الايام الستّة : اليوم الثاني ، في الارض وفي البحار والجبال والزروع والاشجار التي أمر الله أن تنبت فيها مار يعقوب الرهاوي

Posted by on Sep 26, 2018 in Articles, Library | Comments Off on الايام الستّة : اليوم الثاني ، في الارض وفي البحار والجبال والزروع والاشجار التي أمر الله أن تنبت فيها مار يعقوب الرهاوي

في الأرض الظاهرة بفضل انحسارها عن المياه
وظهورها يابسة بأمر الله لسكنى البشر وفي البحار والخلجان والجزر والبحيرات وما فيها من أنهار. وفي الجبال الشهيرة والعظيمة وفي الزروع والعروق والأشجار
التي أمر الله أن تنبت فيها

أن الأبنية التي يقيمها الناس في هذا العالم، أما أن تكون دور سكن خاصة أو مدناً عامة أو هياكل وغيرها من أمثال هذه المشاريع المفيدة، والمساكن الصالحة للناس. فإذا كان البناء دور سكن للناس، فأنهم سيولون اهتمامهم قبل كل شيء وفور إنجاز البناء والتسقيف : بتنظيم وترتيب وتزيين كل ما هو ضروري من الداخل. أي أرضيته، وتسييع جدرانه وتزيين سقفه، وإنجاز وضبط كل المستلزمات الأخرى التي يحتاجها الساكن. أما إذا كان المطلوب بلدة، فأن البنائين يولون اهتمامهم، فور إنجاز بناء السور والدور السكنية، بتسقيف الشوارع والأماكن العالية ومجاري المياه، وإنجاز كل ما هو ضروري ومفيد ولائق بسكنى الأهالي. ويخبرنا الكتاب المقدس، بأسلوب بشري، وبكلمات موجزة ومقتضبة عن عظمة عمل الله الخالق، ويقول: “في البدء خلق الله السماء والأرض” إذ جاء بها من العدم إلى الوجود، معلناً أن الله الحكيم قد أتم بناء هذا العالم وجهزه بيتاً كبيراً ومدهشاً لسكنى الإنسان الذي كان مزمعاً أن يخلقه فيما بعد، على صورته وشبهه. أنه لعظيم في جماله، وعجيب بترتيبه وتناسق تكوينه. وبعد أن قال الله كلمته في الأرض التي لم تكن في البدء منظورة أو مكونة، قال كلمته أيضاً في النور: “ليكن نور” وكان نور، وجعل الخالق جلداً في وسط هذا الفضاء، وظلل أفلاكه بالمياه كما قال الروح المرتل، وفصل بين مياه ومياه، وجعله مكاناً مضيئاً ومسكناً متقناً ومناسباً شبه صرح ملكي؛ لسكنى الإنسان الملك ولجميع الحيوانات التي خلقت لخدمته. وبهذا كشف عن عظيم اقتدار وحكمة الله المبدع.

دور كلمة الله في الخلق

وهنا أيضاً يقدم لنا الكتاب: الله الخالق، كموجد ومنظم ومؤسس لكل ما سبق وخلقه، حيث يخبرنا، بأن الله الخالق عندما أراد إزالة ما كان يستر الأرض عن الأنظار، وأن تجتمع المياه تحت السماء في مكان واحد، وتظهر اليابسة : أوعز إلى كلمته الخالق بصيغة الأمر، كما ذكر سابقاً، نظراً إلى المساواة في الارادة والعمل والكمال وذاتية الازلية والقوة والسلطان: فكان كذلك. وقد ألقى الكتاب المقدس، ولا سيما الروح ملهمه، الأضواء على الكلمة الآمرة والفاعلة والخالقة، التي نطق بها الله الخالق والقادر على كل شيء، ونفذت دون تأخر. فقد كتب وسلم إلينا من أجل أن ندرك نحن وجميع ذوي العقل الراجح والباحث الذي يستنير بالروح، ثم تابع كلامه الذي أعلن فيه عن عظمة وقوة الكلمة الخالق، يمين الأب وقوته، وقال: “لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد ولتظهر اليابسة، ودعا الله اليابسة أرضاً ومجتمع المياه دعاه بحاراً، ورأى الله ذلك أنه حسن”

وهكذا وبهذه الكلمات الموجزة والمقتضبة يخبرنا الكتاب المقدس عن المساواة في الإرادة والعمل لدى الله الأب العقل العظيم الخلاق، وكلمته وابنه الوحيد الخالق، فأن الأب أمر أن يكون، والابن، من حيث قوته ومساواته للأب بالسلطان، نفذ الأمر. وأن أمر الأب هذا الصادر إلى الابن المساوي له بالطبع، لا يشير إلى كونه عبداً أو خادماً، بل إلى كونه ابناً مساوياً في الكرامة والارادة. ومثله مثل العقل الذي يصدر أمره إلى كلمته. ولا يمكن للعقل البشري الاعتيادي، أن يدرك هذا إلا على هذا الشكل، فيقول: أن لكليهما ارادة واحدة. أما إذا قال أحد أن ارادة العقل الوالد للكلمة هي غير ارادة الكلمة، فمع أن ذلك كاذب ومرفوض، فهو يبرهن على جنون العقل الذي يقول به. أذن فأمر الأب للابن “لكن”. لا يعني شيئاً سوى مساواتهما في الكرامة والإرادة

يقول: “لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد ولتظهر اليابسة”. أن هذا الكلام الموجز يولد كثيراً من الشكوك، ويحتاج إلى مزيد من البحث. فلا بد من أن نتساءل مستقصين فحواها: إلى أي مكان أمر الله أن تجتمع المياه؟ فبمقتضى هذا الأمر لم تكن المياه على وجه الأرض، حتى إذا انحسرت منها المياه وجفت، ظهرت اليابسة خالية من الرطوبة. أن الأرض كانت محاطة بعمق غمر المياه، كما يحاط الجنين بالمشيمة داخل الرحم، حيث كانت تحفظ ذاتها بصلابتها وكثافتها وبشكلها الكروي وثقل طبيعتها. فلم يكن فيها مرتفعات أو أعماق، ولا جبال أو سهول مختلفة عنها، ولا كهوف أو وديان. ولم تكن مائلة إلى هذه الجهة أو تلك، ما خلا ميلها العام نحو جميع الجهات على حد سواء. وهو الناشىء عن كرويتها واستدارتها. لكنها كانت على مستوى واحد مع المياه التي تغمر سطحها. فلم يكن فيها شق في الداخل ولا بروز في الخارج. فعليك أن تعلم هذا أيها السامع محب الحق والباحث الفطن

الخلقة في سفر التكوين

أن الكتاب بقوله: “غير منظورة” قد حتم بأنها لم تكن مكونة. والحق يقال أن سطحها كان مائلاً إلى كل الجهات لأنها كانت كروية ومستديرة، وإذ لم تكن جاهزة تماماً، لم تكن بعد صالحة لسكنى الناس. وذلك، أولا: لأنه لم يكن بالامكان إزاحة المياه عن سطحها ما دامت مستديرة بهذا الشكل. ثانياً : لم تكن لتصلح اطلاقاً لسكنى البشر والحيوانات، وهي بهذه الصورة غير منظورة ومغمورة بالمياه، كما لم تكن لتصلح حتى لنمو الأعشاب والأشجار ما لم تصبح مسطحة بعد انحسار المياه عنها مثل سهول البر. وكما نعلم أن الأرض التي تقع في أسفل الجبل تكون صالحة للزراعة لأنها تميل ميلاً مناسباً نحو إحدى الجهات، وتستقبل من سفوحها سيولاً رطبة ومياها ونسائم منعشة

هكذا كانت في المياه سابقاً، إذ لم تكن منظورة ولا جاهزة. أما كونها غير منظورة فلأنها كانت محجوبة بغمر المياه، وأما كونها غير جاهزة فلأنها مستديرة وكروية. لذلك قال الرب الخالق: “لتجتمع المياه تحت السماء من وجه الأرض، ولتظهر اليابسة”، فتكون منظورة وجاهزة وصالحة لاستعمال وسكنى البشر والحيوانات عليها، ولا نبات وتوليد الزروع والجذور، ولتغذية وتربية النباتات والأشجار المثمرة. هذا ما سلمه إلينا الكتاب عن الله الخالق، وللفور غير الكلمة الخالق، بإيعاز من القادر على كل شيء. شكل الكرة المستديرة والسطحي، وجعل الأرض تتحرر من المياه ليس بتحديد استدارتها، فتخرج خارج حدود الكروية، فتغير الجبال والمرتفعات العالية وحسب، أنما داخل الحدود النائية أيضاً والشقوق الباطنية والأغور العميقة والشاسعة لاستيعاب المياه التي أمرت أن تجتمع على مساحة الأرض، بحيث أن القسم الذي برز عالياً من الأرض صار منظوراً، والقسم الذي غار نحو العمق وغمر، أعد مكاناً، كما أمر للمياه التي كانت عتيدة أن تتحول إلى القسم المرتفع. وبموجب الأمر الصادر إليها، فأن المياه انحسرت وتجمعت على وجه الأرض المرتفعة واستقرت في الأمكنة المنخفضة. أما الأرض التي برزت فأنها تخلصت بعد فترة وجيزة من الرطوبة، وظهرت يابسة بموجب الأمر الالهي الصادر إليها، فأضحت في الوقت ذاته جاهزة، حيث ظهرت فيها جبال عالية، وكهوف وصخور ناتئة وأغوار ووديان وسهول وفجاج وأراض خصبة ما بين الجبال، ورواب وهضابات مرتفعة نحو الأعلى، وأمكنة صالحة ومناسبة لسكنى البشر
هذا كل ما وضحته بإيجاز الكلمة في حديثها عن الأرض، وإذ كانت غير منظورة وغير جاهزة، وكيف أنها بأمر من الله الخالق أضحت بغتة منظورة وجاهزة
يستوجب هذا برهاناً مقنعاً للسامعين، لذا سنخصص له جزءاً من الحديث على قدر الامكان، ليحثوا الخطى نحو ادراك هذه الأمور عن قناعة. فليأخذ مثلاً أي إنسان عاقل ومفكر وفطن، قطعة من العجين بمقدار ما تسع كلتا يديه، وليعجنه ويصنع منه كرة مستديرة، ثم يضغط بيده على الكرة العجينة اللينة ليجعل لها شكلاً آخر مغايراً لكرويتها الحقيقية. حيث تصبح طويلة نوعاً ما ومسطحة قليلاً عن دائريتها، ويكون فيها بأصابعه أماكن غائرة نحو الداخل، وأخرى بارزة قليلاً ومرتفعة نحو الأعلى. على هذا النمط يجب أن يفهم المرء تغيير شكل الأرض. حين ظهرت فيها، بأشارة قوة الخالق، مرتفعات وأعماق، على أثر صدور الأمر بانحسار المياه عنها، فبرزت متكاملة.

التجمعات المائية

يقول : “لتجتمع المياه تحت السماء من وجه الأرض إلى مكان واحد”. فبقوله “مكان واحد” أراد أن تجتمع المياه كلها في جانب الأرض المنخفض، ويرتفع الجانب الآخر ليكون يابسة، ولم يقصد أن تكون بحراً واحداً أو متجمعاً واحداً، كما هو معروف، بل قصد أن تأخذ المياه جانباً واحداً من الأرض كما قلت، وتترك الجانب الآخر لليابسة … ويقول: “واجتمعت المياه تحت السماء في منجمعاتها”
فأنه قال متجمعات(بصيغة الجمع لا المفرد)، ثم أضاف قائلاً: “ودعا متجمعات المياه بحاراً ” وهذا ما يبرهن على أن متجمع المياه لم يكن واحداً ؛ ولم يحصر الله المياه في بحر واحد. بل في بحار وبحيرات ومتجمعات كثيرة، وفي أنهار مختلفة كبيرة وصغيرة، ويشهد على صحة هذه الأمور، كل من الكتاب المقدس، والعمل المنظور، وأن وجود البحار المتعددة والمختلفة في المعمورة، أمر واضح ومعروف.
وفي مقدمتها البحر المتوسط الكبير والغزير بالمياه، وبحسب تعبير الكتاب، هذا البحر الشاسع الذي يتدفق من جهة المسكونة الغربية من مجمع المياه العام ومصدر كل المياه، ذاك الذي يسميه اليونانيون أوقيانوس (المحيط). وكان سابقاً يبدأ من منفذ ضيق من ناحية جزيرة كادير، ومن أعمدة هرقل نتوءان بارزان عند مدخل جبل طارق الواقعة إزاء أراضي اسبانيا وفي منتصف المسكونة وباتجاه الشرق، يعرض وينتشر ويتوسع ويسيطر على مساحة من الأرض نحو خمسة آلاف ميل طولاً أو يزيد، وأربعمائة ميل عرضاً وتنتهي جهته الشرقية عند جبل آمنون الذي أقيمت إلى جانبه مدينة أنطاكية.
وعند بلاد قيلقيا وسورية وفينيقية وفلسطين. هذا أول بحر المسكونة البشرية

وفي بحر أدريلي هذا خلجان، منها الذي يسمى Sikelicos, Turrenicos, Aigupticos, Kreticos, Atlanticos وخليج قيليقيا وكثير غيرها. أما الخلجان الموجودة في جهته الشمالية، فمنها الذي يمتد بين ايطاليا ومقدونية وذلك المسمى Aigaios الذي يمتد بين الأدا وتراقية وداخل تراقي و Ellespontos الذي يتفرع من هذا ويمتد بين تراقية وبيتونية ويختلط ببحر Pontos أو كما يسميه بعضهم. وفي الجهة الجنوبية يوجد خليج Sortismajor الكبيرة Sotisminor الصغيرة وفيه خمس جزر كبيرة وهي صيقليا وقريطي وقبرص. والجزر Peloponneros, Kerosonesos وكثير غيرها.أما الجزر الصغيرة فهي: رودوس Rodes, Kios, Samos, Euboia, Ithake وكثير غيرها، لا نذكر جميعها تجنباً للاكثار من الأسماء

والبحر الثاني الذي تركه المبدع الحكيم الضابط الكل، في هذه المسكونة، هو المعروف بـ Euxenos Pontos الذي سبق ذكره عندما قلنا أن خليج الدردنيل الذي في البحر المتوسط يختلط به. فهو يمتد من الغرب إلى الشرق طولاً. ويبتدىء من بلاد Musia بالقرب من تراقية، ويمتد طولاً حتى بلاد Kolkida بالقرب من جبال قفقاسية ويبلغ طوله نحو ألف وثمانمائة ميل، وعرضه قرابة ثلاثمائة ميل. وتقع إلى شماله بحيرة لا تصغره كثيراً، تدعى Maiotis التي تصب فيها روافد كثيرة من أنهار كبيرة في Sarmatia وفي البلدان الغربية Hunni Alani ، ولكثرة هذه المياه، فأنها تصب في بحر Pintos ، وهو بدوره يصبها في البحر المتوسط نظراً إلى صغر حجمه إذ يقع في جنوبه

أما البحر الثالث الذي وضعه الخالق المبدع في المسكونة، فهو والمعروف Mare et Hyrcanorum et Caspiorum أو ܩܐܣܝܦܐ ، الذي لا تختلط به أي من بحيرات المسكونة، والذي يمتد هو الآخر من الغرب إلى الشرق طولاً. من الحدود الشرقية لأرمينيا والبانيا وحتى الحدود الغربية لبلدان ܣܳܓܕܝܐ ويبلغ طول امتداده قرابة الألف وثمانمائة ميل. أما عرضه ووسطه فقرابة ستمائة ميل. يصب فيه من الجهة الشرقية النهران الكبيران Oxos Iaxartes اللذان تنصب فيهما جميع روافد المياه الآتية من جبال ܫܝܪܝܐ ܘܐܣܳܓܕܝܐ . ومن الشمال النهر الكبير المسمى Ra يصب فيه مجرى مياه الأنهار ومجاري مياه الجبال الشمالية الكبيرة، في بلاد Segthe, Turci, Sarmatari، وكثير غيرها من الأنهار التي تنبع فيها بصورة مستمرة فتولد رطوبة كثيفة، وتأتي من جهة الأرض الشمالية. ونظراً إلى كثرة المياه التي تصب فيه وتريد في ملئه، ينعدم فيه وجود الجزر. وبالكاد ظهرت فيه جزيرتان صغيرتان منذ بدء العالم وحتى الآن، وهما صالحتين للسكنى

أما البحر الرابع، أكبر جميع بحار الأرض المأهولة، فهو المسمى بحر Erutra أي الأحمر. الذي يمتد في جهته الشمالية الخيج المدعو العربي الذي اجتازه بنو اسرائيل لدى خروجهم من أرض مصر، والخليج أي البحر المسمى بحر العيلاميين الذي يتفرع من العربي وينحدر من غرب البحر الأحمر نحو الشمال، من المكان الضيق عند بلاد الحبشة حتى برية فاران حيث اجتاز بنو اسرائيل. ويبلغ طوله نحو ألف وأربعمائة ميل، وعرضه من الجنوب نحو أربعمائة ميل، ومن الشمال قرابة مئتي ميل وربما أقل. أما خليج العيلاميين أي الفرس، فيبلغ طوله نحو ألف وأربعمائة ميل اعتباراً من البحر الأحمر نحو الجنوب حتى بلاد بابل حيث يقع النهران الكبيران دجلة والفرات أما عرضه من الجنوب إلى الشمال فقرابة سبعمائة ميل

أما البحر الأحمر الكبير الذي لا يقاس، فهو ممتد من خط طول الأرض المسكونة مئة وثمانين من الغرب إلى الشرق، وخط مئة واثنين من بلاد الحبشة حتى بلاد الصين في أقصى شرق المسكونة، ويبلغ طوله من الغرب إلى الشرق نحو ثمانية آلاف ميل، وعرضه من الجنوب إلى الشمال قرابة ألفين وسبعمائة ميل في بعض الأمكنة. ويوجد في هذا البحر خلجان كثيرة وكبيرة، وجزر لا تحصى، وفيه جزيرة كبيرة قبالة الهند تدعى Taprobane تبلغ دائرتها نحو أربعة آلاف ميل. وجزيرة جافة بالقرب من الصين تدعى Kersonesos اي الجزيرة الذهبية
ويمتد بحر الأحمر هذا إلى نحو نصف المسكونة، فهو يمتد عرضاً نحو الجنوب من المكان الذي يتساوى فيه الليل والنهار، نحو تسعمائة ميل. أما البلاد الواقعة جنوب سواحله الجنوبية فتعرف بـ “المجهولة” من قبل الناس وهي غير صالحة للسكنى على الاطلاق

ونظراً إلى كبر هذه الخلجان البحرية وعددها ونوعيتها، أرى من الضروري أن نتحدث عن خصائص ومذاق مياهها التي كونتها هي الأخرى حكمة المبدع بأحسن اتقان، ففي الوقت الذي جعل الله جميع المياه التي أعطاها لاستعمال البشر، عذبة ولذيذة باستثناء مياه البحار. فهي غير صالحة للشرب إذ جعلها الله المبدع مالحة، وهو الحكيم والقادر على كل شيء، فأن الله كون أديم الأرض كله، وذلك بحسر المياه وجعلها يابسة فصارت عذبة ولذيذة باستثناء بعض المواضع المعروفة، إذ جعلها مالحة، لكي تدر على الناس بالملح للتمليح والنكهة

أما بالنسبة إلى أرض قيعان البحار، وتلك التي تقع على سواحلها من الخارج، فأنه لم يجعل فيها تربة حلوة وقابلة للتبلل بالماء، بل رملاً منثوراً غير قابل للتماسك، أنه مالح ومتين وصلب ولا يتبلل البتة برطوبة الماء. ولهذا فأن الله جعل المياه المتجمعة في البحار مالحة وغير صالحة للشرب. وهي أبداً صافية نقية لا تعكر أو تتغير على الإطلاق، لدى تحركها أو هيجان أمواجها، حتى حين يأمر الله البحار أن تهيج وينقلب سافلها عاليها. يقول المرتل “وترتعد الجبال بقوته”. وكما يبدو فأن الله الصانع جعل مياه البحار مالحة، ليس فقط لأجل تقوية الأرض بملوحتها، بل أيضاً لتحول دون أن تأسن وتصير ذات رائحة كريهة، باعتبارها متجمعة وواقفة في مكان واحد ولا… التي في الأنهار عندما تستعر بأشعة الشمس المحرقة، فأن الله أمر أن تكون صافية نقية وشفافة لتسهل الرؤية أمام السباحين الباحثين في أعماق المياه ليميزوا ما يضرهم فيستعملوا ما يقيهم. لكن الله لم يجعل هذه الملوحة والخاصية الكريهة في طبيعة مياه البحار، بل بطبيعة الرمل القوي الذي تستقر عليه. ويعرف هذا منالمياه التي تنبع من شقوق الأرض، فأنها تنفض عنها فوراً الملوحة التي ليست من طبيعتها، وتكتسب بسهولة عذوبة وخاصية طبيعتها العذبة

وإذ تحدثنا بهذا المقدار عن البحر والبحار، علينا أن نضيف قليلاً، فنتحدث عما فيها من جزر. وكما أسلفنا، فأن الله خلق فيها جزراً كثيرة كبيرة وصغيرة، لا لسكنى الناس فحسب. بل لأجل أغراض أخرى، ومستلزمات ضرورية. خلقها وأكثر منها في طول البحار وعرضها،

أولاً : (وهذا هام ونافع جداً للبشر) فأنهم عندما يجوبون في الخلجان الكبيرة الواسعة، وتثور عليهم زوبعة ما، يقصدون إحدى تلك الجزر القريبة منهم. وإذا اشتد الشتاء يشتون فيها فينجون

ثانياً : (وهي منفعة ليست أقل أهمية). لكي يأخذوا منها الماء والخشب وبعض الاحتياجات الأخرى. لذلك ربط الله البحار الطويلة العريضة، بواسطة هذه الجزر المتواجدة واحدة تلو الأخرى، ذات التربة الحلوة والتي تنبع منها مياه عذبة وتنبت زروعاً وأشجاراً. ولم يقتصر الله على تكوين الجزر في بحار المسكونة الهادئة فقط، بل وفي المحيط الخارجي غير الهادىء الذي لا تصلح سواحله غير الآمنة للتجاوب. فهناك جزر أخرى في هذا البحر الغربي أي المحيط. إلى جانب جزيرة غاديرا التي عند مدخل البحر الأدرياتيكي، منها ما يمكن للناس أن يدنوا منها ويجوبوا فيها، ومنها ما لا يمكن الدنو منها على الاطلاق، كتلك التي تقع مقابل Africa والتي تدعى Tiggitane فهناك جزيرتان هماEruthia, Paina وقبالة ليبيا توجد جزيرة Keren وأخرى Autolalas وست جزر تعرف بجزر السعداء، وتدعى الأولىMacaron لا يدنى منها، تلك التي يسميها الوثنيون جزيرة هيرا ثم Plouiarga, Kapraria, Kanaria, Pintoaria والتي في الأدرياتيكي، وقد سبق الحديث عنها، وكثير غيرها

أما في البحر المعروف بـ Euxeinos فنظراً إلى صغره، تظهر فيه جزر كثيرة وصغيرة فوق المياه، وصخور ناتئة كثيرة، الأمر الذي يصعب على من يرومون أن يجوبوا فيه، رفع سواري سفنهم في الرياح والتجواب، ويوجد في البحر الأحمر، حوالي جزيرة Taprobane الكبيرة، مجموعة جزر صغيرة يبلغ عددها نحو ألف وثلاثمائة وثمان وسبعين. ومنها كبيرة نوعاً ما، ولها تسعة عشر اسماًMonake, Ammine, Narqos, Philicos, Qalindadis, Arna, Bassa, Balaka, Alaba, Zaba, Bizaia, Nigadiba, Sosoara واحدة للطيور، واحدة للماعز
فقد أبرز الله هذه الجزر لتظهر وتشاهد في البحار التي كونها في المسكونة مولياً عنايته بالجنس البشري، لأن كل ما عمله حسن كما يشهد الكتاب، ولم يعمل شيئاً عبثاً دون جدوى. فقد أودع للجنس البشري كل ما يحتاج إليه ويساعده، مثل هذه البحار التي على وجه المسكونة، لتكون عضداً للناس على سد حاجاتهم الضرورية، التي يتبادلونها عن طريق تجواب البحار من بلد إلى أخر.

وبإمكاننا الوقوف على هذه الأمور بوضوح من الكتاب المقدس أيضاً، الذي يتحدث عن سفن حيرام ملك صور، وسليمان ملك إسرائيل ويقول: منذ كذا زمان كانت تصل من بلاد الافريقان، أو من بلاد سبأ والهند، وهي تحمل بضاعة من الحاجيات الضرورية. من جهة ثانية فأن الله أوجد البحار لتقوى بها الأرض وتتثبت وتترسخ. لذا فقد رفع المرتل ترتيلة مجد الله الخالق بقوله: “لأنه على البحار أسسها وعلى الأنهار ثبتها”. ولكي تنضج منها جداول المياه في أغوار الأرض وشقوقها، وتنبع الينابيع في الجبال والوديان والسهول لشرب الناس والحيوانات والطيور والزروع والنباتات والأشجار. وفي هذا الصدد، رتل الروح لله قائلاً: “المؤسس الأرض على قواعدها فلا تتزعزع إلى الدهر والأبد، كسوتها الغمر كثوب، فوق الجبال تقف المياه، من انتهارك تهرب، من صوت رعدك تفر، تصعد إلى الجبال، تنزل إلى البقاع إلى الوضع الذي أسسته لها، وضعت لها تخماً لا تتعداه، لا ترجع لتغطي الأرض، المفجر عيوناً في الأودية، بين الجبال تجري، تسقي كل حيوان البر، تكسر الفراء ظمأها، فوق طيور السماء تسكن، من بين الأغصان تسمع صوتاً”

لقد تطرقنا بكلامنا الواهن والمتلعثم تلعثم الاطفال، إلى الحديث عن البحر، عمل اقتدار الله الخالق، وعن الخلجان ومجمعات المياه المختلفة التي أمر الله بأن تتكون من المجمع المائي العام، ووضعها على وجه المسكونة لتساعد الإنسان وسائر الخليقة. وبهذا نكون قد تحدثنا جزئياً وبإيجاز عن عظمة ووفرة وعمل وقوة وحكمة الخالق المبدع. والخالق نفسه الذي كون البحر وخلقه، نحدث عن عظمته وامتناعه عن امتثال أمر خالقه، وهو يوجه كلمة تأديب إلى إسرائيل قائلاً: “اسمع هذا أيها الشعب الجاهل والعديم الفهم الذين لهم أعين ولا يبصرون، لهم آذان ولا يسمعون، إياي لا تخشون، يقول الرب: أو لا ترتعدون من وجهي أنا الذي وضعت الرمل تخوماً للبحر فريضة أبدية لا يتعداها فتتلاطم ولا تستطيع وتعج أمواجه ولا تتجاوزها “. هكذا تظهر لنا كلمة الله، عظمة البحر المدهشة وقوته وبأسه وكونه عبد ورهن إشارة مكونة ومدبرة

فمن الكتاب المقدس، ومما سبق وتحدثنا به، تظهر أهمية ووجوب وجود هذه البحار الكبيرة على وجه هذه الأرض المأهولة. كما يبدو أيضاً أن حكمة وعناية الخالق لم تكون البحار المذكورة فحسب، بل كونت إلى جانبها بحيرات كبيرة وصغيرة عديدة. كما كون الله على الأرض غدراناً ومستنقعات، سداً لحاجة البشر وعوناً لهم، في مختلف الأقطار والأمصار. فمنها يصطاد السمك طعاماً للناس، وفي البحار يتنقل الواحد إلى الأخر لغرض سد حاجاتهم. ومن البحيرات ما يشكل حصوناً وملاجىء للناس شأن المدن وتنقذهم من الأعداء الغزاة. ومنها ما يستثمره الناس لأغراض متنوعة كثيرة، نعرض عن ذكرها لئلا يطول الشرح

ومع ذلك أرى من الضرورة التحدث عن بعض البحيرات وما فيها من فعاليات. وبخاصة الشهيرة منها. سواء بالنسبة إلى كبرها أو الفعاليات التي تجري فيها، فنذكر أسماءها والأقطار التي تقع عليها. وفي مقدمتها البحيرتان اللتان تزودان النيل Neilos, Kolon وتلك التي تزود نهر Astapus الذي يختلط بالنيل. ويضاف إلى هذه، البحيرات التي يكونها النيل مثل بحيرة مريوط بالقرب من الاسكندرية الكبيرة التي يكونها نهر الأردن. والأخرى الكثيرة السمك التي يكونها الأردن نفسه، وتسمى جنارث وإلى جانب هذه، تلك التي يكونها نهر أورناطيس وتلك التي يخلفها نهر دجلة بعد فيضانه، وتدعى شوشتار وشوشان، وكذلك بحيرة أرسطيا الكثيرة السمك في أرمينيا الكبرى، ولا أرى حاجة لذكر أسماء جميع البحيرات فأسبب ضجراً للقارىء والسامع بسبب كثرة انتشارها الواسع في أقطار المسكونة كانتشار الأنهار. وأعتقد أن ما كتب هنا عن البحيرات يفي بالغرض

وإلى جانب البحار والبحيرات، وفر الله المبدع للمسكونة، أنهاراً كثيرة تنساب فيها، تنبع من أغوار الأرض والبحار وتنساب على وجهها، ومنها ما ينبع من الجبال مما تخلفه الأمطار والثلوج، فتروي الأراضي الواسعة التي لا ماء فيها. إلا أن فائدتها للبشر لا تقتصر على ري الأراضي العطشى، بل أن الناس يستغلون العديد والكبيرة منها خاصة للتنقل، شأن البحار والبحيرات، حيث يسافرون بواسطتها إلى بعضهم البعض ومن قطر إلى أخر بقصد التجارة، ومنها ما يمنع الأعداء من غزو الأماكن الآهلة، فتساعد بذلك المستضعفين وتنقذهم شأنها شأن الحصون والمدن. ومنها ما هو كبير وعريض جداً بحيث يكون بحيرات، مثل جيحون أي النيل الذي يغمر ويحصن القطر المصري و Istoros في بلاد أوربا الغربية وIndos أي فيشون التي تروي بلاد الهند. Laxartes Oxos التي تنساب من بلاد الشيريين و Ra الذي يزود الأقطار الشمالية الكثيرة المياه بصورة مستمرة نظراً إلى كثرة الثلوج. وكذلك دجلة والفرات المجاوران اللذان يغمران ويحصنان بلاد ما بين النهرين، ويرويان بلدان الآشوريين والكلدانيين والعيلاميين
وإلى جانب هذه، هناك أنهار أخرى كثيرة وكبيرة. فقد أحصى الجغرافيون القدماء أربعين نهراً كبيراً، ويوجد غيرها من الأنهار الصغيرة ما لا يحصى. وهناك أنهاراً ونهيرات وروافد وغدارن ووديان، منها ما يجري باستمرار، ومنها ما يجري في الشتاء فقط
أضف إلى هذا القنوات ومنافذ المياه ومجاريها التي يصنعها الناس المهرة وبابتكار عقولهم، لغرض سد حاجاتهم، ليس فقط لشرب الناس والحيوانات والنباتات والزروع، والضروريات الأخرى التي تناولها الحديث والتي يسعفهم بها عنصر الماء هذا، بل أن الماء يخدم الناس في شؤون أخرى كثيرة: فهو يسير الأرجاء، ويقدم خدمته كعبد في غسل العيون والاستحمام، وفي صناعات متنوعة، والبناء وأعمال الناس وغيرها من الشؤون التي لا يمكن أن يعيش الإنسان بدونها، والتي لا تتم إلا بمساعدة الماء. هكذا جعل الله المعني، الأرض التي كونها بارزة لنرى تنظيمه البحار والبحيرات والأنهار التي شقها فيها وأسال فيها مياها لخدمة البشر، وجعل إزاء هذه، كما سبق الكلام، فجوجاً وأغواراً ملئا بالمياه، وأماكن تسرق المياه، بواسطة عروقها، من الأمطار والرطوبة في الشتاء، فتكون طبيعتها كالإسفنج اللين الذي يمتص المياه، تتكون سيولاً ونزوزاً ومروجاً منبتة للأعشاب، وهذه كلها تكرس لخدمة الجنس البشري
أن الأرض والمياه وكل الخليقة الجسمانية، تخضع للإنسان، ولكن ليس بارادتها، بل كما يقول الكتاب، بارادة وأمر ذاك الذي استعبدها على أمل الحرية. وهكذا يكون الله الخالق والمبدع والمعني، قد أعطى الناس من عنصر الماء كل هذا العون والعطايا الضرورية، تاركاً لهم على وجه هذه الأرض التي أعطيت لسكناهم، جزءاً منها لاستخدامه. وبهذا ظهر خالقاً ومعنياً بخليقته. وهنا أيضاً يكون كلامنا كعادته متلعثماً تلعثم الأطفال، وهو يدور عن البحار والبحيرات ومجمعات المياه والأنهار والينابيع ونزوز المياه، والحاجة الماسة إليها، للبشر والحيوانات والطيور وكل حي على الأرض، وعن سقي النباتات والأشجار والزروع والعروق وكل نبتة على الأرض

أبعاد ومساحة الكرة الأرضية

أما عن مساحة وحجم الأرض التي ظهرت من المياه يابسة، وجهزت لسكنى البشر، ولتجوال الحيوانات والطيور والدبابات، فأننا، واستناداً إلى ما سمعناه من القدماء الذين مسحوا الأرض وكتبوا بوسائل ابتكرها عقلهم الشبيه بالله، وسلموها إلينا خطياً، فنقول : أن الذين أولوا اهتمامهم بهذه الأرض المأهولة وساحوا فيها وكتبوا عنها، قالوا: أن طول هذه الأرض التي ظهرت من المياه وجهزت من قبل الله لسكنى البشر، من الغرب إلى الشرق يقدر بنصف مساحة الكرة، وفي العرض من الجنوب إلى الشمال، سدس مساحة الكرة، لتأتي الأرض المسكونة طويلة، فيبلغ طولها ثلاثة أضعاف عرضها. فقد كتبوا عن طولها بأنه يبلغ من الغرب إلى الشرق مئة وثمانين خطاً، وهي نصف الثلاثمائة والستين خطاً التي للكرة الأرضية. والعرض من الجنوب إلى الشمال هو ستون خطاً فقط، وهي سدس الثلاثمائة والستين خطاً. فيكون طول الأرض المأهولة التي ظهرت من المياه، قرابة ثلاثة عشر ألف وخمسمائة ميل، وعرضها أربعة آلاف وخمسمائة ميل، وأنهم يقيسون طولها من المحيط الغربي، أي من خليجه الذي لا تطأه قدم، والذي هو خارج جزيرة غاديرا التي تقع على خط طول خمسة في أقصى حد المسكونة الغربي الذي يقال، منه تبتدىء بلاد اسبانيا وأعمدة هرقل، حتى بلاد الصين الواقعة شرقي الهند وهي مكان غير معروف وغير أهل. أما العرض، فيبدأونه من المكان الذي تستوي فيه كرة السماء ولا تنحرف لا جنوباً ولا شمالاً حيث يتساوى هنالك الليل والنهار طوال السنة، حتى جزيرة تولي الشمالية الواقعة في المحيط الغربي، وعلى خط طول ثلاثين وخط عرض ثلاثة وستين. وكتب القدماء عن قطبي الأرض المأهولة، فقالوا أنهما غير مكتشفين وغير صالحين للسكنى، وهذا ما حسن لله أن يفعله لدى ابداعه إياهما، حيث جعلهما غير صالحين للسكنى ولا تطأهما قدم، أما لخلق فيهما مناخاً غير معتدل كي لا يصلحا للسكنى. أو باحاطتهما بشقوق وأغوار جبلية ووهاد سحيقة وأراض غير صالحة للمشي. أو لكثرة ما فيهما من الحيوانات المفترسة والحشرات الفتاكة والقاتلة. ويقسم هؤلاء الكتاب الأرض المأهولة إلى ثلاثة أقسام ويسمونها، أوربا، وليبيا، (افريقيا) وآسيا الكبرى

فأوربا عندهم هي الأرض الواقعة إلى الشمال من البحر المتوسط حتى المحيط الشمالي.

وأطلقوا اسم ليبيا على الأرض الواقعة جنوبي هذا البحر حتى المكان المحترق تحت الشمس والأرض المجهولة التي تقع إلى جنوبها

ويطلقون اسم آسيا على الأرض التي تبتدىء من الحدود الشرقية للقسمين الأولين حتى نهاية شرق المسكونة. وأما شمال آسيا فأرض مجهولة وغير صالحة للسكنى نظراً إلى برودتها الشديدة. ويوجد في شرق آسيا أرض مجهولة أخرى، كساها الله بالأغوار والوهاد السحيقة والشقوق، فلا تصلح هي الأخرى للسكنى

كما حدد الله أرض أخرى مجهولة وغير آهلة، ومنع البشر من الوصول إليها خشية تيهانهم وهلاكهم، أو أن يقتلوا بالحرارة الشديدة والعطش، أو تهلكهم الوحوش والحشرات الخبيثة، وتقع هذه الأرض جنوب البحر الأحمر، قبالة كل من آسيا وافريقيا برمتهما جنوباً.وقبالة بلاد الحبشة والتي تعرف بـEspiriois Nuktadeis .

وفي جهة المسكونة الغربية، وإلى الشمال من أوربا قبالة بلدان اسبانيا وفرنسا وألمانيا، كون الله سيولاً جارفة عنيفة آتية من البحر الكبير، لا يمكن السيطرة عليها أو ركوبها، ومنع الله المدبر البشر الأشقياء من التنقل فيها عبثاً ودون طائل، وسعياً وراء حتفهم، الأمر الذي لا يجوز

وفي شمال اسبانيا، وفي بحر الأوقيانوس = المحيط بالقرب من اليابسة، كون الله جزراً صالحة للسكنى ممكن الوصول إليها، وهي Aloutinoa, Lournia اللتان تسميان Bretanicas,

وتوجد قابلة المانيا وفي نهاية المحيط الشرقية، جزيرة تدعى Kimbrike Scandia الكبيرة وهي جزيرة قاحلة. هكذا قسم القدماء المسكونة، وبهذا المقدار يحددون وضعها وضخامتها

أهم الجبال وما فيها من معادن

وحيث أن الله كون في المسكونة جبالاً كبيرة وعالية وجعلها بمثابة أحزمة أو حدود تقسم البلدان ليسكنها البشر. وقد قسمها الناس بدورهم إلى ولايات مختلفة وأقطار متعددة. لذا كان علينا أن نتحدث عن هذه، لكي نتعرف على تنظيم أرضية هذا البيت الكبير الذي شيده الله للإنسان الذي كان مزمعاً أن يخلقه على صورته
وننقلها بصورة أو أخرى إلى أفكار وأفهام الذين سيقرأون أو يسمعون، ليعطوا المجد لله دائماً، وهم يبدون إعجابهم بعظمة عمل الله وعنايته وحكمته ومجال صنائعه. بوصفه خالقاً قوياً وقادراً على كل شيء، ومنظماً حكيماً لكل أعماله، ومعنياً وحافظاً لكل ما خلق

فقد كون الله المبدع والحكيم في هذه المسكونة جبالاً ضخمة وقوية، شهيرة وعالية، بإمكانها أن تغير كمية السحب في أعاليها

ففي أوربا وفي الجانب الشرقي من نهاية المناطق الاسبانية، توجد جبال كبيرة وعالية تعرف باسم (البيرينية) وتستعمل مفرداً ومؤنثاً. وفي ولايات المانيا الالبية توجد مئات الجبال التي تنبع وتنضج منها روافد نهر Istro العظيم الكثيرة. وتدعى جبال Soudeta وأخرى تدعى Melibocos Abnoba وفي جبال Sarmatia التي تدعى Sermatici والأخرى التي تسمى Peinaia ، ثمة ثمانية جبال عالية

وفي ليبيا (افريقية) في المنطقة المسماة تينجيتاني، والأطلس الكبير والأطلس الصغير، والجبل المدعو جبل الشمس، وهي واقعة في ساحل الأوقيانوس الغربي، وجبل ديور والجبال المسماة فوكري

وفي المنطقة القيصرية، دوردوس، زالاكوس، تهاراقي، سينابي، بربور أو بدرون، مادينوبالوس كاراس، فورايئسوس، بالوا، والجبال المدعوة بوزارا

وفي منطقة الافريقيين: أودوس، وجبال تاميس، وجبال سيرناكاس، مامباروس، وأساليكوس، روكابابار، وجبل جوبيتر، وتيتريبي

وفي منطقة السيرينيين: جبال ثلاثة: قيليا، تيتيس، بيكوليكوس
وفي منطقة الاحباش، ثمة جبال ممتدة من الشمال إلى الجنوب طولاً على امتداد منطقة الأحباش حتى تمر عبر البحيرة الكبرى التي يشكلها النيل ويغذيها، وهذه الجبال تدعى جبال الأحباش، وطولها أكثر من ألفين وثلاثمائة ميل

وفي المنطقة عينها، إلى الشرق، جبال أخرى، كارباوس (كارباتوس) وجبال اليفاس إلى شمال خط الاستواء، جبال فيلي قرب البحيرة في موقع خط الاستواء، وجبل ماستي الذي يبعد شرقاً خمس درجات عن خط الاستواء

وفي أراضي ليبيا كلها الواقعة من الحدود الغربية لأرض الأحباش وحتى الأوقيانوس الغربي، جبال شهيرة وعظيمة هي: ما يسمى بجبل أكوي الآلهة (أو: تيدنوكيما)، ماندروس، ساكايولا، كافاس،
أوزاكارا، جرجيريس، روزاديروس، وجبل تالا، أورالتيس، أرانكاس، وما يسمى كارامينكي فارناكس

وفي المنطقة الخارجية للأحباش المسماة، أجيسمبا، ثمة جبال عظيمة وشهيرة ومعلومة: جبل تادكتيروس الواقع تحت خط الاستواء، يدن، زافار، أنيسكي، بارديتوس، والجبل المدعو جبل القمر
هذه الجبال هي في ليبيا، القسم الثاني المأهول من الأرض

أما في آسيا الكبرى، أي في القسم الثالث المأهول من الأرض، فثمة جبال شهيرة ومعلومة

ففي منطقة آسيا نفسها، جبل يسمى ايدا، سبليوس، تيمنوس، دنيديموس، سبيبلوس، تمولدس، ميسوجيس، كادموس، فينكس

وفي غلاطية: جبل أوليفاس، والجبل المسمى نوبيس، سيليناروم (غيوم السماويات)

وفي منطقة قبادوقيا، جبال عظيمة هي: جبل أرجيئوس، أنتناوروس أي سيكوش، سكورديسكوس.
وبين سيليسيا وقبادوقية، جبل كبير يسمى ثاوروس (طوروس)

وبين سوريا وسيليسيا، جبل أمانوس. وفي سوريا، جبال ببريوس، كاسيسوس، ليبانوس، مسانير، جبل حرمون، هيبوس، الزاداموس

وتختص بلاد ما بين النهرين بالجبال التالية : جبل مازيوس، الذي يسمى ايشوما، وجبل سنجار

وبين سوريا وما بين النهرين أي آشور، قبادوقية وارمينية، حتى بلاد الماديين، من الغرب إلى الشرق. يمتد الجبل الكبير المسمى طوروس الذي يربط هذه المناطق

وفي بلاد الماديين جبال عظيمة هي: زاغروس، يازوتيوس، أورونيتيس، كورونوس

وفي البلاد المسماة بالعربية (السعيدة – الخصبة) جبال شهيرة وعظيمة، في الثغر البحري جبل هيبوس، كاباياتا، والجبل المسمى بالأسود، بريدنوتوس، سياكروس، والجبال المدعوة التوأم، والجبال السود المسماة أرابي. وفي وسط البلاد، ما خلا الجبال المذكورة، ثمة أخرى هي: زاميس، ماريتا، والمسمى كليماتس أي السلم (سكالا)، وجبال أخرى كثيرة لا أسماء لها

وثمة جبال في الكرمانيين وهي: الجبل المدور المسمى سميراميس، وجبال عديدة غير مسماة

وفي ماطية أي آسيا، ثمة هذه الجبال الشهيرة والعظيمة: الجبل المدعو هيبيسي، وأخرى سيرواني والمسماة قوقاتية، وجبل كوراكس. وفي سيكيثيا : جبال سارماطية، وأخرى يقال لها آلاني، وأخرى ريميسية، إضافة إلى جبل أوروسوس، والمسماة اسبيزئية، وأخرى باسم تايبرس، وسويبي، وآتاريني. وبين سيكيثيا الداخلية والخارجية يمتد طولاً حتى الأرض المجهولة الجبل المسمى عماوس. وفي سيكيثيا الخارجية وفي منطقة سيروم تمتد جبال الأوزاسيين والكاسيين، والايموديين التي تتصل في منطقة سيروم بالجبال المسماة آينبي، ايتاغوروس، أتوروكوراس، والجبال المسماة ازميري.
وفي منطقة أريا يقوم جبل باغوس، ويمتد عبر المنطقة المسماة جردوسيا، جبال تدعى باربيتاني.

وفي بلاد الهند، في المنطقة التي بين نهر الكنج، تقع جبال شهيرة هي: أبوكوبي، جبل ساردوليكس الذي منه يستخرج الحجر النفيس المسمى باسمه، بيتيكو، أديسارتوس، اينديوس، أوكسينتوس، والمسماة آرفي. وفي الهند عبر الكنج، جبل يسمى بيبيريوس. وذاك المسمى مائياتدروس، والمسماة داباسي. وفي المنطقة التي في بلاد سيروم (الصين) يمتد جبل عظيم يدعى سيماتينوس.

وفي جزيرة تايروباني جبال شهيرة هي الجبال المدعوة غاليبي وماليئا. والجبل الذي ينبع منه أنهار جزر، أوناس (سواناس. وينساب منه أزانوس وباراسيس.
أن كل ما شرحناه عن الجبال التي وضعها الله في الأرض المسكونة، إنما اقتبسناه مما كتبه الأقدمون.

أما بشأن تقسيم البلدان والمناطق التي في المسكونة، فلنا أن نقتبس قليلاً من كتابات الأقدمين. فنقول: أن هذا التقسيم يقوم على اساس تقسيم العائلات البشرية إلى شعوب مختلفة، أو على أساس الحكام الذين يسيطرون عليها من حين إلى آخر، فقد قالوا: توجد في أوروبا وهي القسم (القارة) الأول من العالم مناطق منفصلة هي: الجزر البريطانية الواقعة في الأوقيانوس، هيبريتا والبيون. وثلاث مناطق، اسبانيا، بيتيكا، لوزيتانيا، تراكونيس، وأربع مناطق غاليا السلتية (سيلتا غلاطية): اكويتانيا، لوغودونيا (ليون) بلجيكا، ناريونيس، ثم جرمانيا، رتيا مع فنديليسيا، وايطاليا وجزيرة سيرنوس (كورسيكا)، جزيرة سردينيا، وجزيرة صقلية، وسرماتيا، كيرسونيسوس، تاوريكا، لاريجيس، ميتاناستي أي المهاحرة، داقيا، ميزيا العليا، وميزيا السفلى، تراقيا، كيرسونيسوس، مقدونية، أبيروس، أخائية، بيلويونيسوس وجزيرة كريت.
وتسجل تحت اسم ليبيا المناطق التالية: موريتانيا، قيصرية، افريقيا، سيرينايكا، مصر، ليبيا، أثيوبيا، جنوبي مصر، أثيوبيا الخارجية، التي تدعى أجيزيميا.
أما في آسيا، القسم الثالث من العالم، فأننا نميز الولايات والمناطق التالية: بيثونيا، آسيا، لوقية، غلاطية، بمفيلية، قبادوقية، أرمينية الصغرى، قيليقيا، سرماطية، فولكيس، ايبريا، البانيا، أرمينية الكبرى، جزيرة قبرص، سوريا، اليهودية أي فلسطين، العربية الصخرية، بين النهرين، العربية الصحراوية، بابل، أسوريا أي آثور، ميديا، شوشان، فارس، فرتية، كرمانية الخربة، العربية الخصبة السعيدة، هرقانيا، مارجياني، باكترياني، سوكدياني، ساقي، سيكتيا في جبل عيماوس، سيريقي، أي بلاد السيرقيين، أرباً أي هريو، باروباليسدا، درانجياني، أراقوسيا، جد روسيا.
وأقسام بلدان الهند هي: الهند التي هي ضمن نهر الكنج، والهند التي هي عبر نهر الكنج، وبلاد الصين، وجزيرة تابروباني. هذا عن تقسيمات البلدان أو مناطق المسكونة التي بين الجبال.
ويجب ألا نغفل عن الكتابة عن الفوائد التي يجنيها الناس من هذه كلها، سداً لحاجاتهم الضرورية. ذلك أن لله المبدع والمعني بالجنس البشري لم يأت شيئاً عبثاً لا جدوى فيه، لا الجبال ولا الصخور الضخمة والناتئة ولا الكهوف ولا الوديان العميقة، ولا الشقوق والأغوار التي شق بها الله الجبال، ولا الصحاري الجرداء القاحلة العطشى التي لا تنبت، ولا أي من الخصائص التي خص بها الله الأرض، ولا الأشياء التي يعتقد أنها ضارة لا نفع فيها “فجميعها حسنة وصالحة وضرورية ومهمة للبشر بشكل أو أخر، ولئن كانت فوائدها لم تعرف لحد الآن. إلا أن الكثيرين يعرفون الفوائد والمنافع التي يجنيها الناس من الجبال ولو أن حديثنا لا يشمل هنا جميعاً. فما الحديد والنحاس والذهب والفضة، وهذه المعادن الأخرى إلا من الجبال والأحجار وتراب الأرض الحقير. من أين الزجاج الصافي ؟ أن لم يكن من الرمل الصلب المتين والجاف الذي لا يتبلل بالماء. من أين الأبنية السليمة الراسخة للناس؟ أليست من الحجارة؟ من أين الكلس. أليس من التراب البري الجاف الذي لا ينمي. ومن الأحجار الجبسية ؟ أوليس من الأحجار السوداء وغيرها تصنع الأرجاء لطحن القمح؟ وينحت الناس جبباً في الصخور لخزن الماء والخمر والزيت. ومن الحجارة أيضاً الأجران والأحواض والمعاصر ومذاود الحيوانات، والحبوب والأواني لحفظ السمن ولغيرها من الاحتياجات الضرورية، ونؤخذ الحجارة للبناء، وأعمدة المرمر التي تزهو بألوان مختلفة وتزين الهياكل وقصور الملوك، وكثير غيرها من الأمور المفيدة الجيدة. ويطول الشرح لو جمعنا وثبتنا هنا كل فوائد الحجر. وتعتبر الجبال والصخور والحجارة داخل الأرض بمثابة أربطة وأحزمة في أسس بنيانها. وهي كالعظام بالنسبة إلى اللحم. فهي تحمله وتستقر داخله. أو كالشرايين والأوردة التي تشد الجسم كله كالجبال لئلا يتهرا. هكذا هي الجبال والحجارة بالنسبة إلى الأرض، فأنها تشدها وتقوي تربتها لئلا تتشتت وتتبدد. من هنا تبدو أهمية تكوين الأحجار في طبيعة الأرض.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى الجبال التي منها وفيها الحجارة، كما تبدو عناية المبدع الحكيم الذي أبدعها. فمنها حصون منيعة للناس المستضعفين، ومنها ملاجىء من الأعداء القابعين على الحدود، كما ذكرنا أعلاه. ومنها ما أبدع ليكون مجرى ملائماً لجريان الينابيع والأنهار، بمقتضى حكمة الخالق الذي أعلن للملأ بأنه كان مع الله عندما ثبت ينابيع المياه. يقول الروح : “المفجر عيوناً في الأودية وبين الجبال تجري، تسقي كل حيوان البر تكسر الغراء ظمأها، فوقها طيور السماء تسكن. من بين الأغصان تسمع صوتاً”. أذن خلقة هذه الجبال كانت ضرورية من اجل انسياب المياه وتدفق الينابيع والأنهار. وكذلك الكهوف والصخور الناتئة وقمم الجبال العالية، والشقوق والمغاور التي تحتها، ضرورية، يقول الروح: “الجبال العالية للوعول، والصخور ملجأ للوبار”. وكذلك الوديان والغدران الرطبة الباردة، والأفجاج السحيقة في الجبال، هي الأخرى ضرورية لإنماء الغابات وتكثير الخشب، ومن أجل مساكن آمنة للحيوانات وربض الوحوش فيها. ويقول: “لدى شروق الشمس تتعافى وتربض في مرابضها”. والجبال أيضاً ضرورية لاحتواء الثلوج في الشتاء والتي تستعمل للعلاج في الصيف. أما الأمطار فتتكون وتسقط من السحب على الجبال والسهول. فالتي تسقط على السهول تنفذ تدريجياً. يروي الأرض وتغذيتها وما فيها من زروع ونباتات التي تجذب الرطوبة حتى من الأبخرة التي ترتفع إلى الأعلى بفعل حرارة الشمس. فهي تصعد إلى الجو لتعود فتسقط مرات عديدة من أجل الري. أما الأمطار المتساقطة على الجبال، فتبتلعها الفجاج والأغوار والتجاويف الموجودة فيها. ثم تنساب إلى داخلها وتتجه نحو أسفلها، وتكون مصدراً عذباً للشرب عن طريق الغدران التي تتكون منها. وبنفس الكيفية تحفظ الثلوج طوال الشتاء فوق قمم الجبال العالية، حيث تحول البرودة دون ذوبانها. وتتحول في الربيع إلى مستودعات لري السهول وما فيها. وتنبعث منها خلال الصيف نسائم باردة ورياح منعشة إلى جميع الأمكنة والسهول المحيطة بها. ومن هنا أيضاً تبدو ضرورة وجود الجبال على الأرض. فمن جميع هذه الأمور وغيرها يمكن الوقوف على أهمية وجود الجبال على الأرض

والشيء نفسه نقوله عن الخصائص والأشياء المختلفة الموجودة في الأرض، والخلجان المتنوعة والجزر التي كونت في بحار الأرض، التي تجنى منها للبشر فوائد هامة وأحجار كريمة ومختلف الأطعمة اللذيذة، وهي تهبهم الجواهر ليحتفظوا بها. مثل خلجان الهند ذات الأرض الصخرية غير الرملية الخالية من أغوار الماء. فالذين ينزلون إلى عمقها يستخرجون منها الجواهر. وهنا سيدور الحديث عن هذه الأمور وغيرها مما أبدع ونظم الله الحكيم المبدع والمعنى بالأرض، إلى جانب تكوين وترسيخ الجبال في الأرض. وفصل الفسح التي تتوسطها، وتقسيم بحار الأرض وبحيراتها. والجزر التي تركت بادية فيها، يضاف إليها عمل هام أخر لله في الأرض المأهولة، ليس أقل شأناً مما سبقه. أن جميع الذين يهتمون ببناء وتنظيم مباني المدن على الأرض، يتحاشون عن فكر ثاقب وتأمل عميق، البناء فوق أرض منخفضة أو مستوية أو مسطحة باستقامة واحدة، وليس لها ميلان إلى جهة ما. ويبنون في أماكن مرتفعة ومائلة إلى إحدى الجهات. ولكي تنصرف بسهولة، المياه التي تأتيها من الأمطار وفضلات أخرى كروائح الرطوبة القذرة التي تتجمع فيها من الساحات والشوارع، عن طريق قنوات مناسبة ومنافذ تحفر بصورة صحيحة في الأرض المائلة. وكذلك الذين ينظمون الباحات لا يجعلونها مسطحة تماماً، بل مائلة إلى إحدى الجهات لتنصرف منها المياه بسهولة دون تعب. وكذلك صانعوا سقوف البيوت، فأنهم لا يسقفونها مستوية مستقيمة بل مائلة إلى إحدى الجهات لتنساب وتجري منها المياه. والذين يؤسسون الحدائق الخضراء، فأنهم يزينونها لتكون مائلة لا مسطحة، لتسهيل جريان الماء فيها وريها بالمقدار الكافي. وعلى نفس المنوال، فأن الله المبدع والمنظم والمعتني بهذه الأمور كلها، لم يزن الأرض التي نسكنها بشكل سطحي مستقيم، بل أنه جعل فيها ميولاً إلى كل الجهات، بالإضافة إلى الميلان الموجود في استدارة كرتها، فالأرض ولئن تغيرت بأمر إلهي كما أسلفنا، عن استدارتها الأولى ودائرتها الكاملة الصقيلة المستوية، وتكونت فيها جبال وأعماق لتجمع البحار، لكنها بالرغم عن ذلك، لم تتغير على الاطلاق عن شكلها الكروي المستدير العام. فهي ليست مقعرة مثل اللفت، أو رقيقة كاللوح أو مثل الفلق، بل ما زالت مستديرة وكروية، وعلى سطحها مرتفعات وأعماق تكونت ضمن شكلها الكروي المستدير، وأن ميلانها الناتج عن شكلها هذا المستدير، يبدأ في نتصفها ومن أية جهة كانت، ويتجه إلى الجهات كلها. ولها أيضاً ميول أخرى تتجه بالتساوي إلى سائر الجهات. فتتوافق مع بعضها البعض أحياناً، وتختلف أحياناً أخرى. وبعبارة أخرى، ليس هناك مكان ما في المسكونة صغيراً كان أم كبيراً إلا ويوجد فيه ميلان ملحوظاً كان أم غير ملحوظ، قليلاً كان أم كثيراً، يشير إلى أية جهة تنساب بسهولة المياه التي تزداد بهطول الأمطار. وقد جعل الله المبدع الحكيم والمعني هذه الزيادة في الماء، لكيما إذا فاضت عن الحاجة، توجه إلى الحقل أو السهل صغيراً كان أم كبيراً. وفي أية جهة كانت فتنساب بسبب ميلان الأرض، أو أنها توجه إلى نهر قريب وإلى جداول تؤدي بها إلى نهر بعيد، وهكذا تسلم الواحدة إلى أخرى، ولما تزداد هذه المياه تشكل جداول، ويتجمع عدد من هذه الجداول وتختلط بأنهار صغيرة لتصب في نهر كبير مجمع من هذه المياه كلها، ولا بد أن يقوم النهر بدوره بإيصالها وصبها في البحر، والبحر لا يمتلىء. وقد شبهه الروح بشكل ما بخالقه ومبدعه، فهو يغذي بالمياه، الأرض المأهولة وما فيها من أنهار، دون أن يفقد شيئاً وهو يعطي، أو يزيد شيئاً وهو يأخذ، وشأن الأرض هو شأن سائر الكائنات في خضوعها لله خالقها، الذي منه تتقبل العطايا. أنها مائلة نحو البحر بصورة دائمية وفي كل الأمكنة، وترسل إليه الماء الفائض عن طريق الجداول والأنهار. ومنه تمتص المياه عن طريق تجاويف في باطنها، من ينابيع تتغذى منه. فمن هذه الفعاليات الطبيعية، والنظرية التي تطرق إليها الحديث عن طريق التشبيه، يستنتج أن ميلان الأرض نحو البحر في جميع الجهات والأمكنة، كان ضرورياً لتنساب إليه جميع المياه الفائضة عنها

النباتات وفوائدها للإنسان

بهذه الطريقة تكونت الأرض، وظهرت في المياه، ونظمت لتكون صالحة لسكنى الإنسان. والحيوانات التي تخدمه وتستعبد له. وهكذا رتبت وجهزت أرضية البيت بعد تثبيت أسسه وسقفه وتنظيمها. وبعد الانتهاء من تنظيم أرضية هذا البيت الملكي الذي شيده الله للإنسان، ذلك الملك الذي كان عتيداً أن يخلقه على صورته: كان من الأهمية بمكان الاعتناء بالحقل من أجل توفير وخزن طعام القاطن والذين تحت عبوديته. وقد فعل الله الصالح والمعني هذا وأنجزه بعناية كبيرة وسخاء وفير: بعد أن خلق الأرض والجبال التي فيها، وتهدئة هيجان البحار. وقد رتل الروح ما ينسجم وهذا العمل قائلاً : عن الله الخالق: “المثبت الجبال بقوته، المتنطق بالقدرة المهدىء عجيج البحار وعجيج أمواجها وعجيج الأمم، وتخاف سكان الأقاصي من آياتك، وتجعل مطالع الصباح والمساء تبتهج، تعهدت الأرض وجعلتها تفيض، تغنيها جداً، سواقي الله ملآنة ماء تهيىء طعامهم لأنك هكذا تعدها”. بهذا القدر كان اهتمام الله بالأرض بعد تكوينها. ليعد منها وفيها كل قوت ساكنيها، ويعطيها سلطاناً عظيماً وقوة دائمية ثابتة لا تزول ولا تحول، لتعطي بسلطتها الذاتية قوتاً جاهزاً لجميع الذين يسكنونها حتى أقاصيها

حيث تمتلىء جداوله ماء فيروونها بغزارة، ويتناول الروح أيضاً بكلمات يسيرة، الحديث عن تكوين أرضية البيت وتجهيز قوت ساكنيه. فالكتاب المقدس الذي ألقى الأضواء الأولى على تأسيس البيت، يتحدث بصورة مناسبة عن تجهيز القوت. هكذا. قال الله : “لتنبت الأرض عشباً وبقلاً يبزر بزراً وشجراً ذا ثمر يعمل ثمراً كجنسه.. ورأى الله ذلك أنه حسن. وكان مساء وكان صباح يوماً ثالثاً “. من كلمات الكتاب المقدس هذه اليسيرة، التي فيها يأمر الله الخالق طبيعة الرض لتنمي تلقائياً عشباً يعمل بزراً كجنسه: تظهر لنا القوة الدائمة والثابتة التي أودعها الله فيها. وتكوين طبيعة النمو التي خلقت في كل ما ينمو. فقد أمر الأرض أن تنبت، ومنحها قوة فاعلة وثابتة. كما أمر العشب أن ينمي بزراً كجنسه ومثاله. وأن قوله: “يبزر بزراً كجنسه” لا يعني سوى تلك القوة التي للوالدين ليلدوا ما هو من طبعهم وصورتهم ليجعلوا لجنسهم تسلسلاً لا نهاية له، فيبزر كجنسه ومثاله. فما ينمو مهما كان نوعه، لا بد وأن يحمل بزراً مولداً يحافظ على جنسه ويسلسله لئلا يتلاشى وينقرض جنسه من الأرض. يظهر من هذا أن كل ما ينمو يحتفظ بطبيعة إنمائه في ذاته، وبالقوة التي تسنده. والبرهان على ما نقول هو عدم انتهاء مفعول هذا الأمر منذ بدء الخليقة وحتى الآن، لكنه ما زال يعمل بتربة الأرض منذ البدء وحتى الآن، لتنمي حالما تصلها الرطوبة. هذه الأشياء كلها التي وضعها الخالق في الأرض، تمت بموجب الأمر الأول

ورب قائل يقول: لقد أنبتت الأرض آنذاك بزراً مولداً بفعل ذاك الأمر، ولكن الآن فأنها تنبت بزراً ينحدر من ذاك. هذا الكلام صحيح، لكن الكلام الأول هو الأصح، وهو أن قوة الله الكامنة في هذا البزر هي التي تنبت. فهذا هو الأصح، لأنها تنبت هي الأخرى بقوة أمر الله الأول المودعة فيها. ونقف على حقيقة هذا من تسلسل البزور. فإذا حفر أحد حفرة عميقة في الأرض إلى عمق عشرة أو خمسة عشر ذراعاً، وأخذ تراباً من أسفل الحفرة لم يزرع من قبل ووضعه على سطح الأرض، فإذا سقط عليه مطر بأمر الخالق، فأنه ينبت مثل التربة المزروعة، ذلك أن فاعلية أمر الله الأول لا تدعه عقيماً وغير منتج. الأمر الذي لم يترك الشعراء (وهم غير حكماء) خارج نطاق الحق، حيث جاء في شعرهم ما يشبه كلمة الحق، فقالوا: “عندما يقترن المحيط بالأرض تصبح للحال صالحة للولادة، فتلد أولاداً كثيرين”. ومن المعروف أن الأرض تعطي مما عندها بفاعلية أمر الله الأول، عندما تختلط بها طبيعة الماء، فهي لا تنبت بقوة البزور التي فيها

***

أن هذه الفاعلية والأمر الصادر عن الخالق، يفرضان على تربة الأرض في مختلف الأمكنة، أن تنبت وتنمي أعشاباً وزروعاً وأشجاراً تتلاءم وخصائص الأرض، واعتدال جو ذلك المكان. ففي كل بلد يعطي بسخاء مختلف المواد التي تصلح طعاماً لسكانه وتلائمهم. ففي بلادنا وما جاورها مثلاً، أعطي للأكل الحنطة والشعير وغيرها من المواد القابلة للطحن، ثم الكروم لصنع الخمر، والزيتون لصنع الزيت، وأشجار أخرى متنوعة ليقتات ويتنعم بها الناس. وفي بلاد الهند التي حرم طبيعة أرضها من انبات مثل هذه أغناها بأنواع أخرى كثيرة ضرورية وهامة للطعام أفضل وأحسن. فنظراً إلى صلاحية الأرض واعتدال المناخ، أغنى أبناء تلك المنطقة بمادة الرز لطعامهم، وغيرها من المواد الملائمة كقصب السكر لانتاج مشروب منعش بتذويبه بالثمر، ومواد تستخلص من السمسم لتزودهم بما يحتاجونه من الزيت، وأخرى قيمة ذات رائحة ذكية تصلح لعلاج أجساد البشر. وأعطى لبلدان سبأ والعربية الخصبة كالمواد التي أعطاها للهند. أما بلاد الحبشة المحرومة من المواد الموجودة عندنا، فأن الخالق الحكيم القادر على كل شيء، وفر لها بحكمة وعناية، ومن طبيعة تربتها، مواداً ضرورية مشابهة لتلك الموجودة في الهند، إذ تلائم طبيعتها ومناخها. كذلك الأمر بالنسبة إلى بلاد السرمطيين والهونيين الغربية الباردة. ففي الوقت الذي حرمت مما عندنا من المواد الغذائية ومما في البلدان الجنوبية الحارة، فأن الله المعني قد زود أبناء تلك البلاد لأكلهم وشربهم بمواد أخرى مختلفة أفضل وأدسم. وهكذا نلاحظ فاعلية ذلك الأمر الالهي في جميع بلدان هذه المسكونة، إذ يحرك تربة الأرض لتنمي وتعطي قوتاً كافياً وفيراً لجميع سكان المعمورة. يقول الروح المرتل محدثاً الله : “عين كل أحد تنظر إليك وتترجاك. لترزقها قوتها في حينه. بفيض غزير كاف. ولكل ما يلائمه. أن القضاة يعرفون أن الله هو مدبر الكل.. تعطيها فتلتقط، تفتح يدك وتشبع إرادة كل حي، والكل لك ينظرون “.. “لتعطيهم طعامهم في حينه، وإذ تعطيهم يقتاتون. وإذ تفتح يدك يمتلىء الكل من طيبك”. هكذا يقيت الخالق كل خليقته. فمنذ البدء أمر هذه الأرض التي أعطانا، أن تنبت تلقائياً وتعطي قوتاً بسخاء لجميع الذين على سطحها، مثلما تعطي المرضعة حليباً من جسمها لرضيعها. أذن وكما يفهم مما سبق، أن تراب الأرض مذ تلقيه الأمر الأول من الخالق وحتى الآن، هو الذي ينبت وينمي العشب والأشجار المثمرة، وليس بمجرد تسلسل البزور، وما زال ذاك الأمر، قائماً فيه كي لا يضعف وينتهي ولا يعود يعمل وينبت

فهو الذي ما زال ينبت كلاً للبهائم وعشباً لخدمة الإنسان، “لإخراج خبز من الأرض، وخمر تفرح قلب الإنسان لالماع وجهه أكثر من الزيت وخبز يسند قلب الإنسان” كما قال الروح المرتل. فذاك الأمر الرباني الشامل لا يدع كمية من التراب مهما كانت قليلة وحيثما كانت، دون أن تنبت بحسب قوتها وطبيعتها حتى ولئن كانت كلسية وبرية، فأنها تعطي أشجاراً غير مثمرة وجذوراً يابسة وهزيلة. وإذا كانت الأرض جبلية وصخرية تغلب حجارتها التربة، تنبت بحسب ضعفها عندما تصلها رطوبة. وإذ كانت في أعالي الجبال حيث تتغلب خاصية البرودة، فأنها تخضع لذاك الأمر الرباني بقدر ما يجتمع فيها من رطوبة وحرارة. وإذا كانت جزءاً من تراب الأرض، أو في سياج أو جدار وامتزجت بالرطوبة، وأشرقت عليها أشعة الشمس، فأن ذلك الأمر الرباني لا يدعها إلا أن تبدي مفعوله بقدر ما فيها من قوة

ولنا أن نستمع هنا إلى الكلمات اليسيرة التي قيلت عن حكمة سليمان الذي حاول حصر كل ما كان يجول في خاطره بكلمات قليلة. يقول أن سليمان حصر في معرفته كل طبيعة وقوة النباتات والجذور من أرز لبنان وحتى الزوفا الذي ينمو على السياج”. ونفهم من هذا، أن الله لا يدع حتى تلك الحفنة من التراب التي على السياج، إلا أن تنبت إذا ما وصلتها رطوبة. وحتى تلك التي على صخرة أو على حافة صخرة صغيرة كانت أم كبيرة، فأنها لا تحرم النمو بفاعلية الأمر الرباني، إذا وجدت كمية قليلة من عنصر التراب، أو شيئاً من الرمل الملتصق به الذي قد يكون قسم منه سخرياً. وإذا لم تكن قادرة على إنماء العشب، فأنها لا تعدم إظهار لون أخضر يشبه العشب، وإذا وجد تراب في قعر مجمع ماء واستحال إلى حماة أو طين، وكانت المياه ضحلة بمقدار ذراع واحد أو ذراعين بحيث يمكن للهواء وحرارة الشمس أن يخترقاها ويجتمعا مع طبيعة ذلك الطين، فأنه يتحرك بفاعلية ذلك الأمر، ويكتسب قابلية الإنماء وينبت ما يناسبه، ويرتفع فوق سطح المياه مثل البردي أو أي نبات أخر يتلاءم والمكان واختلاف تربتها وطعمها. وهذا لا يحدث في المياه العذبة المتجمعة في أرض جيدة بفاعلية ذلك الأمر فحسب، بل وحتى في مياه البحر المالحة
إذا وجدت تربة جيدة فوق الصخور التي في قعر المياه وفي أمكنة ضحلة حيث يتمكن الهواء وحرارة الشمس من الامتقاء فيها. فحتى هذا لا يعصي الأمر الرباني إذ يكتسب قابلية الإنماء بحسب قوته. وكذلك الاسفنج وهو حيوان يشعر لكنه لا يتحرك من مكانه، فهو ينمو ويتفرع بين الصخور. وهناك أشياء أخرى تشبهه، تختلف بمختلف طبيعة الأمكنة والبلدان. ففي بعض الأماكن تنبتUrticae Pinnae التي تنبت شعراً. وفي بلدان أخرى، ينبت Kesta أو Coralium وتنبت الصخور التي في قعر البحار ما يشبه أشجاراً نباتية ذات جسم لين وسهل القطع طالما هو في الماء، ولكن إذا أخرج من الماء ولمسه الهواء يكتسب جسماً كالصخر يصعب قطعه حتى بالأقلام الحديدية المستعملة لقطع الحجر

هذه الأشياء وما شابهها وما اختلف عنها، تنبتها وتنميها تربة الأرض الطيبة في أماكن متعددة وأي مكان كان فعندما تجتمع مع طبيعة الماء وغيرها من العناصر، لا ترضى أن تبقى عالة غير قابلة للإنماء، بل أن أمر الله الذي صدر منذ البدء إلى الأرض لتنبت عشباً وحشيشاً يبزر بزراً كجنسه، يحركها لتسرع إلى الإنبات، لكي يدرك الجميع بوضوح أن مصدر قوة الأرض في الإنماء لدى توفر الرطوبة، هو ذلك الأمر الأول الذي يهمزها دائماً دون انقطاع. وعندما يضطرم فيها الماء وحرارة الشمس، تجذب معهما الهواء فتمتزج ببعضها البعض فتنبت وتنمي فوق سطحها بزوراً لاستمرار بقاء كل الأنواع، وأشجاراً تثمر ثماراً متنوعة تنقذ نوعها وتحافظ عليه. ومنها جهز الخالق والمعني بخليقته قوتاً جسدياً للإنسان هذا الملك الجسداني المحتاج إلى القوت جسدياً. ذاك الذي كان عتيداً أن يخلقه من تراب الأرض، ومن ثم يرضع ويقتات منها بوصفه مخلوقاً مركباً مرتبطاً بالجسد، كذلك هو الأمر بالنسبة إلى الحيوانات الجسمانية التي كانت هي الأخرى عتيدة أن تخلق من التراب لخدمة الإنسان، من أجل الحفاظ على نوعها بواسطة الزروع والثمار التي ينتجها بفعل القوة الطبيعية التي منحها الله الخالق للأرض.

هكذا أمر الله الخالق الأرض لتنبت عشباً يبزر بزراً. ونفذ الأمر على الفور وأنبتت عشباً ينمي بزراً من نوعه. وأشجاراً ونباتات ذات قوة طبيعية لتنمي كلاً بنوعه، ثماراً تحافظ على نوعه. ويصير العشب مأكلاً للناس الناطقين والبهائم غير الناطقة وللطيور وكل ما يدب على الأرض، سواء كان رطباً أم أخضر أم يابساً. وكذلك الأشجار فهي لدى نضوجها، تشكل غذاء للناس والبهائم والحيوانات وطيور السماء وكل ما يدب على الأرض

وهكذا منحت الأرض الوالدة، بأمر الخالق قوة مولدة وأخرى مربية، كما منحت هذه القوة لكل نوع يولد منها. لكي تستطيع أن تكون أماً مرضعة ومربية للمولود لتصل به تدريجياً إلى الاكتمال، كما أمر الخالق المعني. وقد أعطي البشر وجميع الحيوانات وطيور السماء والحشرات، قوة الأكل بأفواههم وأيديهم. ليتغذوا بارادتهم الحرة ويترعرعوا. وكل منهم تحركه الرغبة تلقائياً نحوه

وقد أعطى الخالق الأعشاب قوة طبيعية ثابتة لتغذي وتربي نفسها بنفسها عن طريق عروقها المتأصلة في الأرض، حيث تمتص وتنتزع الغذاء من باطن أمها الأرض، فالتربة النقية الناعمة تشكل بنفسها مع رطوبة الماء الراوية، غذاء يكون بمثابة حليب أو أي مشرب أخر، ويدخل فيها الهواء والنار، فيتكون من هذه العناصر المختلطة بصورة متقنة وغير ضارة، غذاء متبلاً ممتازاً ومربياً. كالطعام الذي يتبل ويجهز صناعياً لتغذية الناس وتمتعهم. هكذا أعطيت قوة مغذية ومربية للأعشاب والزروع والجذور والأشجار والنباتات التي أنبتتها الأرض

فبعض منها يكتسب هذه القوة المربية في زمن قصير لا يتجاوز الشهرين أو الثلاثة فينمي نفسه بنفسه. وبعضها يحتاج إلى الغذاء مدة ستة أشهر ليصبح أصلاً لاعطاء البذور. وتطول مدة البعض الآخر على الأرض نحو تسعة أشهر حتى يكتمل. أما الأعشاب والزروع التي تدعى العروق فتحتاج إلى نحو سنتين لاكتمالها، وبعضها يحتاج إلى ثلاث سنوات. فهي تنبت وتترسخ في باطن الأرض في السنة الأولى، وخلال السنة الثانية تكتمل، ومن ثم تباشر باعطاء البذور. أما الأشجار فتحتاج جميعها إلى أربع سنوات من التغذية والتربية لكي يقوى عودها وتترسخ في باطن الأرض. وقليل منها تبكر فتعطي ثمراً في سنتها الثالثة، وغيرها تبدأ في الإنتاج في السنة الرابعة كما جاء عنها في الشريعة الالهية “أن يقدموا قربان شكر لله الخالق من ثمارها في سنتها الرابعة، ومن ثم يأكلون هم ثمارها. هكذا أودعت قوة مربية من قبل الله، في الأرض وداخل الأرض، بعد القوة المنبتة

وهكذا نلاحظ أن النباتات العشبية الصغيرة التي تكون كلأ، تعطي نتاجاً حينما تصلها حرارة الشمس صيفاً، وفي نهاية الصيف تجف مع جذورها وعروقها داخل الأرض وتموت تماماً وتصير هشيماً يابساً لذا تسمى حولية حيث أنها تنبت وتكتمل وتثمر ثم تجف وتصبح هشيماً يابساً خلال سنة واحدة. أما النباتات الجذرية، فلا تموت ولا تجف، بل تبقى حية داخل الأرض، بعد موسم الصيف الذي فيه تنفض بذورها وأوراقها، حيث تستمد غذاءها من جذورها وعروقها الأولى التي ثبتت واحتفظت بالحياة في باطن الأرض. وفي مطلع الربيع تستيقظ وتباشر بإنماء نباتات جديدة. وهكذا تتكرر هذه العملية سنوياً. كما في السنة الأولى، فتكون بذلك أشبه بالأشجار الكبيرة الحية التي لا تجف، منها بالحشائش الحولية. أما الأشجار المثمرة فتكتمل وتعطي ثمارها في السنة الرابعة بعد أن تتغذى وتتربى داخل وخارج الأرض فترة ثلاث سنوات كما أشرت. وتلقح هذه الثمار وهي على أغصانها في الموسم الشتوي من السنة، وتنضج في نيسان الموسم الربيعي، وتترعرع كما في أحضار أمهات ملتفة بثياب ناعمة تحت أكناف أغصان الأشجار، وبين الأوراق الغضة المنعشة خلال مواسم الصيف الحارة، وعندما تنضج ثمارها تماماً تتساقط تلقائياً وارادياً وتلقي بها على الأرض دون عصيان، أن صح التعبير. وكأنها تنادي الناس وتقول: هلموا والتقطوا هذه الثمار أو الأبناء التي ولدناها لكم، فقد أعددناها لطعامكم وتمتعكم.

هكذا تعطي الأشجار ثمارها للبشر بحسب أمر الخالق، ويلقي كثير منها بأوراقها بعد ثمارها، وبعض الأشجار تعطي الثمار بسهولة ولطف، في حين يشد البعض الآخر أوراقه لئلا تنتزع عنه. على هذه الصورة خلق الله الخالق المبدع الأرض والأعشاب التي فيها والزروع والجذور والأشجار والشجيرات، وذلك في أول أمر اصدره إليها لتعطي بذوراً حفاظاً على نوعها، وطعاماً وتمتعاً للناس ولجميع حيوانات الأرض
ونفذ الجميع أمر خالقها، فأعطى كل منها بذراً كجنسه وشبهه حفاظاً على طبيعة نوعه التي خلقت فيه. فبعضها تحمل البذور في قمتها أو أغصانها لدى نضوجها، كالكرنب والفجل والسلق والموخيا والكراث وبعض أنواع البصل، والحنطة والشعير والباقلاء والعدس وكل المواد القابلة للطحن، ومعها البقول والبقول البرية، والشوكية، ومنها ما تولد بذورها لحفظ نوعها داخل الأرض. مثل الكركم وبصل النرجس البري. وهناك أنواع أخرى من هذا القبيل. وأنواع تشبه البصل تسمى أبصالاً، وأنواع تزرع بجذورها في باطن الأرض وليس فوقها، ومنها ما تعطي بذوراً من تحت الأرض ومن فوقها. مثل بذر الحرمل والكرات البري. ومن أمثالها أيضاً، النعناع والتبل والقصب وغيرها كثير تحمل البذور في قمتها وترسل جذورها إلى أعماق الأرض، وتولد نباتات لحفظ نوعها

وعلى نفس الغرار تنتج الأشجار ثماراً على أغصانها وتربتها وتسمن بذور ثمارها؛ كل بنوعها، لأنها تحمل في داخلها قوة لحفظ وانقاذ كيانها، وذلك بمقتضى قرار الخالق الذي أمر الأرض لتخرج شجراً مثمراً يحمل في داخله بذوره كنوعه وشبهه. فإذا خلق الله الأشجار المثمرة، جعل البعض أن يغطي بذورها بطبقة شحمية سميكة حفاظاً عليها، وهذا ضروري وحق للإنسان الذي كان الله عتيداً أن يجعله سيداً لها ومالكاً. ليأكل ويتنعم بها. وأمثال هذه، التفاح والسفرجل والكمثري والتين، المكسوة شحماً لذيذاً وطيباً. تقدمه للإنسان كرامة له، ويوجد في داخلها البذر حافظ نوعها. وتوجد داخل بذر الأثمار قوة طبيعية ثابتة بإمكانها أن تحافظ بصورة تامة على الأنواع، كل بنوعه. حيث تكون فيه الجذور والعروق والأعناق والأغصان والأفنان والأوراق والأثمار التي تحمل البذور في داخلها. وقد أعطى الخالق بذور بعضها أن تحتمي داخل طبقتين واقيتين للحفاظ الكامل على نوعها، كالمدن المحتمية بسور وسوير، مثل الجوز واللوز والفستق والبندق وما شابهها، فهذه تقدم للناس ما في داخلها من البذور حافظة نوعها تقدمة معتبرة قابلة للأكل، وقد كونت داخل سورين، إذ تحتمي داخل قشرة قاسية عفصية قبيحة غير قابلة للأكل، وداخل جدار خشبي قاس غير قابل للاختراق، يشبه العظم. هكذا وقى الطبع المبدع بكل أمان، البذور حاملة هذه الأنواع، وأعطاها بدورها مأكلاً طيباً للبشر

وقد سور كذلك بمهارة، العناب والخوخ الشامي والخوخ الفارسي وما شاكلها: بغلافين، الأول طري وشحمي، والثاني عظمي قاس، وجعل الغلاف الأول الخارجي الطري مأكلاً لذيذاً للناس، والداخلي الخشبي غير قابل للأكل على الاطلاق، حفاظاً على البذر الطبيعي الذي وضعه في داخله. أما بذرة شجرة الزيتون الفاخر البهي، فقد حفظها هي الأخرى بغلافين كالتي سبق الحديث عنها، شحمية وعظمية أكثر قساوة، وجعل ثمرتها مصدر دسم لكي “بالزيت يبتهج وجه البشر”، وينمو لحمهم وعظامهم، وتكتسب أطعمتهم نكهة، ويستعمل للإضاءة والعلاج وحاجات أخرى مختلفة وضرورية
وإذ جعل الرمان بذوراً طبيعية عديدة، جمل كل بذرة منها وأحاطها بطبقة طيبة شهية، وضم جميعها تحت غلاف واحد طري، حتى إذا ما نمت وكبرت من الداخل، ارتخى الغلاف ونما هو الآخر تدريجياً ليفسح لها متسعاً من المكان كبيت للسكنى. وقد جعل الله بذور هذا النوع كذلك طعاماً هنيئاً للبشر، ولحفظ استمرارية هذا النوع وبالإضافة إلى أجناس الأشجار التي سبق ذكرها

وأعطى الله الحكيم والقادر على كل شيء الإنسان بوصفه معنياً صالحاً بالجنس البشري: الكرمة وهي غرسة صغيرة وأضعف الجميع. وأكرم بذرة هذه الكرمة بوضعه إياها تحت غلاف شحمي واحد ذي نكهة وشهي بمنظره وطعمه، ويكون طعاماً لذيذاً للجنس البشري، وخمراً يبهج قلب الإنسان كما كتب. وحاجات أخرى قيمة وضرورية. ويوجد في داخل هذه الغلاف، غلاف صغير عظمي صلب ومضغوط وذو أهمية كبرى، أوجده ليظهر فيه كرامة وأهمية هذا العمل. ولأن الناس في هذا العالم، اعتادوا أن يحفظوا بأمان تام واحتراز، كل شيء ثمين وضروري، لذلك استحقت بذور العنب الكرمة كل هذا الاهتمام والعناية من الخالق المعني والحافظ. وبهذا نكون قد تحدثنا هنا عن كرامة وأهمية الأشجار، وما فيها من بذور حافظة نوعها والأعشاب التي تنبت على الأرض بأمر الخالق، لتكون طعاماً وحاجات أخرى للناس والحيوانات والبهائم والطيور وكل ما يدب على الأرض. وبصدد ذكر الحنطة والكرمة والزيتون نقول: أن الله قد أعطانا من هذه ما هو الأكثر ضرورة لحياة البشر، أعني الخبز والخمر والزيت، وأعطى معها سائر المواد الأخرى، مظهراً غزير صلاحه وعظيم صنيعه بالنسبة إلى كل الأشياء الكبيرة منها والصغيرة

وبحسب روايات بعض من كتبوا، فقد خلق الله للجنس البشري أثماراً أكبر من التي عندنا في بلاد أخرى نائية – كالهند والحبشة وبلاد سبأ – ولكي نستطيع أن نستوعب هذا، أوجد عندنا الطرنج (السندي) الذي ينقذ ويحفظ بذره في ثمرته حفاظاً لنوعه ضمن غلاف شحمي كبير وثخين ودسم. ومن الأعشاب التي تنمو على الأرض، ثمرة البطيخ الحلوة اللذيذة. كل هذه الثمار، وغيرها كثير أعطانا الله من الأرض التي أمرها بانبات العشب الذي يبذر بذراً لجنسه، وشجرة تصنع ثماراص تحوي بذرتها كنوعها وشكلها. وتلك التي أنبتت، بأمر الخالق، أعشاباً وبذوراً وجذوراً تبذر بذوراً، كل لجنسه، وأشجاراً مثمرة، يعطي كل منها الثمر الذي زرعه، قوة طبعه بصورة طبيعية ثابتة، وبامكانه أن يحافظ على تسلسل نوعه الخاص بحسب طبيعته. فكل بذرة تحمل داخل الثمرة، سواء ثمرة الأشجار أم الأعشاب، خصائص طبيعتها والقوة التي تحفظ نوعها، وإذا أراد الإنسان أن يعرف الطبع بالنسبة إلى هذه الأمور، لا يسعه إلا أن يقول: أن الطبع هو ما وجد في شيء ما بصورة دائمية ثابتة سماه الإنسان قوة أو شيئاً ما مفيداً. فهو أبداً المصدر الأول لتكوين وتثبيت ذلك الشيء. ونظراً إلى ما فيه من خصائص، بامكانه أن يحرك أي شيء من أجل انبات نوعه، وأن يحافظ عليه لئلا ينتهي أو يتغير. بهذه الكلمات يعرف الطبع، وهي توضح قصد الله من قوله: “ليكن شجر مثمر” حيث عنى ذاك النوع من الشجر الذي يحمل بذرة بحسب نوعه. أي البذرة التي تحتوي على قوة انقاذ الذات وتثبيت طبيعة نوعه. ففي بذرة التفاح والسفرجل وما شابهها، وفي بذور جميع ما ينبت على الأرض: توجد قوة تكوين الطبع الخاص لكل واحد منها. وهكذا أعطى الله الخالق المعني بالجنس البشري، من الأرض كمن من مرضعة، ما يكفي من القوت ويناسب البشر والحيوانات التي تعيش معهم على الأرض، وطيور السماء وكل ما يدب على الأرض، حيث يفتح يده فيشبع رغبة كل حي، كما يرتل الروح ممجداً، فيعطي الحنطة لاستخراج الخبز الذي يسند قلب الإنسان، والكرمة التي بها يفرح قلب أن يتأكد الجميع بأن الله الأب وجه عبارة “لتكن الأنوار في جلد السماء” إلى كلمته الخالق، ومن ثم وكما كتب الروح، نفذ الكلمة الخالق ومبدع الكل، الاله القوي والقادر على كل شيء والمساوي لوالده في الجوهر، فخلق الشمس والقمر النورين الكبيرين، ومجموعات فائقة ومدهشة من الكواكب، فتحركت بإشارة منه في فلك السماء لتنير الأرض وتفصل بين النور والظلام. وقد تم هذا بفعل الروح المساوي في الجوهر والقوة والخلق للأب المبدع وكلمته الخالق. على هذه الصورة جهز هذا الكون كما يجهز بيت الملوك، بالأنوار والمشاعل والقناديل، قبل أن يخلق الإنسان ذلك الملك الذي اتخذه مسكناً. ورأى الله أن كل ما عمل هو حسن كما سلم إلينا الروح الملهم والعارف بالأمور الإلهية

الشمس لإنارة الأرض

يقول الروح في خلقه الأنوار: “أن الله جعلها لإنارة الأرض والفصل بين النور والظلام، ولتكون للآيات والأزمنة والأيام والسنين”. بعد استمداد العون من الروح، نقول كلمتنا، ترى ما الذي كان يقصده الروح بقوله في اليوم الأول: أن الله قال: “ليكن نور وكان نور”. وما الذي يقصده بقوله هنا: “لتكن الأنوار وخلق الأنوار” ؟ وهل من اختلاف بين نور ونور؟. وإزاء هذه التساؤلات نود أن نتحدث بالتفصيل التام عن الشمس وبقية الأنوار

فمن المعروف أن الله عندما خلق في البدء السماء والأرض، خلق العناصر الأربعة في آن واحد، التي منها تكونت السماء والأرض. وما فيهما. وخلقت في الوقت نفسه خصائص كل عنصر. فإذن خلق مع السماء والأرض، الماء والهواء والنار وجميع خصائصها. ومن المعروف أن النور يتولد من النار، أو أنه صفة ثابتة فيها مثل الحرارة، قابلة للتحرك فوق أو خارج العناصر. كالظلام الذي هو الآخر صفة كامنة في الأجسام القيمة والصلبة والجامدة: كلياً في الأرض وجزئياً في الماء. فهذه خلقت منذ البدء مع العناصر، ولم يخلق النور فيما بعد مع النار. والظلام المظلل مع الأرض. فالظلام الذي ظلل جسم الأرض، ظلل جزئيا وبصورة شفافة. فإذن كان النور مع النار منذ البدء، كما هو الظلام مع الأرض والماء. عندما قال الله: “ليكن نور” كما سلم لنا الروح، لما قال: “ليكن” أي ليظهر وينجلي وينير، وكما قال أحد ملافنة الكنيسة القديسين: “أن قوله، ليكن نور، يعني أن يتغلغل النور المنبثق العلك وتستخرج من أشجار شوكية في مصر. وكالسائل المعروف بـ الأمونياك المنسوب إلى آمون ملك ملوك مصر، لأنه يستورد من هناك. وكالحليب الذي يخرج من جذور Panacia والسائل أي الافراز المعروف بـ Sarcocolla . وكالتي تدعى Tragacantha أي الكثيراء، وغيرها من السوائل الدسمة والطرية التي تسل من دسامة خشب الأشجار وتنضج على قشرة الجذع الخارجية. وأشياء أخرى ضرورية للبشر تستخرج من الجذور في باطن الأرض. وإلى جانب هذا، ظهرت صناعة الطب، وما ابتكره عقل البشر وذكاؤهم بهذا الخصوص. فأنهم يختبرون عن ذكاء ومعرفة، عروق أعشاب الأرض ويستخلصون عصارة غزيرة هامة ومفيدة من رطوبة أوراقها وقشورها. وفي حالة قلة الرطوبة في أرواق وجذور العروق أو الأعشاب أو الأشجار بحيث لا يمكن استخلاص عصارة منها، ابتكروا وسيلة أخرى ذكية، أنهم يأخذون الأوراق والجذور والقشور ويغلونها في الماء حتى تذبل فيجففونها، فتكون لها نفس الفائدة التي للعصارة. مثل العود الصيني أي الصبر، وما يسميه الأطباءAcalia صمغ عربي، وغيرها من السوائل والعصارات والمسلوقات المفيدة المستخرجة من أعشاب الأرض والأشجار والعروق.

إضافة إلى هذا، هناك منافع أخرى كثيرة وضرورية للناس من خشب الأشجار. فهم يصنعون من أخشابها سقوفاً لبيوت سكناهم، وأدوات لاستعمالاتهم الضرورية المختلفة، سواء في البيت أم في الفلاحة أم في صنع أدوات وأثاث مختلفة لاستعمال الناس مثل الطاولات والكراسي والصناديق والدواليب والقصع المستعملة للطعام، وكؤوس الشرب، وغيرها مثل التي يصنعها النجارون لضروريات الحياة كالمحاريث والجراجير والعجلات وغيرها من الأدوات المفيدة في استعمال الناس ما لو ذكر بالتفصيل لعجزت عنه الكلمة من كثرة الألفاظ والأسماء. فمن أين مثلاً عمل نوح الفلك لانقاذه من ماء الطوفان، وأبناء بيته والحيوانات والطيور وكل حي يدب على الأرض، أن لم يكن من خشب الأشجار؟ ومن أين صنع الناس الذين حذوا حذوه في الصناعة : السفن لتجواب البحار الطويلة غير قابلة الاجتياز، أن لم يكن من غنى أخشاب الأشجار التي أعطاهم إياها من الأرض، الخالق والمعني بحياتهم، عندما أمر الأرض أن تخرج أشجاراً مثمرة. فقد قدم الله كل هذه المنافع الضرورية للبشر وكثيراً غيرها من الأشجار المثمرة، ومن ثمارها وأخشابها، فلم يترك الخالق الحكيم شيئاً عديم الفائدة كلياً، حتى الثمار التي لا تؤكل. وحتى الأشجار المعروفة بـ Viscum ليست بدون جدوى، فأن الدبق الذي تفرزه يشكل مصيدة يستفاد منها الصيادون لاصطياد الطيور بطريقة فنية خادعة، ومن هنا يسمي اليونان ذلك الصيد Viscarium وحتى ثمرة أشجار دفنه أي الاستيرين الكريهة والمضرة، يتخذ منها بعض الناس مصايد، إذ يسحقونها ويلقون بها في أحواض المياه ليشرب منها السمك فيعمى ويسهل اصطياده. وكذا الحال بالنسبة إلى بقية الأشجار والنباتات والجذور والأعشاب والبذور المضرة التي لا تؤكل. لذا فأن كل ما صنعه الله هو حسن كما جاء في الكتاب المقدس. ويشهد جميع الحكماء وذوو العقل الراجح، بأن الله لم يعمل شيئاً عبثاً دون أن يفيد العالم بشكل أو بأخر. حتى ولا الخريفالقاتل، ولا تلك النباتات ذوات اللبن المضر ولا البصل البري، ذلك العرق المحرق، ولا سقمونيا المميت. فهذه كلها وما شابهها ليست دون أهمية أو فائدة للبشر على اطلاق، وإذ يعتقد أنها ضارة ومؤذية من ناحية. فإذا بها صالحة ونافعة من ناحية أخرى. حيث يوجد طريق الخير إلى جانب طريق الشر، كما جاء في الأمثال وفي علم الخير والشر. وهذا وارد في الكتاب المقدس أيضاً. فإذا تأملنا أعمال الله لا نجد شيئاً شراً أو عبثاً. خالياً من المنفعة. بل لا بد وأن يسد حاجة ما من حاجات البشر. فقد أوجدت الحكمة المبدعة ثياباً جميلة البشر من قشور الكتان، وكذلك بالنسبة إلى نبات القطن. ويصنع من قشرة نبات القنب، الحبال وحاجات ضرورية أخرى. ولم تهمل همة البشر البردي أو أي نوع من الشجر والأعشاب التي تنبت في الماء مهما كان حقيراً، دون أن تستخلص منه فائدة أو تسد به حاجة من حاجات الناس، ولم تستخرج حذاقة المسيحيين الحكيمة والخلاقة مواداً ضرورية للذين يستنسخون فقط، بل استخرجت منه أيضاً مواداً ضرورية أخرى. ولم يهمل عقل الناس الحكماء الماهرين الخلاق، أوراق الأشجار وسيقان الأعشاب وأوراقها والجذور وقشرة القنب وأعشاب الطوافة والهشيم اليابس، إلا واستخلص منها فوائد متعددة ضرورية للاستعمال والتداول، ولكي يدرك الجميع بأن الله الخالق لم يأت بشيء كبيراً كان أم صغيراً عبثاً لا نفع فيه أو غير حسن. بل أن جميع هذه الحاجات والضروريات خلقت لأجل الإنسان الجسدي المحتاج إلى الأشياء الجسدية، ولكي تؤول إلى مجد خالقه الحكيم والقادر على كل شيء والمعني الصالح بخليقته، له المجد والعظمة على كل ما خلق إلى أبد الآبدين، آمين