جوانب من فلسفة يمليخوس السياسية
دومينيك ج. اوميرا
ترجمة د. أدمير كوريه
لأن الجنس البشري ضعيف و محدود ، قصير النظر ولا يملك شيئا في طبيعته لذلك العلاج
الوحيد لطبيعته المخلة وارتباكه وتحوله الدائم هو مشاركته بقدر المستطاع في النور الالهي
(يمليخوس ، الأسرار III ، 18),
الرغبة في الكلام عن فلسفة سياسية في الافلاطونية المحدثة تبدو بالتأكيد مهمة صعبة ، لاسيما للذي يتبع الفكرة الشائعة التي تفيد ان الميزة الغيبية للافلاطونية المحدثة لابد ان تستلزم استثناء فلسفة سياسية . الا ان هذا الافتراض قد تم تفنيده.(1) من حيث الواقع التاريخي كان فلاسفة الافلاطونية المحدثة منشغلين في السياسة. (2) أما على الصعيد النظري فدقة المكانة والشكل الذين اتخذتهما الفلسفة السياسية في اطار الافلاطونية المحدثة تظل امورا غير واضحة. فيما يلي أود ان استعرض المؤشرات التي توحي بفلسفة سياسية عند يمليخوس. ولكن نظرا لقلة مؤلفات يمليخوس المتبقية فالنتائج التي نتوقعها لاتتعدى ان تكون تمهيدية ومجتزئة. و ستكون براهيني ، بشكل اساسي ، مستقاة من بحث يمليخوس عن الفيثاغورية ومن مقتطفات رسائل يمليخوس المحفوظة في انثولوجية ستوبايوس. و استخدام هذه الوثائق ، كما سأشير فيما بعد ، سيحد كثيرا مما اريد تحقيقه. سألمح احيانا الى فلاسفة — جاءوا قبله وبعده — ضمن الحدود التي تتيح تصليط الاضواء على المواضيع التي ادرسها.
I
ان نزوع الافلاطونية المحدثة ( في المرحلة المتأخرة) لصياغة الفلسفة وفق مجرى التقسيم الارسطوطالي للعلوم يوحي بأنه لابد ان تحتل الفلسفة السياسية (بشكل من الاشكال) مكاناً لها ضمن هذا التصنيف للعلوم. بالطبع هذا كان قد حصل في مرحلة جدا مبكرة في تاريخ الافلاطونية. وهناك مثال معروف عن ذلك قدمه الافلاطوني الوسيط،، البانيوس (السينوس) في كتابه ديداسكاليكوس (الفصل 3 ) حيث قسم الفلسفة حسب منهج افلاطون الى ثلاثة فروع: نظرية ، عملية ، ومنطقية. الا ان تمييزه للفرعين النظري والعملي للفلسفة فهو ارسطوطلي : الفلسفة النظرية تتضمن الاهوت (أي الميتافيزيقا) ، والريضيات والفيزياء. والفلسفة العملية تتألف من الاخلاق (الاهتمام بالعادات الاخلاقية)، والاقتصاد (الاهتمام بالشأن المنزلي)، والسياسة (الاهتمام بالمدينة وخلاصها).(3) ونجد فيما بعد أن يمليخوس قد قسم الفلسفة بشكل مماثل: هناك علوم نظرية وعملية ، والاخيرة تتضمن السياسة. وفصلان من كتابه De communi mathematica scientia “عن علوم الرياضيات العامة” (فصل 15 و 30) لهما اهمية كبيرة بشأن هذا البحث.
يظهر الفصل 15 كيف ان الرياضيات تخترق كل الفلسفة ، أي كل العلوم التي تنطوي عليها الفلسفة. وهذا اقيم البرهان عليه اولا في مجال العلوم النظرية كالاهوت( .8ff.Festa55 ) و الفيزياء (55.22ff)، وثم بالنسبة للعلوم التطبيقية كالسياسة (.4ff56 ) والاخلاق (.8ff.56 ). ان وصف الدور الذي لعبته الرياضيات في السياسة يبقى الى حد ما غامض: “الرياضيات تقود الحركة المنتظمة للافعال ، تمد الحركة بنظريات ، و تحقق مساواة واتفاق ملائم للجميع”. اذا كانت طبيعة الفلسفة السياسية ظلت الى حد ما غامضة ، غير ان مكانتها في الفلسفة ككل هي ثابته. وما يقوله يمليخوس عن الاخلاق هو اوضح قليلا: تكشف الرياضيات لعلم الاخلاق مباديء الفضائل ونماذج الصداقة والسعادة وفوائد أخرى. و هو موضوع كتابه ” الحساب في القضايا الاخلاقية” الذي ظهر متأخرا ، وهو المجلد 6 من عمله المسمى “عن الفيثاغورية” ، و كتابه “عن علوم الرياضيات العامة” هو المجلد 3 . (4)
ان موضوع الوجود الكلي للرياضيات قد تناوله يمليخوس ثانية في الفصل 30 من كتابه
“عن علوم الرياضيات العامة” ، حيث تم استخدام ذات التقسيم للفلسفة الى علوم نظرية وتطبيقية . أما فيما يتعلق بالسياسة والاخلاق27ff) . 91) ، فيخبرنا يمليخوس بأن الرياضيات تتوصل حتى الى اغراض هذه العلوم ، والدساتير، والنظام الخلقي ، مبتدعة تدابير مناسبة فيما يتعلق باستقامة نمط الحياة ، والاسرة ، والمدن ، مستخدمة هذه التدابير للأفضل ، للتقدم الخلقي ، لافضل تربية ، ولفوائد هامة اخرى.
اذا افترضنا، اذن ، ان هذين الفصلين من المجلد 3 “عن الفيثاغورية” لهما صلة وثيقة بأراء يمليخوس عن بنية الفلسفة ، باستطاعتنا ان نستنتج ان الفلسفة السياسية كان لها مكانة في فلسفته ، اذ احتلت ، كعلم تطبيقي ، موقعا يخضع للرياضيات كعلم نظري ( والذي منها تستمد نماذجها) ، شاغلة نفسها بالمدن ، والدساتير، تنظيم الافعال ، تعزيز المساواة ، الانسجام ، التقدم الخلقي ، والخير، بشكل عام ، للمواطنين. (6)
في محاولتنا لاستكشاف ما كان يحتمل ان تعنيه تلك التلميحات الغامضة عن طبيعة الفلسفة السياسية التي وردت في الفصل 15 من كتاب يمليخوس “عن علوم الرياضيات العامة” ، ليس هناك افضل من العودة الى ما اقترحه بروكلس عند مراجعته لنص يمليخوس في كتابه “شروحات عن يوكليد” ((Friedlein 23.12-24.20 . (7) يحدد بروكلس الاشارة الى الحركات المنتظمة للافعال عند يمليخوس عند تكلمه عن تدابير الاوقات المناسبة للافعال ، تدابير دورات الكون ، الارقام المناسبة للتناسل ، وتعزيز حياة متناغمة. ما كان يجول في ذهنه ، بشكل خاص ، هو رقم الزواج الوارد في “جمهورية” افلاطون (546c ff.) ، والذي تم بحثه من قبل يمليخوس في مكان آخر ( In Nic. 82. 19-83. 18 Pistelli ) ، وبموجبه يجب ان يكون التناسل مبرمجا ، وكذلك المعرفة الفلكية التي وفقا لها ينبغي ان توجه المدينة الفاضلة.
وهناك نص آخر لـ بروكلس له اهميته فيما يتعلق بمكانة الفلسفة السياسية في ترتيب العلوم. ان الفقرات التي تمت دراستها اعلاه تتعلق باعتماد السياسة على احد العلوم النظرية : الرياضيات. في كتابه “شروحات عن تايميوس” (I 32.1ff. Diehl) حيث يدرس بروكلس العلاقة بين السياسة والفيزياء التي هي ادنى العلوم النظرية. و النظرية السياسية هي ، على حد سواء، ادنى وارفع من نظرية الفيزياء: انها ادنى لانها تعنى بتنظيم الشؤون البشرية ، بينما تعنى الفيزياء بنظام اكبر. وهي ارفع بحكم ان النظام السياسي موجود سلفا في واقع مدرك. والمدينة الفاضلة توجد مسبقا في المدرك ، وتوجد ايضا في السموات ، واخيرا في حياة الناس. اذن “جمهورية” افلاطون تسبق كتاب “تايميوس”، بالرغم من انها تعتبر النظام الخلقي ادنى من النظام الكامل للكون. فاذا كانت السياسة تحتل مكانة ادنى في بنية الفلسفة ، فهي ، مع ذلك ، تستمد مبادئها من مستوى متعال للواقع ، من وجود لامادي مدرك.
II
ان مناقشة بروكلس لمكانة الفلسفة السياسية ترد في بداية كتاب مبكر له ويحتمل كثيرا ان تعكس اراء معلمه سيريانوس. على اي حال ، بالامكان ان نعثر على أفكار مشابهة لدى يمليخوس اذا عدنا الى مقتطفات من رسائل يمليخوس المحفوظة في انثالوجية ستوبايس. غير ان استخدامنا لهذه الادلة هو مقيد لأن هذه المقتطفات ذو طبيعة شعبية وعادية ، ومن الصعوبة بمكان ان نضعها في سياقها الاصلي – سواء الرسائل ككل ومجموعة الرسائل التي منها اخذت هذه المقتطفات. غير ان هذه المقتطفات تحتوي على معلومات تؤيد وتعززالنتائج التي وردت اعلاه .
هناك عدد من المقتطفات في الافلاطونية الوسطى والافلاطونية المحدثة التي تشرح تعريف الخير البشري كاندماج الانسان بالله ، الانسان وهو يحيا حياة روحية قدر المستطاع ، حياة محصورة بالروح العقلية ومفصولة عن الوجود المادي وغير مكترثة به. (9) وبعد ذلك ، نجد تعبيرا يمثل موقف غيبي باستطاعتنا ان نستخلص بأن ليس لديه ميل كبير للفلسفة السياسية. ولكن هذا الاستنتاج ليس مدعوما بمقتطفات من رسالة يمليخوس الى ديسكوليوس IV 222.7ff. Wachsmuth-Hense)) . في اطار مناقشته لصفات القيادة يحدد يمليخوس أن هدف القائد الجيد هو سعادة رعاياه لأن:
المصلحة العامة ليست مفصولة عن المصلحة الخاصة. بالاحرى ، ان مصلحة الفرد هي متضمنة في الكل ،
وبذلك يتم انقاذ الجزء في الكل: في الحيوانات وفي المدن وفي الطبيعيات الاخرى.
اذا كانت مصلحة الفرد موجودة في مصلحة المدينة ، والسلطة مسؤولة عن المصلحة العامة التي تصونها على اسس الحكمة السياسية ، عندها يعتمد الفرد بطريقة ما على هذه الحكمة ليتوصل الى هذه المصلحة. ولكن هل هذا تأليه جيد؟ وكيف تستطيع المدينة ان تعمل لتعين المواطنين في التوصل الى هذه المصلحة؟
ثمت مقتطفات من رسالتين تتوجه نحو الاجابة على هذه الاسئلة. هناك مقتطف من رسالة لـ يمليخوس عن الاعتدال ( III 271.8ff) تتحدث عن النظام الصالح على انه يتضمن المتعة ضمن حدود دنيا وانقاذ العائلات والمدن حسب قول كرايتس. أما المقتطف الآخر فهو من رسالة لـ يمليخوس الى اسفاليوس عن الحكمة العملية ( III 201. 17ff.) وفيه معلومات اكثر. وهذه الحكمة وصفت بأنها الهادية للفضائل. انها تستمد نشوئها من العقل النقي والكامل – والاشارة هنا ، كما
افهم ، هي الى العقل كاقنوم متعال. والحكمة تتطلع نحو هذا العقل وتصبح كاملة بواستطه ، وتجد فيه نموذجا لفعالياتها. هذه هي الحكمة التي تنجز التواصل بين الالهة والناس. بالانسجام مع هذه الفضيلة خاصة نحن نندمج بالالهة ، اذ تسمح لنا ان نميز بين الخير والمفيد ونقيضه. انها تطلق احكامها على الافعال وتقومها. انها باختصار:
القائد الحاكم للناس والنظام الشامل لهم ، وهي تسمو بالمدن والعائلات وطرائق حياة الفرد نحو النموذج الالهي ،
ترسمهم وفق افضل صورة ، تلغي هذا وتضيف ذاك ، وفي كلى الحالتين تحاكي بشكل مناسب النموذج. وبذلك
تجعل الحكمة هؤلاء الذين يملكونها كالالهة.
ان الرابطة بين الخير السياسي والتأليه قد ثبتت بوضوح في هذا النص. و فضيلة الحكمة ، حين نفترض انها مورست من قبل الحكام ، تمد هؤلاء الحكام بنموذج الهي ، ووفقا له يصيغون حياة المدينة ، راسمين صورة للالهي فيها. والمواطن ينجز الالهي عبر المدينة المتألهة التي هو عضو فيها. ان مدينة بروكلس المدركة عقليا والتي تعمل كمبدأ للفلسفة السياسية موجودة في مقتطفات يمليخوس .
يضم كتاب هيروكليس الذي يحمل عنوان “عن العناية الالهية” ، و الملخص من قبل فوتيوس، مقطعا (Bibl. 251. 464b ff.) يستعرض بشكل مطول بعض الافكار التي وجدناها لدى يمليخوس. يتناول المقطع تمييز افلاطون (24a ff. Phaedrus ) بين الفيلسوف والعاشق. يتابع الفيلسوف الحقيقي التأمل ويتجنب النشاط السياسي ليمارس الفضائل التطهيرية. بينما العاشق يعنى بالفضائل العملية لسبب الهي ، ويشارك في المصالح المدركة عقليا وهو ناشط سياسيا. كما انه ممثل من قبل اوصياء “جمهورية افلاطون” الذين مثل الفنانين يرسمون المدينة الفاضلة مستخدمين النموذج الالهي. وهنا يقتبس هيروكليس من كتاب “الجمهورية” ((500e 2ff ويعيد صياغته باسلوبه كالتالي: يأخذ الحكام الفنانون المدينة وشخصية الناس وكأنهما لوح ينظفوه ، راسمين عليه شكل قوام ، ناظرين الى ما هو في الطبيعة عادلا ، جميلا ، ومعتدلا، والى ما يجعل ، كما يقول هوميرس، الناس يشبهون الالهة . لذا يمحي الحكام هذا ويرسمون ذاك لكي يجعلوا شخصيات الناس ، قدر المستطاع ، مرضية لما هو الهي.
يوضح هذا المقطع ، عند هيروكليس ، بوضوح العلاقة بين المقتطف المأخوذ من يمليخوس والذي استشهد به اعلاه و”جمهورية افلاطون”: ان حكمة يمليخوس ترسم الناس والمدن وفق نموذج الهي يطابق الحكام الفنانين عند افلاطون.(10) ان التشبه بالالهي التي ترسمها الحكمة هو ما تحدث عنه هوميروس في نص افلاطون (Rep.501b6-7) . المدن تألهت ، تم دمجها بواسطة الحكمة الموجهة بنموذج الهي ، والذي هو ، في الكون الافلاطوني المحدث الخاص بـيمليخوس ، اقنوم متعال ، اي العقل الكامل الذي يصنع الحكمة.
والصفحات التالية للموجز الذي وضعه فوتيوس عن كتاب هيروكليس هي هامة ايضا. العاشق الذي هو رسام لتكوينات ، و تربوي ومؤله للبشر ، ليس أدنى من الفيلسوف المحض تأملي . كلاهما يملك ذات الفلسفة ولهما ذات الاهمية. ولكن يختلفان في شيء واحد: العاشق يتميز بحبه للبشرية ، بينما الفيلسوف يتفوق بفعله الفردي.
ان معارضة هيروكليس لاخضاع حياة الفعل السياسي لحياة التأمل ملفته للنظر، وجدير بالذكر ايضا ان حياة الفعل السياسي ، كما تم تمثيلها من قبل العاشق ، تبدو انها تستوحي محبة البشر، وهي صفة ذكرها يمليخوس في مقتطف من رسالة بعث بها الى اغريبا ( (IV 223.9حيث قال ان صلاح الحاكم ومحبته للبشر قد تجعلان تفوقه على رعاياه أمرا مقبولا. (11) فاذا كان الصلاح ومحبة البشر ، عند يمليخوس وهيروكليس ، يرشدان الفعل السياسي للقائد الموجه فلسفيا فهذا الدافع بالامكان مقابلته بذاك الذي ذكره افلاطون عن الملوك الفلاسفة الذين يفضلون الاستمرار في حياة التأمل ، ولكنهم قد يتخلون عنها بحكم واجباتهم نحو المجتمع الذي من اجله يكرسون حياتهم لمهام المنصب السياسي ((Rep. 517c-d, 520a-c . غير انه لا يوجد لدى يمليخوس و هيروكليس أي تلميح لهكذا تضحية او التزام.
ونجد لدى بلوتينس موقفا ايجابيا مماثلا من العمل السياسي ، فيه انتفاء للتوتربين العمل السياسي وبين حياة التأمل ((VI 9.7.20-26 :
… يجب ان تتحرر الروح من جميع الاشياء الخارجية … حتى لو ادى ذلك الى نكران ذاتها ، لتدخل في تأمل مع “الواحد” ، وحين تكون في رفقة “الواحد” ، وصار لك فيض من الحديث معه ستقدم وتخبر الآخر عن ذلك الاتحادالمتعالي. ربما ايضا لأن مينوس حقق هذا الاتحاد المتعالي لذا ورد في رواية بأنه كان قد صار “صديقا حميما لـ زوس”. واحياء لذكرى صداقته بـ زوس وضع قوانين وفق صورته ، ووفرة تشريعه تعود الى اللمسة الالهية. أو ربما يفكرأنه غير جديربالقضايا المدنية ويريد ان يبقى دائما اسمى منها…. ((Armstrong
عند بلوتينس ليس هناك تخلي عن حياة التأمل لصالح العمل السياسي . يمكن للاخير (وهذا ليس بالضرورة) ان يتبع السابق (التأمل) لكونه متأثرا به لابلاغ الخير. وكما يقول بلوتينس في موضع آخر، بامكان الفعل ان يرافق التأمل كتبليغ للتأمل ولكن على مستوى ادنى. (III 8.4.36-43 ( في الحقيقة العالم ذاته هو نوع من النتاج الاضافي المرافق للحياة التأملية ذات المباديء الرفيعة.
ان استعراضنا لمقتطفات ستوبايوس من رسائل يمليخوس يمكن بالنهاية ان يتضمن ذكر لنصين يتناولان القانون والسلطة. النص الاول هو رسالة من يمليخوس الى اغريبا ويتضمن مديح مفصل للقانون: “القانون هو ملك (عاهل) الكل”، (12) وهو مصدر كل الخيرات ، يفيد جميع الترتيبات المدنية وحياة الناس (IV 223.14ff.) . و يؤكد يمليخوس ايضا على الحاجة (ضمن المستطاع) الى حكام مسؤولين عن القانون وغير قابلين للفساد. أما النص الثاني فهو مستمد من رسالة عن الزواج (IV 587.16ff.) . يصف يمليخوس حكم الرجل للادارة البيتية على انه من نمط خاص: ليس حكما استبداديا (يحكم لصالح الاقوى ، لمصلحته) ولا يتعلق بمهارات محددة (تعنى بمصلحة الاضعف ، أي التابع) بل يعنى بالسياسة التي تهتم بالخير العام على السواء. اما هذا التصنيف لانماط الحكم فهو مستمد من ارسطو وموجود ايضا في نص منسوب الى كاليكراتيدس الفيثاغوري ويتعلق بالسعادة البيتية (14). صار معروفا ان ارسطو يعتبر فوقية الذكر في الادارة البيتية وكأنه طبيعي ، والحكم السياسي يصدر عن المواطنين المتساوين والاحرار، بينما كاليكراتيدس يعتبر التفوق العائلي والسياسي مقرر من قبل الطبيعة. (15) ولكن لست متأكدا من اهمية نص يمليخوس بهذا الشأن. هل يقترح يمليخوس بأن الحكم المعني بالزواج كالحكم السياسي يستمد من موافقة بين المتساوين؟ هل يقول ، كما هو الحال في الادارة البيتية ، هكذا في المدن ، هناك اعضاء معينين صالحين للحكم بتفوق (كأوصياء افلاطون) ، يقبل المواطنون بحكمهم ويحكمون بالتساوي لمصلحة الجميع؟
يمكن للاستنتاجات التالية ان يتم تقديمها على اساس مراجعة المقتطفات المستمدة من رسائل يمليخوس . ان الخير البشري ، كاندماج بالله او التأليه قد تحقق ، ضمن الحد الذي يكون الانسان عضو في مجتمع (اي الانسان كمعطى متجسد) ، في مدينة متألهة. يتصور يمليخوس المدينة المؤلهة على غرار المدينة الفاضلة عند افلاطون ، على انها دولة محكومة من قادة ملهمين بحكمة ومعرفة للواقع المدرك عقليا ، و وفق صورة ذاك الواقع “يرسمون” المدينة. وتتضمن حكمتهم قواعد رياضية وفلكية كتلك التي قمنا بتعريفها (في الجزء الاول من هذا البحث) على انها تكون مضمون فلسفة سياسية.
بعض المقابلات بين “جمهورية” افلاطون والدولة المثالية عند يمليخوس ليست مستحيلة رغم ان البراهين محدودة: الحكام ، عند يمليخوس ، يفعلون ليس لأن فعلهم واجب تجاه المجتمع ، بل لانه صادر عن الخير ومحبة البشرية .(يقترح بلوتينوس و هيروكليس ان الفعل السياسي قد ينتج عن التأمل كتواصل مع الله.) اما الحكمة التي ترشد الحكام (عند يمليخوس) فهي نتاج اقنوم متعال ، عقل كامل. لذا يتناسب التأليه السياسي مع فكرة الانبثاق المرتبطة بالتراتب الهرمي للافلاطونية المحدثة. يبدو ان القانون يلعب دور أهم في نظرية يمليخوس السياسية مما يلعبه في الدولة المثالية المعروضة في “جمهورية” افلاطون. على اي حال ، النقطة الاخيرة تتطلب مزيد من البحث فيما يتعلق باستخدام يمليخوس ليس فقط لـكتاب “الجمهورية” ، بل لكتاب “القوانين” لأفلاطون وكتاب “السياسة” لأرسطو ايضا. (16)
III
اود ان اعود ، في القسم الاخير من هذا البحث ، الى كتاب يمليخوس “عن الفيثاغورية” ، وهذه المرة سأتناول المجلد 1 ، وهو بعنوان “عن الحياة الفيثاغورية”. ربما نقرأ وصف يمليخوس للحياة الفيثاغورية كما تم تصويرها من قبل فيثاغورس واتباعه على انها تشخص مثل أعلى كان يرغب ان يقدمه لمعاصريه الذين كانوا على عتبة القرن الرابع الميلادي (17) ، وهذا المثل الاعلى يجمع بين حياة التأمل والعمل السياسي. ينبغي ان نتسائل ، بالنسبة للفلسفة السياسية لـ يمليخوس ، الى أي حد يتناغم هذا المثل الاعلى مع النتائج التي اقيم البرهان عليها حتى الان؟
تعترضنا بعض الصعوبة عند تفسير كل تفصيل ورد في كتاب “عن الحياة اليثاغورية” على انه يسهم في تكوين نموذج كان يمليخوس يتوق الى تقديمه. المصادر التي استخدمها يمليخوس في الكتاب تتضارب حول نقاط معينة ، وفي بعض الاحيان ترك هذا التضارب بلا حل. نجد مثال على ذلك في الفصل 6 ، حيث تم شرح مغادرة فيثاغورس من ساموس بانها تعبير عن رغبته في “تفادي مهام سياسية” ((Clark ، أو بسبب اظهار ازدراء للتعليم في ساموس. وفي مكان آخر، يبدي فيثاغورس (في ايطاليا) بعض النفور من الانخراط في النشاط السياسي حتى كمشترع (انظر في ادنى الصفحة). هذا التضارب يشير الى أي حد كان فيثاغورس فيلسوفا تأمليا يتجنب السياسة ، وهذا في حينه كان موضوع خلاف في المصادر التي اعتمد عليها يمليخوس. بالرغم من الاختلاف القائم بين تلك المصادر، في اعتقادي ، هناك صورة مترابطة تبرز للعيان.
تضمنت ثقافة فيثاغورس (الفصل5 ) “البقاء في كريت و سبارطة بسبب قوانينهما”. ( لقد صار معلوما (18) ان هذه الانظمة المحافظة مدحت في كتاب “القوانين” لأفلاطون (624c ff. . ولقد جرت مقارنة بين فيثاغورس و مينوس المشرع الاسطوري الذي جئنا على ذكره عند تناولنا لـ بلوتينس. صار فيثاغورس منهمكا في سياسة ساميان (مكرها؟) ، وعند وصوله الى كروتن حث على وضع قوانين و اوامر اعتبرت “وكأنها اوامر الهية”(الفصل 6). وعمل فيثاغورس وتلاميذه (19) كمشرعين لمدن ايطالية اخرى (الفصول 7,27,30 ) ، وهذا التشريع كان قائما على العلوم السياسية ( الفصل 30, sec. 173). لذا الفلسفة السياسية ، وخاصة نظرية “افضل شكل للنظام المدني” ، هي من بين اسهامات فيثاغورس العلمية للبشرية ( فصل (6. وهناك وصف رياضي غامض بعض الشيء لافضل دستور ، قيل ان افلاطون تأثر به ، ورد في الفصل 27 ، والنقطة الرئيسية في هذا الوصف ، كما تبدو، أن الدستور تم تصميمه وفق مساواة تناسبية ، وهو نظام لعلاقات متناغمة بين الامتساوين. (20) لقد صار معلوم لدينا ان الطغيان غير مقبول كشكل للحكم ( الفصل (32 ، ولا حكم الاغنياء او الشعب (الفصل(35 . أود ان اقترح بأن الدستور الامثل للفيثاغوري لربما ليس مختلفا عن ذاك الذي رسم في كتاب “الجمهورية” ، أي الحكم للنخبة الفلسفية. ان اهمية القانون والحكم القانوني تم التوكيد عليهما ، مثلا ، في الفصول ((30, sec. 171, 31, sec. 203 ، وهناك حاجة في ان يكون الحكم قد تم القبول به بحرية (الفصل (30, sec. 183. واخيرا ، الأمر القاضي
“بـ اتباع الله” قد تم التوكيد عليه كمبدأ فيثاغوري ، وكهدف لكل الفلسفة و لكل الحياة (الفصل (18, sec. 86 . لقد تم وصف الفيثاغوري المثالي بأنه المقلد الكامل للالهي وافضل حكام الشعب.
ضمن الحدود التي تكون هذه الخواص التابعة للحياة الفيثاغورية مماثلة فعلا للعوامل الداخلة في فهم يمليخوس لمكانة و مضمون الفلسفة السياسية ، كما تتبعناها في الجزئين الاول والثاني من هذا البحث ، بمقدورنا ان نعتبر فيثاغورس وتلاميذه بمثابة أمثلة عن المثل الاعلى عند يمليخوس للفيلسوف التأملي والناشط سياسيا.
تعليقات ضمن الحواشي:
تتضمن بعض الحواشي تعليقات على بعض النقاط الواردة في البحث ، لذا قمت بترجمتها للقاريء الذي لا يجيد الانكليزية . سترد ترجمتها حسب تسلسل ورودها في النص الانكليزي. أما المراجع فآثرنا ان نتركها في لغاتها الاصلية ، وهي موجودة في نهاية البحث. (المترجم)
أنظر ايضا كتاب بيرولتيس ، ص31 – 24.
أنظر مثلا اطروحة الدكتوراه لـ ج . فودين التي تظهر(ff 93 1) ان معظم الافلاطونيين المحدثين كانوا اثرياء و كانت لهم ارتباطات ارستقراطية. عن الخلفية الملكية لـ يمليخوس ، أنظر كتاب جان ديلون ، ص5 – 4 .
5 . بالامكان ايضا العثور على التقسيم الارسطوطالي للعلوم في المنهاج المدرسي لـ يمليخوس الخاص بالمحوارات الافلاطونية . انظر ل. ج. ويستيرينك ، مقدمة مجهولة للفلسفة الافلاطونية، (امستردام 1962) 26xxxvii-xl, 10-35; . رغم ان المحوارات مصنفة (حسب العلوم النظرية) على شكل فيزيائية ولاهوتية ، الا ان العلوم التطبيقية موجودة ايضا ، بحيث ان المحاورات الاولى للمنهاج المدرسي مكرسة للفضيلة الاخلاقية والسياسية كتمهيد للفضيلة النظرية.
6 . في منهاجه المدرسي الخاص بالمحاورات الافلاطونية (الحاشية 5) يحدد يمليخوس كتاب افلاطون “كوركياس” بأنه يعنى بالفضيلة السياسية. رغم ان يمليخوس يبدو وكأنه لم يكتب شرحا عن “كوركياس” الا انه يستخدم الحوار في سياقات لها علاقة بالسياسة (انظر الحاشية 12 و 20 في الاسفل) . بهذ الصدد سنجد في ادنى الصفحة بأنه يستخدم ايضا “جمهورية” افلاطون ومحتمل “السياسة” لـ أرسطو. وكان منهاج بروكلس ، حين كان طالبا ، يتضمن ، فيما يتعلق بالفضيلة السياسية ، كتب “الجمهورية” و “القوانين” و “السياسة” (انظر هـ . ج. بلومنثال ، “حياة بركلس لـ مارينوس: سيرة افلاطوني محدث.” حولية بيزنشن 54 (1984) 8 -487 .
7 . بالنسبة للحجة القائلة ان بروكلس يقوم بتنقيح يمليخوس في هذا الجزء من “شروح عن يوكليد” ، انظر كتابي : “فيثاغورس منتعشا” ، ff157.
8 . فيما يتعلق بهذه المقتطفات ، أنظر كتاب ب. لارسين ، “يمليخوس القنسريني” (ارهوس ،
1972 ) I 1-51 . بلاضافة الى المشكلات المذكورة ، السؤال المتعلق بهوية الناس المرسلة اليهم رسائل يمليخوس يستدعي مزيد من البحث.
11 . بالرغم من ان الفضيلة السياسية أمر تافه تماما في ازمنة الحكم الامبراطوري ، الا ان محبة البشرية عند اريستوكسينوس كانت مرتطبة بالفيثاغورية . انظر كتابات هـ . ديلز و كرانز (برلين ، 1952) 28 . 469 I ; وسودو اركايتس المنشورة في كتاب هـ . ثيسليف (ابو ، 1965) 4 , 36 ; واعمال هيروكليس التي نشرها اف . كوهلر ( شتتكارت ، 1974) 24،30 .
12 . استشهد افلاطون بجزء من اعمال بيندار 169 ، في كتابه كوركياسb 484.
16 . أنظر الحاشيتين 6 و 13 المذكورتين اعلاه .
19 . يشار الى مجموعة منهم كاتباع ، انظر كتاب يمليخوس “عن الحياة الفيثاغورية” ، فصل 18 ، مقطع 89 ، فصل 25 ، مقطع 108 ، فصل 27 ، مقطع 129 ، فصل 28 ، مقطع 150 .
20 . نص افلاطون عن المساواة التناسبية (الهندسية) الوارد في كتابه ( كوركياس a 508 ) يتضمن مجموعة مقتطفات من كوركياس قدمها يمليخوس في كتابه “بروتريبتكوس” وكأنها لـ فيثاغورس ، انظر الفصول 19 – 17 .
21 . أنا مدين للمشتركين في هذا المؤتمر لانهم لفتوا انتباهي لبعض المعلومات الهامة ولاثارتهم بعض القضايا التي آمل ان اتابعها.
ترجمة د. أدمير كوريه
مراجع البحث:
1. W. Beierwaltes, Denken des Einen (Frankfurt, 1985)111, n.103; also 24-31.
2. G. Fowden, Pagan Philosophers in Late antique Society, with special reference to Iamblichus and his followers, Oxford D. Phil. Thesis 1979.
J. Dillon, Iamblichi Chalcidensis in Plotinis dialogos commentariorum fragmenta (Leiden, 1973) 4-5.
3. Albinus (Alcinous) Didaskalikos Hermann (ed.) 153-4.
4. Dominic J, O’meara, Phythagoras Revived: Mathematics and Philosophy in Late Antiquity (Oxford, 1989), ch.3.
5. L. G. Westerink, Anonymous Prolegomena to Platonic Philosophy (ed.)
(Amesterf dam, 1962) 26, 10-35; cf. xxxvii-xl.
6. H. J. Blumenthal, ‘Marinus’ Life of Proclus: Neoplatonist Biography,’ Byzantion 54 (1984)487-8.
7. Dominic J, O’meara, Phythagoras Revived, 157 ff.
8. B. Larsen, Jamblique de Chalcis (Aarhus, 1972) I 50-1
9. Stobaeus Anthologium, C. Wachsmuth, O. Hense (eds) (Berlin, 1884-1912)II 173, 176; III 706; IV 907
10. Iamblichus, Protrepticus, ch. 10 (in particular 55.1-56.2 Pistelilli).
11. H. Diels, W.Kranz, Die Fragmente der Vorsokratiker (Berlin, 1952) I 469.28; Pseudo-Archytas, On Law and Justice in H. thesleff, The Phythagorean Text of the Hellenistic Period (Abo, 1965) 36, 4; Hierocles, Comm. On the GoldenVerses, F. Kohler (ed.) (Stutgart, 1974) 30, 24.
12. Pindar Fragment 169, 1 quoted by Plato Gorgias 484b.
13. Politics III 6 1277b 30ff.
14. In Thesleff, op.cit. 105.11ff.
15. P. Moraux, A la recherché de l’Aristote perdu: le dialogue ‘Sur la justice’ (Louvain, 1957)24-5, 83-5.
16. Cf. above nn. 6, 13.
17. J. A. Philip, ‘The Biographical Tradition-Pythagoas’ Transactions of the American Philosophical Association 90 (1959)192-4; M. von Albrecht, ‘Das Menschenbild in Iamblichs Darstellung der pythagoreischen Lebensform’ Anitke und Abendland 12 (1966) 51-63.
18. G. Clark, Iamblichus: on the Phythagorean Life (Liverpool, 1989) 10.
19. Cf. Iamblichus: on the Phythagorean Life, ch.18, sec.89, ch.25, sec.108, ch.27, sec.129, ch.150.
20. Iamblichus, Protrepticus, chs.17-19.