ثيودور الانطاكي / الدكتور متي موسى

Posted by on Jun 27, 2017 in Library, دراسات سريانية | Comments Off on ثيودور الانطاكي / الدكتور متي موسى

ثيودور الأنطاكي عالم وفيلسوف سرياني

من القرن الثالث عشر الميلادي في بلاط الإمبراطور فريدريك الثاني

الدكـتور متّـى موسـى

مقدّمـة

سأحاول في هذا المقال المقتضب أن ألقي بعض الضوء على حياة وفعّاليات عالم سرياني أنطاكي لم يقم أحد من الكتاب الشرقيين المعاصرين بتقصّي آثاره وذلك لندرة المعلومات عنه

والنذر القليل الذي ذكره عنه العلامة البطريرك مار إغناطيوس أفرام برصوم في كتابه “اللؤلؤ المنثور” منقول عن العلاّمة السرياني ابن العبري كما سيأتي ذكره قريباً

وأوّل من ذكر ثيودور الأنطاكي من القدماء الذين كتبوا عن آثار العلماء والفلاسفة والأطبّاء هو جمال الدين بن القفطي في كتابه “تاريخ الحكماء” وذلك في معرض كلامه عن يعقوب بن صقلان العالم المسيحي الملكي المقدسـي (+1228) غير أنّه لم يذكر ثيودور بالاسم  ،  بل أشار إليه بكونه “رجلاً يُعرف بالفيلسوف”

يقول ابن القفطي: إنّ يعقوب هذا قرأ شيئاً من الحكمة على رجل يعرف بالفيلسوف الأنطاكي نزيل القدس  ،  وإنّ هذا الفيلسوف قد أتقن أشياء من علوم الأوائل وغيرها واستوطن القدس وجعل داره بها بشكل كنيسة  ،  وتبتّل للعبادة وقراءة العلوم إلى حدود سنة 580 هـ أي 1184 م  . غير أنّ العلاّمة السرياني ابن العبري (+ 1286) نقل ما كتبه ابن القفطي عن ثيودور هذا وأضاف إليه معلومات جديدة لا توجد في أيّ مصدر شرقي آخر  ،  وهذه المعلومات في غاية الأهمّية لأنّها تكشف أوّل مرّة عن التفاعل العلمي بين الشرق والغرب  ،  وخاصّة  ،  حركة نقل العلوم العربية الأصيلة أو المترجمة عن اليونانية إلى الغرب والتي بلغت الذروة في القرن الثالث عشر الميلادي

ما ذكره ابن العبري عن ثيودور الأنطاكي

يذكر ابن العبري ثيودور الأنطاكي مرّتين في كتابه “تاريخ مختصر الدول” وذلك في معرض كلامه عن يعقوب بن صقلان . فمرّة يسميه “ثاذوري الفيلسوف” الذي قرأ عليه يعقوب بن صقلان شيئاً من الحكمة  ،  ومرّة أخرى يسميه “الحكيم ثاذري” . وفي كلتا الحالتين المقصود هو ثيودور . وحيث إنّ ما أورده ابن العبري عن ثيودور بالغ الأهمّية ارتأينا أن ننقل نصّ كلامه لكي نستطيع وضع ثيودور وفعالياته العلمية في إطارها التاريخي

: يقول ابن العبري

“ومنهم الحكيم ثاذري الأنطاكي اليعقوبي الخلّة . أحكم السريانية واللاتينية بأنطاكية وشدا بها شيئاً من علوم الأوائل . ثمّ هاجر إلى الموصل وقرأ على كمال الدين بن يونس مصنّفات الفارابي وابن سينا وحلّ إقليدس والمجسطي . ثمّ عاد إلى أنطاكية ولم يطل المكث بها لما رأى في نفسه من التقصير في التحصيل . فعاد مرّة ثانية إلى ابن يونس وأنضج ما استهنأ من علمه . وانحدر إلى بغداد وأتقن علم الطبّ . وقيّد أدابره وتصيّد شوارده  ،  وقصد السلطان علاء الدين ليخدمه فاستغرّ به ولم يقبل عليه . فرحل إلى الأرمـن وخدم قسطنطين أبا الملك حاتم ولم يستطب عشرتهم . فسار مع رسول كان هناك للإمبراطور ملك الإفرنج فنال منه أفضالاً ووجد له به نوالاً وأقطعه بمدينة كما هي بأعمالها . فلمّا صلح حاله وكثر ماله اشتاق إلى بلده وأهله  ،  ولم يؤذَن له بالتوجّه . فأقـام إلى أن أمكنته الفرصة بخروج الملك في بعض غزواته إلى بلاد المغرب فضمّ أطرافه وجمع أمواله وركب سفينة كان أعدّها لهربه وسار في البحر مع مَن معه من خدمه يطلبون برّ عكّا . فبينما هم سائرون هبّت عليهم ريح رمت بهم إلى مدينة كان الملك قد أرسى بها  ،  فلمّا أُخبر ثاذري بذلك تناول شيئاً من سمّ كان معه ومات خجلاً  لا وجلاً لأنّ الملك لم يكن ليسمح بإهلاك مثله”

وأوّل ما يلفت النظر هو أنّ ابن العبري  ،  جرياً على عادة كتّاب زمانه  ،  لم يذكر المصدر الذي استقى منه هذه المعلومات عن ثاذري أو ثيودور الأنطاكي . ولكن جلّ ما نعلمه هو أنّ ابن القفطي الذي سبق ابن العبري بالكتابة لم يعرف أو يذكر ثيودور بالاسم بل أشار إليه على أنّه “رجل فيلسوف” وأنّ يعقوب بن صقلان الطبيب والعالم المسيحي الملكي قد درس عليه شيئاً من الفلسفة في القدس . وأنّ ابن العبري قد عرف هذا الفيلسوف بأنّه ثيودور الأنطاكي . فمسألة ثيودور  ،  إذاً  ،  تبدأ بابن القفطي وتنتهي بما كتبه وأضافه ابن العبري وكلاهما من علماء القرن الثالث عشر الميلادي

ينعت ابن العبري ثيودور بأنّه “يعقوبي الخلّة”  ،  وهذا لا يعني أنّ ابن العبري وهو العلاّمة السرياني الفذّ يقبل تسمية “يعقوبي” أو “اليعقوبية” للتعريف بأحد علماء كنيسته . فإنّ التسميات التي كانت تطلق من قبل علماء المسلمين على الطوائف المسيحية كالنسطورية والملكانية واليعقوبية كانت معروفة ومتداولة قبل زمان ابن العبري وبعده . وبما أنّ ابن العبري صنّف “تاريخ مختصر الدول” كملخّص لتاريخه المدني تلبية لطلب بعض العلماء المسلمين  ،  لذلك نراه يذكر اصطلاح “يعقوبي” جرياً على عادة الكتّاب المسلمين في عصره . وإذا قرأنا تاريخه في إمعان نجد أنّه في الصفحة التي تلي ما كتبه عن الحكيم ثاذري يذكر مفاوضة أو مجادلـة جرت بينه والحكيم عيسى البغدادي المعروف بابن القسيس الحظيري بخصوص “أمر تقديم السريان الليل على النهار” فهو هنا يستعمل اصطلاح السريان وليس اليعاقبة

الاستدلالات من ابن العبري

ومن يقرأ تاريخه المدني لا يجده يستعمل سوى اصطلاح السريان والسريانية  ،  فنستدلّ أنّ ابن العبري أذن بأنّ ثيودور الأنطـاكـي كان سريانياً أرثوذكسياً  ،  وأنّه أحكم اللغتين السريانيـة واللاتينية في مدينة أنطاكية

وهنا تبدأ عقدة تستوجب الحلّ في تاريخ العلوم الشرقية وهي إحكام ثيودور الأنطاكي اللغة اللاتينية . إنّ إحكامه اللغة السريانية لا يثير مشكلة لأنّ أنطاكية كانت مركز الكرسي الأنطاكي وفيها الكثير من علماء السريان وعامّتهم . ولكنّ المشكلة هي: كيف أتقن ثيودور اللغة اللاتينية  ،  ومن الذي علّمه إيّاها  ،  وهل هناك من أهل أنطاكية في الحقبة التي عاشها ثيودور وهي أواخر القرن الثاني عشر ومنتصف القرن الذي يليه مّن كان يعرف اللغة اللاتينية أو يقوم بتدريسها ؟

نحن نعلم تاريخياً أنّ مدينة أنطاكية كانت مركزاً للثقافة اليونانية وأنّ لغة مدرستها المشهورة كانت اليونانية . وأنّه منذ القرن الرابع كانت خدمة القداس في كاتدرائية أنطاكية تقام باللغة اليونانية وأنّ مترجماً كان يترجم الموعظة إلى اللغة السريانية لكي يفهمها المصلّون السريان الذين لا يعرفون اليونانية . كذلك نعلم أنّ الآباء السريان ومنهم مار يعقوب الرهاوي (708) كان يتقن اللغة اليونانية ويدرسها في دير أوسيبونا في كورة أنطاكية . وإذا فحصنا تراجم حياة العلماء والأدباء السريان الذين كتب عنهم البطريرك أفرام برصوم في كتابه “اللؤلؤ المنثور” لا نجد من أحكم منهم اللغة اللاتينية غير ثيودور الأنطاكي موضوع بحثنا . لا بل إذا تأمّلنا أعمال العلماء السريان في الشرق منذ القرن الخامس حيث قام بعض السريان النساطرة ومن بعدهم السريان الأرثوذكس بترجمـة العلوم والفلسفة اليونانية إلى السريانية لا نجد بينهم مَن كان يعرف اللغة اللاتينية . وأكثر من ذلك فإنّنا لا نجد أيّ عالم أو مترجم شرقي منذ بداية الترجمة في عصر الخليفة العباسي المأمون (+ 833) وحتى نهاية القرن الثالث عشر مَن كان يعرف اللغة اللاتينية  .

وهكذا يمكننا القول إنّ ثيودور الأنطاكي هو أحد العلماء السريان والشرقيين الأفذاذ لإحكامه اللغة اللاتينية . ولكنّ المشكلة هي  ،  كما أسلفنا  ،  كيف تعلّم ثيودور هذه اللغة ومَن الذي علمه إيّاها؟ بل ما هي أهمّية إتقان عالم شرقي لهذه اللغة في القرن الثالث عشر الميلادي؟

سقوط أنطاكية بيد الإفرنج

إذا راجعنا تاريخ أنطاكية نجد أنّ هذه المدينة سقطت بيد الإفرنج الصليبيين سنة 1098 وأصبحت إحدى الإمارات الإفرنجية التابعة لمملكة القدس . وبقيت بيد الإفرنج مدّة طويلة حتى استردّها المسلمون على يد الملك الظاهر بيبرس سنة 1268

وبما أنّ لغة الإفرنج الثقافية هي اللاتينية فليس من المستبعد أن يكون هناك من اللاتين مَن تعلّم ثيودور هذه اللغة على يده . لا بل وجدت جاليات إفرنجية في أنطاكية ومنها جالية من مدينة بيزا الإيطالية حيث كانت لهم حارة خاصّة في أنطاكية حوالي سنة 1108 . وكان وجود هذه الجالية مشجّعاً لبعض العلماء المترجمين من بيزا منهم اسطيفان الأنطاكي الذي كان في أنطاكية سنة 1127 وقام بترجمة الكتاب الملكي في الطبّ لعلي بن عبّاس من العربية إلى اللاتينية . وطبعت هذه الترجمة أوّل مرّة في مدينة البندقية سنة 1492 ومرّة أخرى في ليون سنة 1524 . ومن البديهي أنّ اسطيفان هذا كان لاتينياً وأنّه تعلّم العربية وقام برحلة إلى الديار الإسلامية لإنجاز علومه . كذلك نجد عالماً ومترجماً لاتينياً آخر وهو فيليب الطرابلسي الذي وجد في نطاكية سنة 1227 ونقل كتاب “سرّ الأسرار” المنسوب إلى أرسطو إلى اللاتينية بناء على طلب غويدو البلنسي الذي ربّما كان يشغل منصب رئيس أساقفة نابولي . إنّ نقل هذا الكتاب  ،  وإن كان من اللغة اليونانية إلى اللاتينية  ،  تمّ في أنطاكية وليس في أوروبا . وبما أنّ وجود هذه الجاليات  ،  إضافة إلى المتاجرين اللاتين في أنطاكية  ،  يدلّ على وجود اللغة اللاتينية في هذه المدينة فليس من المستبعد أن يكون ثيودور قد تعلّمها عن يد أحد اللاتين في المدينة . وهنا نعود إلى السؤال الذي طرحناه سابقاً وهو: ما هي أهمّية إتقان عالم سرياني شرقي اللغة اللاتينية في النصف الأوّل من القرن الثالث عشر . إنّ لهذه الأهمّية صلة وثقى بحركة نقل العلوم العربية الموضوعة والمترجمة إلى اللاتينية وانتقالها إلى العالم الغربي خاصّة في القرن الثالث عشر حيث بلغت ذروتها في عهد الإمبراطور فريدريك الثاني (1215 – 1250) الذي حكم صقلية وألمانيا والإمبراطورية الرومانية المقدّسة بعد سنة 1220 وامتدّ حكمه إلى القدس سنة 1225 إثر زواجه بالأميرة إيزابيلا سليلة بريين . كما أنّه جرّد حملة صليبية هي الحملة الخامسة في إثر تتويجه سنة 1215 كان لها أكبر الأثر في اتصاله بالعالم الشرقي والإسلامي . أصبحت عاصمته “بالرمو” مركزاً لنقل العلوم العربية إلى الغرب . والحقيقة أنّ حركة نقل العلوم العـربية إلى اللاتينية بدأت منذ عهد روجـر الأول (+1151) وروجر الثاني (+1154) ووليم الثاني (+1189) النورمنديون ولكنّها وصلت إلى الذروة في عهد فريدريك الثاني . وكان هؤلاء الملوك يقدّرون العلوم العربية ويدعون العلماء والمترجمين من كلّ حدب وصوب للإفادة من علومهم وخاصّة نقل العلوم العربية إلى اللاتينية . وأكبر دليل على ذلك أنّ الجغرافي عبد اللـه بن محمد الإدريسي (+ 1166) عاش في “بالرمو” تحت رعاية روجر الثاني وصنّف له كتاباً هو “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”

وأكبر الظنّ أنّ استعمال الأعداد العربية ظهر أوّل مرّة في صقلية في هذا العهد كما يظهر من المصكوكات النقدية في عهد روجر الثاني . ولشدّة شغف هؤلاء الملوك بالعلوم العربية ومعرفة بعضهم لها مثل فريدريك الثاني وظهورهم بمظهر سلاطين أقرب إلى السلاطين المسلمين منهم إلى المسيحيين  ،  نعتهم نقّادهم بكونهم “أنصاف وثنيين” أو “سلاطين معمّدين” . ولكنّ الذي يهمّنا هنا هو أنّه في عهد أولئك الملوك أصبحت صقلية ملتقى العلوم العربية واليونانية واللاتينية  ،  وإن كانت اليونانية أقلّ أهمّية من العربية واللاتينية . ومن جملة المترجمين الذين أمّوا صقلية في عهد فريدريك الثاني المترجم الشهير  ،  لا بل شيخ المترجمين ميخائيل سكوت  ،  الذي سبق ثيودور الأنطاكي في خدمة الإمبراطور فريدريك الثاني . ونحن نعلم أنّ ميخائيل سكوت ترجم عدداً كبيراً من الكتب العربية إلى اللاتينية ومن جملتها مؤلّفات أرسطو بشرح ابن رشد . ومن هنا كانت أهمّية ثيودور لأنّه  ،  كما سنرى  ،  كان مواكباً لصعيد ميخائيل سكوت العلمي والثقافي  ،  ولأنّه كـ “سكوت” أسهم في نقل بعض الكتب العربية إلى اللاتينية وإن كانت المعلومات عن أعماله المترجمة أقلّ بكثير من المعلومات عن فعاليات سكو

وصول ثيودور الأنطاكي إلى بلاط الإمبراطور فريدريك الثاني

    وإذا عدنا إلى ابن العبري نجد أنّه يذكر كيفية وصول ثيودور الأنطاكي إلى بلاط الإمبراطور فريدريك الثاني ولكنّه لا يذكر أيّ شيء عن فعالياته العلمية في ذلك البلاط  ،  إلاّ أنّ المصادر الأجنبية  ،  على قلّتها  ،  تلقي بعض الضوء على فعاليات ثيودور في بلاط الإمبراطور فريدريك الثاني . وتدلّنا هذه المصادر على أنّ اثنين من العلماء المرموقين في هذا البلاط كان يطلق عليهما لقب “فيلسوف”  ،  أحدهما ميخائيل سكوت والآخر ثيودور الأنطاكي وفعالياته العلمية في ذلك البلاط . وإذا لم يدلّنا أيّ شيء عن ثيودور سوى ما ذكره فسوف لن تتسنّى لنا معرفة مصدره الذي استقى منه هذا الخبر . ولكن هل يعني اتصال ثيودور بالبطريرك اللاتيني أنّه كان كاثوليكياً؟

    أعتقد أنّ ذلك مستبعد لأنّ مجرّد علاقة ثيودور الأنطاكي بالبطريرك اللاتيني لا تجعله رومانياً كاثوليكياً . والذي يحملنا على استبعاد هذا الأمر أكثر من ذلك هو أنّه لو كان ثيودور كاثوليكياً لما نعته ابن العبري بأنّه “يعقوبي الخلّة” . وهل من المعقول أن يرتكب عالم ومؤرّخ كابن العبري هذا الخطأ التاريخي أو يكذب على التاريخ؟ ولو كان ثيودور كاثوليكياً لما أشار إليه “إرنست رنان” بكونه إمّا يونانياً أو يهودياً .

    تذكر بعض المصادر الغربية أنّ “الخليفة الأعظم” أرسل ثيودور إلى الإمبراطور فريدريك الثاني قبيل سنة 1236 في الوقت الذي كان “سلطان بابل” قد أرسل إلى الإمبراطور نفسه الأجوبة على المسائل التي كان الإمبراطور قد أنفذها إلى الشرق ليختبر كفاءة علمائه . فمن هو هذا الخليفة الذي أوفد ثيودور إلى الإمبراطور فريدريك ؟ لم تذكر هذه المصادر اسم الخليفة أو السلطان وهنا نعود إلى ما قاله ابن العبري بأنّ ثيودور قصد السلطان علاء الدين ليخدمه فاستغرّ به هذا السلطان فرحل إلى الأرمن  ،  ومن هناك سار مع الرسول إلى إمبراطور الإفرنج “فريدريك”

    ولم أهتدِ إلى هوية هذا السلطان علاء الدين . وكلّ ما أستطيعه هو مجرّد اجتهاد بأنّ علاء الدين هذا هو السلطان علاء الدين شاه خوارزم (1200 – 1220) الذي اجتاح بلاده جنكيز خان المغولي فهرب واعتزل في جزيرة من جزر بحر قزوين حيث مات كمداً سنة 1220 .

  ثيودور الأنطاكي الفيلسوف

    ومهما يكن من أمر فإنّ ثيودور وصل إلى بلاط الإمبراطور فريدريك الثاني قبيل سنة 1236 حيث احتلّ منـزلة ميخائيل سكوت بعد وفاة هذا الأخير وأصبح يدعى بالفيلسوف والمنجّم والمترجم . وعن الدومينيكان يروى أنّ مناظرة فلسفية جرت بين ثيودور ورهبان هذه الأخوية وأنّ ثيودور أفحمهم وذلك إبان الحصار الذي ضربه فريدريك على مدينة بريسيا سنة 1238  ،  ولكنّ الرهبان عادوا فتحدّوا ثيودور في مناظرة مع أحدهم وهو رولاند الكريموني والذي يظهر أنّه كان أجلّهم علماً ومقدرة . ويقال إنّ رولاند أفحم ثيودور واستعاد سمعة الرهبانية الدومينكانية

    بالإضافة إلى طول باعه في الفلسفة فإنّ ثيودور كان منجّماً من الطراز الأول . وأكبر الظنّ أنّه خلف ميخائيل سكوت كمنجّم الإمبراطور الخاصّ . ولمّا عزم الإمبراطور على اجتياح مدينة “بادوا” سنة 1239 ضرب له ثيودور الزيج وكشف طوالع بروجه . ولكنّ بعض المتأدّبين من “بادوا” سخروا منه لأنّه اعتزم الحصول على اقتران قام به لبروج الإمبراطور  ،  وهو كما ادّعى هؤلاء  ،  أمر مستحيل في ذلك الوقت . كما ادّعوا أيضـاً بأنّه أخفـق في تحقيق أحـد أبراج الإمبراطور وهو برج العقرب  ،  ما أدّى إلى فشل الحملة على “بادوا”

    وفي الفترة ما بين 1239 ووفاته على أكبر الظنّ في تشرين الأول سنة 1250 كان ثيودور منهمكاً في عدّة مشاريع علمية . ففي سنة 1240 قام بتركيب معجون من عصير السكّر ونوار الإسفنج لاستعماله كدواء من قبل حاشية الإمبراطور . وقد خصّص له الإمبراطور لهذا الغرض المال الكافي وأجود أنواع السكّر . كما أرسل الإمبراطور علبة من المعجون لمعالجة “بيرودي لا فينا” . ومن جملة إنجازاته في حقل الطبّ أنّه صنّف مقالة في الصحّة لمنفعة الإمبراطور استخرجها من كتاب “سرّ الأسرار” المنسوب إلى أرسطو والذي كان مترجماً إلى العربية

مشاريع ثيودور الأنطاكي الأدبية

    ومن مشاريع ثيودور الأدبية التي وصلتنا جاهزة هي ترجمة اللاتينية لكتاب فنّ البزدرة (فنّ تدريب البزاة) لغرض الصيد  ،  وتوجد منه عدّة نسخ في مكتبات أوروبا . وقد نقل هذه الترجمة إلى الفرنسية دانيال الكريموني لمنفعة انزيو ابن الإمبراطور فريدريك وذلك سنة 1249 على أكثر احتمال . ويبدو من الترجمة أنّ اسم مؤلّف النصّ العربي هو “مؤمن”  ،  ولكنّني لم أستطع الاهتداء إلى تحقيق هويّته . وجاء في مقدّمة الكتاب اللاتينية التي كتبها ثيودور أنّ الإمبراطور نقّح ترجمته بنفسه أثناء حصار مدينة فاينـزا في شمال إيطاليا سنة 1240 – 1241 . ويشرح ثيودور الغرض من ترجمته هذا الكتاب فيقول

    “إنّ أجلّ هوايات الملوك الصيد فتبعاً لروح هذه الهواية الشائعة بين الملوك أمرني الإمبراطور العظيم فريدريك الثاني ملك أورشليم وسوريا المعظّم أنا أحقر عبيد دولته أن أترجم الكتاب الحالي عن البزدرة إلى اللغة اللاتينية لكي يكون ذخراً للأمراء الذين يريدون اكتساب معرفة هذه الهواية في المستقبل .

ولذلك وبمزيد من الاحترام والطاعة لسيّدي استجبت لأمره وقسمت الكتاب إلى أربعة أجزاء: الأول يعنى بنظرية هذا الفنّ  ،  والثاني في علاج الأمراض الخفية  ،  والثالث في علاج الأمراض الظاهرة  ،  والرابع في تطبيب الحيوانات من ذوات القوائم الأربع

وتدلّ هذه المقدّمة أيضاً على تبحّر ثيودور في الفلسفة اليونانية حيث يعتمد على مؤلّفات أرسطو في ما كتبه عن الأخلاق والبيان والحيوا

ثيودور الأنطاكي عالم الرياضيات

    وبالإضافة إلى كونه فيلسوفاً ومترجماً ومنجّماً فإنّ ثيودور الأنطاكي كان عالماً رياضياً فذّاً بدليل أنّه طرح مسائل رياضية لاختبار ليوناردو البيزي . وإنّ ليوناردو هذا كان يقدّر منـزلة ثيودور العلمية وإنّه نعته بـ “فيلسوف البلاط الفذّ” وأشاد بأنّه خير من يمثّل الثقافة الموسوعية . ومن المؤسف حقّاً ألاّ نجد شيئاً يستحقّ الذكر عن ثيودور من سنة 1240 – 1241 حتى وفاته سنة 1250 . وجلّ ما نجده في بعض المصادر الغربية أنّ الإمبراطور فريدريك أقطع ثيودور ملكاً كبيراً من ممتلكاته الشاسعة وأنّ هذا الملك “بقي في حوزة الفيلسوف ثيودور طوال حياته”

    وممّا يجلب الانتباه أنّ هذا القول ينطبق مع ما كتبه ابن العبري عن ثيودور حيث قال إنّ ثيودور “نال من الإمبراطور أفضالاً ووجد به نوالاً وأقطعه بمدينة كما هي بأعمالها ” . والذي يثير الحيرة والاهتمام هو كيف علم ابن العبري بالأفضال التي نالها ثيودور من الإمبراطور خاصّة أنّه أقطعه مدينة بكاملها  ،  وما هو مصدره في هذا الخصوص ؟ والجواب على ذلك لا يعدو حدّ التخمين وهو أنّ ابن العبري كان معاصراً لثيودور وأنّه ربّما تلقّى هذه المعلومات من بعض القادمين من صقلية خاصّة أنّ بعض العلماء والمتاجرين في الشرق كانوا على اتصال علمي أو تجاري بصقلية

مشكلة وفاة ثيودور الأنطاكي

    أخيراً تأتي مشكلة وفاة ثيودور . فحسب رواية ابن العبري: إنّ ثيودور اتخذ فرصة خروج الإمبراطور إلى بعض بلاد المغرب فركب سفينة مع أهله . ولكنّ ريحاً هبّت عليهم فسقطوا في مدينة كان الإمبراطور قد وصلها . وحتى لا يقع بيد الإمبراطور الذي كان سيتّهمه بالهرب والجبن تناول شيئاً من السمّ كان معه فقضى نحبه خجلاً  لا وجلاً  لأنّ الإمبراطورلم يكن ليسمح بإهلاك مثله . وهذا يخالف ما جاء في المصادر الغربية من أنّ ثيودور هو أحد المنجّمين الذين فقدوا حياتهم على أكثر احتمال في الحملة الفاشلة على مدينة بارما سنة 124

خاتمـة

    هذه محاولة صغيرة في بيان حقيقة العالم والفيلسوف السرياني الأنطاكي ثيودور  ،  ودوره في نقل العلوم العربية إلى الغرب . إنّه العالم الشرقي الأول الذي كان يحسن اللغة اللاتينية في عصر طغت فيه اللغتان العربية واليونانية . وإنّ أهمّيته تبدو في اشتراكه في حركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية والتي كانت بداية عصر النهضة في أوروبا

-انظر إغناطيوس أفرام الأوّل برصوم  ،  “اللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم” و “الآداب السريانية” ط3 (بغداد: مطبوعات مجمع اللغة السريانية 1976) ص 403

انظر جمال الدين بن القفطي “تاريخ الحكماء” تحقيق جوليوس ليبرت (لايبزغ 1909) ص 378 – 379

  • -غريغوريوس أبو الفرج بن أهرون الطبيب الملطي المعروف بابن العبري “تاريخ مختصر الدول”  ،  تحقيق الأب أنطون صالحاني (بيروت: المطبعة الكاثوليكية 1958) ص 253 و 273

-ابن العبري  ،  المرجع نفسه ص 274