ارسالية جيوفاني باتيستا اليانو الى الموارنة الدكتور متي موسى

Posted by on Aug 9, 2016 in Library | Comments Off on ارسالية جيوفاني باتيستا اليانو الى الموارنة الدكتور متي موسى

23
عندما غادر الموفدان البطريركيان المارونيان روما أرسل البابا معهما الأب جيوفاني (يوحنا) باتيستا اليانو والأب توماس راجيو اليسوعيين لاختبار إيمان الموارنة وكتبهم الدينية وطقوسهم الكهنوتية وطريقتهم في العبادة. وكان اليانو هو الأليق للقيام بهذه المهمة من الآخرين. اذ ان الدويهي يمتدحه لحكمته وشخصيته الحسنة ومعرفته بالعلوم الطبيعية والإلهية واتقانه اللغات اللاتينية واليونانية والعربية، ومقدرته على قراءة الكرشونية (العربية المكتوبة بالخط السرياني) . كان اليانو يهودياً اهتدى الى الكثـلكة وانضم الى الرهبنة اليسوعية عام 1552 في الوقت الذي كان الباباوات يفكرون جدياً باجتذاب كنائس الشرق المسيحية الى طاعتهم. لهذا السبب اوفد اليانو، ذي الكفاءة العالية، إلى الكنيسـة القبطية في مصر عام 1561 ـ1562 لغرض اجتذابها الى حظيرة كنيسة روما إلا أن مهمته أخفقت . اغتنم البابا غريغوريوس الثالث عشر فرصة رحيل موفدي البطريرك الماروني فعهد اليهما القيام بمهمة جديدة بايفادهما الى الموارنة كما وجههما ايضاً إلى إقامة علاقات مع بطريرك أنطاكية السرياني الارثودكسي داود شاه (1576ـ1591) لغرض إخضاعه وطائفته لسلطة روما . كانت هذه بعثة اليانو التبشيرية الأولى إلى الموارنة

أرسل البابا، غريغوريوس الثالث عشر رسالة بصحبة اليانو إلى البطريرك الماروني مؤرخة في 12 كانون الأول 1577. كما كتب الكاردينـال كارافـا أيضاً رسالة إلى البطريرك مؤرخة في 3 آذار 1578 . وفي حزيران من عام 1578 وصل اليانو ورفيقه والموفدان المارونيان طرابلس وبعد ان استراحوا انطلقوا إلى دير قنوبين للقاء البطريرك ميخائيل الرزي. دعا البطريرك أساقفته والأعيان الموارنة إلى اجتماع في الدير. وأعلن في هذا الاجتماع بأنه كان مارونياً وابن ماروني، وبأنه أطاع الحبر الروماني وقوانينه. وأقسم يميناً بأنه يقبل كل ما تقبله كنيسة روما ويرفض كل ما ترفضه. ثم دوّن شهادته في ورقة وقال وهو يطويها ” هذا هو اعترافي الذي أعيش وأموت من أجله “. وبعد أن أعلن البطريرك مرة أخرى طاعته للبابا، سلم اليانو رسائل البابا والكاردينال كاارافا إلى البطريرك، مع الحلل الكهنوتية التي كان البابا قد أرسلها معه هدية للبطريرك. وفي تموز من عام 1578 ، كتب البطريرك رسالة إلى البابا يشكره على هداياه ولطفه. كما كتب اليانو والمطران الماروني في الوقت نفسه رسـالة إلى الكاردينال كارافا يعلمانه فيها بالاجتماع في قنوبين . ولما انفضَّ الاجتماع طلب اليانو من البطريرك السماح له بالطواف في المناطق المارونية لفحص كتب الموارنة وتقاليدهم الدينية. فأذِن البطريرك له بذلك وطفق اليانو من توه بفحص المخطوطات السريانية والكرشونية في مكتبة دير قنوبين. وحدث انه كلما عثر اليانو على مخطوطة تضم عقائد مخالفة لتعليم كنيسة روما وضعها جانباً وقدمها إلى البطريرك وأساقفته. وكانت غالبية المخطوطات تحوي عقيدة الطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي والمشيئة الواحدة، وكذلك انبثاق الروح القدس من الآب وحده، وفقاً لمعتقد الكنيسة السريانية الأرثوذكسية. وبما أن معظم هذه المخطوطات كانت من كتابات آباء الكنيسة السريانية الأرثوذكسية فقد لفت اليانو انتباه البطريرك وأساقفته إلى أنها كانت تحوي العديد من التعاليم المخالفة للتعاليم التي تلتزم بها كنيسة روما. وافق البطريرك وأسـاقفته مع اليـانو على أن المخطوطات تضـم ” عقائد كافرة “، لكنهم نسبوها دون إقناع إلى نساخ “يعاقبة هراطقة” أو إلى نساخ موارنة جهلة . طبعاً ان القضية لم تكن كذلك لأن البطريرك وأساقفته كانوا يعرفون جيداً بأنه لم يكن بمقدورهم تبرير معتقدهم الصحيح للموفد الباباوي. وسوف نرى مصير هذه الكتب قريباً

أمضى اليانو سنة زار خلالها المناطق المارونية فاحصاً الكتب والعادات الدينية المارونية. وتسهيلاً لمهمته زوده البطريرك برسالة خاصة إلى مطارنته وكهنته ورؤساء الأديرة في كنيسته. لا بل عيَّن أخاه المطران سركيس وأحد الكهنة وهو جرجس يونان لمرافقه اليانو في تجواله. وكما يقول البطريرك اسطفان الدويهي فقد حمل اليانو ثلاث مفكرات سجل في إحداها ” الأضاليل ” التي اكتشفها في الكتب الطقسية المارونية ودون في الثانية النقاط التي كان عليه أن يتشاور مع البابا بشأنها، وسطّر في الثالثة القوانين التي كان يتوقع من الكهنة والعامة من الناس مراعاتها . كان المـوارنة يتوقعون انعقاد مجمع كنسي عام في عيد الفصح عام 1579، ولكن لم يحدث ذلك لان الرؤساء استدعوا اليانو على حين غرة للعودة إلى روما. وفي 25 شباط 1579 ودع اليانو البطريرك وغادر إلى روما. وبعد مغادرته قام البطريرك ميخائيل الرزي واخوه المطران سركيس، اللذان أحبا اليانو للغاية، كما يقول الدويهي، لطول أناته وغيرته وتـفهمه، بالكتابة إلى البابا والكاردينال كارافا طالبين إرسال اليانو إليهما مرة أخرى. كما أرسلا شابين مع اليانو للدراسة في روما . وهكذا انتهت ارسالية اليانو الأولى إلى الموارنة

إن أهمية هذه الارسالية هي أن اليانو كان أول موفد باباوي قام بشكل وافٍ ومنتظم بفحص كتب الموارنة الطقسية للتوصل الى معرفة معتقدهم الصحيح. وما من شك بان مهمة اليانو كانت كبيرة وخطيرة بحيث كان من المتعذر انجازها بزيارة واحدة إلى الموارنة وكان عليه العودة إلى لبنان في السنة التالية لإتمام مهمته. ومما يجدر ذكره هو أن الغالبية العظمى من الكتب التي قام بفحصها اليانو خلال زيارته الأولى كانت كتب الكنيسة السريانية الأرثوذكسية. ولهذا اعترف بعض الموارنة علانية بحضور اليانو بأنهم يدينون بعقيدة الطبيعة المتجسدة الواحدة والمشيئة الواحدة في المسيح، وهي العقيدة الجوهرية للكنيسة السريانية الأرثوذكسية. كتب اليانو في تقريره المقدم إلى البابا في 22 آذار 1579 أنه رأى في باحة المقر البطريركي الماروني في قنوبين، وسمع شماساً مارونياً ينادي علانية ” نحن الموارنة نؤمن بطبيعة واحدة ومشيئة واحدة في المسيح “. ولما اراد اليانو معرفة هوية هذا الشخص قيل له انه شماس سرياني ” يعقوبي ” متجول . ومع هذا لم يقتنع اليانو بتمسك الموارنة بإيمان كنيسة روما بل لم يكن على ثـقة بولاء البطريرك الكلي للبابا وكنيسته ولهذا لم ينعم على البطريرك بالباليوم أو بتثبيت البابا. ومع ان اليانو امتدح الموارنة في حضرة البابا وطاعتهم لكرسي روما الرسولي، إلا أنه أخبر الحبر الروماني بأن العديد من “الأضاليل” قد تسللت إلى كتب الموارنة الطقسية بسبب اختلاطهم “بالهراطقة” وانهم يفتقرون إلى رجال متبحرين يقومون بتعليمهم حقيقة إيمانهم. كما قدم اليانو إلى البابا تقريراً خطياً يضم ملاحظاته ويعلم البابا بأنه قد دوَّن هذه ” الأضاليل ” التي وجدها منافية لتعاليم كنيسة روما. كما اقترح على البابا بإقامة مدرسة للموارنة الشباب في روما وبذل الجهد لطباعة كتب تضم مبادئ الإيمان بلغة الموارنة لأجل إرشادهم ( يدّعي الدويهي أن هذه ” الأضاليل ” التي عثر عليها اليانو في الكتب المارونية جاءت من ” كتب الهـراطقة ” أو ” الكتـب التي أفسـدها الهـراطقة “. ويُعـلن بـأن تومـا الكـرملي (Thomas a Jesu) ادرج هذه الأضاليل في القسـم الثـالث من كتـابه : De Procuranda salute omnium Gentium (بخصوص الوسائل لخلاص جميع الأمم) الذي نسخه عن اليانو . يُعتبر هذا الادعاء خطأ ارتكبه الدويهي، لأن هذه ” الأضاليل ” ذاتها قد اكتـشفها وصنَّفها موفد باباوي آخر هو جيروم دنديني، عام 1596 كما سنرى لاحقاً

اوفد البابا غريغوريوس الثالث عشر اليانو مرة اخرى عام 1580 الى الشرق، ليضمن الى حدّ كبير ولاء الموارنة وليحاول اعادة كنائس الشرق إلى حظيرة كنيسة روما. ورافقه في رحلته كاهن تقي متبحر، هو الأب جيوفاني باتيستا برونو. كان اليانو قد ترجم وهو ما يزال في روما كتب التعليم الديني التي كتبها الأب اليسوعي بيتر كاسيوس والتي طبعت بالكرشونية في نيسان من عام 1580، لأجل فائدة الموارنة. كما أخذ معه كتباً أخرى كان قد ترجمها نفسه إلى العربية، ومنها كتاب توماس كمبس محاكاة المسيح وليتورجية لاتينية، وكتاب في تفنيد النساطرة و”اليعاقبة”. كان الكاردينال كارافا بدوره قد التمس البابا بمنح الباليوم للبطريرك الماروني. لكن البابا لم يكن واثقاً، كما أشرنا، من صحة معتقدات البطريرك، ولذلك لم يقم بمنحه الباليوم. لا بل كان الكرادلة أكثر ريبة بمعتقدات البطريرك عندما علموا، على الأرجح من اليانو، بأنه كان قد كتب بخط يده في نسخة من الإنجيل مع ملاحظات هامشية تتضمن بعض ” الأضاليل “. ولهذا اعترض الكرادلة على تثبيت البابا للبطريرك. إلا أن اليانو شهد على تقوى البطريرك الماروني ونيته الحسنة وطمأن الكرادلة حول اعترافه بتعاليم كنيسة روما. كما أكَّد لهم رغبة الكهنة الموارنة والشعب الماروني بطاعة قوانين كرسي روما الرسولي. وعندئذ سلم البابا الباليوم إلى اليانو، بالرغم من عدم قناعته، وامره ألا ينعم به على البطريرك ما لم يعترف بطاعته للبابا في حضور اليانو . كما تزوّد اليانو أيضاً بتعليمات خاصة من الكاردينال كارافا والكاردينال سان سيفيرينو. في 7 أيار 1580 كتب الكاردينال كارافا ايضاً بالنيابة عن البابا تعليمات لاليانو ورفيقه ليقوما بفحص إيمان الكنيسة المارونية وكتبها الطقسية وتقاليدها، ومنح الباليوم للبطريرك فقط بعد وثوقهما من إيمانه وطاعته للكرسي الرسولي . ويبدي الكاردينال سان سيفيرينو، في تعليماته المؤرخة في 10 أيار 1580، اهتماماً لا بشأن الموارنة فقط بل بشأن كنائس أخرى في الشرق. اذ أراد من الموفدين الباباويين كسب كل الطوائف الشرقية ” والعودة بها إلى حضن كنيسة روما “

غادر اليانو ورفيقه روما في منتصف أيار ووصلا طرابلس في 29 حزيران 1580. وانطلقا إلى قنوبين ووصلا الدير في 9 تموز. لم يستطع البطريرك الخروج للترحيب بهما بسبب الشيخوخة، لكنه أرسل أخاه، المطـران سـركيس، وبعض الكهنة لاستقبالهما بالصلوات والمباخر لدى اقترابهما من الدير. وبعد وصولهما الدير قابل الموفدان البطريرك وأبديا رغبتهما باجتماع رسمي معه في 21 تموز، فوافق على ذلك. وفي اليوم الموعود اجتمع الموفدان الباباويان بالبطريرك والمطران سركيس والكهنة والأعيان الموارنة وشرحا لهم الهدف من مهمتهما. وعندما سلّما البطريرك براءة البابا قبّلها ووضعها على رأسه وفقاً للعادة الشرقية علامة لمنتهى الاحترام والطاعة. حينئذٍ عرض اليانو الباليوم الذي بعث به البابا الى البطريرك وسلمه الهدايا التي حملها هو ورفيقه، إلى جانب كتاب تعليم العقيدة والكتب الدينية الأخرى. ثم اخذ الموفدان في شرح كتاب التعليم الديني للمجتمعين. بيد أن اليانو كان على الاخص معنياً بإفشاء “الأضاليل” والتعاليم الأخرى المخالفة لتعاليم كنيسة روما التي تحتويها الكتب الطقسية المارونية. كما قدّم إلى البطريرك وأساقفته نسخة من القوانين الكنسية لمناقشتها في مجمع قادم. كانت فكرة عقد مجمع على ما يظهر، في طور التـشكيل، إذ أننا نعلم بأن اليانو كان قد صاغ وهو ما يزال في عرض البحر، جدول أعمال بالقضايا التي ستتم مناقشتها في المجمع الذي كان ينوي عقده لدى وصوله قنوبين . وبعد مدة وجيزة التأم المجمع في 18 آب 1580 في قنوبين، وقام البطريرك ظاهرياً برئاسته ولكن اليانو كان هو الرئيس الفعلي للمجمع. حضر المجمع مطارنة وكهنة ووجهاء آخرون من الموارنة. كما أمّه أكثر من ألفين من العامة معظمهم جاءوا من القرى المجاورة للدير للاحتفال بمهرجان العذراء القديسة مريم الذي صادف الاحتفال به يوم انعقاد المجمع. كان البطريرك المسن قد تعافى من المرض واصبح قادراً على الاحتفال بالقربان المقدس بمساعدة مطارنته. وفي نهاية الاحتفال توجه اليانو الى المذبح وتلا صلاة استدعاء الروح القدس ثم ألقى عظة باللغة العربية، شرح فيها الغاية من ارساليته وعبَّر عن الأمل بنجاحها ووزع نسخاً من قانون ايمان كنيسة روما على المصلين وبدأ بقراءته مع الكهنة والناس يرددون وراءه وبعد انتهاء القداس اجتمع الموفدان الباباويان والبطريرك والكهنة بمفردهم للتداول بشأن القضايا التي قام اليانو بوضعها. ودامت المداولة ثلاثة أيام

تُعتبر وقائع جلسات هذا المجمع على غاية من الأهمية في تأييد رأينا وهو أن عقيدة وطقوس الكنيسة المارونية كانت نفس عقيدة وطقوس الكنيسة السريانية الأرثوذكسية. لا بل إن كل نقطة حاول المجمع تفنيدها أو الاحتراس منها كانت تعلن رغبةَ اليانو الشديدة في إبلاغ الموارنة بأن معتقداتهم وعقائدهم هرطوقية وأن عليهم تصحيحها. من الممل بحث كل قضية من القضايا التي ناقشها المجمع في قنوبين ويكفي أن نذكر فقط النقاط المماثلة للمعتقدات الجوهرية للكنيسة السريانية الأرثوذكسية.
قرر المجمع ما يلي:

يجب تـنقيح قانون الإيمان النيقاوي ليضم انبثاق الروح القدس من الآب والابن.

يجب على الموارنة الاعتراف بطبيعتين ومشيئتين وفعلين أو قدرتين في المسيح.

-يجب عليهم التخلي عن عبارة يا من صُلبت من أجلنا من التقديسات الثلاث.

-يجب على الموارنة الاعتراف بوجود المطهر.

-يجب حظر الطلاق لعلة الزنى وعلى الكنيسة المارونية ألا تبارك الزيجات الثانية للأزواج
-المطلقين على هذا الأساس.

-يجب على الكاهن ألا يمسح المعتمدين بالميرون، طالما أن هذه الوظيفة مقصورة على المطران فقط.

– يجب عدم مناولة الأطفال القربان قبل بلوغهم سن البلوغ .

يبدو ان قرارات المجمع ابهجت البطريرك حيث قام بتوقيعها شخصياً. وفي الوقت نفسه قام اليانو بتوزيع نسخ من هذه القرارات على موارنة لبنان وحلب ودمشق. وما ان تمّ ذلك وافق الكهنة والناس بدورهم على كل القرارات ما عدا القرار المتعلق بالطلاق. كما شرحوا لاليانو بأنه من الصعب إنكار الحق على الطرف البريء في الزواج ثانية إذا كان الطلاق قد وقع بعلّة الزنى. لكن اليانو ظلّ متصلباً حول هذه النقطة وأخبر البطريرك بأنه من غير المسموح لأي رجل بالزواج ثانية طالما أن زوجته كانت على قيد الحياة، حتى في حالة ارتكابها الزنى. وهنا فاتح أحد الموارنة البارزين اليانو وقدّم له مالاً للسماح له بالزواج ثانية لأنه كان قد طلـق زوجة زانيـة، إلا أن اليانو رفض ذلك

بالرغم من قرارات مجمع قنوبين وجهوده العارمة لتعليم الموارنة إيمانَ كنيسة روما، فقد ظل اليانو غير مقتنع بأن مجمع قنوبين، على حد تعبير الأب لويس شيخو، ” كان إجراءً كافياً لاجتثات الزؤان من حقل الرب” . يُعلق شيخو بأن اليانو أدرك خلال بعثته الأولى أن عدداً كبيراً من كتب الموارنة الطقسية مازالت تحوي تعاليم مخالفة لعقائد كنيسة روما ” دسها نسّاخ الهرطقة اليعقوبية ويمضي قائلاً ان اليانو لم يستأصل هذه “العلة” ويعني بذلك ” الهرطقة اليعقوبية “

كان الأب اليانو حيثما ذهب يُعيد فحص الكتب الكنسية ويُـشير إلى الأمور الكاذبة والفاسدة فيها، وينبه الكهنة إليها ويوصي بتصحيحها. أو كان يقوم بشرائها من أصحابها وإحراقها واعداً أصحابها بتزويدهم بنسخة منها ذاتها بعد أن يتم تـنقيحها في روما ونشرها .

يفيدنا شيخو أيضاً بأن إحدى المخطوطات التي قام اليانو بفحصها كانت نسخة من كتاب الهدايات (الهدى) للكاتب القبطي الصفي ابن العسّال من القرن الثالث عشر؛ وكانت مجلدة مع نسخة من كتاب لتوما مطران كفرطاب الماروني . كتب اليانو بالإيطالية على صفحة الغلاف من هذه المخطوطة، “يضم هذا الكتاب العديد من الأضاليل ولا بد من احراقه”(23). وهنا يعطي شيخو، الذي يروي حادثة إحراق اليانو لمخطوطات كنسية، الانطباع بأن القيام بالاحراق كان أمراً مستحسناً، ” لاستـئصال الزؤان من حقل الرب ” .
حضر مجمع قنوبين سويريوس مهنا مطران حردين السرياني الأرثوذكسي (1571ـ1590) كما حضره رجل من علماء كنيسته. وقد رحب البطريرك الماروني بالزائرين ودعاهما لحضور جلسات المجمع، ولكن ليس هناك ما يدل على الغاية من هذه الدعوة. بيد أن سويريوس مهنا حضر المجمع بالفعل وانخرط في جدل مع اليانو حول عقيدة الطبيعة الواحدة أو الطبيعتين للمسيح. وإذا استطعنا هنا تصديق الاب شيخو، يكون اليانو قد افحم المطران ورفيقه . ولكن الذي يثير دهشتنا هو انه لم يكن هناك سبب لحضور المطران مهنا وهو السرياني الارثودكسي المجمع اللّهم إلا إذا كان قد عرف مقدماً بغاية اليانو بفحص الكتب المارونية، وبالتهمة التي وجهها الى البطريرك والكهنة الموارنة ومفادها أن الكتّاب السريان الأرثوذكس قد أدخلوا ” أضاليلهم ” في هذه الكتب مما حرضه على اللقاء باليانو في المجمع والدفاع عن كنيسته وكتّابها ودحض ما اعتقد بأنه اتهامات باطلة
وبينما كان اليانو في لبنان وافت المنية البطريرك ميخائيل الرزي في 28 أيلول 1581 بعد تلقيه الطقس الأخير من اليانو . وفي الحال قام المطارنة الموارنة، بحضور الموفدين الباباويين، اليانو وبرونو بانتخاب اخيه سركيس بطريركاً خلفاً له .
كان أول عمل قام به البطريرك الجديد هو زيارة أبرشياته. ونعلم من رسالة وجهها اليانو إلى الكاردينال كارافا بأن البطريرك الجديد كان أول من وضع تعاليم كنيسة روما وعاداتها موضع التـنفيذ. يقول اليانو أن البطريرك قام شخصياً بتثبيت الأطفال المعتمدين، إذ أن الكهنة في الماضي انفسهم كانوا يقومون بهذا التثبيت. كما منع أيضاً الكهنة من تقديم الأسرار للمواليد الذين تتم معموديتهم وأمرهم بالاعتراف علانية بعقيدة المشيئتين والقدرتين في المسيح . وبعد ان انهى اليانو مهمته غادر لبنان إلى سورية حيث حاول هداية الملكيين والبطريرك السرياني الأرثوذكسي إلى الكثلكة الرومانية، إلا أنه فشل. وفي آب عام 1582، ذهب إلى مصر كموفد باباوي للدعاية بين الأقباط، وهدايتهم إلى الكثلكة ومكث في مصر حتى آذار من عام 1585، إلا أنه لم يلقَ نجاحاً. ثم عاد إلى روما حيث أنعم عليه البابا، سيكستس الخامس بمنصب المانح الكبير للغفران وهو المنصب الذي احتفظ به حتى وفاته في 3 آذار 1589

ليس من الممكن قياس مدى قناعة اليانو بشأن معتقدات الموارنة وفيما إذا كانت متّفقة مع معتقدات كنيسة روما اعتماداً على زيارتيه للموارنة والرسائل التي كتبها إلى روما أو من خلال مديحه للموارنة وهو يحل ضيفاً عليهم. بل لا يمكن الحكم على هذه القناعة إلا عن طريق المعلومات التي جمعها وسجلها خلال زيارتيه للموارنة والتي اودعها المفكرات الثلاث التي ذكرها الدويهي. يقول الدويهي ان اليانو دوّن في إحدى هذه المفكرات ” الأضاليل ” التي عثر عليها في الكتب الطقسية وغيرها من الكتب الدينية عند الموارنة. وقد اكتشف هذه المفكرة بعدئذ الكاتب الكرملي Thomas a Jesu، الذي ادمج محتوياتها في كتابه : De Procuranda salute omnium Gentium (بخصوص الوسائل لخلاص جميع الأمم عام 1613) المذكور آنفاً. ان الدويهي قرأ هذا الكتاب شخصياً وقرر ان يكتب تفنيداً لما اعتقد بأنه اتهامات باطلة ضمها الكتاب ضد شعبه. ولكن بما ان اليانو كان أثار هذه الاعتراضات على إيمان الموارنة قبل أن ينشر توما الكرملي كتابه بأكثر من ثلاثين عاماً، فقد قرر الدويهي الحصول على نسخة من المفكرات الأصلية لاليانو لئلا يعتقد أحد بأن تفنيده يفتقر إلى البرهان. وفعلاً نجح الدويهي في الحصول على نسخة من المفكرات التي كان كاسبار الغريب (غاسبار بيريغنينوس) قد قام بنسخها، وهو أحد الشابين المارونيين اللذين اصطحبهما اليانو إلى روما للدراسة بعد زيارته الأولى إلى لبنان عام 1578

وكما يقول الدويهي فان كاسبار الغريب حصل على النسخة الأصلية لهذه المفكرات من اليانو وعمل نسخة منها بخط يده. وعندما عاد إلى قبرص أصبح مشهوراً بعلمه وورعه. وهناك ترك النسخة في دير الصليب وهو كرسي الأبرشية المارونية في الجزيرة. ومن هذه النسخة علم الدويهي عن الكتب التي اجري الفحص عليها اليانو في لبنان وعن تعليقاته عليها و “الأضاليل” التي وجدها في كل منها. لا بد أن اليانو كان دقيقاً جداً في فحص هذه الكتب إذ أنه دوَّن عدد الصفحات في كل منها إلى جانب أسماء مالكيها الذين قدموها اليه بيسر. يقول الدويهي بأن اليانو جمع تعليقاته حول “الأضاليل” الواردة في هذه الكتب في مفكرة منفصلة أدمجها توما الكرملي فيما بعد في كتابه المذكـور آنفاً. ثم يتـابع معدداً هذه الكتب التي اتمّ اليانو اختبارها . وهنا يهبُّ الدويهي مدافعاً عن كنيسته وإيمانها بكتابة كتاب، مازال على شكل مخطوطة، بعنـوان الاحتجاج، يتحـدى فيه آراء اليانو وتوما الكرملي . وهذا ما يُـفسر دهشة الأب شيخو بأن الدويهي أغفل ذكر مجمع قنوبين المنعقد في آب 1580 في تاريخه كأن المجمع لم يكن . ولكن انّى للدويهي أن يستحسن ذلك المجمع في الوقت الذي اعتبر اليانو بعض القضايا التي أثيرت فيه أضاليل تـناقض تعاليم كنيسة روما ؟ سوف نرى بعدئذ بأن البطريرك الماروني سركيس الرزي اتهم اليانو بالتزييف في نقل المعلومات إلى روما بخصوص إيمان الكنيسة المارونية
عديدة هي ” الأضاليل ” التي ينسبها اليانو وتوما الكرملي، الذي نسخ عمله، إلى الموارنة. ويمكننا تصنيفها في فئتين : الفئة الاولى تمت إلى العقائد المسيحية الجوهرية، والثانية تخصّ العادات الطقسية. هناك فئة ثالثة تتعلق بخلق العالم، والإنسان الخ لا تخصّ الموضوع. والمهم هو أن الدويهي وضع ملخصاً لهذه الأضاليل واصفاً إياها ” بالاتهامات ” في نهاية كتابه الاحتجاج . إن “الأضاليل” الرئيسية والتي وجدها اليانو في كتب الموارنة هي كما يلي

أن ربنا (السيد المسيح) يمتلك شخصاً واحداً ومشيئة واحدة.
أن ليس لربنا سوى طبيعة واحدة.
أن ليس لربنا سوى مشيئة واحدة وقدرة واحدة.
لا وجود لدينونة خاصة.
لا وجود لخطيئة أصلية.
لا وجود لثواب وعقاب قبل دينونة العالم.
أن الروح القدس ينبثق من الآب فقط.
أن المسيح تألم في ألوهته.
لا وجود للمطهر.

هذه “الاضاليل” ما عدا عدم وجود خطيئة اصلية هي من العقائد الجوهرية للكنيسة السريانية الارثودكسية وتدل دلالة قاطعة على ان الموارنة كانوا سرياناً ارثودكسيين “يعاقبة”. أما ” الأضاليل ” الأخرى التي ينسبها اليانو إلى الموارنة فهي التثبيت الذي يجري في وقت العماد وحق الكاهن في القيام بالتثبيت والقربان المقدس الذي يقدم فيه العنصران “الخبز والخمر” إلى العامة من الناس، والقربان المقدس الذي يعطي للمواليد عند معموديتهم، وزواج الكهنة من عذارى فقط، وقدرة الرجل المُصاب بعاهة جسدية أن يصبح قسيساً، وإمكانية قيام الرجل بطلاق زوجته لعلة الزنى والزواج بأخرى، والسماح للشخص بإنكار إيمانه علانية وإضماره سراً، واستعمال الخبز غير الفطير في الأسرار لأن الرب أكل خبزاً غير فطير في العشاء الأخير، والسماح للكاهن المحتفل بالقداس بالاحتفال بالقربان المقدس بعد وضع نسخة من الإنجيل على المذبح، واعتبار الميرون المقدس جزءاً أساسياً من المعمودية، وإمكانية فصم عقد الزواج لعدة أسباب وخاصة الزنى

يفند الدويهي كل واحد من هذه ” الاتهامات ” بالترتيب الذي وضعها فيه اليانو وتوما الكرملي. اما فيما يتعلق بالقضايا العقائدية الأساسية، فان الدويهي لم يقدم شيئاً سوى ما قاله سابقاً في محاولته تفنيد آراء الكتّاب الآخرين. يرد الدويهي مثلاً على قضية امتلاك ربنا لشخص واحد ومشيئة واحدة بأن اليانو استعار هذا الاتهام من الكاتب النسطوري أبي الفرج عبدالله بن الطيب، الذي ناقشناه سابقاً. كما يتهم أيضاً توما مطران كفرطاب بأتباع آراء ابن الطيب ونشر عقيدة المشيئة الواحدة (المونوثيلية) بين الموارنة. يكرر الدويهي الخطأ في جعل ابن الطيب مارونياً وانه وتوما مطـران كفـرطاب قد تأثرا بكتابات سـعيد ابن بطريق . أما حول عقيدة انبثاق الروح القدس من الآب وحده، فيرد الدويهي بأن هذا ” الاتهام ” كان قد أطلقه أولاً الكاردينال بطرس من رهبنة القديس مارسيلوس، وهو موفد البابا اينوسنت الثالث إلى الموارنة. ويجادل بغير إقناع كما فعل من قبل، بأن المقصودين في رسالة اينوسنت الثالث التي تضم هذا الاتهام هم الملكيون الذين يعيشون في سورية لا الموارنة. ويصرُّ الدويهي، خطأً بالطبع، على أن الموارنة كانوا دائماً يؤمنون بانبثاق الروح القدس من الآب والابن . اما فيما يخصّ عقيدة طبيعة المسيح الواحدة، يكرر الدويهي ما ذكره في كتابه تاريخ الطائفة المارونية، بأن الموارنة كانوا دائماً خلقيدونيين وأنهم ضحوا بثلاثمائة وخمسين راهب دفاعاً عن معتقدهم. علاوة على ذلك، يُـشير الدويهي إلى الكتاب المنسوب إلى يوحنا مارون، شرح الإيمان، ويؤكد خطأً بأن المؤلف لم يكن سوى يوحنا السرميني، الذي خلف أفرام الآمدي على كرسي أنطاكية. وكان قد تمَّ البيان سابقاً بأن يوحنا السرميني لم يكن هو يوحنا مارون ولا بطريرك أنطاكية، بل كان بطريرك القسطنطينية. قدم الدويهي أيضاً شهادةً من شرح الإيمان تؤكد أن يوحنا مارون وأتباعه لم يرفضوا الاعتراف بعقيدة الطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي بحسب قول القديس كيرلس الاسكندري. بعبارة أخرى، يؤكد أن يوحنا مارون والموارنة كانوا مونوفيزيين وبالتالي ” هراطقة “. هذا ما يدعو إلى الكثير من الدهشة سيما ان جهود الدويهي الرئيسية كانت تبرئة يوحنا مارون والموارنة من وصمة ” هرطقة المونوفيزين “. ومما هو أكثر مدعاة للدهشة ان الدويهي يستشهد بيعقوب السروجي وهو احد أئمة الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، ، وهو مونوفيزي تمسك بعقيدة الطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي، للبرهان على أن يوحنا مارون وأتباعه اعترفوا بهذه العقيدة . مجمل القول هو أن رفض الدويهي ” للاتهامات ” التي ظن بأن اليانو وتوما الكرملي قد وجهاها الى الموارنة يتـناقض كلياً مع غايته التي شرع في إبدائها وهي أن الموارنة لم يكونوا هراطقة

ولا يتوقف الدويهي عند حد رفض ما يدعوه ” بالاتهامات ” التي وجهها اليانو وتوما الكرملي ضد الموارنة فحسب بل يمضي خطوة أبعد بالتشكيك بكفاءتهما اللغوية ونزاهتهما ككاتبين وخاصة اليانو. يقول الدويهي بأن معرفة اليانو باللغة العربية وقراءته للكرشونية (اللغة العربية بخط سرياني) لم تكن وافية مما جعله يسيء فهم الكتب التي اجرى عليها الفحص . ويجادل الدويهي بأن للتعابير العربية العديد من المعاني عسيرة الفهم لمن ليست العربية لسانهم الأم، فما قولك بالنسبة لاليانو الذي لم يكن قد اختلط اختلاطاً كافياً بالعرب أو درس كتبهم أو أتقن قواعد وصرف لغتهم. بل كل ما اكتسبه هو معرفة الأبجدية العربية ولغواً من الكلام المحكي، لذا لم يمكنه على الإطلاق فهم الكتب التي قام بفحصها أو التمييز بين الكتب التي صادق عليها الموارنة والتي لم يصادقوا عليها. بل ان اليانو نسخ ببساطة آراء الكتّاب دون تمييز على ما يبدو. ومجمل القول هو ان الدويهي يتهم اليانو بأنه ” أمي “، غير قادر على فهم اللغة العربية أو تقاليد أهل البلاد . وأخيراًهم الدويهي اليانو بأنه لم ينقل إلا ما هو افتراء على الموارنة والناس الشرقيين الآخرين . لسنا هنا في موضع يخولنا حق تحدى كفاءة اليانو في اللغة العربية، إلا أن الدويهي نفسه كان قد اعترف سابقاً بمعرفة اليانو الكافية باللغة العربية ومقدرته على قراءة الكرشونية وامتدحهما( النقطة الرئيسة هنا هي فيما إذا كانت العقائد التي وجدها اليانو في الكتب المارونية متفقة مع عقائد كنيسة روما. والحقيقة هي انها لم تكن كذلك. فعندما زار اليانو لبنان، كانت كتب الموارنة الطقسية تضم ما يكفي من العقائد التي توحي بأصلهم المونوفيزي أو ” اليعقوبي “

ختاماً، جاءت ارسالية اليانو إلى الموارنة والأضاليل العقائدية التي عثر عليها في كتبهم بنتيجتين وهما تأسيس مدرسة مارونية للتعليم الديني للطلاب الموارنة وطباعة الكتب المارونية بعد تـنقيحها في روما عام 1584 . ومن اول الكتب الني نُشرت عام 1594 بعد وفاة اليانو، هو كتاب الليتورجيات الذي جاء ذكره آنفاً. وهو يضم العديد من الليتورجيات التي كتبها آباء الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، إلا أن هذه الليتورجيات حُذفت من طبعة الكتاب لعام 1608

ارسالية جيوفاني باتيستا اليانو الى الموارنة

الدكتور متي موسى