الذي يضم الضريح ، يعرف بدير النقيرة وهو ما دفع الأب ضو إلى الاستنتاج بأنه ربما يكون دير مرّان
بالرغم من عدم وجود اي شيء في هذه الملاحظة يُشير إلى أن دير مُرّان هو دير مارون ، فإن الأب ضو يدّعي بأن الديرين هما نفس الدير . ولكن هذا الادّعاء يتعارض مع ادّعاء الموارنة بأن موقع دير مارونهم هو الرستن بين حمص وحماه في سورية الجنوبية بينما تقع بلدتا المعرة (معرة النعمان) وكفرطاب على بعد عدة أميال في سورية الشمالية . فضلاً عن ذلك ، لم يدَّع أحد من الموارنة أبداً بأن ديرهم ، دير مارون ، يضم ضريح الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز . وهكذا يناقض الأب ضو سلفيه ويؤكد بجرأة على أن ” هذا هو موقع دير مارون الواسع الشهرة والذي لعب دوراً هاماً في تاريخ الكنيسة في سورية وكان أصل الكنيسة المارونية ونواتها ” . كما يناقض الاب ضو كاتب القرن الرابع عشر ابن محمود الكاتب الدمشقي الذي يقول أن دير مرّان كان يقع خارج مدينة دمشق
يستـشهد الأب ضو بالمؤرخ ابي حسن المسعودي ليثبت بأن دير مارون يقع قرب نهر العاصي إلى الشرق من حماه وشيزر ، إلا أن حماه وشيزر هما على بعد عدة اميال إلى الجنوب من المعرة وكفرطاب . كما ان استشهاده بالمسعودي لا يحقق الغاية المرجوة منه لأن المسعودي يبيّن بوضوح أن ضريح الخليفة عمر بن عبدالعزيز كان في دير سمعان في ولاية حمص قرب مقاطعة قنسرين . وهذا ما يناقض أيضاً قول ياقوت بأن الخليفة عمر بن عبدالعزيز كان مدفوناً في دير مُرّان .
رأينا أن البطريرك الماروني اسطفان الدويهي يقول ، في تـفسيره لرواية ثيودوريطس عن مارون ، بأن أهالي حماه اختطفوا جثمان الناسك وبنوا معبداً فوق مدفنه عند منعطف نهر العاصي ، الذي اصبح في وقت قصير ديراً عظيماً يؤوي ثمانمائة راهباً . يؤيد هذا الرأي موارنة آخرون ، ومنهم السمعاني . ومع ذلك فان الأب ضو يُـشير أيضاً إلى أن الإمبراطور البيزنطي مرَقيان ، الذي تقلد السلطة عام 451 هو الذي بنى دير مارون . ويستـشهد بأبي الفداء (ت 1331) الذي يروي في كتابه: المختصر في أخبار البشر بأن مرقيان خلف ثيودوسيوس الثاني وحكم سبع سنوات . وبعد مرور سنة على توليه مقاليد السلطة بنى دير مارون في حمص . يخمّن الأب ضو بأن الدير كان مقدراً له أن يحتل ” المقام الأول ” بين الأديرة في سورية الجنوبية ، لأن الإمبراطور بناه . ويصرّ على أن أحد الأسباب التي حدت بالإمبراطور لبناء هذا الدير هو ” الدور الذي بدأ الموارنة بلعبه في قيادة الجزء السرياني الآرامي من الشعب السرياني “
ويستمر الأب ضو قائلاً أن غالبية المسيحيين في سورية منذ العهود الرسولية وحتى بداية القرن الخامس كانوا يقيمون في المدن ولهم لغتهم وثـقافتهم اليونانية . ولكن منذ القرن الرابع فصاعداً انتشرت رسالة الإنجيل في القرى وبين أهالي الريف ، وهم الغالبية من السكان الذين كانوا سرياناً لغةً وثـقافةً . وهكذا ، يحاجج الأب ضو قائلاً بأن ” التوازن قد تحول لصالح الجزء الآرامي من سكان سورية تحت قيادة الرهبان ” باهتداء الأهالي إلى المسيحية بواسطة جهود الرهبان الموارنة . وينتهي إلى القول أن هذا هو السبب الذي دفع الامبراطور مرقيان إلى بناء الدير من أجل كسب الرهبان إلى جانبه ، أي لدعم مجمع خلقيدونية الذي كان قد دعا إليه ، ولمنع الشعب السرياني تحت تأثير الرهبان الموارنة من “التحول إلى المونوفيزية ” ، التي صارت شائعة بين السريان
هناك رأي آخر جاء به الأب ضو يتعلق بالسبب الذي دفع مرقيان إلى بناء ديـر مارون في تلك البقعة المعينة وهو قـرب الدير من الصحراء حيث يعيش البدو الوثنيون . ولهذا كانت إحدى مهام المسيحيين الإنجيليين هداية البدو للمسيحية ، لتحضيرهم ودمجهم في الإمبراطورية الرومانية
وبالرجوع الى ابي الفداء نرى انه يستمد معلوماته من تاريخ أبى عيسى أحمد بن علي المنجَّم بعنوان: كتاب البيان عن تاريخ سنّي زمان الأعلام على سبيل الحجة والبرهان ( وهكذا يُعتبر أبو الفداء الكاتب الوحيد ، الذي يدَّعي في كتابه الباقي على قيد الوجود بأن الإمبراطور مرقيان بنى دير مارون ، ولكن معلوماته تعتبر ثانوية . إن ما يجعلنا نعتقد أن ادعاء أبي الفداء ضعيف إلى حد كبير هو عدم وجود أي مصدر آخر أشار إلى أن الإمبراطور مرقيان هو الذي بنى دير مارون
من الصعب ، الاتفاق ، حتى حول هذه النقطة مع أبي الفداء بأن الإمبراطور مرقيان بنى دير مارون . ربما يكون أبو الفداء قد خلط بين مرقيان والإمبراطور يوسطنيان الأول ، وهو الذي يقول عنه بروكوبيوس (الكتاب رقم 5 ، الفصل 8) بأنه قام بتجديد دير مارون . ولكن ملاحظة بروكوبيوس ليست ذات فائدة طالما أنه لا يحدد هوية أي دير من أديرة مارون قام يوسطنيان بتجديده . مهما يكن الأمر ، فإن الأسباب التي يستنتج ضو بأنها دفعت بمرقيان إلى بناء دير مارون لا تستـند إلى أساس تاريخي
ان قول أبي الفداء بأن الإمبراطور مرقيان بنى دير مارون ، وهو ما يردده الأب ضو ، يتضارب مع ادعاء بعض الموارنة وخاصة البطريرك اسطفان الدويهي بأن أهالي ” حمص وحماه ” هم الذين بنوا هذا الدير . ومما يزيد المسألة ارباكاً هو قول أبي الفداء بأن دير مارون كان يقع في حمص . وقد أدرك الأب هنري لامنس أن مشكلة هوية دير مارون تصبح من الضعف بمكان ” لو ثبتنا موقع ديـر مـارون في حمص ” . فهو يعتقد أن هذا الدير لم يكن واقعاً في حمص ، ولا في منتصف الطريق بين هذه المدينة وحماه ، ولكنه كان واقعاً على نهر العاصي على بعد مسافة قصيرة إلى الشمال من حماه . كما أنه يميل إلى الاعتقاد بأن المسعودي ، في كتابه: التنبيه والإشراف ليس بعيداً جداً عن الصواب عندما يقول أن هذا الدير كان يقع إلى الشرق من شيزر قرب نهر العاصي ، وهو النهر الذي يمر بمدينتي حمص وحماه
يورد الأب هنري لامنس مصدراً آخر يعتقد بأنه أكثر صحة في تحديد موقع دير مارون . فهو يُـشير إلى الأب فرانسوا نو ، الذي اصرّّ بأن دير مارون كان يقع ” قرب أفاميا في وادي العاصي ” . ولأجل البرهان على صحة فرضيته يُـشير لامنس ، كما يفعل غيره من الكتّاب الموارنة ، إلى مقتل 350 راهباً من دير مارون وهم في طريقهم لزيارة مقام أو دير القديس سمعان العمودي (إن مصدر لامنس هنا هو رسالة يدّعي أنها كانت موجهة من قِـبَـل رهبان دير مارون إلى البابا هرمزدا عام 517) . ويستنتج لامنس ، اعتماداً على هذه الحادثة ، أن العلاقة بين رهبان مارون ورهبان القديس سمعان العمودي كانت ولا بد قوية ، وبالتالي كان الديران يقعان بالقرب من بعضهما . إلا أن لامنس ليس على يقين تام بشأن مقدار المسافة التي تـفصل هذين الديرين احدهما عن الآخر . فهو يقول أن باستطاعة المرء أن يعترض منطقياً بأن المسافة مازالت بعيدة جداً بحيث يتعذر معها قيام أي اتصال سهل بين الاثنين . وينتهي بالنتيجة قائلاً : ” من الواضح أن دير مارون كان يقع في أقصى الشمال بحسب الدليل المقدم ” . أما أساس ادعاء الاب لامنس ـ بأن الـ350 راهباً الذين قتلوا جملة قد جاءوا من هناك (اي من دير مار مارون ـ إلى جانب فرضيته بقرب ديري مارون والقديس سمعان من بعضهما ـ فهو أساس واهٍ عديم القناعة
ينعكس تلكؤ الأب لامنس في اتخاذ قرار بشأن أصل دير مارون في تـفكيره الجاد باحتمال أن يكون أغابيتس احد اتباع مرقيانوس هو الذي بنى هذا الدير فهو يقرّ بأن الأب ف .م . جوليان هو مبتكر هذه الفكرة ، ويقول بأنه ما من سبب يدعو إلى إنكار نظرية جوليان بأن أغابيتس هو الذي بنى دير مارون ، طالما أن دراسة المواقع الجغرافية في سورية لا تدحض هذه الفكرة . يبيّن لامنس ، بوضوح ، في رسم جغرافي تخطيطي عن حياة القديس مارون ، أن مرقيانوس وهو أحد اتباع مارون ، أرسل أحد تلامذته ، أغابيتس ، لبناء أديرة في مقاطعة أفاميا في (النقيرة) ، وهي بلدة كبيرة إلى حدٍ ما ، وبأن أغابيتس هذا ، بنى ديرين في المدينة أو قربها . لا معرفة لنا باسم أحد هذين الديرين ، أما الدير الآخر فقد سُمي باسم القديس سمعان العمودي الذائع الصيت . ليس هناك من دليل على أن الدير الآخر قد سُمي باسم مارون
هناك نظرية أخرى حول هوية دير مارون اجترحها الأب مرتينوس اليسوعي ، الذي كرس معظم حياته لدراسة لبنان وتاريخه . يقول مرتينوس أنه ليس من غير المحتمل أن يكون أحد الكهنة ـ هو الناسك ماريس (Mares) (أو ماري باليونانية) الذي عاش في مقاطعة أفاميا ، والذي وجه إليه القديس يوحنا الذهبي الفم رسالة ، هو مارون الذي كتب إليه الذهبي الفم أيضاً رسالة . ويفترض مرتينوس هذه النظرية بسبب التشابه في تهجئة الاسمين وذلك ان ماريس (Mares) أو ماري شارك في رئاسة دير يُدعى دير سمعان ، مع واحدٍ يُدعى سمعان (هو غير سمعان العمودي الذي ورد ذكره) وكان مؤسس الدير الذي صار يُعرف بعدئذ بدير مارون أو ماري . بيد أن مرتينوس ، يقرُّ بعدم وجود دليل تاريخي يبرهن على صحة هذا الافتراض ، مستنتجاً بأنه من المحتمل أن الناس لم يستطيعوا التمييز بين الناسك مارون وتلميذه مرقيانوس ، الذي يُـشار إليه في بعض المصادر بكونه ماريان . وهنا لا يتفق الأب لامنس مع مرتينوس بأن ماريس ومارون قد يكونان نفس الشخص ، إلا أنه يوافق على وجود تشابه بين اسمي مرقيانوس وماريان . فهو يخمّن أن معاصري مرقيانوس بنوا كنيسة باسمه ، بسبب شهرته كقديس . ولذا يتساءل فيما إذا كان من المحتمل ، أن يكون بعض اتباع مرقيانوس الذين جاءوا إلى أفاميا هم الذين بنوا ديراً لتكريمه هناك . إن صحَّ هذا ، فإن مشكلة هوية دير مارون ستحل ، وسيصبح من الجلي أن واحداً من الديرين في أفاميا قد سُمي نسبة إلى مارون الذي توفي ودُفن في مقاطعة قورش في سورية الشمالية . لكن يبدو أن لامنس يتحاشى هذه الاعتبارات في تقيده بالرأي القائل أن دير مـارون كان معروفاً منذ بداية القرن السادس فقط بذلك الاسم
يمكن استخلاص العديد من النتائج بناء على الآراء والتكهنات السابقة . إن الدليل الذي ينصرف إليه اهتمام الموارنة وأولئك الذين يدعمون ادّعاءهم بشأن وجود دير في سورية الجنوبية في القرن الخامس هو دير مارون كان رهبانه خلقيدونيين ، لهو دليل واهٍ لا سبيل إلى الدفاع عنه . لا يمكن للموارنة (وغيرهم) حتى الاتفاق حول من بنى دير مارون أو حول موقعه بالضبط . بل لا تستند معظم البراهين التي يقدمونها على أساس تاريخي . غير أن الحقيقة التاريخية تُـشير بالفعل إلى أنه كان يوجد العديد من الأديرة تحمل اسم مارون في سورية ، ولكنها لا تُـشير بالتحديد إلى أنها سُميت نسبة إلى الناسك مارون . ومما هو أكثر أهمية ، أن الدليل المتوفر لا يدعم الادعاء بوجود جماعة مارونية في سورية قبل القرن السابع ، لا بل قبل القرن الثامن ، وبينما يدعم الدليل التاريخي فرضية كون الزاهد التقي المُسمى مارون قد عاش ومات ودُفن في مقاطعة قورش في شمال سورية ، فانه ما من بينة تدل على أن مارون هذا قد أسس يوماً طائفة دينية أو أوحى باسم الموارنة . إضافة إلى ذلك ، ليس هناك من دليل على أن مارون أو اتباعه قد بنوا يوماً ديراً باسمه . إن أولئك الموارنة الذين يصفون ناسكهم مارون على أنه ” أب الأمة المارونية ” يفعلون ذلك مدفوعين كلياً بنزعة عاطفية وليس من حقيقة موضوعية
دير مارون
الدكتور متي موسى