كلمة أولى
من هم الموارنة وما هي أهميتهم لوجود الجمهورية اللبنانية او وجود لبنان كقطر ؟
أثارت الأزمات المتتالية حديثاً منذ منتصف السبعينات من القرن الماضي في لبنان تساؤلات حول الموارنة والدور الذي يلعبونه في المجتمع اللبناني . الموارنة هم مسيحيون متحدون بالكنيسة الكاثوليكية الرومانية أو أتباع لها في اعترافهم الإيماني . ولكن ما هو أصل الطائفة المارونية؟ وما هو الإرث الثـقافي لهذه الطائفة؟ وما هو مدى ارتباطها بطوائف مسيحية أخرى في الشرق الأوسط ؟
يعاني الموارنة اليوم مشكلة هوية خطيرة . فهم لم يستطيعوا حتى الآن من البت فيما إذا كانوا ينحدرون من شعب قديم يُدعى بالمردة (المتمردين Mardaites) أو أنهم عرب أو من أصل آرامي سرياني . وما لم يتوصل الموارنة إلى حل مشكلة الهوية هذه ، فإن صراعاتهم مع الطوائف الأخرى في لبنان لن تهدأ . يُعتبر هذا الكتاب ، في الجوهر، دراسة وتحليلاً لأصل الموارنة ، وتراثهم التاريخي ، كما يُعتبر تحرياً يرتكز إلى مصادر قديمة وحديثة كتبت بلغات عديدة ، مازال العديد منها على شكل مخطوطات
كان الموارنة ، في ايمانهم وليتورجيتهم وطقسهم وكتبهم الدينية وتراثهم من أصل سرياني أرثوذكسي (يعاقبة) حتى نهاية القرن السادس عشر بالضبط عندما أصبحوا أتباعاً للكنيسة الكاثوليكية الرومانية . في هذا الوقت، وبالتحديد في عهد الأمير فخر الدين المعني، بدأ البطاركة الموارنة في لعب دور مميّز في الشؤون الداخلية للبنان . ففي الجزء الأخير من القرن الثامن عشر ، اكتسبت الكنيسة والطائفة المارونيتين نفوذاً متزايداً عندما اهتدى بعض الأمراء الشهابيين الحاكمين إلى المسيحية وانضموا إلى الكنيسة المارونية . منذ أواسط القرن التاسع عشر وحتى عهد البطريرك بولس المعوشي (ت 1975) ، تجلت السلطة الزمنية للبطاركة الموارنة في شؤون لبنان السياسية حيث أعرب البطاركة الموارنة عن آرائهم حول كل قضية تقريباً وصاروا يُعتبرون لا بطاركة ورؤساء لطائفتهم وحسب بل ” بطاركة لبنان ” . وهكذا أصبح لبنان والمارونية بالنسبة للموارنة مترادفين . فضلاً عن ذلك، بدأ الموارنة يعتبرون أنفسهم طائفة فريدة من نوعها متميزة ديناً وثـقافةً عن العالم العربي ذي الغالبية المسلمة . هذا المفهوم هو في الحقيقة الدافع الرئيسي لبحث الموارنة عن هوية متميزة
يعتقد المؤلف أن هذا التاريخ للطائفة المارونية سيكون مثار اهتمام كبير لمؤرخي الكنيسة واللاهوتيين والقراء عامة ، الذين يهتمون بشؤون الموارنة وعلاقتهم بالأزمات الحالية في لبنان. يعطي هذا الكتاب خلفية من المعلومات حول هذه الأزمة ويصلح كدليل لأولئك الذين يهتمون بمعرفة تاريخ هذه الطائفة المسيحية الفريدة في الشرق الأوسط
هناك ملاحظة يريد ان يبديها المؤلف وهي ان الكتاب تمّ طبعه بالانكليزية عام 1986 ولذاك لم يشأ ان يضيف ايّة معلومات عن احوال الموارنة بعد هذا التاريخ لأن غايته لم تكن كتابة تاريخ الموارنة السياسي او تاريخ لبنان المعاصر . بل كانت غايته القصوى اثبات اصول الكنيسة المارونية والطائفة المارونية على ضوء ادعاءات الكتّاب الموارنة . وكذلك بيان تراث الموارنة المذهبي والطقسي وأنهم فرع من دوحة الكنيسة السريانية الانطاكية
كذلك يودّ المؤلف ان يجلب الانتباه الى أنه اجرى في هذه الترجمة تصليح الهفوات التي وقعت في الطبعة الانكليزية
اود أن اتقدم بالشكر الى المؤسسة الأمريكية للدراسات السريانية لدعمها لهذا المشروع والى الأخ حنا عيسى توما الذين تبنى هذا المشروع وصرف عظيم الجهد في إخراجه الى حيز النور
متي موسى
المقدمة
لدى تحري تواريخ الطوائف المسيحية الشرقية كطائفة اليونان البيزنطيين والأقباط والسريان والروم الأرثودكس والنساطرة والأرمن ، يجد المؤرخ في متناول يده العديد من المصادر الأساسية والثانوية باليونانية واللاتينية والسريانية والأرمنية والقبطية والأثيوبية والعربية تتـناول جوانب مختلفة من احوال هذه الطوائف وكنائسها كالعقيدة ، والوحدة وانعدامها ، والبطريركية ، والطقس والليتورجية . أما بالنسبة للطائفة المارونية فالحال مختلف جداً إذ نجد ندرة في المؤلفات الدينية والتاريخية ما عدا الملاحظات العابرة التي أبداها مؤرخون غير موارنة حيث ربطوا الموارنة بالمونوثيلية ( الإيمان بأن طبيعتي المسيح الإلهية والبشرية متحدتان في إرادة واحدة وقدرة واحدة في التجسّد ) أو تحدثوا عن اتصالهم بالصليبين . ومما يثير دهشة المؤرّخين ، العلمانيين والكنسيين معاً ، هو عدم وجود تاريخ كنسي مدوّن للموارنة قبل القرن السابع عشر ، او مؤرخون من أمثال ثيودوريطس القورشي أو ايفاغريوس او ثيوفانس او ديونيسيوس التلمحري او ميخائيل الكبير (السرياني) أو المفريان غريغوريوس ابن العبري . والاستثناء الوحيد لذلك هو تاريخ العالم باللغة العربية كتبه كاتب ماروني في أوائل القرن العاشر يُعرف باسم قيس . بدأ هذا العمل بالخليقة وانتهى بحكم الخليفة العباسي المكتفي (ت 908). والكاتب الوحيد الذي يذكر هذا التاريخ هو ، مؤرخ القرن العاشر، أبو الحسن المسعودي في كتابه: التنبيه والإشراف (القاهرة، 1938، ص 132) . ومما يؤسف له حقاً ان يكون تاريخ قيس مفقوداً . ولهذا ، ولأول مرة ، لا نجد تاريخاً زمنياً وكنسياً للموارنة وكنيستهم حتى القرن السابع عشر . وهو تاريخ الطائفة المارونية ، للبطريرك الماروني اسطفان الدويهي ( ت 1704 ) . قام بتحقيق هذا التاريخ ، الذي كتب في الأصل بالكرشونية ( اللغة العربية بحروف سريانية ) ، رشـيد الخـوري الشـرتوني ونشـره بالعربية في بيروت عام 1890.
هناك بعض مصادر مارونية مكتوبة قبل القرن السابع عشر إلا أنها لا تتـناول تحديداً لتاريخ الطائفة المارونية . ويرجع تاريخ اثنين من هذه المصادر إلى القرن الحادي عشر وهما كتاب الهدى والفصول العشرة لتوما أسقف كفرطاب الماروني في شمال سورية. يعالج كتاب الهدى في الجوهر قوانين الكنيسة المارونية ، بينما يتضمن المصدر الثاني دفاعاً عن المونوثيلية كعقيدة مارونية
نجد في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر باحثاً مارونياً هو جبرائيل ابن القلاعي (ت 1516) ، مطران نيقوسيا في قبرص يدافع عن ” أرثودكسية ” الكنيسة المارونية رداً على اتهامها بالمونوثيلية . وما يعنيه القلاعي بـ ” الأرثودكسية ” هو الإيمان الذي حدده مجمع خلقيدونية (451) والذي أصبح إيمان كنيسة روما القائم على أساس العقيدة بأن طبيعتي المسيح الإلهية والبشرية اتحدتا في شخص واحد في التجسد إلا أنهما بقيتا منفصلتين بعد الاتحاد. وقد رفضت تحديد الإيمان هذا غالبية قادة الكنيسة في سورية ومصر الذين أقرّوا بأن النتيجة المنطقية لاتحاد طبيعتي المسيح هي طبيعة متجسدة واحدة لله اللوغوس (الكلمة ، اي السيد المسيح) . وليس هنا المجال لإثبات او تفنيد هاتين العقيدتين بل كل ما يستوجب القول هو ان غاية القلاعي كانت البرهان بأن الكنيسة المارونية لم تزل متشبثة بإيمان خلقيدونية ولم تَحِدْ عنه أبداً . لذلك كان القلاعي أول ماروني في الأزمنة الحديثة من ادَّعي بأن الكنيسة المارونية وكنيسة روما اعتنقتا نفس الإيمان ودافعتا عن “الارثودكسية” الخلقيدونية . والأكثر من ذلك فان القلاعي هو أول من أشاد بأن يوحنا مارون، الذي يعتقد بأنه توفي عام 707 ، كان أول ” بطريرك ماروني لأنطاكية العظمى ” . جاء هذا في كتابه المعنون : مارون الطوباني ، والذي مازال على شكل مخطوطة (مخطوطة الفاتيكان الكرشونية 640) . ويقدم القلاعي معلومات عن خلفيّة يوحنا مارون هذا مدعياً بأنه ابن أغاثون ومن أصل افرنجي . ثم جاء بعده البطريرك اسطفان الدويهي في القرن السابع عشر ليزيد في هذه القصة ويخطو خطوة ابعد من ذلك بجعل يوحنا مارون ابن أخِ الإمبراطور شارلمان. وقد كتب القلاعي أيضاً قصيدة غنائية باللغة العربية اللبنانية المحكية بعنوان: مديحة كسروان وهي قصيدة زجلية يعتبرها بعض الموارنة سجلاً تاريخياً للكنيسة المارونية من القرن الخامس حتى القرن الخامس عشر . مع أن كل ما احتوته الزجلية هو إشارات إلى الموارنة وكنيستهم في القرن الخامس عشر ولا يمكن اعتبارها سجلاً لتاريخ الكنيسة المارونية
وفي عام 1584 تمَّ تأسيس مدرسة مارونية في روما لتثقيف شباب موارنة وتلقينهم الإيمان الكاثوليكي . وطفق بعض خريجي هذه المدرسة بالكتابة باللغة اللاتينية عن أصل الموارنة وأسمائهم وكنيستهم . كان من المرموقين بينهم جبرائيل الصهيوني (المتوفي سنة 1648) وابراهيم الحاقلاني (المتوفي سنة 1664) ، ومرهج نيرون الباني (المتوفي سنة 1711) الذي حاول أكثر من أي ماروني آخر شرح اسم الموارنة وأصلهم في كتابين باللاتينية تمّ طبعهما في روما في القرن السابع عشر . إلا أنه ما من أحد من الموارنة كتب بشكل وافٍ ومنتظم عن تاريخ الكنيسة والطائفة المارونيتين كالبطريرك اسطفان الدويهي الذي يُعتبر أول مؤرخ ماروني في الأزمنة الحديثة
في الوقت االذي دافع القلاعي عن ارثودكسية الكنيسة المارونية (بمعنى تمسكها بصيغة الإيمان التي حددها مجمع خلقيدونية وهي نفس صيغة ايمان كنيسة روما) ، كان مرهج نيرون أول من ارتأى بأن مصطلح ” موارنة ” مشتق من اسم ناسك في القرن الخامس اسمه مارون . واذا تفحصنا المصادر القديمة نجد أن مؤرّخ القرن الخامس ثيودوريطس ، أسقف قورش الذي يتناول قصة حياة النسّاك في زمانه ، أدرج من ضمنها سيرة حياة قصيرة لناسك يدعى مارون، مع أنه لم يكن قد التقى به . وهنا وجد الكتّاب الموارنة ابتداء من مرهج نيرون والذين جاءوا بعده في اسم مارون هذا حلاً لمشكلة هويتهم المارونية . وإذا كان هؤلاء الموارنة قد ربطوا اسمهم باسم مارون الناسك فان غيرهم من الكتاب يرتأون بأن مصطلح ” موارنة ” مشتق من دير مارون في سوريا الجنوبية ، إلا أنهم يخفقون في البرهان على أن هذا الدير هو الذي يدَّعون بأنه اصل كنيستهم وطائفتهم . بيد أن موارنة آخرين كالدويهي، يصرّون على أن أصل كنيستهم وجماعتهم يرجع إلى دير يقع على نهر العاصي قرب مدينة حماه في سورية ، وبأن رهبان هذا الدير اعتنقوا الإيمان الأرثودكسي (الذي حدّده مجمع خلقيدونية)، وبأنهم لم يحيدوا عنه أبداً، منكرين بأن الموارنة كانوا في أي وقت من الأوقات مونوثيليين . ومع أن بعض الموارنة يقبلون الحقيقة وهي أن الموارنة كانوا مونوثيليين ، إلا أنهم يضفون على مونوثيليتهم تـفسيراً غريباً لتبدو وكأنها على انسجام مع إيمان خلقيدونية. ويمكننا أن نذكر من هؤلاء المطران الماروني يوسف دريان ، الذي اعترف بالمونوثيلية المارونية في كتابه : لباب البراهين الجلية عن حقيقة أمر الطائفة المارونية (دون ذكر محل الطبع 1911)
يورد الموارنة ، اثباتاً لادعائهم بالتمسك الدائم بإيمان خلقيدونية ، رسالة كتبت عام 517 وقّعها كهنة من سورية الثانية (الجنوبية) ورئيس دير مارون ووجّهوها إلى البابا هرمزدا يتهمون فيها سويريوس ، بطريرك أنطاكية (ت 538) ومطرانه بطرس ، أسقف أفاميا ، بقتل 350 راهباً . يدَّعي الموارنة بأن هؤلاء الضحايا كانوا من دير مارون وأنهم قُتلوا وهم في الطريق إلى مقام القديس سمعان العمودي في مهمة كنسية حيث أُجهز عليهم بسبب تمسكهم بإيمان خلقيدونية . ويستـشهد الكتّاب االموارنة ايضاً برسائل أخرى كتبها ووقّعها كهنة من سورية الجنوبية (وبينهم رؤساء دير مارون) تتّهم سويريوس الأنطاكي ورفاقه بالمزيد من الجرائم الإضافية . هذه الرسائل رُفعت إلى المجمع الذي التأم في القسطنطينية عام 536 لإدانة سويريوس ورفاقه. ومجمل القول ان الكتّاب الموارنة يعلنون صراحة ، بأنهم كانوا دائماً متمسكين بإيمان خلقيدونية واعتماداً على هذا الإيمان كانوا متّحدين بكنيسة روما منذ القرن الخامس . لهذا السبب تراهم يحاولون زعزعة الثـقة بأولئك المؤرّخين ـ وخاصة مؤرّخ القرن العاشر، سعيد ابن بطريق (أوطاخي) ، بطريرك الاسكندرية الخلقيدوني ، ومؤرخ القرن الثاني عشر وليم الصوري ـ اللذين اتهما الموارنة بالمونوثيلية . ولكن الحقيقة التاريخية هي أن ديونيسيوس التلمحري ، بطريرك أنطاكية السرياني الأرثودكسي (ت 845) كان أول من ذكر تبني رهبان دير مارون للمونوثيلية . ويُرجع التلمحري مونوثيلية هؤلاء الرهبان إلى عامي 629 ـ 630 وهو الزمن الذي فرض فيه الإمبراطور البيزنطي هرقل المونوثيلية على شعب سورية
يذهب الموارنة أبعد من ذلك بالقول أن بطريركيتهم هي بطريركية أنطاكية الأصلية وبأن يوحنا مارون هو أول بطاركتهم . ويؤكدون بالإجماع أن الاختيار وقع في عام 686 على يوحنا مارون لشغل هذا المنصب بعد وفاة ثيوفانس ، بطريرك أنطاكية الخلقيدوني . بيد أنهم يختلفون بشأن من اختار يوحنا مارون بطريركاً . يدَّعي البعض ان موفد للبابا هونوريوس (ت 638) الذي تصادفَ وجوده في سورية في القرن السابع هو الذي اختاره بطريركاً وان هذا الموفد، على ما يبدو ، اختبر إيمان يوحنا مارون ، وبعد أن وجده ارثودكسياً (خلقيدونياً)، أخذه إلى روما حيث رسمه البابا هونوريوس بطريركاً عام 686 . ادرك الدويهي انه من غير الممكن ان يكون البابا هونوريوس الذي توفي 638 قد رسم يوحنا مارون بطريركاً عام 686، فاجترح رأياً جديداً وهو أن البابا سرجيوس ، لا هونوريوس، هو المقصود في هذا السياق وأن الناسخ أخطأ حتماً بوضع اسم هونوريوس بدلاً من سرجيوس . ويدَّعي كتًاب موارنة آخرون بأن أساقفة المردة اختاروا يوحنا مارون بطريركاً.
ولكن من هم هؤلاء المردة؟ أجمع الموارنة على أن هؤلاء المردة هم أناسٌ محاربون استخدمهم الأباطرة البيزنطيون في القرنين السابع والثامن لمحاربة الجيوش الأموية التي قامت بغزو لبنان . ويُضيف الموارنة القول بأنهم انفسهم ينحدرون من هؤلاء المردة . بعبارة أخرى ، يدّعي الموارنة بأن المردة والموارنة هما نفس الشعب . وبالنظر الى هذا التـفسير فإن أساقفة المردة (أي الموارنة) هم الذين اختاروا يوحنا مارون ورسموه بطريركاً على أنطاكية . وقد دافع الموارنة عن هذا الإدعاء اخصّهم العلاّمة يوسف السمعاني الذائع الصيت (ت 1768) في المجلد الأول من مكتبته الشرقية . لكن أكثر من تشبث بهذا الإدعاء هو المطران يوسف الدبس (ت 1907) في كتابه : الجامع المفصل في تاريخ الموارنة المؤصل (بيروت، 1905)
هناك عدة ادعاءات إضافية يوردها الكاتب المارني المعاصر الاب بطرس ضو في كتابه: تاريخ المـوارنة الديني والسياسي والحضاري (ج 1، بيروت ، 1970). يصوِّر الأب بطرس ضو القديس سمعان العمودي بأنه ” تلميذ ” ناسك القرن الخامس مارون ويدعوه “بالماروني الباسل ” و ” منبع البطولة في الأمة المارونية ” . يعالج الاب ضو، أكثر من أي ماروني آخر مفهوم ” الأمة المارونية ” والبطريركية المارونية ، معطياً الانطباع بأن الموارنة كانوا حجر الزاوية في النسك والقومية السريانية ، وأنهم كانوا مركز المسيحية وكنيسة أنطاكية في الشرق. يؤيد ضو كل الادعاءات التي جاء بها كتّاب موارنة سابقون ويبذل جهداً كبيراً في إسهابها . ولكن بعض كهنة من الكنائس المتحدة (الكاثوليكية الرومانية) في الشرق اخذوا بتحدّي الادعاءات المارونية منذ القرن الثامن عشر، اخصّهم المطران السرياني الكاثوليكي أقليميس يوسف داؤد ، الذي حاول اكثر من ايّ كاتب آخر تفنيد مزاعم الموارنة. كتب داؤد أطروحة باللاتينية يتحدى فيها الادعاءات المارونية بالارثودكسية الدائمة (التمسك بإيمان خلقيدونية) . مما اثار حميّة المطران الماروني يوسف الدبس للرد عليه في كتاب بعنوان : روح الردود في تفنيد زعم الخوري داؤد (بيروت، 1871) نُشر بالعربية واللاتينية معاً ، لدحض اتهامات داؤد . كرّس المطران اقليمس داؤد بدوره مخطوطة بأكملها بعنوان : جامع الحجج الراهنة في إبطال دعاوى الموارنة (أنجزت عام 1873 في الموصل، العراق) في دحض المزاعم المارونية ، ونشرت لاحقاً في لايبزغ عام 1908.
ومع أن كتاب داؤد هو اوسع كتاب باللغة العربية يشمل تفنيد المزاعم المارونية ، إلا أن المؤلف يغفل أهم إدعاءٍ ماروني ، وهو الإدعاء ” بالارثودكسية ” الخلقيدونية المبنية على الرسائل التي وقّعها رؤساء دير مارون والتي تتهم سويريوس ، بطريرك أنطاكية ، ومطرانه بطرس الأفامي بمقتل 350 راهباً من دير مار مارون وهم في طريقهم الى دير سمعان العمودي في مهمة كنسية . لكن داؤد يذكر في مكان واحد وفي تذييل فقط رسالة الكهنة من سورية الجنوبية إلى البابا هرمزدا . وهو يفعل ذلك لا لتفنيد التهمة الموجهة إلى سويريوس بل للبرهان بأن رهبان دير مارون كانوا يستعملون التقديسات الثلاث (أي قدوس أنت الله، قدوس أنت القوي ، قدوس أنت الحي غير المائت) ، مع عبارة ” يا من صُلبت لأجلنا ارحمنا ” ، والتي تعتبرها كنيسة روما ” هرطوقية ” . ويخلص داؤد إلى القول بأن رهبان دير مارون الذين استعملوا هذه العبارة لم يكونوا أرثودكسيين (خلقيدونيين)
هذه هي إذا ًإدعاءات المـوارنة لاقامة أساس شرعي لكنيستهم وطائفتهم . إلا أن بعض جوانب التـفسير الماروني للتاريخ عرضة للشك ، وخاصة الادعاء بأن كنيستهم هي ” كنيسة أنطاكية ” ، والادعاء بالارثودكسية الخلقيدونية ، وتحديد هوية يوحنا مارون . فضلاً عن ذلك، ونظراً لأسباب سياسية وطائفية ، فقد سعى الكتّاب الموارنة إلى إقامة ارتباط عضوي مع كنيسة روما أدّى بهم إلى مراجعة الحقائق التاريخية وإعادة تـفسيرها خاصة في القرون القريبة العهد . كانت مثل هذه المراجعة، بالمعنى الطائفي ، بحثاً أيضاً عن هوية مستقلة . بل ما زال الموارنة حتى اليوم يبحثون بإستمرار عن هوية مستقلة
الموارنة في التاريخ – كلمة أولى
الدكتور متي موسى