مقدّمـة
في مساهمة متواضعة لإظهار القيمة الاجتماعية والحضارية لدور السريان في مساعدة العرب والمسلمين على التفاعل الحضاري مع الحضارة العالمية في العصر الوسيط أقدّم هذا البحث الموجز لبعض جوانب مؤثّرات المراكز الحضارية في المشرق التي أمدّت مدارسها العلمية ، المحتفظة بالمؤلّفات الإغريقية – اللاتينية وبعض ترجماتها السريانية مع المؤلّفات السنسكريتية والفارسية وغيرها ، بعلمائها وأطبّائها ومترجميها البارعين الأفذاذ الذين مهّدوا السبيل وأعانوا الفكر العربي الإسلامي عند بدء تفتّحه على التزوّد من ينابيع المعرفة وآفاق الفكر ، بالإضـافة إلى إغنائهم الأبحاث الكلاسيكية بتحليلاتهم وشروحاتهم وإضافاتهم.
حالة العرب قبل الإسلام
تعتبر النظرة العلمية الصائبة التراثَ الإنساني على أنّه نتاج مساهمات متنوّعة للشعوب ، بدرجاتٍ متفاوتة وبأشكالٍ مختلفة ، حسب إمكانيّاتها المادّية المحدّدة بنمط إنتاجها ، وظروف كلّ منها في النظام الاجتماعي الموجودة فيه ، وتأثيرات تفاعلات الحياة الاقتصادية في مختلف أشكال العلاقات الفوقية من أخلاقية ودينية وفلسفية وقانونية وسياسية وفنيّة . فالشعوب ، في ممارستها لعمليّة الإنتاج بأنماط مختلفة محدّدة متمايزة ، قد ساهمت في بناء صرح الحضارة العالمية بأشكالٍ متفاوتة من التفاعل بين الأخذ والعطاء والرفض والمقاومة عبر سلسلة من علاقات الاتصال والتعاون والتداخل والسيطرة . ويقتضينا الأمر بموجب هذه النظرة العلميّة أن نأخذ بعين الاعتبار الظروف الموضوعية والذاتية للعرب قبل الإسلام وبعده . فإنّ تفاعل الأمم والشعوب السلبي والإيجابي مع الحضارة يتوقّف على عوامل موضوعية وذاتيّة معقّدة ، اجتماعية واقتصادية ، تتأثّر ( لا سيّما لدى الشعوب المتأخّرة قديماً ) بالظروف الجغرافية: من تضاريسية وجيولوجية ومناخية وموقعية ( سوقية ) . . وبالنشاط الاقتصادي والاتصال البشري عن طريق الهجرات والحروب والتجارة . ومع أنّ الظروف الجغرافية ، كما هو معلوم ، لا تقوم بدور حاسم في التغييرات الاجتماعية إلاّ أنّها لا تعدم التأثير ، إذ إنّها تؤثّر في الإنسان ويكون تأثيرها في الشعوب المتخلّفة على نحوٍ أشدّ.
ولذا ، فإنّ ظروف صحراء شبه جزيرة العرب ، بقساوتها وضآلة مواردها قديماً وبعزلها شبه التامّ لسكّانها عن الشعوب المجاورة ، تركت آثاراً ملموسة دون شكّ في حياة الأقدمين ، حيث ساد لديهم النظام المشاعي لفترة أطول ( عدا اليمن ) ، وبقي نظام العشيرة القبلي وهو أحد مستلزمات النظام المشاعي لفترة طويلة . إنّ نظام العشيرة القبلي يفترض إنتاجاً بدائياً جدّاً ، وبالتالي ، سكّاناً قليلين جدّاً مبعثرين في رقعة شاسعة من الأرض ، ما يؤدّي إلى انخفاض مستوى الإنتاج والى حياة التنقّل البدوية وينجم عنهما اشتداد الولاء القبلي ( العصبية ) الذي استمرّ حتى ظهور الإسلام في حين تجاوزت شعوب الشرقين الأدنى والأوسط المجاورة ، بتفاوت ، المشاعية إلى العبودية فالإقطاع . ولمّا كانت حياة العرب الجاهليين بسيطة ساذجة فإنّ معارفهم وأفكارهم وآراءهم التي هي انعكاس للأوضاع الاجتماعية وشروطها المادّية للأحوال الاقتصادية كانت بسيطة ساذجة ، لأنّه مثلما يكون نمط الحياة عند الناس يكون كذلك نمط أفكارهم.
الأوضاع الفكرية والحضارية
عبر عمليّة تطوّر تناقضي ورث الساسانيون الذين اتخذوا العـراق ، مهد الحضارات القديمة ، بعد احتلاله ، مقرّاً لهم ، ورثوا تراثاً حضارياً ، وكذلك ورث البيزنطيون المحتلّون سورية وفلسطين ومصر وكانت بلدانها متقدّمة في سلّم التطوّر الحضاري لزمانهما . لقد كانت معالم الحضارة لدى مجتمعات هذه الأقطار المستقرّة المزاولة للزراعة وللحرف المتعلّقة بها وللتجارة واضحة في ازدهار المدن العامرة بالقصور والأبنية والمعابد الضخمة وبالمراكز التجارية المنتشرة في ربوعهما وبتنسيق شبكات الريّ الواسعة ، حيث كان نظام الإقطاع النامي يعمّ تلك المجتمعات . فكانت هناك عقود للريّ وتنظيم لأمور الزراعة والغرس واستغلال الأرض ، وهناك تنظيمات واسعة للضرائب المجحفة المتعدّدة ، وهناك مؤسّسات ثقافية ومراكز علمية كالإسكندرية ، وأنطاكية ، وحرّان ، والرها ، وبصرى ، والحيرة ، وجنديسابور . . وكان هناك فلاسفة وأطبّاء وعلماء ومشرّعون ومؤرّخون وفلكيّون ، وكانت لكلتا الإمبراطوريتين أنظمة للحكم وقوانين تتحكّم بهما في فرض سيادتيهما على أبناء الشعوب المستغلَّة.
ولكن ، لم يعهد أبناء الجزيرة العربية قبل الإسلام ما لدى الساسانيين والبيزنطيين من علوم ومعارف . ففي الجنوب الغربي ، اليمن ، الذي قامت فيه حضارة النظام العبودي ، كان الاحتلال الأجنبي الحبشي فالإيراني الذي دمّر البلاد وخرّب المرافق الاقتصادية وحوّل الطرق التجارية عنها . لهذا ، طال العهد الذي فارق به أهل الجنوب الفنون والمعارف القديمة التي مارسوها في فنّ هندسة بناء المنشآت الإروائية والمعابد والقلاع والقصور والعلوم المتيسّرة في زمانهم . أمّا باقي أنحاء الجزيرة فكانت متأخّرة بحكم تأخّر تطوّر اقتصادها الذي لم يكن ذا إنتاج سلعي ، وبحكم العزلة التي فرضتها الصحراء . غير أنّ هذه العزلة الواسعة لأبناء شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام عن أقطار الشرق الأدنى المجاورة المتطوّرة لم تكن تامّة ، إذ كانت تتمّ على نطاق ضيّق اتصالات للقبائل المتنقّلة وراء الكلأ والماء ، والتجّار الذين يسافرون بتجارتهم ، والوفود من رؤساء ومتنفّذي القبائل ، والشعراء الوافدين على بلاطات أمراء المناذرة والغساسنة وأحياناً على عاصمة الأكاسرة طيسفون ( المدائن ) ، بأبناء تلك الشعوب المتطوّرة .
وكانت لهذه الاتصالات الضيّقة آثار محدودة في حضارة عرب ما قبل الإسلام ، حيث اقتبست بعض المعارف بصورة مبسّطة ، كما دخلت مصطلحات ومفردات حضارية لأنظمة مالية وأدبية وثقافية ودينية ( خراج ، جزية ، قفيز ، صراط ، أساطير ، محراب ، هيكل ، بيعة . . الخ ) ، ويلاحظ أثر ذلك في أساليب ومفردات الشعراء الوافدين على أمراء المناذرة والغساسنة بصورة خاصّة.
أمّا أهمّ معارف عرب ما قبل الإسلام ، والتي هي في الأغلب من متطلّبات مجتمعاتهم فهي : ( علم ) الأنساب ، ( علم ) التاريخ ، تفسير الأحلام ، و( علم ) التنجيم والفلك . وقد أُطلق على هذه المعارف البسيطة الأولية تسمية العلم تجاوزاً . ولكنّها ، في الحقيقة ، ليست سوى معارف أوّلية قليلة ، وأشتات مبعثرة لمنقولات شفهية تتمازج فيها الحقيقة بالأساطير . ذلك لأنّ نمط الإنتاج المشاعي السـائد في شبه الجزيرة العربية ( رغم تفكّكه وظهور مظاهر العبودية وسواها ) لا يفسح المجال للنظام المهيمن هناك لأن يدرك حتى أدنى مستوى فكري وحضاري بلغته الشعوب المجاورة المتحضّرة المتطوّرة مجتمعاتها بتقدّم إنتاجها ، كما أسلفنا أعلا.
التفـاعل الحضـاري
إنّ أوسع احتكاك للعرب بسواهم وأهمّ ظرف ومحفّز لتفاعلهم الحضاري إنّما تمّ ، بلا شكّ ، بعد فتحهم لبلدان مختلفة ، واتصالهم بقوميات وأديان متعدّدة ، ذات حضارات وأنظمة اجتماعية متطوّرة ، حيث رافق الإسلام الانتقال النهائي لعلاقات الإنتاج المستعبدة في المنطقة إلى الإقطاعي.
وكنتيجة لذلك تطوّر المجتمع العربي الإسلامي ، بسبب تحرّره من عزلته السابقة ، ووراثته لأنظمة البلدان المفتوحة ، الاقتصادية والاجتماعية والإدارية ، وعلاقات الإنتاج الاجتماعية وتقاليد الحكم المتطوّرة . فتأثّر العرب المسلمون بمؤثّرات تلك المجتمعات المتطوّرة ، المجتازة أنظمة المشاعية إلى العبودية فالإقطاع ، منذ أمد ليس بالقصير . فأرغمت الأوضاع المستجدّة ، رغم مقاومة الأرستقراطية العربية ومحاولتها الاحتفاظ بالنمط القديم ، المجتمع الإسلامي على الأخذ بالأساليب والأنماط الحضارية المتقدّمة في تلك البلدان المفتوحة وعلى تعرّف معارفها وعلومها وأنظمتها الموروثة وقوانينها وفلسفاتها . وهكذا ، ظهرت الحاجة عند الانتقال من مجتمع المشاعية إلى المجتمع الإقطاعي ، إلى الاطّلاع على نظم وعلوم وفنون الأوّلين وإلى تعلّمها ومن ثمّ الأخذ بها . وكان لأبناء البلد المفتوح الفضل الكبير في تسهيل هذه المهمّات . فلقد قام غير العرب وغير المسلمين من أبناء البلدان المفتوحة بنقل تراث الفكر الإنساني وترجمته من الإغريقية ( سبق وأن ترجمت العلوم الإغريقية إلى السريانية ) والسنسكريتية والفهلوية ( الفارسية القديمة ) إلى العربية . لقد بدأت الترجمة وبدأ النقل في العهد الأموي يسيران ببطء ولكنّ تطوّر المجتمع في العهد العباسي سار بتأثّر أسرع ، ما شجّع على توسيع حركة الترجمة ودفعها إلى الأمام بحيث اطّلع العلماء المسلمون في العهد العباسي وبعد خلافة المأمون على معظم إنتاج الفلاسفة والعلماء الغابرين من إغريق وسواهم . ولا شكّ أنّ تطوّر المجتمع في العهد العباسي قد ساعد على توفير الأساس المادّي لخلق شروط أفضل لظهور مستلزمات تطوّر الفكر العربي الإسلامي ، الذي ساهم في قيام التفاعل الحضاري وتعجيل حركة المساهمة الواسعة التي قام بها العرب والمسلمون في مجمل التراث الإنساني ، وكانت الترجمة رافده الرئيسي الذي أمدّ المسلمين بمعين لا ينضب من الحضارات القديمة وفنونها وأفكارها ، أفادتهم ولا ريب في تتبّع أساليبها ومناهجها وفلسفتها حيث انعكست في عقلانية المعتزلة وأفكار إخوان الصفا الموسوعيين ( فلاسفة وعلماء ) وبعض الفلاسفة اللاحقين الذين طوّروا فلسفة أرسطو في اتجاه مادّي ، وأصبحوا ، بفضل ذلك ، الحلقة الضرورية بين اليونان وعصر النهضة . ولقد زوّدتنا مصادر العرب والمسلمين الغزيرة التي وصلتنا بمعلومات غنية ووافرة عن الثقافة التي أبدعها كلّ تطوّر الإنسانية من علوم ومعارف طبّية ورياضية وهندسية وفلكية وآداب وعلوم لغة وتشريع وفلسفة وفنون ، والتي أشارت إلى الفهم المتبادل بين الشعوب والتأثير المتبادل لثقافة كلّ شعب في الآخر . تلك العلوم والمعارف التي ترجمت وهضمت وتمثّلت فأورثت العرب والمسلمين إرثاً ضخماً اتصلت مؤثّرات أفكاره النيّرة بالفكر الحرّ عند الشعوب اللاتينية في عصر النهضة . ومع ذلك ، ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار التحفّظ الشديد الذي أبداه ” كلود كاهن ” حول تعذّر اطّلاع المسلمين على كامل التراث القديم . ذلك لما أصاب التراث القديم ، قبيل الإسلام ، من تصفية في المدارس المتأخّرة ، هذا بالإضافة إلى أنّ الأقوام الشرقية ، التي لم تطبع بطابع الحضارة الإغريقية قد بدأت – كما يذكر – بنقل الآثار القديمة التي عنيت بها إلى لغاتها وبخاصّة إلى السريانية وأحياناً إلى الفهلوية أيضاً.
يرى المستشرق السوفياتي ” بارتولد ” أنّ البلاد التي وقعت في حوزة المسلمين كانت أحسن حالاً من سواها ، وكان ” النصارى أحسن حالاً تحت حكم المسلمين في الأزمنة الأولى ، لحاجة الفاتحين إلى هذا العنصر المسيحي المتفوّق على العرب حضارةً . وقد نبغ في مصر وسورية وما بين النهرين رجال علم وأدب من الطراز الأول في الآداب السـريانية واليونانية في القـرن الأول الإسلامي . وليعقوب الأدسي ( 640 – 708م ) الذائع الصيت من بين أولئك العلماء مكانة خاصّة ممتازة في المذهب السرياني الأرثوذكسي ، وصارت شواطىء الفرات بعد استعادة مكانتها القديمة أحد مراكز حضارة العالم “.
ولا شكّ أنّ ” بلاشير ” قد لاحظ تفوّق أبناء الشعوب المغلوبة في الثروة المادّية الثقافية ، الأمر الذي مكّنهم من الاحتفاظ بالقدرة على التفاعل الحضاري ، ناهيك عن احتفاظهم بمعتقداتهم الدينية وأطرهم الاجتماعية وبمراكزهم في الإدارة والتجارة والحرف . ونظراً إلى حاجة العرب والمسلمين إلى ما تمتلك هذه العناصر المتفوّقة من خبرات ومعارف فقد استعانوا بها ووفّروا لها إمكانيّات كانت محدودة في بدايتها ثمّ أخذت بالاتساع مع تطوّر احتياجات العرب والمسلمين المادّية والفكرية . ويشير ” أوليري ” إلى حركة الترجمة بقوله: “كانت أولى الدلالات وأهمّها على التكيّف الجديد في الفكـر الإسلامي في الإنتاج الغزير للترجمات العربية من مؤلّفات تتناول الفلسفة العلمية . وكان من نتيجة ذلك أن استحوذ العالم الذي يتكلّم العربية ، بعد سقوط الأمويين بثمانين عاماً ، على ترجمات لمعظم مؤلّفات أرسطو وشرّاح الأفلاطونية المحدثة ، وبعض أعمال أفلاطون ومعظم أعمال جالينوس وأجزاء من مؤلّفات أخرى في الطبّ ومن شروحها ، ثمّ من مؤلّفات علمية إغريقية ومؤلّفات هندية وفارسية مختلفة.
وقوام هذا العهد من النشاط في الترجمة مرحلتان : – تبدأ أولاهما من استيلاء العباسيين على الخلافة إلى خلافة المأمون ( 132 – 198 هـ ) حيث قام مترجمون مستقلّون بقدر كبير من الترجمة ومعظمهم من المسيحيين واليهود والمهتدين الذين دخلوا الإسلام من الديانات الأخرى . أمّا الثانية ففي حكم المأمون وخلفائه المباشرين حيث تركّز عمل الترجمة في مدرسة ( يقصد دار الحكمة ) أسّست حديثاً في بغداد ، وبذل جهد دؤوب لجعل المادّة الضرورية للبحث الفلسفي والعلمي في متناول الطالب الذي يتكلّم العـربية” . ولكنّ حركـة الترجمـة ، وإن اسـتمرّت بعد عهد المأمون نشيطة موفّقة ،لم تبقَ مأجورة – كما يلاحظ اليازجي – بل تحرّرت وقامت على الرغبة الشخصية والمتعة الفردية . ذلك أنّ مواصلة الاشتغال بهذه العلوم كانت قد ولّدت عند هواتها متعة عقلية فائقة ، فما إن هلّ القرن الرابع حتى أخذت الحركة العلمية في النضج وغدت الترجمات مردفة بالتعليقـات والشروح ، ويضيف اليازجي- وبدأت المؤلّفات في هذه المواضيع تظهر أولاً بصورة دراسات قصيرة في موضوعات محدودة ثمّ بشكل مؤلّفات جامعة فيها اقتباس واجتهاد وتحليل ونقد وتنظيم وتبويب واستنباط ووضع.
ولكن ، بالرغم من تفوّق المسيحيين على المسلمين وسبق اطّلاعهم على العلوم اليونانية فإنّهم لم يبرزوا على العلماء المسلمين – كما يرى بارتولد – ولم ينجبوا عالماً تصحّ مقارنته بالفارابي وابن سينا والبيروني وابن رشد . كما أنّ تفوّق المسلمين عليهم أفقدهـم العلاقة بالإغريقية حيث تساعدهم لغتهم السريانيـة لأنّ اللغـة العربية أصبحت لغة العلم بعد نقـل ذلك التراث الضخـم من العلوم والمعارف الأجنبية إلى العربية.
أهـمّ المراكـز الثقافيـة
أ – الحيرة
كانت الحيرة ( حيرتا – بالسريانية – مخيّم أو معسكر ) التي موقعها على بعد 5 كلم جنوبي الكوفة مركزاً حضارياً في عهد المناذرة حيث كانت عاصمتهم . وفي الحيرة كان يسكن بالإضافة إلى العرب ، النبط ( وهم السريان سكّان العراق القدماء ) والإيرانيون والروم ، وهم من أديان مختلفة زرادشتية ونصرانية ويهودية وصابئة . وكانت ملتقى الحضارات القديمة ، وكان أهلها يتكلّمون في الغالب العربية ويكتبون بالسريانية لغلبة المسيحية فيها ، ويستخدمون الخطّ النبطي ( الذي سيعرف بالكوفي بعد الفتح الإسلامي ) ويعرفون الفارسية والآرامية (سلف السريانية ).
وقد فقدت الحيرة أهمّيتها بعد الفتح الإسلامي ولا سيّما بعد إنشاء الكوفة القريبة منها ، غير أنّه كان بمقدور كنائسها وأديرتها القريبة منها أن تصبح منبعاً لروّاد المعرفة من المؤرّخين العرب ، حيث كان باستطاعتهم أن يستلّوا من بِيعها المخطوطات ويتدارسـوها وينقلوا عنها . وكانت قد توافرت في العراق المحتلّ من قبل الإيرانيين الساسانيين قبيل قدوم العرب المسلمين الفاتحين إليه ظروف موضوعية وذاتية لأن يمارس المسيحيون نشاطهم بحرّية أوفر نتيجة تطوّر العلاقات الاجتماعية وتسامح السلطة الإيرانية الزرادشتية – غير التبشيرية – ما خلق ظروفاً فضلى لممارسة النساطرة السريان الفرقة الأكثر قبولاً وتجاوباً مع السلطة الساسانية ، لمجمل نشاطاتهم الدينية والثقافية والحضارية ، وإن كانت على العموم غير عميقة وذات أبعاد غير فسيحة . وكانت الحيرة – بسبب تابعيتها للدولة الساسانية – متأثّرة بالحضارة الإيرانية في عهدها الساساني ، فبنيت فيها وبقربها أشهر قصور المناذرة ( الخورنق ، السدير ، سنداد ، الأبيض ، الفرس ، الزوراء ) وأديرتهم كدير هند الكبرى ، مستخدمين أمهر المهندسين والمعماريين والبنّائين من إيرانيين وبيزنطيين وغيرهم . وفي الحيرة قامت دراسات ( أنّ اليهود كتبوا تلمودهم البابلي – الذي بدأ بكتابته على ما يظهر الحبر آشي (Rabbi Ashi ) المتوفّي العام 430 م ، واكتسب صيغته النهائية في أوائل القرن السادس الميلادي – هناك حيث كانت لهم جالية ) وردت عنها إشارات متعدّدة فذكر الطبري : ” وقد حدثت عن هشام بن محمد الكلبي أنّه قال : – إنّي كنت أستخرج أخبار العرب وأنساب آل نصر بن ربيعة ، ومبالغ أعمار من عمل منهم لآل كسرى وتاريخ سنيهم من بيع الحيرة ، وفيها ملكهم وأمورهم كلّها. “
ولكن ، بأيّ لغة وبأيّ خطّ كتبت المعارف والحوادث والأشعار ؟ وأين ذهبت تلك المصادر الغنية المهمّة ؟ ولماذا لم يرجع لها غير ابن الكلبي من الأخباريين والنقّاد والمؤرّخين ؟ . . يرى البعض أنّ ابن الكلبي كان يجهل السريانية ( النبطية ) التي كتبت بها الأخبار . ويشير الباحث الهندي ” خدابخش ” إلى أنّ العرب تدين للحيرة بمعرفة فنّها في الكتابة . ذلك الفنّ الذي انتقل من الحيرة والأنبار إلى الحجاز بعد قرن ، بعد أن أنشأ الخليفة عمر مدينة الكوفة ، وأطلق اسم الكوفة على هذا الفنّ.
ويرى فيليب حتي أنّ الحيرة التي تحكّم في شؤونها الإيرانيون قد انتقلت منها مؤثّرات الثقافة الآرامية النسطورية إلى الجزيرة في العصور السابقة للنبي (ص) ، وأصبح النساطرة بعدئذٍ حلقة الاتصال بين الثقافة الهيلينية وبين الثقافة الإسلامية الفتية ويؤكّد ” ر . بلاشير ” هذا الدور بإيضاح مكثّف : ” . . وكانت العناصر المولّدة للتثاقف في بداية الأمر هي من سكّان المدن في بلاد الشام والعراق ومصر وكتل الحضريين الريفيين الذين يدورون في فلكهم . وتظهر هذه العناصر بإكليروسها واستعدادها التقليدي للنقاش اللاهوتي وتقاليدها الكتابية ومزاولتها الأعمال والإدارة بمظهر المتمدّنين ، فظلّت التقاليد الرومانية والهيلينية والتراث الإيراني من خلالها على قيد الحياة “.
ب – بصرى
كانت بصرى ( بسترا ) قبل الإسلام تنافس الحيرة بصفتها عاصمة الغساسنة أعداء المناذرة حكّام الحيرة . وبصرى وإن لم تكن العاصمة الوحيدة للغساسنة غير أنّ لها شهرتها ومركزها ومدنيّتها التي فاقت منافستها حيث كان الغساسنة أكثر التصاقاً بالبيزنطيين ولا سيّما بعد هجرهم لآلهتهم وتنصّرهم نظراً إلى مجاورتهم وتبعيتهم للبيزنطيين بالمقارنة مع المناذرة المختلفين مع أسيادهم الزرادشتيين بالعقيدة ، كما كانت بصرى مركزاً لشبكة الطرق التي أسّسها الرومان لأنّها كانت قديماً سوقاً تجارية نبطية فمنها كانت تسير القوافل في كلّ الاتجاهاتز
لقد أخـذ الغسـاسنـة بالتحضّـر والتقرّب إلى البيزنطيين حتى تنصّـروا ( الكنيسـة السوريـة الغربيـة – السريانية الأرثوذكسية ) واتخذوا الآرامية لغة ثانية مع العربية . لقد ذكر حمزة الأصفهاني أنّ للغساسنة مدناً وقرىً وقصوراً قد بنوها في مناطق مختلفة ، حيث اتخذوا عواصم عدّة في فلسطين والأردن وأطراف الشام ، كما شقّوا الترع والصهاريج وبنوا الأديرة بمعونـة المهندسين والمعماريين البيزنطيين ، وكـان الرومـان قد شقّوا وأسّسوا بعضها.
لم يكن تأثّر الغساسنة بالبيزنطيين واسعاً وعميقاً ومتطوّراً جدّاً . ومع ذلك فقد كانت مراكز الغساسنة تجتذب الشعراء العرب الجاهليين شأنها شأن منافستها الحيرة للهدايا التي كانت تقدّم بسخاء ، فتسرّبت ، عن طريق هؤلاء الشعراء وعن طريق التجّار والمبشّرين ، إلى اللغـة العربية – كما يذكـر حتي – طائفة من الألفاظ الآرامية ( يطلق على الآرامية في العهود المسيحية: السريانية ) ، من بصرى ومن الحيرة معاً ، منها : ( كنيسة وبيعة ودمية وصورة وقسيس وصدقه ) . ولم تنحصر هذه الألفاظ في ميدان الفكر والدين بل جاوزتهما إلى ميادين الاقتصاد والاجتماع وسواهما من نواحي المدنية المادّية كلفظة ناطور ونير وفدان . . ولفظة قنديل في الأصل لاتينية ( كاندلا ) انتقلت إلى الإغريقية ثمّ الآرامية فالعربية .
ولفظة كاسترم اللاتينية صارت في السريانية ( قسطرا ) وفي الآرامية قصرا ، ومنها قصر في اللغة العربية وهذه هي اللفظة التي أعادتها لغتنا إلى أوربا في صورة كاسرو الإيطالية والكازار الإسبانية.
لقد ورث نصارى المدن الغسانية في العهد الإسلامي خبرات ومعارف أسلافهم وقد استفادوا من إتقانهم للآرامية والعربية والسريانية والإغريقية في الترجمة واستعين بهم لهذا السبب ، كما استخدمهم الحكّام المسلمون في بناء الجوامع والمساجد والقصور الإسلامية التي حافظت على الطراز البيزنطي بفضل العمّال والمهندسين المهرة من أبناء المدن السورية ومنهم أبناء بصرى . كما أنّ النصارى- كما يذكر بارتولد – قد حافظوا في الجملة على معابدهم وبنوا كنائس وأديرة جديدة دون أن يتعرّضوا لمقاومة . وبهذا كانوا الواسطة لنقل التراث المعماري وتطويره في العهد الإسلامي.
ج- حران
تقع على أحد روافد الفـرات الشرقية في سورية . ذكرها الأصطخري على أنّها ( مدينة الصابئيين وبها سدنتهم السبعة عشر ) . وسكّانها من السريان الوثنيين الذين انتحلوا الصابئية تستّراً ليعدّهم المسلمون من أهل الكتاب . انتقلت إليها وإلى أنطاكية معارف الإسكندرية الهيلينية ولا سيّما الطبّية لانقطاع صلتها بالروم ، ولهذا ، واصل السوريون في أنطاكية وحران – كما يذكر بروكلمان – حماية تراث بيزنطة وتنميته ونقلوه إلى بغداد.
لقد كانت حران مع المدن السورية المهمّة الأخرى مراكز علمية ومنارات ثقافية تقوم فيها الدراسات العلمية والفلسفية والدينية – الكنسية . ولمّا جاء المسلمون حافظت تلك المراكز على مكانتها وأهمّيتها العلمية لجهل الفاتحين باللغة الإغريقية واللاتينية التي يتقنها الكثير من أبناء السريان المسيحيون منهم والوثنيون ، وقد أشار حتي إلى ذلك : “ولكنّ العرب لم يعرفوا اليونانية فاعتمدوا في أوّل أمرهم على ترجمات أخرجها لهم اليهود والوثنيون والنصارى وخاصّة النساطرة من النصارى ، وكانت طريقة هؤلاء الأخيرين ، وهم سريان ، أن ينقلوا الكتاب اليوناني إلى لغتهم السريانية ثمّ يترجموه بعدئذٍ من السريانية إلى العربية ، وهكذا أصبحوا أعظم حلقة للاتصال بين الثقافة الهيلينية وبين الإسلام . فالثقافة الهيلينية لم تصل إلى العقل العربي إلاّ عن طريق اللغة السريانية” . وممّا لا شكّ فيه أنّ اهتمامات الحرانيين الصابئيين والوثنيين بالفلك والرياضيات وتميّزهم فيهما يعود في الأغلب إلى عبادة النجوم والكواكب السيّارة والعناية بمواقيتها ومراقبة مواقعها ومدارات أفلاكها وتدقيق حسـابات أزمنتها وضبط مواعيدها مقرونة بالأبراج والمواسم.
د – الرهـا ( أدسا Edessa ، حالياً ، أورفة Urfa )
أشار الأصطخري إلى كثرة أديرتها وصوامعها لغلبة النصارى فيها . وهي أقدم مقرّ للنصارى السريان . ففيها تجمّع النساطرة القائلون بالطبيعتين ، ومنها هاجروا إلى إيران ( 489 م ) بعد أن أصدر الإمبراطور ( زينو ) قراراً بطردهم ، الأمر الذي وفّر ظرفاً أفضل بلا شكّ لأصحاب الطبيعة الواحدة فيها . وكان مطران الرها يعقوب البرادعي ( ت 578 م ) أحد أنصار المذهب المونوفيزي ( أصحاب الطبيعة الواحدة ) المتحمّسين حتى عرف هذا المذهب بمذهب الكنيسة اليعقوبية ( السريانية الأرثوذكسية ) نسبة إليه . يذكر ” بارتولد ” : “لمدينة الرها موقع ممتاز في تاريخ النصرانية وحضارة سورية . وهي وطن خطير لحضارة سورية القديمة ومنشأ الكتابة السريانيـة” . والجديـر بالذكر أنّ القدّيـس أفـرام السـرياني المولود في نصيبين كان مدرّساً في الرهـا ( 363 – 379 م )
كانت تقوم في الرها دراسات ومساجلات دينية مذهبية بين اليعاقبة ( السريان الأرثوذكس ) الذين لا يعترفون لعيسى بغير الألوهية ( أي إنّ في المسيح طبيعة واحدة وإنّ المسيح هو اللـه) ، وبين النساطرة ( نسبة إلى الأسقف نسطوريوس ) مطران القسطنطينية (428–431 م) الذين قالوا إنّ في المسيح طبيعتين مستقلّتين متميّزتين تماماً تجمعهما روابط الألفة الوثيقة ، إحداهما إلهية يعمل بها الأمور الإلهية ، والثانية بشرية يسلك بها في الدنيا كما يسلك سائر البشر ، وعلى هذا لا تكون مريم والدة المسيح الذي هو ذو الطبيعة الإلهية ( اللـه ) ، بل والدة المسيح الذي هو ذو الطبيعة البشرية ( عيسى ، الإنسان ) . وإنّ دوافع تعلّم اللغة الإغريقية من قبل النساطرة السريان وكذلك استمرار دراسة العلوم اليونانية في المدن السورية كان قد أعطى تعليله بروكلمان : ” والواقع إنّ دراسة هذه العلوم لم تنقطع يوماً من الأيّام في الأديرة السورية ، ذلك لأنّ لاهوت آباء الكنيسة الإغريقية ، وفي جملتهم ثاودورس المصيصي ذو الأثر العظيم في التفسير النسطوري للكتاب المقدّس ، لم يكن ليفهم من غير الرجوع إلى المصطلحات التي استمدّها هذا اللاهوت من الفلسفة الأرسطوطاليسية ، ولكنّ الرياضيات والعلوم الطبيعية استطاعت دائماً أن تحظى ببعض الاهتمام أيضاً ، مع أنّ العناية بالمسائل الفكرية كانت محصورة عند السوريين في أيدي رجال الدين . اشتهر من الرهـا يعقوب الرهاوي ( 640 – 708 م ) الذي أصبح أسقفاً عليها للمذهب السرياني الأرثوذكسي (684–688 م) والذي انصرف إلى التأليـف وأعاد النظر في ترجمـة الكتاب المقدّس المعروفة بـ (البسيطة) وفي تتمّة تواريخ ( أوسابيوس القيصري ) ( 265 – 339 ) ومنهم نيوفيلوس ( ثاوفيل بن توما الرهاوي الماروني توفّي 785 م ) الفلكي الذي أقام في قصر المهدي ( ثالث حلفاء بني العباس ) وترجم الألياذة والأوذيسة الى اللغة السريانية ، وقد ترجم قسماً من ألياذة هوميروس إلى العربية غير أنّها لم تحدث – كما ذكر حتي – أدنى أثر في حياة العرب الفكرية ولم تعمر طويلاً . ومنهم تيودوروس أبو قرّة ( ت حوالي 820 م ) الذي ولد في الرها وكان راهباً في دير مار سابا ( في فلسطين ) وتلميذاً للقدّيس يوحنا الدمشقي ، أصبح أسقفاً لحران وله مؤلّفات جدلية مع الهراطقة واليهود والمسلمين بعضها باليونانية ومنها بالعربية دافع فيها عن أهم عقائد المسيحية.
هـ – جنديسـابور
جنديسـابور في خوزستان الأحواز ( الأهواز ) تقوم مقامها الآن مدينة شاه آباد في الجنوب الغربي من إيران . أسّسها الملك الساساني ( شابور الأول ) . نقل شابور الأول (241-272 م) قسماً من أسرى المدن السورية التابعة للرومان في أثناء الحروب الإيرانية الرومانية وأسكنهم المدينة الجديدة المسمّاة باسمه ( جنديسابور ) . وقد استفاد الساسانيون من صنّاع روما المأسورين أيضاً في إنشاء الحصون وتنظيم أعمال الريّ . لقد ساعد وجود الأجانب من أسرى ومهاجرين الذين أغلبيّتهم من السوريين السريان في إيران على توافر مستلزمات الدراسة العلمية ، فمن ناحية أعان هؤلاء امتلاكهم ناصية اللغة السريانية الأكثر شيوعاً في الأوساط العلمية في تلك الأزمان على نقل التراث الإغريقي العلمي والفكري بمختلف فروعه ، وإن كان نصيب الطبّية منها أوفر . ومن ناحية أخـرى ساعدهم الوجود في إيران على تعلّم اللغة الفهلوية ، التي مكّنتهم من الاطّلاع والتزوّد بعلوم وفلسفة إيران والهند حيث سبق وأن نقلت عن السنسكريتية إلى الفهلوية معارف الهند الطبّية والعلمية وفلسفتها فامتزجت بذلك معارف الشرق والغرب ، ما ساعد على توافر أساس القاعدة العلمية التي نهضت بها مدرسة الطبّ اليونانية السورية والتي أنشأت في جنديسابور في عهد كسرى أنو شروان (531–579م) وكان لهذه المدرسة تأثير فيما بعد حيث أمدّت الخلفاء المسلمين بأمهر الأطبّاء المشهورين كالطبيب النسطوري جورجيس بن بختيشوع الذي استدعاه المنصور من جنديسابور وأصبح آل بختيشوع منذ ذلك الحين أطبّاء البلاط العباسي لفترة طويلة . والسبب كما يذهب الدكتور محمد كامل حسين ( أنّهم يمثّلون صنفاً من الأطبّاء كان معروفاً عند القدماء هم أطبّاء البلاط . هؤلاء يكون ذكاؤهم أوفر من علمهم . والصفات الغالبة عليهم المهارة وحسن التصرّف والكثير من الدهاء في مقاومة الدسائس ، وبعض الدسّ يقومون به لحسابهم . وكان آل بختيشوع ممّن فيهم ذلك كلّه.
لم يُغضبوا خليفة أبداً ، ونجوا من نكبة البرامكة مع صداقتهم لهم ، واشترك أحدهم في نكبة حنين بن إسحق . لقد ارتقى شأن مدرسة الطبّ الجنديسابورية حتى غدت مركزاً ثقافياً مرموقاً لا بفضل مجاورتها لمستشفى كبير ولاهتمام الأكاسرة بها فحسب ، ولكن ، لأنّها غدت ملجأً وملاذاً للسريان المضطهدين الناقلين معهم كنوز المعرفة الإغريقية ، بالإضافة إلى نزوح علماء الإغريق من أثينا عندما أغلق ( جوستنيان ) جميع المدارس الفلسفية في 529 م ، ما ساعد على تمازج وتفهّم دقيق لمختلف الثقافات الإغريقية والهندية والفارسية ، كما مهّد السبيل لكسرى أنو شروان في أن يفيد من خبرات العقول المهاجرة والمستقرّة عند إنشائه لمدرسة الطبّ الآنفة الذكر . أمّا أهمّية هذه المدرسة الثقافية على مدى الأجيال ومدى خدمتها للإنسانية وأهمّيتها بالنسبة إلى الحضارة الإسلامية فشيء مشهود به ، وإن حاول الدكتور محمد كامل حسين التقليل من شأنها معتبراً أنّ ما نالته من شهرة ( عند مؤرّخي الطبّ العربي ) يقوم على ( ما أحرزه آل بختيشوع من شهرة ومجد وحظوة عند الخلفاء العباسيين ) ، غير أنّ الدقّة العلمية تبرز هذه الأهمّية فيذكر “مايرهوف” عن هجرة علماء أثينا إلى جنديسابور: “فالتقوا هناك علماء السريان والهند والفرس ، فنجم عن هذا نشاط علمي كانت أهمّيته في تقدّم الفكر الإسلامي . ولقد أرسل ( كسرى أنو شروان ) أطبّاءه إلى الهند للبحث عن الكتب ونقلها إلى الفهلوية (لغة أواسط إيران) من لغتها الأصلية السنسكريتية ، كذلك ترجمت كتب إغريقية علمية كثيرة إلى الفارسية أو السريانية” . كما كتب “بروكلمان” عن أهمّية كلّية الطبّ ( يطلق عليها مايرهوف اسم معهد ) في جنديسابور : ” وعلى الرغم من أنّ مدرسة الإسـكندرية الطبّية ذات الروح الفلسفية كانت قد لفظت أنفاسها الأخيرة بُعيد الفتح العربي الذي قطع ما بينها وبين بيزنطة ، فقد واصل السوريون في أنطاكية وحرّان حماية تراثها وتنميته ونقلوه إلى بغداد . والواقع أنّ أثر الكلّية الطبّية التي أنشأها الساسانيون قبل ذلك في جنديسابور من أعمال السوس كان أعظم من هذه الناحية . فمن هناك جاءت أسرة بختيشوع الشهيرة بمن أنجبت من كبار الأطبّاء ، كجرجيس بن جبريل الذي عالج الخليفة المنصور في بغداد وغيره ممّن لمعت أسماؤهم في هذه الصناعة بعد عهد المنصور أيضاً . وفي بغداد التقى الطبّ اليوناني الطبّ الهندي على صعيد واحد . فقد سبق لهارون الرشيد نفسه أن استدعى مرّة الطبيب الهندي “منكه” إلى بغداد . كما سبق للبرامكة أن أمـروا بنقل بعض كتب الطبّ الهندية إلى اللغة العربية “.
فعلى أيدي آل بختيشوع وسواهم ترجمت ، إذاً ، الكتب الطبّية الإغريقية والهندية والإيرانية التي كانت تدرّس في أكاديمية الطبّ الجنديسابورية ، فلجبريل آل بختيشوع المتوفّى 830 م كتب نافعة في الطبّ والمنطق ورسالات وجّهها إلى الخليفة العباسي المأمون ، ولهذا ، فإنّ آل بختيشوع لم ينالوا الحظوة لكونهم أطبّاء البلاط العباسي فحسب ، وإنّما لنشاطهم العلمي أيضاً.
ويشير ” أوليري ” إلى دور الخليفة أبي جعفر المنصور في اكتشاف آل بختيشوع واحتضانهم من قبل البلاط العباسي مع سواهم من الأطبّاء والعلماء النساطرة بقوله : ” وكان الخليفة المنصور الراعي الذي فعل ما يمكن لاجتذاب الأطبّاء والنساطرة إلى مدينة بغداد التي أسّسها وكان كذلك أميراً يسعى جهده لتشجيع المتصدّين لإعداد ترجمات عربية من المؤلّفات الإغريقية والسريانية والفارسية ” . لقد وفّر احتضان الساسانيين للمضطهدين والمغتربين من رعايا أعدائهم الرومان – البيزنطيين ولسواهم من نصارى العراق ، أجواء شجّعت ، بالمعرفة والحكمة من هؤلاء ، على التفتّح والإبداع ، كما ساعدت على خلق قاعدة علمية متينة مكّنت مدرسة الطبّ الجنديسابورية من الاستمرار في تدريس الفلسفة الإغريقية والطبّ لثلاثة قرون بعد سقوط الساسانيين . وكان لعدم تدخّل العرب والمسلمين ، ومن ثمّ لتشجيع الخلفاء العباسيين أكبر الأثر في استمرارها في أداء رسالتها العلمية والإنسانية إلى أن نهضت مراكز طبّية وعلمية جديدة فتحوّل علماء وأطبّاء جنديسابور عنها.
المترجمـون
مـرّ معنا كيف امتاز السريان بوفرة ترجماتهم وسعة مساهماتهم ، سواء ما ترجموه إلى لغتهم من الإغريقية أو منهما إلى اللغة العربية مع توخّي الدقّة والأمانة رغم الصعوبات والمشاكل التي جابهتهم . ويذهب ” كلود كاهن ” إلى أنّ الغلبة كانت في بادىء الأمر للسريانية لأنّها كانت أقرب منالاً في العالم الإسلامي ، ولأنّ معرفة السريانية كانت أكثر شيوعاً من معرفة الإغريقية ثمّ رغب العرب في الحصول على الترجمات المباشرة عن الإغريقية بعد أن لمسوا قصور الترجمات المزدوجة . وإذا كان الكلام سيتوجّه في أغلبه إلى ذكر المترجمين السريان إذ كان لهم قصب السبق في هذا المضمار كمّاً ونوعاً ، فإنّ شأن ممارسي الترجمة من قوميّات وأديان أخرى لن يبخس ولن يغفل ذكرهم لأنّ الترجمة والمراكز الثقافية لم تكونا حكراً لقوم أو لمكان معين ، ولم تتأثّر جميعها بالمؤثّرات الإغريقية فحسب ، فقد ترجمت كما مرّ معنا علوم ومعارف وحكمة الهند وفلسفتها إلى الفهلوية ومنها إلى السريانية وإلى العربية ، كما أنّ بعضاً من اليهود أسهموا في الحركة العلمية ومارس بعضهم الأمور المتعلّقة بالشؤون الطبّية.
ولهذا ، سوف يرد في ذكرنا للمترجمين ذكر الآخرين من المساهمين في هذا الحقل من غير السريان . لقد ساعدت اللغة العربية بمرونتها وسيادتها ، بفضل العقيدة والسلطة ، على أن تقوم الترجمة بدورها الهامّ كعامل حضاري ، كما أنّ للغة العربية الفضل الذي لا ينسى في إحياء العلوم التي طواها النسيان وتشير في هذا الصدد المستشرقة الألمانية ” زيغريد هونكه ” – ( لم يكن ما أنقذه العرب من ثقافات ليحفظ في المتاحف والأقبية بعيداً عن النور والهواء . . كلاّ إنّ كلّ ما أنقذوه من الفناء قد خرجوا به من عالم النسيان والتعفّن ، وبعثوا فيه حياة جديدة ، وجعلوه في متناول كلّ راغب عن طريق ترجمته ، وقد ترجموه ليس إلى لغة جامدة غريبة ، بل إلى لغة حيّة في كلّ مكان آنذاك هي لغة القرآن ) . ولعلّ من النافع التنويه قبل البدء بذكر المترجمين بأنّ أغلب الترجمات بلغت درجة الإتقان ، وامتازت بأسلوب أدبي رفيع يكشف عن فقه لغوي وتوسّع علمي . وأعمال حنين بن إسحق ، على سبيل المثال لا الحصر ، تغني عن البيان . كما أنّ إحساس أهل الذمّة بحرمان التكافؤ حفزهم لنيل المال والحظوة عن طريق العلم وإن كان البعض مدفوعاً بحبّ العلم لذاته أو المال لذاته . إنّ ما يجب ذكره في مجال مساهمة السريان في الترجمات العلمية هو ما أورده ” مايرهوف ” عن العالم والطبيب السرياني العراقي ( سرجيوس الرأس عيني المتوفّي 536 م ) . . ” كان أوّل شخصيّة علمية شهيرة لدى الناطقين بالسريانية ولم يكن نسطورياً ، بل كان قسّاً سريانياً أرثوذكسياً ، ومرجعاً لأطبّاء العراق بلده . وهو الذي شرع في ترجمة آثار الإغريق الطبّية إلى اللغة السريانية ، ونسبت إليه تراجم عديدة لآراء ( جالينوس ) وكانت سذاجتها وتفاهتها كافيتين لنشر العلوم الطبّية الإغريقية وإذاعتها في غربي آسيا لأكثر من قرنين “.
ترجم عبد اللـه بن المقفّع ( ت 144 هـ/ 760 م ) ، الذي يعدّ في مقدّمة المترجمين عن الفارسية ، ” الخداينامه ” وسمّاها ( سير الملوك ) ، وهي عن تاريخ الإيرانيين من وجهة نظر الأرستقراطية عن أحداث إيران . يرى ” كلود كاهن ” أنّ المؤرّخين العرب قد نهلوا منه معلوماتهم الأساسية في هذا التاريخ كذلك قبس منه الشاعر ( القومي ) الفردوسي . ( هناك ترجمات أخرى للخداينامه غير ترجمة ابن المقفع ، وهناك كتب تاريخية أخرى مترجمة عن الفارسية مثل الإيين نامه ، أيين نامغ ، أو التقاليد أو المراسيم والكاه نامه ، كاه نامغ أو طبقات العظماء ) . وكليلة ودمنة المترجمة من الهندية إلى الفهلوية ترجمها ابن المقفع إلى العربية أيضاً وقد تركت أثرها في النثر العربي والقصّة وأصبحت النسخة العربية من ترجمة ابن المقفع لكليلة ودمنة ( أساطير الفيلسوف الهندي بيدبا – كما يعرفها البعض ) المرجع المعوّل عليه بعد ضياع النسخة السنسكريتية الأصلية والفهلوية المترجمة عنها ، وهي التي نقلت إلى الغرب . يذكر “خودابخش” عن ابن المقفع أنّه ( كان أوّل من جعل المسلمين يدركون أهمّية اللغات في العصور الوسطى ).
كان ” ماسرجش ” اليهودي الذي يعرف ” بيحيى بن ماسرجويه ” السوري قد ترجم كتاب الطبّ ( كناش أهرون ) للقسّ النصراني والطبيب والإسكندراني هارون من السريانية إلى العربية ، وهو من أقدم التآليف العربية الطبيّة . يرى ” مايرهوف ” أنّه ربّما كانت هذه قد كتبت بالإغريقية ثمّ ترجمت إلى السريانية ثمّ إلى العربية . ويضيف أنّ أبحاث أهرون لم تصلنا ولكن يظهر أنّها كانت تشتمل على أوّل وصف لمرض الجدري وهو داء لم يكن معروفاً في الطبّ اليوناني القديم . يعتبر ” أبو يحيى ابن البطريق ” ( ت 796 م أو 806 م ) من أوائل المترجمين عن اليونانية ، وتنسب إليه ترجمة تآليف جالينوس وأبقراط وكتاب الأربعة لبطليموس . أمّا يحيى ( يوحنا ) بن ماسويه النصراني السرياني المتوفّي ( 243/ 857 م ) تلميذ جبريل بن بختيشوع وأستاذ حنين بن إسحق فقد قام بأمر من الخليفة هارون الرشيد بترجمة الكتب القديمة التي عثر عليها في أنقرة وعمورية وأكثرهـا في الطبّ . لقد كان يحيى متضلّعاً من السريانية والعربية ويجيد التأليف بهما ، كما كان متمكّناً من استخدام الإغريقية . تتلمذ الطبيب النسطوري أبو زيد حنين بن إسحق العبادي ( ت 263هـ/ 876 م ) في أول أمره على يد يحيى بن ماسويه الذي ذكرناه ، وعمل في صيدليته ثمّ اتصل في بغداد ، بعد إحكامه اللغة اليونانية ودراسة الطبّ في الإسكندرية ، بجبريل بن بختيشوع الذي رشّحه للمأمون لإدارة بيت الحكمة . فقام حنين مع ابنه إسحق وابن أخته حبيش بن الحسن الأعسم بالترجمة من الإغريقية إلى السريانية ،وراح إسحق وحبيش يقومان في أكثر الأحيان بنقل ما ترجم من السريانية إلى العربية . ولا يقتصر عمل هؤلاء الثلاثة على ترجمة الكتب الإغريقية بدقّة وعناية فحسب ، وإنما يشرفون بما يتاح لهم على ترجمات الآخرين كترجمات عيسى بن يحيى وموسى بن خالد ( الذي كان يترجم عن الفارسية ) وتصحيح الترجمـات وتدقيقـها وهو ما يعرف بالمراجعـة اليوم . وعرف أهل بغداد لحنين بن إسحق – كما يشير الدكتور محمد كامل حسين – فضله على نهضتهم وقدّروه أكبر التقدير ، وبلغ من المجد العلمي غايته وأصبح المرجع الأكبر للمترجمين جميعاً . يدلّنا على ذلك أنّ رجلاً اسمه اسطفان بن بسيل قام بترجمة كتاب ديوستوريدس في المادّة الطبّية الاقرباذين وعرض الكتاب على حنين فأقرّه . ولعلّ كثيراً من المترجمين كانوا يفعلون ذلك فكان إقـرار حنين لترجمة كتاب ما خير دليل على صواب الترجمة.
ترجم حنين شرح أرسطو ( هرمنتوكا ) إلى السريانية وعرّبها ابنه ، وترجم حنين لإقليدس وجميع أعمال جالينوس وأبقراط ، وإليه يرجع الفضل أيضاً في وضع الترجمة العربية لكتاب الاقرباذين لديوسقوريديس . ويرى المستشرق الإنكليزي ” روم لاندو ” أنّ هذه الترجمات وحدها تشير إلى اهتمام حنين بالطبّ على نحو ناشط آخذ بالحيوية . ولكنّ هذا الاهتمام إنّما تؤكّده مؤلّفاته الكثيرة في الموضوعات الطبّية وأشهرها كتابه ( مسائل في الطبّ ) وكتابه (رسالة في العين) الذي يعتبر أوّل كتاب نظامي في طبّ العيون . كما ترجم لأرخميدس وأبولونيوس وترجم أيضاً كتاب الجمهورية لأفلاطون وتيمادوس لأفلاطون والمقولات والطبيعيات والأخلاق الكبرى لأرسطو وتعليقات ثامسطيوس على الكتاب الثلاثين من الميتافيزيقا . وترجم أيضاً كتاب المعادن المنسوب إلى أرسطو وهو الذي اعتبر زمناً طويلاً حجّة في الكيمياء ، وترجم المدونات الطبّية الإيحبيني . ذكر ابن النديم في معرض كلامه عن المترجمين والاهتمام بالعلوم والترجمة ( قال محمّد بن إسحق : ممّن عني بإخراج الكتب من بلده الروم محمّد وأحمد والحسن بنو شاكر المنجم وخبرهم يجيء بعد ذلك ، وبذلوا الرغائب وأنفذوا حنيناً بن إسحق وغيره إلى بلد الروم فجاؤوهم بطرائف الكتب وغرائب المصنّفات في الفلسفة والهندسة والموسيقى والأرثماطيقي والطبّ وكان قسطا بن لوقا البعلبكي قد عمل شيئاً فنقله له ) . لقد وضع إسحق بن حنين إلى جانب مؤلّفات له أصلية في الطبّ – كما يذكر أوليري – ترجمات عربية كالسوفسطائي لأفلاطون ، والميتافيزيقا والنفس والكون والفساد والعبارة ( أو التفسير ) لأرسطو وهي التي ترجمها حنين إلى السريانية ، كما ترجم ابنه بعض تعليقات فوروفوريوس والإسكندر الأفروديسي وأمونيوس . وقد لاحظ فيليب حتي أنّ ابن العبري والقفطي قد اتفقا على أنّ حنيناً كان ينبوعاً للعلم ومعدناً للفضائل ، وقال فيه ” ليكليرك”: ” كان أعظم شخصيات القرن التاسع . . وكانت له عقلية من فضلى العقليات وخلق من أحسن الأخلاق التي نعرفها في التاريخ ” . أمّا أهمّ أعمال حنين فهي ترجمته لجميع مؤلّفات جالينوس إلى اللغة السريانية فاللغة العربية . ولقد فقدت الأصول اليونانية لسبعة من كتب جالينوس في علم التشريح إلاّ أنّها لحسن الحظ محفوظة في اللغة العربية.
اهتمّ الطبيب السوري قسطا بن لوقا البعلبكي ( 204 هـ/ 820 م – 299 هـ/ 912 م ) الذي اشتهر بالفلسفة والهيئة والهندسة والحساب والموسيقى بنقل المؤلّفات اليونانية التي جاء بها من آسيا الوسطى – كما نوّه أعلاه ابن النديم – . وكان طبيباً واشتغل في صنع الآلات الفلكية . من مؤلّفاته ( المرايا المحرقة ) و( الفلاحة اليونانية ) . ولقد نقل قسطا إلى العربية الكتب المختصّة بالرياضيات والفلك بصورة خاصّة . ذكر عنه ابن النديم ( جيّد النقل فصيح باللسان اليوناني والسرياني والعربي وقد نقل أشياء ، وأصلح نقولاً كثيرة ).
برز في حران التي ورثت – كما مرّ بنا – بعد أنطاكية أمجاد الإسكندرية العلمية في الفلسفة والطبّ ، الطبيب والفيلسوف الحسّاب ثابت بن قرّة (222 هـ/ 836 م /- 288 هـ/ 901 م ) . وكان للإخوة أولاد موسى فضل تعريف الخلفاء به ، وكان رئيساً لطائفة الوثنيين عبدة النجوم والكواكب السيّارة (ومن هنا كانت عناية الطائفة منذ أمد بعيد بالتنجيم والفلك والرياضيـات) . وإلى ثابت وابنه سنان ( ت 331هـ / 943 م ) وحفيديه ثابت ( ت 362هـ / 973 م ) وإبراهيم ( ت 334هـ / 946 م ) وابن حفيده ، المعروف بأبي الفرج ، إلى هؤلاء جميعاً يعزى الفضل في نقل القسم الأكبر من كتب اليـونان في الرياضيات والفلك . . . ومنها مؤلّفـات أرخميدس ( المتوفّي 212 ق.م ) وأبلونيوس ( المولود حوالي 262 ق.م ) وهي التي أصبحت مناهل للروّاد الفلكيين والرياضيين العرب والمسلمين . لقد تميّز ثابت وأفراد عائلته العلماء المترجمون بالتقدّم في الترجمة والعلم على حدّ سواء ، وقد قاموا خدمة للعلم بتنقيح الترجمات السابقة . إنّ ترجمة إقليدس على سبيل المثـال لا الحصر التي قام بها حنين قبلاً نقّحت عن يد ثابت . ولقد تسنّى لثابت أن يتفوّق في الميادين العلمية التي أسهم فيها بفضل الروح العلمية التي تحلّى بها . وكان عالماً باللغات الإغريقية والسريانية والعربية ، فأنتج كتباً كثيرة في المنطق والرياضيات والتنجيم والطبّ ، وكذلك في الطقوس والمعتقدات التي في الوثنية ، والتي ظلّ مؤمناً بها . ومن بين أوائل المترجمين لعلوم الرياضيات والفلك في مدرسة حـرّان الحجاج بن يوسف بن مطر ( وقد زها بين 786 م و 338 م ) وإليه تنسب الترجمة الأولى لأصول الهندسة لإقليدس وإحدى الترجمات الأولى لكتاب المجسطي لبطليموس . يقول ابن النديم: الحجاج بن مطر فسّر للمأمون وهو الذي نقل المجسطي وإقليدس . أمّا الكتاب – أصول الهندسة – فالظاهر أنّه نقل مرّتين مرّة للرشيد وأخرى للمأمون وذلك قبل ترجمة حنين . واستخرج الحجاج النصّ العربي لكتاب المجسـطي الشهير في علـم الفلك سنة 826 – 830 معتمداً على ترجمة سريانية.
كان أبو بشر متى بن يونس ( ت 328هـ / 939 م ) من بين المترجمين النساطرة من السريانية وهو الذي ترجم إلى العربية القياس والشعر لأرسطو وتعليقات الإسكندر الأفروديسي على الكون والفساد وتعليق ثامسطيوس على الكتاب الثلاثين من الميتافيزيقا . وكلّها مترجمة من نسخ سريانية ولم يكتفِ بالترجمة ، إنّما وضع كذلك تعليقات أصيلة على مقولات أرسطو وعلى إيساغوجي فورفوريوس.
برز السريان الأرثوذكس في القسم الأخير من القرن العاشر كمترجمين من السريانية الى العربية . من هـؤلاء تلميـذ حنين يحيي بن عـدي التكـريتي ( ولد في تكريت 280هـ / 893 م وتوفّي ببغداد 364هـ / 974 م ) . راجع يحيى كثيراً من الترجمات الموجودة ووضع ترجمات للمقولات والسفسطة والشعر والميتافيزيقا لأرسطو ، كما ترجم لأفلاطون القوانين وتيمادوس وكذلك تعليقات الإسكندر الأفروديسي – التي مرّ ذكرها عند الكـلام على متى بن يونس – على المقولات وتعليقات ثيوفراسطوس على الأخلاق.
وقد انتهت إلى يحيى رئاسة جماعته الدينية . ومن اليعاقبة المترجمين أبو علي عيسى بن زرعة (398 هـ / 1008 م ) المولود في بغداد . وقد ترجم المقولات والتاريخ الطبيعي وأعضاء الحيوان مع تعليق يوحنا فيلوبوفوس أو يحيى النحوي . وهؤلاء نخبـة من المترجمين والعلماء الذين ساهموا بجدّ واهتمام في نقل التراث العلمي وأبدعوا في العلوم والمعارف ضمن اختصاصاتهم أحياناً ، ما ساعد العرب والمسلمين مع عوامل أخرى على التفاعل الحضاري في القرون الوسطى.