“تيودورا”.. امبراطورة على عرش بيزنطة
هي ابنة مدينة “منبج” السورية العريقة، اعتلت عرش أكبر إحدى إمبراطوريات التاريخ شريكة لزوجها في إدارة شؤون البلاد والعباد، وكانت عنواناً للشرف والأخلاق والقيم.
ولدت “تيودورا” عام 500 للميلاد وفق العديد من المصادر التاريخية، ويتحدث المؤرخ “عامر رشيد مبيض” لموقع مدونة وطن بتاريخ 18/4/2013 فيقول: «عاشت تيودورا فترة لم تتجاوز نصف قرن ولكنها كانت حافلة بالنشاطات والإنجازات، كان أبوها قسيساً سريانياً رباها تربية صالحة على القيم والأخلاق العالية فكانت مثلاً يحتذى به في حياتها، وقد حاول مؤرخون لاحقون تشويه هذه الصورة كما فعل المؤرخ الروماني بروكوبيوس مؤلف كتاب “التاريخ السري” إلا أن كتباً كثيرة أنصفتها وأشادت بها ككتاب المؤرخ السوري “متى الرّهاوي”: ” تاريخ متى الرهاوي”». ويصفها المؤرخ “متى الرّهاوي” في كتابه بقوله: “كانت تيودورا فتاة رائعة الجمال زينها الله بمحاسن الجسم والنفس، وبفضل ذلك ذهبت لها شهرة واسعة في مدينتها فنظر إليها مواطنوها نظرة احترام”. المعروف عن تيودورا وفقاً لكتاب “جوستنيان وتيودورا” لمؤلفه “روبرت براونينغ” أن جمالها كان مبهراً وأنها نشأت في بيئة متواضعة وكانت تعمل لتكفل نفسها، حتى يقال إنها لفتت أنظار أحد رجال الدولة فاتخذها خليلة له لمدة سنوات حتى تمكنت من الفرار منه ومرت عبر أراضي الإمبراطورية ومنها مصر حيث عملت في غزل الصوف فترة من الزمن، ثم عادت إلى منبج مدينتها وكانت مركزاً تجارياً ودينياً معروفاً على مستوى العالم الروماني وقتها.
وعن زواجها من القيصر “جوستنيان” يقول المؤرخ “الرهاوي”: «تحدث المؤرخون السريان عن زواجها بوضوح وصراحة فقالوا: مرّ جوستنيان بـمنبج، وهو بطريقه إلى محاربة الفُرس، فبهرته أخبار جمال تيودورا وفضائلها وذكائها فقرر الزواج منها، وطلب يدها من والدها هو شخصياً، فلم يوافق القسيس على هذا الزواج إلا بعد أن عاهده الملك عهداً وثيقاً بأنه لن يجبرها على تغيير مبادئها الإيمانية». وقد تزوجها ولي العهد بالفعل ضد كل قواعد القصر التي تمنع زواج العائلة المالكة بعامة الشعب في عام 522م، بل تعامل مع أولادها على اعتبارهم من الأسرة المالكة أيضاً، وتشير بعض المصادر إلى أنها كانت تكبره سناً وحنكة سياسية في أحوال كثيرة. وعند تعيينه إمبراطوراً في عام 527م، كانت تيودورا بالفعل أقوى نفوذاً عليه، فكما يقول المؤرخ “مبيض”: «كان الدستور البيزنطي يخول للقيصرة جميع الحقوق التي يتمتع بها القيصر نفسه، ولذلك نجد جوستنيان يمنح صلاحيات عظمى لزوجته، ويحكمها في كل شيء، فكانت تصدر الأمور بحسب ما تراه مناسباً، ولها حق في النظر في جميع الشؤون، حتى يصفها بعض المؤرخين بأنها كانت إمبراطورة مطلقة الصلاحية
وكان لتيودورا فضل واضح في إعانة زوجها على الحكم، حيث كانت ساعده الأيمن، وأحياناً كانت ترشده إلى أهم الأمور في الحكم والسياسة، ومما فعلته أنها بثت العيون في جميع أنحاء الإمبراطورية». وهو ما يؤكده الدكتور “محمد عبد الستار البدري” فيقول: «كان لها دورها المباشر في إدارة الإمبراطورية سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، حيث إنها كانت امرأة ذات رؤية سياسية واسعة، وتجلى دورها في ثورة «النيكا» عندما تعرضت القسطنطينية لتمرد وثورة عارمة في عام (532 ) ميلادية تزعمتها طائفتا «الزرق» و«الخضر»، اللتان مثلتا أطيافاً وطبقات اجتماعية مختلفة، وقد طالبت هذه الحركة القوية بالتخلص من الإمبراطور جوستنيان لمصلحة أمير آخر في البلاد، وبدأت بالفعل حالة من القلق تنتشر في القسطنطينية وبين الإمبراطور وبعض جنرالاته، حتى قرروا الهروب الفوري من خلال الإبحار ليلاً للنجاة من المتمردين، ولكن تيودورا كان لها دورها المهم في التصدي لزوجها وجنرالاته وإقناعهم بضرورة البقاء وعدم التخلي عن الحكم بل تحسين إدارة البلاد، ولولا تدخلها لعاش جوستنيان طريداً باقي عمره وما كان له أن يبدأ قصة عملية الإصلاح التي بادر بها بدعم من زوجته»
تعددت الروايات عن حياة تيودورا ولكنها كلها أجمعت على أنها كما يقول د. “محمد عبد الستار البدري”: «لعبت دوراً مهما للغاية في إعادة بناء مدينة القسطنطينية مرة أخرى بعد الدمار الشامل الذي لحقها، ثم كان لها دورها البارز في السعي للتوفيق بين المذهب الأرثوذكسي والمذاهب الدينية المسيحية المنادية بالطبيعة الواحدة للسيد المسيح ومنهم الأقباط، كما أنها لعبت دوراً مهماً للغاية في مسألة حقوق المرأة وكفالتها، إضافة إلى دورها البارز في تجميع القوانين الرومانية فيما عرف بـ« قانون جوستنيان»، بل يقال إنه بعد موتها ظل جوستنيان على وفائه بعهدها لفترة طويلة واستمر في إصلاحات كانت تنادي وتقوم بها، وهي بذلك تعد من أفضل السياسيات اللائي أنجبتهن الإمبراطورية البيزنطية حتى وإن لم تكن هي الإمبراطورة رسمياً
توفيت تيودورا بما وصفه مؤرخ يدعى “نيكتور من تونينا” على أنه “السرطان”، في 28 حزيران سنة 548 للميلاد في الثامنة والأربعين من عمرها، وبكى جوستنيان بكاءً مريراً في جنازتها ودُفن جثمانها في كنيسة الرسل المقدسين في القسطنطينية. بعد ذلك بسنوات نقل جثمان تيودورا وجوستنيان إلى الكنيسة التي تعرف اليوم باسم “بازيليكا سان يتاله” في إيطاليا، والتي اكتمل انشاؤها قبل عام من وفاتها
الوطن
كمال شاهين