هرقل وصيغة الايمان المونوثيلية الدكتور متي موسى

Posted by on Aug 8, 2016 in Library | Comments Off on هرقل وصيغة الايمان المونوثيلية الدكتور متي موسى

12
في النصف الأول من القرن التاسع أماط ديونيسيوس التلمحري أخيراً اللثام عن تاريخ رهبان دير مارون الذي كان في السابق غامضاً يفتقر الى الإثبات. يزودنا التلمحري، وهو أقدم مصدر من مصادرنا حول هؤلاء الرهبان، بالعديد من الروايات التي تشرح بداية الكنيسة المارونية، جماعتها، بطريركيتها وإيمانها العقائدي. وترتبط إحدى هذه الروايات بالسياسة الدينية للإمبراطور البيزنطي هرقل ، الذي كان ينوي الحفاظ على وحدة الإمبراطورية. كان قد حصل صراع ديني حاد وانشقاقات كبيرة ضمن الكنيسة منذ القرن الأول للحقبة المسيحية، إلا أن هذا الصراع بلغ ذروته في مجمع خلقيدونية عام 451 الذي شقّ وحدة الكنيسة وخَلق سوء نية أكثر من أي مجمع كنسي آخر مخلفاً جراحاً في جسم الكنيسة الجامعة لا تزال حتى يومنا هذا. إن الاضطهاد المشين الذي مارسته الدولة والكنيسة البيزنطيتين لتشبثهما بالإيمان الخلقيدوني تجاه الذين رفضوا هذا الإيمان هو حقيقة تاريخية. وقد جرت عدة محاولات قام بها عدد من الأباطرة لمصالحة الخلقيدونيين مع المعارضين لهم، لكنها باءت بالفشل. إن جهود الإمبراطور يوسطينيان الأول الصادقة بهذا الصدد والتي ما كانت إلا جهوداً خرقاء متنافرة، معروفة جداً. ولكن ما أساء في الحقيقة إلى سلامة الإمبراطورية البيزنطية هو أن غالبية أهالي إقليمي مصر وسورية التابعين لسلطة الدولة البيزنطية كانوا مناهضين لتعريف إيمان خلقيدونية (1). وقد أضعفت هذه المعارضة ولاء سكان هذين الإقليمين للدولة، وأخيراً خسرتهما هذه الدولة أولاً للفرس ثم للفاتحين العرب المسلمين ما بين سنوات 633 و 640

عندما تولى هرقل السلطة عام 610، كان الصدع في الكنيسة قد وصل الى حدّ الخطورة. فالعداء بين الخلقيدونيين، الذين تمسكوا بعقيدة الطبيعتين في المسيح، والمعارضين لهم، الذين تمسكوا بالطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي، كان فعّالاً وهداماً كما كانت عليه الحال في اعقاب مجمع خلقيدونية. وهنا واجهت هرقل مشكلة خطيرة، كانت تهدد وجود الدولة البيزنطية بالذات. ففي عام 611 هاجم الفرس سورية واحتلوا أنطاكية ودمشق، وبعد ثلاث سنوات زحفوا نحو فلسطين وبعد عشرين يوماً من الحصار احتلوا القدس، عابثين فيها نهباً وقتلاً. كانت خشبة الصليب المقدس من بين النفائس الثمينة التي حملوها معهم. وفي عام 618 هاجموا مصر وعاثوا فيها فساداً ثم دخلوا كابادوكية وبلاد بيزنطة نفسها، وأضحت العاصمة القسطنطينية في متناول يدهم. أخفقت جهود هرقل لعقد الصلح مع الملك الفارسي، كسرى الثاني، وفي غمرة يأسه، وجه الإمبراطور المهزوم جيشاً عرمرماً، هاجم به الفرس عام 622 طارداً إياهم من أرمينيا. منذ ذلك الحين فصاعداً صار الفرس في موقف المدافع وخسروا العديد من المعارك مع البيزنطيين. وبحلول عام 628 كان الفرس قد أُجلوا عن المقاطعات البيزنطية وساد السلام أخيراً عام 630. إلا أن العرب احتلوا مصر وسورية في العقد التالي مما أحدث انقلاباً جذرياً في تاريخ الشرق الاوسط

من الظاهر أن هرقل، كما فعل يوسطينيان الأول، اعتبر أن سلامة الإمبراطورية كانت تعتمد، من بين الأشياء الأخرى، على مصالحة الفريقين المتخاصمين الخلقيدونيين ومعارضيهم. كان اهتمامه الرئيسي منصباً لا على لأم جراح الكنيسة أو التهاود بشأن بقرارات مجمع خلقيدونية بل على اعتبارات سياسية لاسترجاع إقليمي مصر وسورية المناوئين لمجمع خلقيدونية محققاً بذلك وحدة الإمبراطورية التي تمناها. لهذا السبب كان عليه أن يجد صيغةً للإيمان ترضي المناوئين لمجمع خلقيدونية دون انتقاص عقيدة هذا المجمع. كانت صيغة الإيمان هذه هي المونوثيلية، التي أقرت بأن طبيعتي المسيح اتحدتا في مشيئة واحدة وقدرة واحدة، أو باستعمال تعريف الكاتب الالماني ادولف هارناك، ” ان طبيعتي المسيح اقامتا بكل الفعاليات بإتحادهما بقدرة إلهية ـ بشرية واحدة

لم تكن صيغة القدرة الواحدة بدعةً في الكنيسة. بل يرجع تاريخها إلى الكتاب المنحول لديونوسيوس الأريوفاغي . ففي رسالتهم الموجهة إلى الإمبراطور يوسطينيان الأول، لم يستـشهد الآباء المناوئون لمجمع خلقيدونية الذين استدعوا من المنفى لمناقشة وحدة الكنيسة في القسطنطينية (535 ـ 536) بالكتاب المنحول للأريوفاغي فقط، بل أصروا أيضاً أن في التجسد لم تكن هناك سوى طبيعة واحدة متجسدة للوغوس الإلهي. وكما يقول سرجيوس بطريرك القسطنطينية (610ـ638)، هذه هي الصيغة التي قال بها كيرلس الاسكندري في الفصل الرابع من تفسيره لانجيل يوحنا أن ” المسيح اظهر مشيئة واحدة متجانسة نتيجة اتحاد طبيعتيه ” . كما يروي سرجيوس أن هذه الصيغة موجودة في رسالة سلفه، البطريرك مينا (ت 552) إلى البابا فيجيليوس ووردت مرة أخرى في رسالة مينا إلى الإمبراطور يوسطينيان الأول؛ كتبت هاتان الرسالتان بخصوص إدانة الفصول الثلاثة ( الاولى رسائل هيبا الرهاوي إلى ماري، والثانية عقيدة تيودوريطس، أسقف قورش والثالثة كتابات ثيودور المصيصي ). وبعد ان ادان البابا فيجيليوس هذه الفصـول الثلاثة صرّح قائلاً : ” نحـرم كل من لا يعترف أن كلمة الله المولود الوحيد، أي المسيح، هو جوهر واحد وشخص واحد و unam operationem “، و(فعل واحد)

يعزو بعض الكتّاب، الذين يعتبرون صيغة القدرة الواحدة ” هرطقة “، إلى سرجيوس هذا، الذي يُـشير إليه ثيوفانس وآخرون اعتباطاً على أنه ” يعقوبي “. كما أنهم يدّعون خطأ بأنه كان أول من كتب عن هذه العقيدة . وفي الوقت الذي يقول فيه بعض الكتّاب أن الإمبراطور هرقل علم بهذه العقيدة بواسطة القائد بولس المناوئ لمجمع خلقيدونية عندما كان في أرمينيا، يرتأي آخرون ان الامبراطور كان ولا بدّ على علم بهذه العقيدة بواسطة سرجيوس قبل لقائه ببولس . يقول المؤرخ الألماني يوحنا موسهايم، ولكن بدون اساس تاريخي، أن بولس والبطريرك اثناسيوس معاً أوحيا إلى هرقل ” بأن المونوفيزيين ” وهم المناوئون لمجمع خلقيدونية ” قد يقتـنعون بقبول مجمع خلقيدونية ويتصالحون مع اليونانيين، بشرط أن يقبل اليونانيون أنه لم تكن في المسيح يسـوع، بعد اتحاد الطبيعتين، سوى مشيئة واحدة وفعل إرادي واحد ” . هناك رواية أخرى يرويها الكاتب الكاثوليكي نويل الكسندر الذي يقول ” أن أثناسيوس بطريرك اليعاقبة، وهو رجل شرير داهية كسب ثـقة الإمبراطور، زار الإمبراطور عندما كان في جرابلس، في سورية العليا ” ، ووعده الإمبراطور حينذاك بتنصيبه بطريركاً على أنطاكية إذا قبل مجمع خلقيدونية واعترف بطبيعتين. عندئذ سأل أثناسيوس الإمبراطور إن كان من الضروري القول بمشيئتين وفعلين أو بمشيئة واحدة وفعل واحد في شخص المسيح. ويتابع الكسندر قائلاً بأن أثناسيوس ” الأوطاخي” كان راضياً بهذه العقيدة الزائفة لهذا جرى تعيينه بطريركاً لأنطاكية. ويستنتج الكسندر بأن هؤلاء الرجال الثلاثة، أثناسيوس وسرجيوس وأسقف قورش كانوا المبتدعين للطائفة “المونوفيزية “

اذا استثنينا الحقيقة وهي أن البطريرك أثناسيوس التقى بهرقل، فإن بقية الرواية التي رواها نويل الكسندر لا تستند على أساس تاريخي

يمكننا إذاً أن نحكم بأنه ليس من المؤكد ان كان سرجيوس قد عرض عقيدة القدرة الواحدة على هرقل أم أن الأخير علم بها من بولس بينما كان هذا الاخير في أرمينيا. إن انماء معرفة الإمبراطور بهذه العقيدة إلى أثناسيوس بطريرك أنطاكية أمر تدحضه الحقيقة وهي أن الإمبراطور كان قد كتب إلى هذا البطريرك قبل لقائهما في عام 629، حول وحدة طبيعتي المسيح، قائلاً أن ” ما يثبت هذه الوحدة هو القدرة الواحدة كما كان المبارك كيرلس قد قال ” . وهذا ما كان البابا فيجيليوس قد أعلنه في مجرى الأحداث التي أدت إلى إدانة الفصول الثلاثة في المجمع الخامس. لذا، من الخطأ الادعاء أن البطريرك اثناسيوس كان أول من نقل هذه العقيدة إلى الإمبراطور، لكن لا بد أن الإمبراطور كان يرجو بألا تسيء عقيدته الجديدة إلى الخلقيدونيين، بينما ترضي في الوقت نفسه معارضيهم وبالتالي توحد بين الفريقين. إلا أن النتيجة لم تكن كما كان متوقعاً. وبينما صادق بعض الكهنة ذوي النفوذ في أرمينيا وسورية ومصر على العقيدة فإن العديد من الكهنة الخلقيدونيين الغيورين عارضوها. وسوف نرى بعدئذ أن البابا هونوريوس تمسك بالمونوثيلية وحُرم بسببها ( ومن الذين عارضوا العقيدة الجديدة هو سـوفرونيوس، الذي أصبح بطـريرك القدس ( 633ـ634) وقد أيده رئيس الدير مكسيموس، وهو خلقيدوني متشدد ومعارض لعقيدة المشيئة الواحدة والقدرة الواحدة في المسيح. كان مكسيموس قد شارك في مجمع لاتـران الذي عقده البابا مرتينس الأول عام 649، والذي أدان كلاً الـ (Ecthesis) صيغة هـرقل (638) والـ (Typus) صيغة الإمبراطور كونستانس الثاني ( 648 ) – (قسطنطين الثالث)، والوثيقة الأخيرة كانت تحمي من المقاضاة القانونية أولئك الذين اتخذوا أياً من الموقفين في مسألة المشيئة الواحدة والقدرة الواحدة أو المشيئتين والقدرتين، ولكنها تمنعهم تحت طائلة العقوبة من المنازعة بشأن القضية. وما كان من كونستانس الا ان دعا مكسيموس من روما إلى القسطنطينية للمحاكمة وحاول إجباره على قبول الـ Typus. لكن مكسيموس رفض أن يفعل ذلك طالما أن الـ Typus كانت في نظره تحتوي على نكران لعقيدة المشيئتين في المسيح والتي دافع نفسه عنها بشدة. ولمّا استمر مكسيموس بنشر عقيدة المشيئتين بواسطة مؤلفاته، أمر الإمبراطور بجلده وقطع ذراعيه ولسانه ونفيه. وبعد وفاة مكسيموس عام 662 أدينت المونوثيلية أخيراً في المجمع السادس عام 680 باعتبارها “مونوفيزية ” . ويبدي التلمحري ملاحظة بهذا الصدد قائلاً أن الخلقيدونيين، وعلى مدى مائتين وثلاثين عاماً، ومنذ مجمع خلقيدونية (الذي يسميه ” بالمجمع الفاسد “) وحتى زمن المجمع السادس عام 680 آمنوا بطبيعتين في المسيح ومع ذلك اقروا بشخص واحد، مشيئة واحدة وفعل واحد في المسيح. ويُـضيف قائلاً أنهم اكثروا من “إفسادهم” للعقيدة في زمن المجمع السادس مدعين أنه لم تكن في المسيح سوى مشيئتين وفعلين . أما المحاولة الأخيرة التي جرت لحل الجدل حول عقيدة المشيئة الواحدة أو المشيئتين في المسيح فقد قام بها الإمبراطور فيليبيكوس (711ـ713) الذي عزم على إبطال قرار المجمع السادس ورفض تعليم مكسيموس في المشيئتين ولكن لم يتسنَ لهذه المحاولة، لأسباب غير معروفة، أن تـتحقق أبداً

سبق ان ذكرنا أن هرقل قد اقتـنع بأن سلامة الدولة البيزنطية كانت تعتمد، من ضمن امور اخرى، على إخلاص الأقاليم الشرقية (بصورة رئيسية سورية ومصر) وتسوية الصراع الديني بين الخلقيدونيين والمعارضين لهم، ولهذا بدأ بتطبيق عقيدة المشيئة الواحدة في المسيح لتحقيق وحدتهم. ويقدم لنا التلمحري رواية عن الجهد الذي بذله هرقل لإشاعة السلام بين الكنائس، وعلى الأخص مصالحة الفريقين المتخاصمين. يقول التلمحري: عندما كان هرقل في سورية عام 628 زار مدينة أورهوي (الرها، أورفه في تركيا حالياً)، مركز المسيحية السريانية في ذلك الحين. وقد دهش عندما وجد عدداً قليلاً من المسيحيين يعترفون بإيمان مجمع خلقيدونية، فقرر مصالحتهم مع الطرف الآخر المناوئ للخلقيدونية واستمالتهم ليقبلوا صيغة عقيدته بمشيئة واحدة في المسيح، وهي الصيغة التي ظنَّ بأنها ستكون مقبولة لديهم. ولكنه عندما حضر خدمة القداس في كاتدرائية المدينة، رفض الأسقف اشعيا الذي كان يحتفل بالقداس مناولته القربان المقدس ما لم يقم بإدانة مجمع خلقيدونية خطياً. وعندئذ استـشاط الإمبراطور غضباً وطرد الأسقف من الكاتدرائية، وسلمها إلى الجانب الخلقيدوني. وبعدئذ دعا الإمبراطور عام 629 بطريرك أنطاكية السرياني أثناسيوس (الملقب بالجمّال) لمناقشة المسائل المتعلقة بالإيمان معه. ذهب البطريرك يرافقه اثنا عشر أسقفاً لمقابلة الإمبراطور. وبعد اثني عشر يوماً من الجدل رفض البطريرك وأساقفته قبول صيغة الإمبراطور في الإيمان وهي اتحاد طبيعتي المسيح في مشيئة واحدة. جاء هذا الرفض بحجة أن العقيدة كانت متطابقة مع الإيمان الذي حدده مجمع خلقيدونية وطومس لاون، وأنهم ليسوا على استعداد لقبول صيغة إيمان كانوا يعتبرونها مخالفة لعقيدة القديس كيرلس الاسكندري أي ـ طبيعة متجسدة واحدة للوغوس الإلهي . أثار رفض البطريرك واساقفته لهذه الصيغة غضب الإمبراطور الذي أصدر أمراً بمعاقبة أولئك الذين رفضوا قبول مجمع خلقيدونية وذلك بجدع أنوفهم ونهب منازلهم. كان الاضطهاد موجهاً ضد السريان المناوئين لمجمع خلقيدونية والمتمسكين بعقيدة الطبيعة المتجسدة الواحدة. نتيجة لذلك قبل العديد من الرهبان ومنهم رهبان دير مارون مجمع خلقيدونية واستولوا على عدة كنائس وأديرة كانت تابعة للمناوئين لمجمع خلقيدونية. وعندما اشتكى هؤلاء المناوئون لمجمع خلقيدونية إلى الإمبراطور من الاستيلاء على كنائسهم وأديرتهم لم يصغ الإمبراطور إلى شكواهم

نعلم من هذه الرواية أن رهبان دير مارون لم يكونوا خلقيدونيين قبل حكم هرقل. فلو أنهم كانوا خلقيدونيين، لما كان هناك سبب يدعو الإمبراطور لاضطهادهم. من الواضح أيضاً أن الاضطهاد الذي وقع على هؤلاء الرهبان أرغمهم على الاعتراف بمجمع خلقيدونية وصيغته في الإيمان على الشكل الذي عرضه فيه الإمبراطور. وكما يقول التلمحري، قبل أيضاً أهالي منبج وحمص والعديد من الناس من جنوب سورية مجمع خلقيدونية. يوحي قبولهم لم يكونوا خلقيدونيين بل كانوا متمسكين بصيغة الطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي. اضافة الى ذلك، لو كان أن الناس الذين استولوا على الكنائس والأديرة منتزعين إياها من المناوئين لمجمع خلقيدونية كانوا مدافعين عن إيمان خلقيدونية (أي لو أنهم كانوا ملكيين)، لكان التلمحري قال ذلك. إلا أنهم لم يكونوا كذلك، وها نحن قادرون مرة أخرى على الاستـنتاج من رواية التلمحري أن هؤلاء الناس، بمن فيهم رهبان دير مارون، قد أظهروا بطشاً واستولوا على عدة كنائس وأديرة من أولئك الذين بقوا رغماً عن أمر الإمبراطور ثابتين في رفضهم لمجمع خلقيدونية. ان رواية التلمحري تدعونا إلى الاعتقاد بأن هؤلاء الناس، ومنهم رهبان دير مارون، كانوا مناوئين للخلقيدونية اي “مونوفيزيين”. والمراد قوله هنا هو أنه في ذلك الحين كانت هناك طائفتان دينيتان رئيسيتان في سورية ـ ” طائفة الملكيين الخلقيدونيين “، وطائفة ” المونوفيزيين ” أو ” اليعاقبة ” المناوئين لمجمع خلقيدونية: اي لم يكن هناك موارنة. كانت الطائفتان في صراع دائم احداهما مع الأخرى حول مجمع خلقيدونية. وطالما أن التلمحري لا يقول بأن أولئك الذين استولوا على كنائس الأرثوذكس (المونوفيزيين)، ونهبوها، أي رهبان دير مارون، كانوا ملكيين، فمن المحتم أنهم كانوا ولا بد جماعة من “المونوفيزيين” أو “يعاقبة” الذين لم يكونوا، لسبب غير معروف، على علاقة طيبة مع بقية المونوفيزيين أو كنيستهم. لكن بالرغم من أن رهبان دير مارون وأهالي منبج، حمص وجنوب سورية قد قبلوا بمجمع خلقيدونية واستولوا على كنائس وأديرة المناوئين لمجمع خلقيدونية، فليس هناك من دليل على أن طائفة مارونية أو بطريركية مارونية كانتا آنذاك في قيد الوجود. من المحتمل ان جماعة من هذا القبيل كانت في طور الظهور إلا أنها لم تكن بعد قد أخذت المكانة الكاملة لطائفةٍ معترفٍ بها. قد يكون من الصواب القول أن الناس الذين قبلوا مجمع خلقيدونية والصيغة المونوثيلية التي عرضها هرقل قد انضموا إلى رهبان دير مارون لتشكيل طائفة دينية جديدة. من المحتمل جداً أن بعض الأساقفة السريان الأرثوذكس (المونوفيزيين)، بعد أن رأوا أن غالبية رعيتهم قد قبلت مجمع خلقيدونية، لم يجدوا بديلاً سوى أتباع رعيتهم والاعتراف بمجمع خلقيدونية، مشكلين بذلك طائفة مارونية جديدة. إلا أن هذا محض تخمين، لأن المصادر المتوفرة تدل بأن ظهور الموارنة كطائفة منفصلة لم يتم حتى القرن التالي. في الحقيقة اسـتمر رهبان مـارون هؤلاء والناس الذين انضموا إليهم بعد عام 630 في الاعتراف بإيمان مجمع خلقيدونية، ولكن بمدلول مونوثيلي . فقد تمسكوا على نحو الملكيين الخلقيدونيين، بأن طبيعتي المسيح اتحدتا في شخص واحد ومشيئة واحدة. ولم تصبح الجماعتان متمايزتين إلا بعد عام 680، عندما قبل الملكيون عقيدة المشيئتين في المسيح التي قام مكسيموس بنشرها والمجمع السادس بتثبيتها. يقول مفريان الكنيسة السريانية مار غريغوريوس ابن العبري (ت 1286)، في كتابه (منارة الأقداس، الكتاب السادس، الفصل الثالث، الترجمة العربية للمطران بهنام ججاوي طبعة دير ماردين حلب 1996 ص 373) اعترف الموارنة واليونانيون أو البيزنطيون بعقيدة المشيئة الواحدة والارادة الواحدة في المسيح حتى عهد مكسيموس : بعبارة أخرى، كانوا مونوثيليين. : ولم يقم أحد بتوضيح هذه النقطة بشكل جلي وممتاز كما فعل التلمحري. وإليكم بيانه بكامله
ناقشنا سابقاً هرطقة مكسيموس (المشيئتين في المسيح) وكيف قام قسطنطين (بوغوتانس اي ذو اللحية او الملتحي) بإدخالها إلى الكنيسة البيزنطية بعد أن كان والده قد أزالها من الوجود. الآن نريد أن نناقش الصدع الذي حصل بينهم (الخلقيدونيين عام 727) بسبب هذه الهرطقة (المشيئتين) المعتنقة في بلاد اليونان (البيزنطيين) والتي لم تكن معروفة أبداً في سورية. والآن (عام 727) غرسها الأسرى وسالبوا الغنائم الذين رافقوا الجيوش العربية وعاشوا في سورية. كان أهالي المدن الرئيسية وأساقفتها وقادتها هم الذين أفسدتهم هذه الهرطقة ومن بينهم سرجيوس، ابن منصور (ربما كان والد القديس الخلقيدوني يوحنا الدمشقي). فقد ضايق سرجيوس المؤمنين (المناوئين لمجمع خلقيدونية) في دمشق وحمص لا من أجل إسقاط عبارة يا من صُلبت لأجلنا، من التقديسات الثلاث فقط، بل داهن العديد منا (المناوئين لمجمع خلقيدونية) بمعسول الكلام لقبول هرطقته. كما أفسدت هذه الهرطقة كرسي أورشليم وأنطاكية والرها والكراسي الموجودة في مدن أخرى والتي كانت تحت سيطرة الخلقيدونيين منذ عهد هرقل. لم يقبل رهبان بيت مارون (دير مارون) وأساقفة هؤلاء الرهبان وبضعة أناس آخرين، على أية حال هذه العقيدة (المشيئتين). إلا أن سائر أهالي المدن والأساقفة قبلوها. ووقع قدر كبير من المنازعات والحرومات بسبب هذه الهرطقة. ومن ثمّ احتقر أتباع دير مارون الخلقيدونيون أتباعَ مكسيموس داعين إياهم بالنساطرة والوثنيين واليهود وقائلين لهم بأنكم ” لا تعترفون بأن المسيح هو الله، وأنـه وُلد من عذراء وأنه صُلب وتألم في جسده “.بل تقولون أنه كان إنساناً بسيطاً وشخصاً خاصاً منفصلاً وبعيداً عن الله، وبأنه خشي الموت ولهذا السبب صرخ ” يا ابتاه إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس: ولكن لا لتكن إرادتي بل إرادتك ” كما لو أنه كانت هناك مشيئتان، واحدة للآب وواحدة للابن، او أنه كانت في المسيح إرادتان منفصلتان منقسمتان متضادتان “. احتقر أتباع مكسيموس أتباع مارون (رهبان دير مارون) قائلين : “انتم لا تعترفون بنفس إيمان مجمع خلقيدونية وطومس لاون، ولا تؤمنون بأن في المسيح طبيعتين مستقلتين مع احتفاظهما بخصائصهما وفعليهما. لأنه لو كانت في المسيح طبيعتان، لوجب تبعاً لذلك أن تكون فيه مشيئتان وفعلان مستقلان. لكنكم تعترفون بعقيدة كيرلس (الاسكندري) وسويريوس (الأنطاكي) اللذين اعتقدتا بأنه لم يكن في المسيح سوى شخص واحد وطبيعة واحدة وأن واحدٌ هو فعله وقدرته وسلطته “. كما دعوهم بالسويرسيين واليعاقبة ومؤلمي الإله. رد هؤلاء ( رهبان مارون وأتباعهم ) رداً حسناً على أولئك (المكسيميين) قائلين، ” إن كان المسيح يُعرف بطبيعتين مع الحفاظ على خصائصهما وعملهما كما جاء في طومس لاون وقرارات مجمع خلقيدونية، فمن اللازم أيضاً الإيمان بمشيئتين وفعلين وشخصين لا بل ايضاً بابنين ومسيحين ” .
يعلق التلمحري، بكل إنصاف، قائلاً لا موجب لخصام هذين الفريقين لأن كليهما كانا يعتمدان إيمانين متطابقين، إيمان لاون وإيمان مجمع خلقيدونية . ثم يورد مثالاً على درجة عالية من الأهمية عن الانقسام العقائدي في رعية حلب التي انقسمت إلى جماعتين متباغضتين؛ اتبعت إحداهما الموارنة وانضمت الأخرى إلى أتباع مكسيموس الذي آمن بمشيئتين في المسيح. ونشب عن ذلك خصام بين هاتين الجماعتين للاستحواذ على الكاتدرائية الكبرى في حلب بلغ من الحدة درجة دعت الحاكمَ المسلم للمدينة إلى تقسيم الكاتدرائية وإقامة حاجز خشبي في وسط الكنيسة بحيث كان لكل جماعة جناحها الخاص بها. إلا أن المشادات الكلامية استمرت بين أفراد الجماعتين وخاصة بعد انضمام النساء إليهم وحدوث عراك فعلي داخل بناء الكنيسة. وأخيراً، خجل الطرفان من تصرفاتهما المعيبة فتصالحا، وأصبح أفرادهما أتباعاً لمكسيموس يتمسكون بمشيئتين في المسيح .
هذا ما يدل على أن الموارنة كانوا في منتصف القرن الثامن عندما حصلت هذه الحادثة متميزين عن الملكيين. فبينما تبنى الملكيون الإيمان بمشيئتين في المسيح، فإن الموارنة، فيما عدا رعية حلب، بقوا مونوثيليين متشبثين بالمشيئة الواحدة في المسيح.
هرقل وصيغة الايمان المونوثيلية

الدكتور متي موسى