في الحيوانات والزحافات التي أمر الله أن تحركها المياه
وفي الطيور التي أمر فخلقت هي الأخرى من طبيعة المياه
مقدمة
أن الله المعني، لم يدع حاجة لخليقته إلا وسدها. وكما سبق الحديث، فأن الملوك الذين يبنون مدناً، لا يقتصرون على اقامة السور والأسواق والساحات ومتطلبات السكن فحسب، بل يهيئون أيضاً أنابيب متينة لمياه الشرب والغسل والاستحمام، ويصنعون كذلك بحيرات قريبة من المدن لتربية الأسماك طعاماً لسكان المدن ولأجناس الطيور التي تنزع إلى العيش حيث الماء والرطوبة، لكي تكون هي الأخرى قوتاً ومتعة للبشر.
هكذا هيأ (الله) هذه المدينة الكبيرة – العالم – نعمة منه للجنس البشري وإحساناً كثيراً، بعد الأشياء التي سبق وخلقها، أعني السماء والأرض والجلد والهواء والبحار والبحيرات والأنهار والينابيع وغابات الأشجار والشجيرات المثمرة والحشائش والزروع والعروق والمروج ذات الأزهار الزكية الرائحة والمتباينة الألوان والخصائص. فلا البحار ولا الأنهار ولا طبيعة المياه ولا الهواء النقي الشفاف الذي يملأ ما بين السماء والأرض، تبقى مجردة وخالية تماماً من أي جمال خاص يلائم كل واحد منها، مثل الفائدة الكامنة في طبيعة كل منها لكي تستمر حياة السكان فيه. فقد منح المياه طبيعة تتميز بالثقل والرقة، والهواء طبيعة خفيفة طائرة، وكلاهما خلقا لخدمة وراحة البشر الذين كانوا عتيدين أن يصيروا سادة هذا العالم. لذلك قال الروح الملهم بلسان موسى في أعقاب ما سبق ذكرهأن الله الخالق أصدر أمره”لتخرج المياه زحافات ذات نفس حية، وليطر طير فوق الأرض على وجه جلد السماء”. وكان كذلك.
تعابير الكتاب تقريب لمفاهيمنا
هنا يتطلب الأمر تفكيرا وتأملاً واستقصاء. حيث يتساءل العقل لماذا أمر الله أن تخرج المياه ما كان يريد اخراجه دون أن يفعل ذلك مباشرة بقوة سلطانه؟ فهو لا يحتاج وسيطاً عندما يريد أمراً ما. فكل ما يريده يتم بمجرد إشارة من إرادته، وقد كتب بهذا الخصوص”لأنه قال فكانت وأمر فخلقت”. هذا ما يتساءله العقل الباحث عندما يساوره شك ويتأمل ويرى في كلمات الكتاب الموحى به من الروح ما يبدو خشونة. فتجيب الكلمة المدركة والعقل الثاقب ويقولأن الله ليس بحاجة إلى أية مساعدة من خلائقه. ولكن نحن هم الذين بحاجة إلى أن نسمع وندرك بالطريقة التي الفناها. كيف تمت أعمال الله كلها، وكيف خلقت ؟ فما كان لنا ذلك. أي أن نسمع وندرك لو لم تكتب قصة خلقها بالأسلوب الذي نفهمه وبالطريقة التي نتعامل بها، فالروح الملهم اتبع أسلوبنا في سرد ما كتب لأجلنا، وعلى مدى إدراكنا. ولم يكن بالامكان أن يستخدم أسلوباً آخر. فعندما قال الله”لتخرج الأرض عشباً وأشجاراً” فأنه لم يفعل هذا حاجته إلى مساعدة الأرض لكي يخلق ما يريد. لكنه فعل ذلك لكي نسمع نحن ونفهم وندرك بأنه خلق ما خلق باقتداره الفائق، ولئن كتب عنه أنه “أمر الأرض”. فعندما يقول هنا “لتخرج المياه” لا يشير بذلك إلى حاجته إلى مساعدة المياه ليكون ما يريد. لذا سنقول هنا كلمتنا بهذا الشأن بكل وضوح وبساطة، لنقف على ما يثيره الباحث المتسائل
فالله لم ينطق بأية كلمة من هذه الكلمات، ولم يكن العمل اعتباطاً. ولم يكن بحاجة إلى أن يقول ثم يخلق. فمجرد التفكير بها كان كافياً، لأن الفكر هو كمال العمل، لا سيما وأنه لم يكن حتى بحاجة إلى التفكير، فالله لا يفكر ولا يتأمل الأفكار ليختار ما يحسن له ومن ثم يخلق. لكن بمجرد النطق أو الحركة أو الإشارة الأولى من الفكر إلى ما يريد أن يعمله، يتم ذلك العمل، حتى أن لفظة “الإشارة” لا محل لها هنا ولا أهمية لها، ذلك أن الله لا يشير حتى إشارة لأنه منزه عن العيون والجبين والأيدي وعن كل الأعضاء. فأذن لا معنى هنا لكلمة إشارة. وكذلك أن ننسب إلى الله الحركة الإرادية هو الآخر أمر زائد، فإرادته ليست شيئاً متميزاً عن ذاته. وكذلك قولناأنه بقوة سلطانه يفعل ما يشاء، فهو الآخر زائد ولا قيمة له. فعندما يتأمل المرء بدقة يكتشف أن هذه الأمور لا تنسب إلى الله، فكل ما نطلقه عليه من كلمات وألفاظ، إنما هي لنا، وهي مناسبة لإطلاقها علينا فقط. ولا تتناسب أن تطلق عليه أبداً، ولا شأن له بها. لكن ما الذي نفعله عندما نريد أن نتحدث عنه أو عن أعماله ! ليس بمقدورنا أن نتحدث أو نقول أو نسمع الآخرين أو نسمع نحن من الآخرين، إلا بما أعتدناه من الكلام. فأننا نضطر إلى استعمال الأسماء أو الأفعال أو الألفاظ الأخرى عندما نتحدث عنه. وهذا نفسه يفعله الروح. فأنه يتعامل بنفس الكلمات التي نستعملها في سرد القصص. لذا فقد كتب هذا وكأنه يتلعثم معنا باعتبارنا أطفالاً، فيوضح لنا، وبأسلوبنا ما هو فوق إدراكنا. أما الواقع فليس كذلك
وبناء عليه، فأن الله لم يقل “لتخرج الأرض أو تخرج المياه”، لكونه ليس بحاجة إلى أن ينطق أبداً، لكن الكلام أدرج بهذا الشكل من أجلنا. فلو لم يكتب الروح هكذا، أمر الله أن يكون كذا، وقال الله، ليكن كذا ولتخرج الأرض عشباً، ولتخرج المياه زحافات ذات نفس حية، ولو لم نسمع هذا بأسلوب ما ألفناه ورأيناه في كتابات الكتاب وهم منا، كيف كان لنا أن نعرف شيئاً عن الله أو عن أعماله، وندرك أن كل ما نراه هو خليقة الله وليس أزلياً. فلا نضلن مثل الشعوب التي توهمت بأن هذا العالم هو أزلي بذاته وسرمدي ولم يخلقه الله، فقد أهتم موسى كثيراً ليطلع الناس على هذه الأمور. وأن الروح الذي نطق فيه، أراد خاصة أن يوضح للناس ويعرفهم بأن السماء والأرض وكل ما فيهما هي عمل الله وليست أزلية، ولم تتكون تلقائياً، كما أنها ليست سرمدية وغير مخلوقة كما أوهم الثلاب المارد البشر ليضلهم عن الله خالقهم. أذن، هذا كان سبب استعمال الكلمات بهذه الصورة. فقد قيل “قال الله لتخرج الأرض ولتخرج المياه” لكي ندرك الله وأعماله بسهولة، ونعرف بأنها به كانت وليست أزلية، وأن الروح لا يقصد بقوله”قال الله لتخرج المياه… ولتخرج الأرض” أن الله أوعز إلى خليقته لتساعده في الخلق، بل ليظهر أن الله يصدر أمراً فيخلق ما يشاء ومتى شاء دون جهد، والكل يطيع أمره، وليس من يعصي إرادته، ويمكن تفسير عبارة “لتخرج الأرض…. لتخرج المياه” هكذا، أن يكون في الأرض عشب وأشجار، وتكون في المياه زحافات ذات نفس حية وطيور، فهذا هو العقل الممعن تجاه الفكر المتشكك الذي رأى في ما كتب أمراً اعتباطياً
العناصر الأربعة
ونحن أيضاً بدورنا نعقب على عبارات الروح هذهوقال الله لتخرج المياه زحافات ذات نفس حية، وطيوراً تطير على الأرض، على وجه جلد السماء”. فنعالج شكل آخر في قوله “لتخرج الأرض… لتخرج المياه”. فلنعلم أنه ولئن اقتصر الأمر على الأرض فقط. “لتخرج عشباً” فذلك لأن الأرض وحدها كانت منظورة في ذلك الحين الذي فيه نبت العشب والأشجار فيها. أما العناصر الثلاثة الأخرى، الماء والهواء والنار، فلم تكن منظورة بعد. فأن العشب والأشجار التي تنبت في الأرض ليست وليدة هذه الأرض (التراب) فحسب، بل تشترك معها بقية العناصر أيضاً. فمن الواضح أن عناصر الماء والهواء والنار تدخل مع التراب في تركيب العشب الذي من الأرض، وخشب الأشجار، وتشترك في إنمائها. فإذا كانت الأرض وحدها منظورة حينذاك، ذكرت لوحدها. وعلى نفس الغرار، قوله”لتخرج المياه زحافات… وسمكاً … وطيوراً… ” فلأن المياه فقط كانت منظورة حينذاك، ولم تكن العناصر الثلاثة الأخرى، التراب والهواء والنار موجودة لدى ولادة هذه الحيوانات، علماً بأن طبيعة التراب موجودة مع الماء، وكذلك الهواء والنار، وعليه فهي تدخل في تركيب الأسماك والحيوانات الأخرى التي خرجت من المياه. فلا يجوز أبداً أن يظن أحد ما أن لحم وعظام وجسم الأسماك والطيور مركبة من الماء فقط، ولا تشترك معها العناصر الثلاثة الأخرى، التراب والهواء والنار، وقد اعتدنا، والعالم كله أيضاً، أن نقولأن العشب والجذور والأشجار والشجيرات تنبت من الأرض دون أن نشير إلى أسم أحد العناصر الأخرى. ونقول عن الأسماك، أنها من الماء فقط، لذا فقد نهج الكتاب أسلوبنا وراعى عاداتنا. وأنه لأمر معروف أن العشب الذي يتولد وينمو في الأرض، وكذلك الأشجار وكل النباتات التي تتولد من العشب، هي مركبة من العناصر الأربعة. والأسماك وكل الحيوانات تتولد من الماء، وكذا الأمر بالنسبة إلى طبيعة الطيور. فالكتاب يقتصر على ذكر العناصر المنظورة والمعروفة فقط، تمشياً مع ما هو مألوف في العالم الذي ينسب نمو البذور والأشجار إلى التراب، وولادة الأسماك والطيور إلى المياه
كلمة الله
ونعقب على كل ما سبق الحديث عنه، متسائلين ومدفوعين بمحبة العلم والحق. ترى من هو القائل “ليكن كذا”، فنجيب أنفسنا متسائلين أيضاً وقائلين، ترى من هو الذي نفذ فيما بعد الأمر الصادر؟. لقد تلت الكلمات المدرجة أعلاه أي “وقال الله الذي أمر لتخرج المياه”، كلمات أخرى هي”وخلق الله التنانين العظام وكل ذوات الأنفس الحية الدبابة التي فاضت بها المياه كأجناسها، وكل طير ذي جناح كجنسه، ورأى ذلك أنه حسن”. وباركها الله قائلاً”أثمري وأكثري واملأي الأرض”. فمن هو الذي أمر أن تخرج المياه، ومن الذي نفذ؟. من المعروف، وكما سبق الكلام عن الخلائق الأخرى، أن الذي أمر هو اقنوم والذي نفذ أقنوم آخر. وهنا أيضاً ينبغي أن نفهم الأمر هكذا. أن الله الأب أمر باعتباره رأس كل ما يصدر عنه، وكل شيء هو منه. والكلمة الذي منه نفذ، وهو الآخر رأس كل شيء مع أبيه والروح المساوي لهما في الجوهر والمجد والخلق. وهنا أيضاً يجدر بالفكر الباحث ومحب الحق أن يقولإذا كان الأب بالابن، والابن بالأب، ولهما إرادة واحدة، ومتساويان بالنسمة (النفس) و (الذات)، ولهما سلطان واحد. فكيف يجوز أن يقال أن واحداً يأمر والآخر ينفذ الأمر؟. علماً بأن القول أن واحداً يأمر وآخر ينفذ ما أمر به، لا يشير إلى كونهما متساويين في الكرامة، بل أن من يأمر كأنه يفعل ذلك كرئيس، والذي ينفذ كأنه مستعبد وبدرجة أدنى من الرئيس، لكي ينفذ ما أمر به. نقولأن هذا الكلام يصح علينا نحن، أما بالنسبة إلى الله. فأن للأوامر وتنفيذ الأوامر مفهوماً آخر. فلما يأمر الأب، فأن الابن والروح أيضاً يكونان قد أمرا معه في نفس الوقت، وعندما ينفذ الابن ويعمل ما أمر بعمله فأن الأب والروح القدس، مكمل يكونان أيضا ينفذان معه فلهؤلاء (الأقاليم) أزلية واحدة وإرادة واحدة وعلى هذا المقياس يكون الأمر واحدا بالنسبة إليهم وكذلك تنفيذه وإتمامه فإذا قيل عن واحد انه أمر فالثلاثة يكونون قد أمروا وإذا قيل عن واحد انه يعمل شيئا ما فثلاثتهم هم الذين يعملون فهذه الأمور كتبت بصورة سرية من قبل الإله الروح ليس من أجل أن يظهر اختلاف ما بين الذي يأمر والذي ينفذ ولكن لكي نتعلم بها نحن بأن الاقانيم تختلف عن بعضها الأمر الذي لم يكن بالإمكان أن يدركه الناس أو يعتقدوا به فالقول أن واحدا يأمر وآخر ينفذ يظهر بأكثر وضوح أن سلطانهم واحد وإرادتهم واحدة ولا يفهم منه الاختلاف في الجوهر والسلطة وقولنا أن الله الأب أمر لتكون الأعمال يعني أن الله الكلمة نفذ ما أمر به ليس بصفة مستعبد أو أدنى بل كمساو في الإرادة وغير مخالف ومساو بالكرامة والسلطة
الحيوانات المائية
وهكذا وبلحظة تم من قبل الله الصانع ما أمر به من قبل الله الخالق (لتخرج المياه زحافات ذات نفس حية وطيورِا تطير على الأرض) ويقول خلق الله حيتانا أي تنانين عظاما وكل نفس تدب الأمور التي إفاضتها المياه بجنسها فبهذا الأمر يبق شيء من طبيعة المياه حيثما وجدت دون أن يثمر أو يلد لحظة سماعه الأمر وتنفيذه إياه فإفاض نفسا حية ومتحركة بإمكانها الحفاظ على نوعها ففي البحار الشاسعة التي لا تسبر أغوارها كانت تتوالد حيتان كبيرة أي تنانين ولا أدري ما الذي أسميها وقد ذكرها الروح المرتل وهو يأمرها مع سائر الخليفة لتسبح الخالق مع ذوي النطق قائلا (سبحي الرب يا كل الأرض وكل اللجج) ويبدو من كلامه أن هذه لا تستطيع أن تعيش الا في أعماق البحار نظرا إلى ضخامتها كما أن اله الجميع وهو يخاطب أيوب ويذكره بعظائم أعماله العجيبة, يقول عن جنس هذه الحيتان أو التنانين. أنك تستطيع أن تصطاد هذا التنين الهائل بالشبكة وتشد بالرسن مبلعه. ويشهد له الكتاب بأنه ملك حيوانات المياه، وقد جعل سخرية لملائكة الله بسبب ضخامته وقوة بأسه. وتروي قصص بعض الغرباء شهود عيان، أن طول بعض هذه الحيوانات التي أفاضتها المياه يبلغ نحو مئتي ميل وتكثر في أغوار البحار الكبرى التي لا تجاب والمعروفة بالمحيطات والتي هي خارج نطاق المسكونة. وأن بحار المسكونة الهادئة والمستغلة، أفاضت هي الأخرى حيوانات كبيرة وصغيرة تسبح وتجوب فيها، كل بنسبة ما فيه من مياه، وبمقتضى خصائص ومناخ بيئته. ويولد كل منها من جنسه وبحسب طبيعته، الدلافين والأسماك الكبيرة ومختلف أنواع الأسماك الأخرى من كل جنس، التي يولد كل منها كجنسه للحفاظ على نوعه، منفذاً أمر الخالق الذي أمرها أن تثمر وتكثر وتملأ مياه البحار
وإلى جانب هذه، فهناك زحافات لا يحصى عددها، ومختلف أنواع الحيوانات التي لا نعرف عدد أنواعها ولا أسماءها ونعجز عن وصفها، لا سيما وأن البحار ليست بقريبة منا، ونحن لم نعتد رؤية هذه الأنواع لكي نعطيها أسماء حتى ولا لدى الأمم الأخرى الساكنة بالقرب من البحار، أي اليونانيين والمصريين والرومان والعيلامين والهنود. وكان جدير بهؤلاء أن يضعوا أسماء وتسميات متميزة لكل نوع من الأسماك والزحافات والحيوانات البحرية، لكونهم قريبين من البحار. أما بالنسبة إلينا فنكتفي بما قاله الروح عنها “البحر الكبير الواسع الأطراف، هناك دبابات بلا عدد، صغار حيوان مع كبار، هناك تجري السفن، لوياثان هذا خلقته ليلعب فيه”
هكذا أفاضت مياه البحار أنواعاً مختلفة من الحيوانات الزاحفة. فليس هناك أي شعب يعرف جيداً أنواع وأسماء جميعها، وكما يقول البعض، فأن أعداداً كبيرة منها تعرف بأسماء الحيوانات والطيور التي على الأرض، أما بسبب التشابه بين أجسامها أو مسلكها أو لأسباب أخرى ويقال أيضاً أن بعض حيوانات الماء تسمى خنازير وكلاباً، أو حماراً وأرنباً ونسراً وباشقاً ويمامة وعقرباً وحية، وغيرها من أنواع الزحافات التي نعرفها. وقد تكون تسميتها بأسماء الحيوانات البرية سليمة، نظراً إلى تشابهها بالصفات والعادة. ومعروف عن الأسماك عامة التي تتوالد في البحار، أن لها أسناناً تحت شفاه أفواهها مثل وحوش البر، أما الأسماك التي تعيش في الأنهار والمياه العذبة فلا يوجد لها. هكذا فأن الله، بأمر واحد، جعل المياه تثمر وتلد. وسواء كانت قليلة أم كثيرة فلا بد وأن تثمر وتلد إطاعة لأمر الخالق. وكذلك الأنهار والبحيرات، فهي الأخرى بمقدار كميتها وبالنسبة إلى صفاتها وطعم مياهها، أولدت وأخرجت مثل مياه البحار أسماكاً مختلفة وزحافات، وأنواعاً أخرى كثيرة لا تحصى ولا تعرف أسماؤها. أمثال السلور والمرمريج والحنكليس
وإلى جانب هذه، هناك أجناس صدفية، مثل السلاحف والسرطان والحلزون والودع وأنواع أخرى كثيرة غير مسماة. وهذا ما تفعله أيضاً كل من ينابيع المياه الصغيرة والجداول والسواقي ومجمعات المياه وسيول المياه الصغيرة. فأن وجد في هذه قليل من الماء لا تتأخر عن تنفيذ الأمر. وكل منها يولد ويثمر ويفيض بالنسبة إلى دورته وطبيعة وكمية مياهه ومكانها. ومنها ما يؤكل مثل Conchyliac Squillae – أني أستعمل هنا الأسماء والتسميات الغربية – وهناك الأسماك الصغيرة، والصغيرة جداً. وهناك أيضاً الضفادع وغيرها من الأجناس الأدنى منها. فلا يبقى أي مكان رطب، مهما كان صغيراً، دون أن يثمر، أما برغشاً أو بقاً أو حشرات أخرى صغيرة وحقيرة، وهي الأخرى تخضع لأمر الله القائل، لتخرج المياه زحافات ذات نفس حية. فالكل يخضع، والكل يولد، والكل يخرج بقدر مستطاعه والقوة المعطاة له من الخالق. فقد أثر ذلك الأمر في طبيعة المياه لكي تثمر وتولد وتخرج ذات نفس حية في البحار والأنهار ومجمعات المياه والينابيع. ولم يكن تأثير الأمر آنياً فقط، بل ما زال أثره سارياً، فهو يطلب إليها لتكمل ما خلق فيها عن طريقه
طرق الولادة والتربية
ولنتحدث الآن عن تنوع طرق الولادة والتربية لدى هذه (الحيوانات) فأن مجمل ما نعرفه أو ما تسلمناه ممن سبقوا وعرفوه هو أن المعنيين الذين اجتهدوا أن يختبروا ويشاهدوا ويتعلموا ويدونوا في الكتب. يقولون عن الأسماك أنها لا تولد بزواج الذكور والإناث. ولا تحبل الإناث بشيء تستعيره من الذكور، كما هي الحال بالنسبة إلى حيوانات البر. لكن هناك حباً لبعضها البعض مقترناً بالشهوة كما يقال، فتنجذب نحو بعضها البعض في الوقت المناسب دون أن تتزاوج جسدياً كالحيوانات والطيور أو كزحافات الأرض. إلا أن أجسادها تلتحم بدافع الحب والشهوة، وتختلط الذكور والإناث وتزحف أجسادها جنباً إلى جنب بمحبة وتتزاحم وتتدافع وتحتك جوانبها ببعضها، فتدفأ الإناث فتحبل وتملأ كيساً دموياً بالبيض بكمية لا تحصى. ولما يحين الميعاد المحدد لها من قبل الخالق، تجتمع الذكور والإناث مرة أخرى في الأمكنة المناسبة للحفاظ على الوليد، في مكان تكون المياه فيه هادئة، وليس فيه جرف لئلا يجرف بيضها، وحيث لا يوجد طين أو حمأة لئلا يغور فيها فيتضرر ويغدو غير صالح للتوليد. فتتواعد الذكور والإناث وتجتمع في مثل هذه الأمكنة بدافع الحب نفسه، ويقترب الذكر من الأنثى لغاية التوليد فيحتك بها ويحرضها على التوليد وإزاء ذلك ترمي الأنثى بيضاً من بطنها فيلقحها الذكر، وكل البيض الذي يصله منى الذكر ينشق فوراً ويخرج الأسماك التي تكونت فيه داخل بطون أمهاتها، فتكتسب الحياة. أما التي لا يصلها المنى فلا تلد أبداً. وإذ تتوالد الأسماك في المياه، فأن بعضها ينمو في المياه دون أن تقتات من حليب جسد الأمهات مثل الحيوانات، ولا مثل أولاد الطيور، تتلقى طعامها من أفواه أمهاتها التي تجتهد فتجمع من بذور الحقل. او مثل التي تربي أولادها بالبق والذباب وهوام الأرض، لكن ساعدها يشتد أولاً برطوبة المياه ثم تتربى ويغدو الكثير منها طعاماً لوالديها، حتى تكبر وتقوى وتقتات بالتي هي أصغر منها. هذا ما يقوله العلماء عن ولادة الأسماك وتربيتها. لذا تتوالد بكثرة لتغطي بكثرتها غذاء والديها، والحفاظ على نوعها. ويبقى بعضها أبداً طعاماً للبعض الأقوى، حيث يأكل هذا ما هو أصغر، في حين أنه يصير طعاماً لما هو أكبر وأقوى منه. ويقال أن أصناف السلور والحنكليس وجميع التي تتوالد في الطين، تتغذى وتتربى بالطين نفسه بمقتضى ترتيب الخالق. فهي الأخرى مثل السمك تأكل بعضها، وتؤكل من قبل البعض الآخر
وبحسب ما يقوله العلماء الذين أخذ الواحد عن الآخر، أن هنالك بعض أجناس السمك أو من حيوانات الماء على كل حال، تحملها أمهاتها في بطنها زمناً محدداً، فهي لا تتكون داخل البيض وتولد، بل في أحشاء البطون وفي أجساد أمهاتها. فتتكون وتكتمل في بطونها من دون بيض، مثل أولاد حيوانات البر التي أعتقد أن لها طرقاً متنوعة لتغذيتها وتربيتها ويقال أيضاً أن أولاد السرطان والسلاحف وجميع ذوات الأصداف، تتكون بطرق شتى، وجميعها تتوالد عن طريق التزاوج كما هي الحال بالنسبة إلى حيوانات البر، ولكن لا توالد كلها على نمط واحد. فهناك ما يضع البيض أولاً مثل الطيور، ثم تتكون الأولاد داخلها، ومثال هذا السرطان وتمساح الماء. وهناك ما تحبل مثل الحيوانات وتلد أولاداً متكاملين وتربيها بطرق مختلفة، بعضها داخل المياه، والبعض الآخر في البر على الأرض خارج المياه. وهكذا توجد اختلافات في طرق حمل وولادة وتربية الحيوانات المائية. ونحن نجهل أضعاف ما نعرفه لأنها لم تذكر أمامنا، وقد يعرف آخرون أكثر منا وبصورة أسهل. وإلى هنا نكون قد تحدثنا بقدر المستطاع عن الحيوانات المائية وولادتها وتربيتها وأنواعها المختلفة
في الأسماك
ولنتحدث عن هيئة وشكل السمك الذي خلقه الله لأجسامها. وعن تكوينها وملائمة شكل قشرتها ورؤوسها وآذانها وزعانفها, أي أجنحتها وأذنابها, وكيف أنها كونت من قبل الخالق الحكيم بشكل ينسجم وعيشها داخل الماء وللسباحة فيه بسهولة, كالطيور في الهواء, وعن تراكم العظام الصغيرة التي كونت لها في لحمها الطري, كما نتحدث أيضا عن الحيوانات البرية التي خلقها الله المبدع, والطيور التي تطير في الهواء والزحافات التي تدب على الأرض, كل بحسب ما أعطي له من الله من سلوك وتصرف, فقد جعل لكل منها أعضاء يسهل بها تحركها. فللحيوانات الأرجل الكبيرة والجلد والشعر, وللطيور أجنحة وريش ورقبة متينة وطويلة, وللزحافات الأرجل الصغيرة والكثيرة. أما للسمك فلا شيء من هذا القبيل, بل جعل لها رأسا دائريا وفما ملموما أصغر وأمتن قليلا من الرأس, وجسما عريضا من الوسط أكثر من رأسها وذنبها أي مؤخرتها الدقيقة والمتينة, على هذه الهيئة خلقها الله لكي تمتد بسهولة عندما تسبح في المياه وتسير فيها وتنتقل من مكان الى آخر مثل الحيوانات التي تسير على الأرض بأرجلها. وقد جعل لها أجنحة في جنبها وذنبا دقيقا يشكل هو الآخر زعنفة أي جناحا في مؤخرتها لكي تساعدها على السباحة في الماء كالأشرعة والسكان بالنسبة إلى السفينة, وتدير جسمها بسرعة حيثما تشاء, سواء على جنبها أم نحو الأمام أم نحو الوراء. فقد زودتها طبيعتها بهذه الأمور لسهولة تحركها في الماء, كما زادت فزودتها بالقشور المساعدة المتراصة في جسمها والملتصقة بشكل ملائم ومتجهة من الأمام إلى الوراء لتنزلق بواسطتها لدى سباحتها. وليس من الوراء إلى الأمام لئلا تعيق جسمها عن السير, وبدلا من الشرايين والأوردة جعل في لحمها طبيعة الثبات والقوة, وكثافة العظام الصغيرة التي تمسك بشدة رخاوة جسمها الرطب. وزاد فجعل في العظام شبه صنارات ماسكة لئلا تنتزع من لحمها بسهولة. كل هذه الأمور تفعلها الطبيعة التي خلقها الله الخالق للأسماك التي تسبح في المياه كما تسبح الطيور في الهواء, لكي تتحرك داخلها بسهولة ومرونة, وتنجو من الخطر عندما تشاء أو تشعر به, حيث أن الله منحها فهما غريزيا لتميز الضار والعدو, فتحذر منه وتنجو بنفسها, ذلك أن الله أولى اهتمامه لخليقته برمتها, فليس هناك في الخليقة من لا يحظى بعناية الله
لنتحدث أيضا عن أمور أخرى زودتها بها الطبيعة التي خلقها الله فيها, منهاأن الله جعل في داخل جميع الحيوانات والطيور والزحافات, عضوا يتقبل الهواء الذي تستنشقه بفمها وتحيا به حيث يدخل إلى هذا العضو المعروف بالرئتين وهو طري كالإسفنج تملأه الثقوب. وبهما أيضا تتمكن وهي تستنشق, بإخراج أصوات من حناجرها. إلا أن الله لم يزود أصناف السمك كلها بهذا العضو. إذ لم يخلق لها رئة في داخلها. فهي لا تستطيع أن تستنشق الهواء كما تستنشقه الحيوانات، وبذلك لا تستطيع أن تخرج صوتاً من أفواهها أو حناجرها. فهي بلا صوت مدى حياتها. وإذا خرجت من الماء لتتنفس الهواء بأفواهها يدخل إلى بلعومها، وللحال تختنق به، كما يختنق الناس والحيوانات بالماء عندما يدخل رئاتهم. فالأسماك لا تستطيع أن تدخل الهواء إلى داخلها، لأنها لا تمتلك رئة، ذلك العضو الداخلي الذي يستقبل الهواء، مثلما أن البشر والحيوانات لا يستطيعون تقبل مياه كثيرة في بطونهم أو أفواههم، لأن آذانهم ليست مفتوحة على أفواههم كالسمك. فالسمك يستنشق الماء بدلاً من الهواء، إذ تفتح أفواهها، وتخرجه بسرعة من آذانها لئلا يدخل إلى بطنها، لأنها تختنق وتهلك إذا دخل الهواء بطنها، مثلما أن الإنسان والحيوانات إذا دخل بطنهم ماء أكثر من حاجتهم لاطفاء عطشهم، فأنهم يهلكون ويفقدون الحياة نهائياً. هكذا أذن جهز الله كل واحد ما يلائم حياته ويصونها
وهناك أنواع من (الحيوانات) التي تعيش في الماء، لها مزايا كلا النوعين. فأنها تمتلك رئة العضو القابل للهواء. فلا يضرها الهواء وهي تستنشقه لدى خروجها من الماء. وتمتلك أيضاً مزايا ومكونات السمك، فلا يلحق بها ضرر عندما تنزل إلى الماء وتتجول في داخله دون أن يلحق به ضرر. هذه الأمور كلها صنعها الله المبدع الحكيم لمختلف أنواع الأسماك التي في المياه. وإذ حرمها استنشاق الهواء بفمها وبطنها، فأنه جعلها، وبمنتهى الحكمة، ألا تتمكن من الحياة وهي تعيش في الماء، دون مساعدة الهواء، شأن البشر والحيوانات والطيور الذين ولئن لا يستطيعون أن يأخذوا الماء بكثرة من أفواههم وفي بطونهم مثل السمك، إلا أنهم لا يستطيعون الحياة دون الماء. هكذا السمك أيضاً ولئن لا تقوى على اقتبال الهواء في داخلها كالبشر، إلا أنها لا تستطيع العيش في الماء دون مساعدة طبيعة الهواء. فقد جعل الله في داخلها نفاخة بلا فم مملوءة هواء بصورة دائمية مثل زق مغلق مملوء هواء، يطوف عليه بسهولة، السباحون الذين يمتطون زقاقاً منفوخة ويطوفون فوق الماء، لذا تكتسب الأسماك قوة بارتفاعها من العمق إلى الأعلى، حيث تدفعها إلى الأعلى نظراً إلى خفتها ولصعوبة بقاء الهواء في الماء. من هنا نعلم، أن الأسماك ولئن لا تستطيع استنشاق الهواء، غير أنها مركبة هي الأخرى من العناصر الأربعة كما أسلفنا. فلا تستطيع الحياة في الماء دون مساعدة الهواء، وهكذا تكون الطبيعة قد زودتها بكل هذه الأمور، إذ لم تحرمها الاشتراك بالحواس الخمس، فهي تنظر وهي داخل الماء وتسمع وتتذوق وتحس، وهي ولئن لا تستنشق الهواء، لكنها تمتلك حاسة شم الرائحة وتتجه حيث توجد الرائحة طلباً للطعام، سواء كانت الرائحة متأتية من داخل الماء أم من خارج الماء، إذ تمتزج قوة الرائحة بالماء وتخضع لحاستها. على كل حال، فهي تمتلك حاسة الشم، بل وتشترك في الحواس الخمس، أن لم يكن بصورة كلية كالحيوانات، فبصورة جزئية. فقد منحها الخالق المبدع منها بقدر ما تحتاج إليه، من أجل حياتها
لذلك يجب أن يتطرق الحديث والبحث إلى قوة ذلك الأمر القائل”لتخرج المياه كل ذي نفس حية”، خشية أن يبقى شيء منها لا يتناوله البحث، حتى تلك التي يدعوها مبتكرو السماء الحيوانية، التي تنمو وتترعرع بين الصخور داخل مياه البحار، منها الإسفنج مرجانة ، وغيرها كثير على شاكلتها. فأن أمثال هذه تتحرك بفعل أمرين ربانيين، الأولذاك الذي قال فيه “لتخرج الأرض عشباً”، والآخرهذا الذي يلزم المياه “لتخرج ذات نفس حية” فالأول صدر إلى طبيعة التراب لتخرج عشباً، والثاني صدر إلى طبيعة الماء لتخرج ذات نفس حية. وحيث أن طبيعة التراب الذي فوق الصخور البحرية كانت ممزوجة مع مياه البحار التي تعلوها، لذا خضعت لكلا الأمرين على حد سواء، فباعتبارها تراباً، تلقت أمراً لتخرج عشباً، وباعتبارها ماء، لتخرج ذات حية حساسة. فقد خضعت وتحركت وسمعت شيئاً ما مختلطاً وعجيباً. وهكذا أعطي التراب طبيعة مبدعة وفاعلة ليلد ويخرج ما ينبته التراب مثل العشب في حين أن جذوره متغلغلة في الصخور داخل الماء كالنباتات. فهو يمتلك إحساساً وحياة منحت له من قبل طبيعة المياه التي أمرت فأخرجت نفساً حية. وهكذا حدث وولد هذا المزيج الذي يجب أن يدعى حيواناً لأنه يمتلك الإحساس، ومن حيث أنه متأصل في الأرض ولا يتحرك من مكانه، استوجب أن يسمى نباتاً. ومن حيث اختلاط وتركيب كلا المسميين، تمت تسميته الحيوان النباتي من قبل اختصاصي التسميات والكتاب اليونان الذين كتبوا عن هذه الأمور وعن كل ما في المياه، سواء كانت سمكاً أم سلوراً أم حنكليساً الذي يولد في الطين، أم صدفيات أم برمائيات أو حيوانات نباتية. أو ما أشبه، هذه كلها خلقها الله المعني بالإنسان لتكون في خدمة وتحت سلطة الجنس البشري، للطعام ومعالجة الأجساد أو لغيرها من الاستعمالات الضرورية
فمنها أنواع صالحة للأكل وهي لذيذة جداً. ومنها ما هو غير صالح للأكل اطلاقاً، نظراً إلى كثرة نتانتها ولحمها الكريه، مذاقاً ورائحة، وتوجد مثل هذه بين الحيوانات البرية أيضاً. ويكون لحم بعضها قاتلاً لآكليه، ومنها ما لا يؤكل، لكن لحمها يفيد للعلاج ولغيره من الاستعمالات الأخرى. ترى من أين هذه المزيجات والعقاقير الناجعة لمعالجة أجسام البشر والحيوانات التي تستخلص من باطن الأرض، أن لم تكن من زحافات المياه ومن الأسماك، ولا سيما من التي في مياه البحر، وأسمح لنفسي أن أقولأن فوائد هذه الحيوانات المائية لا تقتصر على معالجة الأجساد فقط، بل تستغل أيضاً لصناعة العطور التي تنتج كل أنواع العطور الفاخرة ذات الرائحة الممتازة، وقد اكتشف نوع منها يفوق بطيب رائحته الزكية، طيوب العالم كلها. ويقول الاختصاصيون، أن هذا النوع من الأسماك يصعد من بحر الهند. وهناك أنواع أخرى من الحيوانات المائية ذات فوائد متعددة. للمعالجة والعطارة، فهي تدخل في حرفة الصباغة وغيرها من الحرف الأخرى، فمن أين الأصباغ الفاخرة الراقية الأرجوانية اللون التي تصبغ بها ثياب الملوك؟ أن لم يكن من دم حلزونيات البحار الذي يفوق منظر جماله جميع ألوان وجمال زهور الأرض ورياحينها. من أين مهنة تركيب العقاقير والأطعمة اللذيذة التي يحذق بها الناس؟ من أجل إثارة البطن الشرهة ؟ أن لم يكن من لذاذة لحم الأسماك والزحافات المائية الطيب والمتنوع اللذة. ترى لماذا أجهد نفسي بكل هذا الحديث عنها؟ فأن كل أنواع الحيوانات البحرية وجدت صالحة وذات فوائد جمة متعددة الجوانب وضرورية للناس، وبهذا تتأكد شهادة الروح التي قيلت فيها”ورأى الله أن ذلك حسن، فباركها الله وقال لها، أثمري واكثري واملأي المياه في البحار”. ويمكن تفسير كلمة “حسن” بكلمة صالح ومفيد. فإذا كانت كلمة الله تشهد لها بأنها مفيدة، وباركها. فجميعها صالحة ومفيدة وضرورية للناس. فلم يخلق الله شيئاً منها مهما كان صغيراً دون جدوى على الاطلاق. ولئن ظهر لنا جهلاً، أن بعضها ضار ولا فائدة منه، نكتفي بهذا الحديث عن الأسماك وغيرها من الحيوانات المائية
الطيور والماء
أما بالنسبة إلى أمر الله الصادر إلى طبيعة الماء والقائل”لتخرج المياه زحافات ذات نفس حية” مع الأسماك والحيوانات المائية، فيبدو أنه يشمل اخراج جنس آخر أيضاً، إذ اضاف عبارة “وليطر طير فوق الأرض على وجه جلد السماء”، فعلينا أذن أن نتحدث عنها بقدر ما يمد به الروح كلمتنا القاصرة الضعيفة من العون والاستنارة
يقول “لتخرج المياه زحافات ذات نفس حية، وطيوراً تطير فوق الأرض على وجه جلد السماء”. فكيف التعقيب على هذا؟ أن الطيور أيضاً تخرج من الماء. نعم يقول الروح، فإذا كانت تخرج من الماء، فأن المعقب يتساءل لماذا لم تعش هي الأخرى في الماء كالأسماك ؟ بل مثل الحيوانات فوق الأرض ؟ أنها لجسارة حقاً ممن يحاول أن يكون وصياً لله، فمن ترى “أدرك عقل الرب أو من كان له مشيراً”. من أدرك عظمة أعماله أو من فهم خفاء أحكامه؟ “فالسرائر لله وحده، يقول الروح، والمعلنات لنا ولبنينا”. وأضيف فأقول من المعروف أنه يدعو “بنينا” جميع البشر الذين لم يعطوا بعد القوة الكامنة في خليقة الله. بل الأشكال الظاهرة لأجسام جميع الكائنات المحسوسة فقط. فأننا نراها رؤية العين، أما كنهها الحقيقي، فلم تدركه عقولنا بعد. كما لم ندرك أسباب خلقتها، ولا استطعنا معرفة معناها الخفي. يقول الروح المرتل “أرى السماء عمل أصابعك”. أما البشر فلم يروا فيها بعد سوى لون منظرها الأسود والعميق. لذلك ليس من شأننا أن نتساءل ونقوللماذا خلق الله القادر على كل شيء الطيور من الماء كالأسماك دون أن يدعها تعيش في الماء مثلها. وليس من اللائق أن نشك ونبحث عن مثل هذه الأمور، وإلا لوجب أن نشك فنتساءل، لماذا لم يخلقها من الهواء وقد كانت عتيدة أن تتحرك فيه؟ ولو انها خلقت من التراب، لقيل أيضاً، لماذا خلقت من التراب في حين أعطيت أن تطير في الهواء؟. كل هذه الأمور ممكن التشكك فيها. لكن علينا ألا نعترض بسببها على الله القادر على كل شيء دائماً. وهو يعمل كل ما يشاء كما كتب، وحيثما وكيفما شاء ومن أين شاء. وليس هناك من يعارضه ويقول لهماذا تفعل؟. وأن رغب أحد في التشبيه يقولأن السمك والطيور كونت من الماء، أما لتشابه تصرفها، فتلك في الماء وهذه في الهواء، حيث أن الطيور تسبح وتشق الهواء كما يشق السمك الماء ويسبح فيه، وأما لأن كليهما تلد أولادها بوضع البيض وليس كالحيوانات
ولنقل كلمة متزنة وبعيدة عن الانتقاد أن الله خلق الطيور من الماء ليظهر مدى اتساع نطاق حكمته وعظمة اقتداره. والأصح، وهذا هو المبدأ الحقيقي، هو أن هذا من شأن من يخلق وليس من شأننا. فأنه لأمر طبيعي، أن الطيور خلقت وتخلق من المياه بموجب أمر الخالق. ولم يشر إلى هذا ما كتب عن بدء الخليقة فقط، بل هناك حديث آخر، للروح الالهي جاء في الكتاب المقدس، وهوعندما اشتهى الشعب الجاهل أكل اللحم في البرية، أمر الله أن تساق من البحر الأحمر سلوى بأعداد كبيرة لا تحصى بحيث تكفي لاشباع ربوات شعب اسرائيل التي لا تحصى، أياماً كثيرة فمثلما أن هذا دليل قاطع على أن الله جعل طبيعة المياه مولدة للأسماك، كذلك جعلها أن تخرج طيوراً. يقول”لتخرج المياه ذات نفس حية، وطيوراً تطير فوق الأرض” لكي لا يقتصر الجمال على طبيعة الماء فقط، بل يكون لطبيعة الهواء النقي كذلك جمالها الخاص، تكتسبه مما تتجول وتسبح وتحيا وتبتهج فيه. شأن السمك في المياه. هكذا صدر الأمر فكان، يقول”وخلق الله تنانين هائلة وكل نفس تدب”. هذه التي أخرجتها المياه كلا بجنسه، وكل طير يطير كجنسه
يبدو من هذا، أنه منذ البداية تميز كل نوع وحدد جنسه. فأن المياه أخرجت كل نفس تدب كجنسها، وكل طير يطير كجنسه. فقد ميزت هذه العبارة وحددت كل جنس، ليس بالنسبة إلى الحيوانات المائية فحسب، بل إلى الطيور أيضاً. ففي بادىء الأمر فصلت بين جنسين. تلك التي تسبح وتعيش في الماء، وجنس الطيور التي تطير في الهواء. وقد تفرعت من هذين الجنسين أصناف متعددة ومتنوعة من أسماك وغيرها. كما سبق وأوضحنا بقدر المستطاع
أنواع وأصناف الطيور
أما الطيور فنوعان رئيسيان، ذوات الريش التي تعرف بـ “منفصلة الأجنحة”، وذوات الأجنحة الغشائية. وهذه تنقسم إلى أنواع لا تحصى، وذوات الريش الكثيف تنقسم بدورها إلى نوعين رئيسيين، تلك التي تسمى بحسب العرف، طيوراً جارحة وهي شرهة وآكلة اللحوم، وتلك التي تدعى طيوراً أليفة وهي تأكل العشب وتقتات وتعيش على بذور الأرض، وهي بدورها تنقسم إلى أنواع كثيرة لا تحصى، كبيرة وصغيرة، ذات ألوان وأشكال مختلفة، ولا يشبه بعضها البعض. وتنقسم ذوات الأجنحة الغشائية، هي الأخرى إلى أنواع كثيرة ومتباينة لا يشبه بعضها بعضاً أبداً
هكذا أمر ففصلت أجناس الطيور وأنواعها منذ البداية، وهي تتناسل وتعيش منفصلة، كل بحسب جنسه ونوعه حتى النهاية، وكل منها يفعل ما طبع عليه، ويقتات على ما أعطاه الخالق المعني به. يقول”تنتظر منك أن تعطيها طعامها في حينه، فتعطيها فتقتات، وتفتح يدك فتشبع”. فهي لا تستفيد فقط من الطعام المحدد الذي يسد حاجتها بمقتضى ما أعطاها الخالق المعني، بل تتصرف مدى حياتها على الأرض وفي الهواء، بمختلف أنماط الحياة التي قسم لها المبدع والمنظم بما يناسب كلا منها، من تزاوج وحمل وولادة وتربية الأولاد في مناخات ومناطق وبلدان تنسجم مع حياتها، حيث تصنع لها فوق كهوف عالية وشامخة، ورؤوس الصخور التي لا تطال، بيوتاً وأعشاشاً آمنة لتربية وحماية أولادها، أمثال العقاب بأنواعه والغواص بأجناسه وما شابهها. وتشيد غيرها أعشاشاً فوق المباني العالية الشامخة، وتربي أولادها بكل أمان دون خوف. مثل النسور واللقالق والحدأة وغيرها من التي تتصرف نفس التصرف، فتجلب ما يصلح لاطعام أولادها ونموها. فالنسور تصطاد الأرانب والطيور من حجول ويمام وبوم البر، واللقلق يصيد الحيات والضفادع وفئران الحقل. والحدأة تصيد فراخ الطيور وتخطف ما يصادفها من انواع اللحوم. وتلك التي تقصد الأماكن التي تكثر فيها المروج والمياه من أجل التوالد وتربية أولادها، مثل الكركي التي تذهب كل سنة إلى بلدان Alanae والسرامطة، أما السنونو فيأتي من مصر ومن الحبشة إلى بلاد سورية حيث يلد ويربي أولاده داخل بيوت الناس بأمان ودون خوف. وغيرها من الطيور تصنع لها أعشاشا على أفنان أشجار الحقول البسيطة، فتلد وتربي أولادها. دون خوف، وهي حذرة جداً. مثل العصافير التي تلد في شقوق جدران بيوت الناس
ومن الطيور الضعيفة ما تتربى في المغاور والأمكنة الخفية وفي أعالي الاسوار والكهوف الحادة ورؤوس الصخور، وتصنع لها أعشاشاً من الطين تشبه الشقوق وتلد أولادها وتربيها على الأرض، في الجبال والحقول، دون خوف. وغيرها أليفة جداً، تألف الإنسان وتسكن مع الناس وتأكل في بيوتهم، وتلد وتربي أولادها بكل أمان، مثل الوز والدجاج والحمام والدراج وسائر الحيوانات التي تألف الناس.
ومن الطيور، ما أعطاها الله حجماً كبيراً مخيفاً لكنها قليلة الذكاء وصغيرة العقل، حتى انها تضع بيضها على التراب على قارعة الطريق وتتركها فتدوسها أرجل الناس والحيوانات فتحرم الأولاد كما حرمت الفهم، ومثالها الطير الهندي الذي يسميه العبرانيون كنفي شباحيم Struthio أي الرخ أو الطير الجميل. وتلك التي ورد ذكرها في حديث الله مع أيوب على شكل سؤال قائلاً “.. أنك تستطيع أن تقوم أمام النعامة الكبيرة والتي تأتي طائرة.. وتترك بيضها وتحميه في التراب وتنسى أن الرجل تضغطه أو حيوان البر يدوسه. تقسو على أولادها كأنها ليست لها، باطل تعبها بلا أسف لأن الله قد انساها الحكمة ولم يقسم لها فهماً عندما تحوذ نفسها إلى العلاء تضحك على الفرس وعلى راكبه”. كذلك النعامة، الطائر الراجل، فقد حرمها الله من الطيران نظراً إلى كبر جسمها، حيث لم يعطها أجنحة طبيعية تتناسب وجسمها، فهي الأخرى تضع وتربي فراخها على التراب، مشاركة في الحقارة جميع الحيوانات الحقيرة. وهناك أنواع أخرى من الطيور، لا تقوى على الارتفاع في الطيران بعيداً عن الأرض نظراً إلى كبر جسمها، فهي الأخرى تبقى دائماً ذليلة على الأرض. وتقتات على حشرات الأرض وهوامها ودبيبها الحقير، حيث لا قوة لها لتبتعد في طيرانها، مثال ذلك البجع البري الذي يقتصر في طعامه على العقارب وما يشابهها
ويجب ألا يفوتنا الحديث عن ذلك الصنف الفريد والمتميز والمتغير الذي يصنف مع الغرباء السود أي جنس الغرباء، فأنه طائر غير طاهر وشره، ويقال أن بيتها ذكوراً وإناثاً وهي تضع البيض وتفقسها وتربيها مثل بقية الطيور، لكنها لا تتزاوج كالطيور، لكنها لا تتزاوج كالطيور، فلم يشاهدها أحد من الناس تتزاوج كسائر الحيوانات والطيور. ويجب ألا يوضع موضع السخرية ما يقال عنها، من ان الذكر يمس فم الأنثى بشيء من الحب والشهوة فتقبل منه الحبل بهذه الصورة وتضع بيضاً وتخرج فراخاً فتتربى وتحافظ على نوعها. فهذه كلها وما شابهها، القبرة والغربان والبلق وغيرها من أنواع القبرة تتوسط بين الطيور الجارحة والطيور، فهي كالجارحة تأكل لحماً، وكالطيور تأكل عشباً وبذوراً
وهناك أيضاً الطاووس، هذا الطائر المتعجرف بسبب جمال ريشه وما فيه من جمال طبيعي، وهو في الوقت نفسه مجنون وشبق، وبسبب تصرفه هذا، لم يعتبره الكتاب المقدس طاهراً بل نجساً، علماً وكما يقال، أن لحمه لذيذ أكثر من سائر الطيور
وهناك طيور أخرى تعيش دائماً في المروج والأنهار وشواطىء البحيرات والأماكن الرطبة. وتعشش فيها وتلد وتربي فراخها وتغذيها كما تتغذى هي أيضاً من الأسماك والحشرات المائية الصغيرة. وأمثال هذه، القبح، وتلك التي تقتنص السمك والعلجوم ونسور الماء وما يشبهها كثير. وكذلك تلك التي تسمى Anates وديك الماء وغيرها كثير من التي تعيش في الماء وهي أقرب إلى البرمائيات، وهي تقتات بالأسماك والحشرات المائية مدى حياتها. وبسبب عيشها في الماء، فقد جعلت الطبيعة أغشية أرجلها غير مشقوقة وأصابعها غير منفصلة عن بعضها البعض، لكي تشق بها الماء وتسبح.
وهناك ما يعيش في الغابات والمناطق المكتظة بالأشجار لكونها ضعيفة، وفيها تبني أعشاشها وتلد وتربي بنيها. ومنها ما تعيش حياة دنيئة جداً، ولا تأتمن على حياتها بترك الغابات لئلا يصادفها ما يفتك بها، وهي كثيرة الغناء حيث تتكرر مناغاتها بعضها لبعض بألحان متناسقة وألفاظ تشبه ألفاظ الناطقين (الناس)
طبائع وعادات الطيور
أما عن الطير Luscinia الحذر والخائف في آن واحد فنقول أنها لا تهدأ عن العناء حتى وهي تحتضن بيضها وتحمي نفسها وعشها من المعادي. وهناك طيور أخرى تعيش بصورة دائمية على سواحل البحر. وأحياناً تسبح فوق أمواج البحر وكأنها على الأرض
فبمثل هذه الحياة زودتها الطبيعة ؛ وهي تبني أعشاشها على سواحل البحر حذراً وخشية، فتلد وتربي، ويذكر بعضهم طيراً صغيراً وضعيفاً يسميه اليونان نسر الثريا يضع بيضه في الشتاء على رمال سواحل مياه البحر، وحين يتساقط عليها المطر وتهب الرياح، يحتضنها ويحميها فتفقس عن فراخ فيربيها. ويقول الخبراء الذين يكتبون ويتحدثون عنهاأنها في خلال أسبوعين تضع بيضاً وتخرج أولادا وتربيها وتطيرها. وأن عناية الله بخليقته تمنع هبوب الرياح في البحر خلال هذه الأيام، فلا تتلاطم فيه الأمواج أو تثور اللجج سواء فيه أم على سواحله، وذلك من أجل أن تصان فراخ نسر الثريا. وإذ أدرك البحارة سبب ذلك الهدوء، أطلقوا أسم نسر الثريا على تلك الأيام
وهناك طيور أخرى تتواجد دائماً على الجداول وقنوات المياه والأماكن الرطبة، وتحفر في الطين وتتغذى على دود الأرض فقط، وهناك ما تتوالد وتتربى في الأقطار الحارة مثل الحبشة، ويسميها بعضهم ببغاء فهي الأخرى ذات صوت رخيم نظراً إلى يبوسة أجسامها ومتانتها وقلة أكلها، ويروى عنها أنها تتعلم بعض الكلام، وهذا ما ذكره كثير من الخبراء الذين شاهدوها شخصياً. ويوجد منها أنواع كالتي تعرف بالوروار، فأنها تصنع شقوقاً داخل الأرض في جرف التراب، والتلال المطلة على الأنهار حيث تبني أعشاشها وتلد وتربي، وتقتات بالنحل والذباب وما شابهها
وهناك طيور أخرى شرهة ونحيلة لذا فأنها تبني أعشاشها في القبور والأماكن النتنة، فتلد وتربي وتقتات بالمأكل القذرة. وأمثال هذه، الهدهد والشقراق وما شابهها من ذوات الرائحة النتنة
ومن الطيور ما تحب الظلام ولا تبصر إلا في الليل، وأمثال هذه، ما يسمى الرخم وقد اشتق أسمها مما تلفظه، والبوم، الطيطوي وما شابهها كثير. ولكن هناك ما هي أكثر حباً بالليل والظلام، وهي الخفاش ذات الأجنحة غير المشقوقة، كما وليست من ذوات الأجنحة الغشائية، لكنها جلدية الجناح لأن أجنحتها ضمن جلدها، وكل طعامها من البرغش والبق. وهذه ولئن كانت من جنس الطيور، وتطير في الجو كسائر الطيور لكنها تتميز وحدها بمزية خاصة لا شبيه لها لدى أي نوع من الطيور، وهي وجود أربع أرجل لها لا رجلين كالطيور، ولا تتوالد بالبيض بل بنيها في بطنها مثل الحيوانات ذوات الأربع الأرجل وتضعها متكاملة وترضعها حليباً من جسمها وتربيها كبقية الحيوانات. وحيث أن لها أسناناً وأربع أرجل كالحيوانات والزحافات، فمن الحق والعدل أن تسمى فئراناً طائرة. وألا تنسب إلى جنس الطيور
وإلى جانب ما تم الحديث والبحث عنه، من أنواع الأطعمة، وحمل وولادة وتربية وحياة الطيور المتنوعة وفي مختلف المناطق، نقولأن هنالك ما تعيش فرادى إلى أن يحين وقت تزاوجها، فيولد منها زوج واحد. أمثال اليمام المتصفة بالعفة. يقول الخبراء عنها، إذا مات أحدهما وظل الآخر فأنه يصون عفته مدى حياته، ذكراً كان أم أنثى، ويبقى في حالة انتظار شريكه دون أن تكون له شركة أبداً مع أي كان. وهناك ما يسير رفوفاً رفوفاً مثل الحجل والورشان. وغيرها تتجمع بكثرة وتهاجر مثل جيوش الجراد التي لا تحصى. وكذلك تتجمع بمجاميع كبيرة تلك التي تدعى أي السن / الحسون التي تحط بمجاميع على الزيتون والزروع. وكذلك ضرب من القطاة التي تأتي بمجاميع إلى زروع الفلاحين، والعصفور الملون المسمى سمرمر أو عصفور مادي، (ربما لأنه يأتي من مادي). الذي يرسل من قبل الله للقضاء على الجراد عندما يرأف بالبشر الذين يلحقهم التأديب، فتأتي بمجاميع كبيرة وجيش لا يحصى، فتأكل دون شبع وتقضي على الجراد وتبيده تماماً، وتخرج أصواتاً وتثور كالأبطال المقاتلين الذين يفتكون بأعدائهم
وهناك من الطيور ما جعلها الله قصيرة العمر، وجعل غيرها طويلة العمر، فيقال أن العقاب والحمام من ذوات الأعمار الطويلة أكثر من سائر طيور الأرض، وقد تعيش نحو مئة عام في هذا العالم. وتختلف الطيور بعضها عن البعض في الطيران وفي غيره من الأمور التي نعجز عن إدراكها أو إحصائها أو سردها هنا واحداً فواحداً
ولكن لا بد من تسجيل اختلاف واحد هام ورئيسي بين الطيور بحسب ما ميزها الله، وقد كتبه الروح بواسطة موسى واضع الناموس، عندما ميز المأكل الطاهرة من النجسة. وقد جاء هذا التمييز في سياق كلامه التالي”وهذه تكرهونها من الطيور، لا تؤكل، أنها مكروهةالنسر والأنوق والنسر قناص السمك، والحدأة والباشق على أجناسه وما شاكلها. والبوم والطيطوي والرخم والشقراق وما شاكلها، واللقلق والبجع والهدهد والباشق والباز وكل أجناسها وما شاكلها. والعقعق والوروار وكل أجناسها وما شاكلها، والطاووس والكركي وفورفوريون أي الوروار وكل أجناسها، السنونو والزرزور وما شاكلها، والهدهد بأنواعه والخفاش، وكل دبيب الطير الماشي على أربع فهو مكروه لكم. وهذا تأكلونه من جميع دبيب الطير الماشي على الأرض وهذا منه تأكلونالجندب على أجناسه، والحرجل على أجناسه وما شاكلها مما لها أرجل كبيرة تقفز بها غير الأربع التي تسير عليها، وما إلى ذلك، كل دبيب وجنس الطير له أربع أرجل مكروه لكم”
هذا هو التمييز الكبير والاختلاف الرئيسي الذي أشار إليه الروح الملهم، واضع الناموسبين أصناف الطيور التي خلقها الله على الأرض لتطير في الهواء.
وندرج هنا بالتفصيل وعلى قدر المستطاع، الطيور الطاهرة، ولئن لم يوردها الكتاب، وهيالحمام واليمام والورشان والقطاة والحجل والسلوى والسمانة والوز والبط المائي وديوك الماء وجميع الطيور المائية المشابهة لهذه، وديوك السلام والدراج واللقلق وجميع أصناف العصافير، وكل الطيور الصغيرة التي تأكل العشب وتلتقط البذور. لقد اخترنا هذه النماذج ووضعناها هنا ولئن لم يذكرها الكتاب الالهي، فهي تتميز وتختلف، كما قيل، عن الطيور المعروفة بالجارحة التي تأكل اللحوم، الشرهة والخاطفة والقاسية على الطيور مثل المحاربين والقتلة. فالتي يسميها الكتاب طيوراً هي تلك التي تأكل العشب والبذور، وللطيور صفة مميزة أخرى تكمن في هيئة جسمها. فأكلة اللحوم الشرهة، لها مناقير معقوفة وحادة وقاطعة مثل السكين لكيما تقضة على الفريسة بسهولة. ولها مخالب حادة وطويلة لتخترق وتبقر بطون فرائسها. كما تختلف باقي الطيور عن هذه بمنظرها، وبطبيعتها وشكل أجسامها
الذكاء عند الطيور
أما عن كيفية تصرف الطيور فنقوللقد منح الله الخالق قسماً منها بعض الفهم. فهناك أصناف مختارة وذكية من الجدير أن تكون لها مكانة لدى الذين يميزون الصالح من الطالح. يقول الكتاب عن الطيور “ ان اللقلق في السماء يعرف ميعاده، واليمام والكوكي والسنونو طيورو البر، تعرف وقت دخولها “، ووقت الدخول عند المتاب هو وقت هجرها الى المناطق الحارة لدى حلول الشتاء، وكذلك وقت عودتها الى مناطقها الأصلية. وهذا أمر معروف زوجدير بالذكر. فان معرفتها تشبه المعرفة التي يكتسبها الناس بالفكر الفاحص
الحجل
ويجدر الحديث أيضاً عن الحجول التي يقال عن ذكورها، أنه إذا رأى الاناث وقد وضعت فراخاً كثيرة وهي تلاطفها وتفخر بها وقد أحاطت بها، يمتلىء غيرة وحسداً، فيذهب سراً إلى عش الاناث ويسرق من بيضها، ويجمع في عشه بيضاً كثيراً ويجلس عليها ويحتضنها حتى تفقس. فلما تخرج من البيض وتكبر ويشتد ساعدها، تترك العش فارغاً لدى سماعها صوت أمهاتها، ويقصد كل منها أمه. وربما كان هذا مثالاً ومؤشراً للناس إلى أن كل عمل اثم يؤول إلى العبث. يقول الكتاب المقدس بهذا الخصوص “حجلة تحتضن ما لم تبيض محصل الغنى بغير حق”. ويقال عن الأنثى أن حيلتها لا تقل عن حيلة البشر. فعندما تكون فراخها ما تزال عاجزة عن الطيران، وتود أن تأخذها إلى مكان ما لاطعامها، فإذا صادفت إنساناً ما في طريقها وهي تسير معها، فأنها تصيح بهدوء وتسير بشكل يوحي إليها أن تهرب وتختفي. أما هي فتتغافل بخداع وتسير وكأنها مريضة وعرجاء، باسطة أجنحتها على الأرض وتبدو وكأنها ستسقط هنا أو هناك من جراء ضعفها، بقصد أن يركز عليها ذاك الذي صادفها ويغض النظر عن فراخها حتى تتفرق هنا وهناك وتختفي في مواضع لا ترى ولا تكتشف
اللقلق
أما بخصوص ما دونه علماء الطبيعة عن اللقالق، فأنه جدير بالثناء والاعجاب سواء من جهة فهمها أم عقلها أم عدالتها، فأنها تبكت وتدين الذين يحتقرون آباءهم وأمهاتهم. فيقول هؤلاء الذين كتبوابعد أن يطعمها آباءهم ويربوها بكل رعاية حتى يكتمل نموها وتصبح متساوية لآبائها في الجسم وترافقها إلى البرية بعد التدريب على الطيران بضع مرات وليومين أو ثلاثة أحياناً. وتجلسها كما اعتادت هي أن تجلس، تخرج (الأبناء) إلى البرية وتأتي بالطعام مكافأة للتي ولدتها وربتها، فتطعمها بكل وقار واحترام، كما سبق واقتبلت منها طعامها. ويقال أيضاً أنها (الأبناء) تسند (الآباء) في شيخوختها بأجنحتها لدى طيرانها معها في الجو، وتدفئها بجناحيها وهي راقدة في أعشاشها. لذلك فقد لقبها علماء الطبيعة بالطيور العادلة، ووصفوا كل مكافأة صالحة يقدمها الأبناء العقلاء للآباء بـ “اللقلقية”. ويروى عن غيرتها الحميدة وحكمها العادل الذي لا يحابى، والذي يثير اعجاب وثناء الجميع، أنها إذا صادف وأن بنى زوج من البواشق وآخر من اللقلق أعشاشها بالقرب من بعضها، ويضع كل منها بيضة في عشه، وصادف أيضاً أن خرجت جميعها إلى البرية وابتعدت، وجاء شخص ما وأخذ بيضة من بيض الباشق ووضعها بين بيض اللقلق، فحينما تخرج الفراخ ويأخذ ريشها بالنمو، وتميز سواد الفرخ الغريب عن بياض أفراخ اللقلق، ترى ماذا يحدث ؟ وماذا يفعل الذكر الجدير بالثناء والإعجاب ؟ إنه يجمع لقالق كثيرة ويريها ما حدث في عشه من اختلاف الطبيعة، الأمر الذي يشير إلى خيانة زوجته، فيصدر كل من أولئك حكماً عادلاً وعجيباً يشبه ما يصدر البشر من الأحكام، فأنها تغار بشدة وتهجم على تلك الأنثى وكأنها قد زنت متعدية حدود الطبيعة، فتقطع لحمها وتمزقه وتفتك أيضاً بذلك الوليد الغريب الذي وجد في عشها، فبهذا المقدار تظهر استقامة وعدالة اللقلق، أكثر من الحكام البشر المرائين
هجرة الطيور
وماذا يقول المرء عن تنظيم الطيور وحذرها، وهو يراها تضاهي البشر المفكرين. فهي تبني أعشاشاً وتربي أولاداً في أماكن كثيرة وبعيدة الواحد عن الآخر في المدن والقرى وفي الأشجار والجبال والأنهار. وعندما يحين وقت هجرتها إلى مناطق حارة في الجنوب لتشتي هناك، لا يذهب كل بمفرده أو بمجاميع صغيرة، بل أن جميع التي توجد في قطر واحد الذي فيه تضع بيضها وتربي أولادها وتمضي صيفها، تهاجر سوية. حيث تقضي يوماً في مكان ما وأحياناً أسبوعاً كاملاً إذا اقتضى الأمر لتتجمع على شاطىء نهر ما أو مرج أو أي مكان ملائم لتجمعها، حتى يجتمع الكل فتهاجر الضعيفة مع القوية، والفتية مع البالغة، حيث لا يفقد أو يتأذى أي منها. فهي تنتظر بعضها البعض ليلا حيث تبيت، وتتواعد وتحط بكل حذر على الأشجار، وعندما ترحل فسوية مثل أرتال الجيش، وسوية تحط أيضاً وعندما تبغي الرحيل فأنها تصوت بقرع مناقيرها شبه بوق الجيش. وهكذا ترحل سوية بكل هدوء وحذر، وتغير أمكنة نزولها وتحط فيها في الوقت المقرر. وفي فجر كل يوم تقتات بما تجده في هذه الأمكنة، ثم تواصل رحيلها بحذر ونظام حتى تصل إلى المكان الذي تشتي فيه. فالتي تمضي صيفها وتتوالد في سورية وما بين النهرين، تشتي في منطقة البحر الميت المتفرغ من نهر الأردن. نظراً إلى حرارة المنطقة وسهولة تأمين الطعام من الضفادع المتواجدة هناك بوفرة، ومما يروى عنها، أن القبرات تجتمع سوية لدى رحيلها وتشيعها بالحب ومحبة الغرباء.
القبرة
وإذا كنا قد تحدثنا بما فيه الكفاية وبحسب المستطاع والوقت، عن نظام وحذر وفهم وذكاء هذا الصنف من اللقلق، يجدر بنا ألا نهمل الحديث عن صنف القبرة، فنذكر ما تمتلك من المزايا الحسنة كحبها لأولادها واهتمامها بهم. يروى عنها، أن لها اهتماماً بتربية أولادها وحراستها أكثر من سائر الطيور، ليس فقط في صغرها عندما تكون في الأعشاش بعد، بل وحتى لدى مغادرتها إياها وطيرانها، فانها ترافقها لكي تطعمها وتقيها شر الأعادي، وتظل تساعدها فترة طويلة حتى تتأكد من انها لم تعد بحاجة إلى مساعدة والديها ومربياتها
الكركي
أما بالنسبة إلى الاهتمام والمساعدة المتبادلة، فنقدم الكركي مثالاً لذلك، لا سيما خلال فترة نومها أو هجرتها إلى الغرب أو عودتها. وهنا لا يسع الإنسان إلا أن يمجد الخالق المبدع الذي أودع فيها مثل هذا الذكاء والفهم لكي تساعد من ذاتها بعضها البعض دون أن يحثها أحد على ذلك. فعندما تنام في الليل تختار الأمكنة الآمنة تكون في حرز من الأعداء، وفي الغالب تبيت في الجزر إذا اقتربت من الأنهار لكي تشعر بدنو العدو وهو يهيج الماء. وإذا باتت في السهل وفي الأماكن المكشوفة، فأنها تبيت مجتمعة لكي تتسنى لها رؤية العدو عن بعد. فينام بعضها دون خوف لأن البعض الآخر تجول حولها وتحرسها وتؤمن لرفاقها نوماً مطمئناً تنتهي فترة نوبة الحراس وتريد أن تنام تصرخ بصوت عنيف وتوقظ غيرها وتعطيها مكانها ونوبتها، أما هي فتنام مع البقية. وعندما تريد أن تترك المكان وتطير لفترة طويلة، سواء لدى هجرتها أم عودتها وحيث أنها بصعوبة وجهد تشق الهواء أثناء طيرانها، لذلك لا تطير كل على حده بصورة مشوشة وعدم انتظام. بل زرافات زرافات مجتمعة مع بعضها وبصورة منظمة وغير مشوشة، إذ يطير الواحد تلو الآخر بصف مستقيم كالحبل الممدود، ويترأس الصف أحد الأقوياء ويشق الهواء الكثيف فيتبعه الباقون بسهولة دون عناء كثير، وأحياناً يقود ويساعد صفين مختلطين، وإذا ما تعب بسبب شقه للهواء، يترك المكان ويسلمه إلى الذي يليه ويصطف آخر لكي يرتاح من عنائه. وهكذا يظهر جلياً، أن لصنف الكراكي ذكاء وفهماً أعطيا له غريزياً من قبل الخالق المبدع.
الوز
ومن الطيور ما أخذت أحساساً كبيراً من عند الله الخالق لدى خلقتها. أو أن الطبيعة زودتها بهذا أما بسبب خوفها من العدو أو زيادة في الحذر
الوز والعقاب
يروى عن الوز، أن له شعوراً في الليل أكثر من جميع الطيور الموجودة عندنا، فهو سريع اليقظة لدى نومه ويشعر بأي شيء يتحرك، وينطبق هذا أيضاً على صنف البوم الكريه عندنا، وهناك أصناف أعطتها الطبيعة سابق إحساس كصنف العقاب الشره. فإذا لم تكن الطبيعة قد زودتها بمثل هذا الإحساس، فما الذي ينبئها أذن وهي في مرابعها في الكهوف بمكان الجثث الملقاة على بعد، في نفس اللحظة التي تلقة فيها تلك الجثث؟ إذ أنها تصل إلى هناك فوراً. ثم من يعلمها مسبقاً بأن الجيوش تتهيأ للقتال فتسرع نحوها قبل بضعة أيام مرات عديدة، حيث تطير في الجو فوق الجيوش، وهي بذلك تنبىء ذوي الألباب بما سيحدث
اليوم الرابع
في الحيوانات والزحافات والطيور
يعقوب الرهاوي