مقدمة
أن الذين يبنون قصور الملوك، ويعدونها بعناية تامة من أجل راحة وكرامة الملك العتيد أن يسكنها، فأنهم. إلى جانب ما يعدون من الحاجات والمستلزمات. يهيئون أيضاً بهائم لخدمة الملك وراحته، وحيوانات لتذبح طعاماً له ولأهل بيته، واكتمالاً لأطايب مائدته، وأحياناً يأتون ببعض الوحوش البرية للمتعة والخدمة والمساعدة في الصيد، كذلك أيضاً، الله خالق هذا الكون البارع والقادر على كل شيء، ذلك المهندس الحيك والمعني بخليقته ومدبرها. وبخاصة ذلك الجنس الذي كان عتيداً أن يخلقه بعد كل ما خلق، ويسلطه على جميع خلائقه المنظورة والجسمانية، بعد أن يكون قد زين الأرض بنباتات الأعشاب والزروع والعروق والشجيرات والأشجار. وبجمال كل من طبيعة المياه والهواء، بما تحويه المياه من السمك والزحافات. وطيور تطير فوق الأرض في جلد السماء. ثم أراد أن يزين الأرض بزينة أخرى هامة بديعة ونفيسة أكثر من الأولى، على اعتبار أن الحي المتحرك هو أفضل مما ليس فيه حياة أو حركة. فقد كانت مزينة بالنباتات والأشجار وبما هو محسوس وغير متحرك، وهو الآن يزينها بالحيوانات ذات نفس حية وذات احساس وحركة. تمشي وتسعى على الأرض. فقبل أن يخلق الإنسان. أراد أن يخلق ما هو لخدمته ومنفعته من بهائم وحيوانات ووحوش، الموجودة حالياً على الأرض حيثما يسكن البشر. لذا قال الكتاب “لتخرج الأرض ذوات أنفس حية كجنسها. بهائم ودبابات ووحوش الأرض كأجناسها. وكان كذلك”. وهذا أيضاً يدعونا إلى الاعجاب بعظمة قوة الله الخالق، الذي بكلمة وباشارة قوته فقط، بخلق كل هذه بسهولة ودون عناء، ويأتي بها من العدم إلى الوجود
يقول الروح: “أن الله أمر الأرض لتخرج..” ثم يشهد قائلاً : “فكانت كذلك للحال”. فالعبارة اللاحقة في هذا الكلام تشير إلى أن كل شيء قد تم بموجب ما أمر الله أن يكون. ولا يقوى على مثل هذا العمل سوى قوة الخالق. لذا فأن الروح رتل قائلاً “قال فكانت. وأمر فخلقت” فقوله أذن “لتخرج الأرض” كان يعني. لتكن هذه من الأرض أو في الأرض فكانت كما قال. فأن الذي أمر الأرض فتكونت من ذاتها، بامكانه أن يأمر وتخرج منها أشياء أخرى في لحظة ودون تأخير، فهي لا تستطيع أن تعصي أمره. لذا كتب أولاً: “أنه قال لتخرج الأرض”، ثم أردف “وكان كذلك” فبمثل هذه السهولة يخلق الله “لتخرج الأرض نفساً حية كجنسها. البهائم والدبابات ووحوش الأرض كجنسها.. وكان كذلك”. فأنه أمر الأرض التي لا نفس لها أن تخرج ذوات أنفس حية. والتي لا حياة لها ولا تتحرك. أن تخرج أحياء متحركة. لذا فأن قوته جديرة بالاعجاب. فلو كانت الأرض حية وذات نفس لما كانت جديرة بالاعجاب بهذا المقدار، إذ يأمرها الله لتخرج أنفساً حية، ذلك لأن كل الأنفس الحية تلد، فلو كانت الأرض حية لما استحقت الاعجاب لو ولدت أحياء، ولكن الشيء العجيب الذي يشير إلى قوة الله العظيمة هو أن يأمر أرضاً لا حياة فيها ولا نفس فتخرج نفوساً حية. وهذا (يشير) إلى أن ما كان في العدم من بهائم ووحوش ودبابات تدب على الأرض. جاء بها إلى الوجود، حيث أخرجتها الأرض بأمر منه. ومن المعروف أن هذه هي وليدة العناصر الأربعة وليس عنصر التراب فقط
تحليل لبعض آيات الخلق
ترى ما الذي ينبغي أن نبحثه هنا أيضاً، ثم نتأمل في ما كتب فيما بعد؟ يقول “وخلق الله حيوانات الأرض كجنسها والبهائم كجنسها، وجميع دبابات الأرض كأجناسها.. ورأى الله أنها حسنة”، يجب ألا يعتقد أحد وهو ينظر إلى ترتيب الكلام، بأن البهائم أقدم من الوحوش، والدبابات التي دبت على الأرض هي الأخرى أقدم من الوحوش. فأن هذا مجرد ترتيب للكلام الذي جاء فيه ذكر البهائم أولاً ومن ثم الدبابات وأخيراً الوحوش، ولكن في العبارات التالية، أبعد هذا الاعتقاد. إذ وضع الوحوش في المقدمة ومن ثم البهائم، وآخر الكل الدبابات، حيث قال “حيوانات الأرض كجنسها، والبهائم وجميع دبابات الأرض كأجناسها” فقد أظهر بما كتبه في الحالتين الأولى والثانية، أنه (الله) خلق جميعها كقادر على كل شيء بكلمة قوته في آن واحد، وليس هناك ما سبق الآخر في تكوينه. فأن هذه العبارات كتبت ورتبت بما يتماشى مع ما هو مألوف بالنسبة إلى طاقتنا، التي تنجز الأشياء واحداً بعد الآخر وليس كلها في آن واحد. ومن المعروف أن هذه الأشياء كلها كونت دفعة واحدة، وليس فيها ما سبق خدنه. فلا البهائم سبقت الوحوش ولا الوحوش سبقت دبابات الأرض. ومن هنا استوجب البحث في هذا (الموضوع) أيضاً
يقول في العبارات الأولى “قال الله لتخرج الأرض نفساً حية، بهائم ودبابات ووحوشاً” وفي العبارات التالية يقول “وخلق الله حيوانات الأرض كجنسها”. وبهذا أوضح الروح الذي كتب هذه، أن الأرض ليست هي التي أخرجت هذه (الحيوانات). بل أن الله الخالق هو الذي خلقها بفاعلية أمره. وهنا أيضاً يوجد تمييز في أقنوم اللاهوت المساوي في القوة والأزلية، بين الذي أمر الأرض أن تخرج وبين الذي نفذ ما أمر به. لكن الروح دون ذلك بشكل رمزي سري نظراً إلى طفولة اليهود وضعفهم (في الادراك)، فالله الاب بقوله “لتخرج الأرض..” كان معروفاً بأنه رأس كل شيء وخالق الكل، وهو ذلك العقل العظيم الذي ولد منه أزلياً كلمته المساوي له في الأزلية والمجد والخلق دون انفصال أو ألم. أما عباراته الأخيرة التي يقول فيها “وخلق الله حيوانات الأرض كجنسها”، فكان المقصود بها كلمة الاب الأزلي وابنه الوحيد، ذاك الذي هو قوته وذراعه وحكمته. وهو الآخر خالق الكل، وبه ومع الاب والروح القدس، كونت الخلائق كلها، سواسية. المنظورة منها وغير المنظورة، وقد أقام وأبدع هذا العالم كخالق حكيم كما رتل الروح : “بكلمة الله خلقت السموات، وبروح منه كل قواتها”. هذا هو الله خالق الكل. وقد كتب الروح قائلاً: “خلق الله حيوانات الأرض كجنسها والبهائم كجنسها، وكل دبابات الأرض كأجناسها”. أنه خلق وميز كل واحدة بميزات نوعها وجنسها. وعلى ضوء الكتاب نقول: أن الله الخالق. خلق أجناس الحيوانات الثلاثة هذه في اليوم السادس قبل أن يخلق الإنسان لتكون في خدمته ولفائدته وحاجته من أطايب الطعام وغيرها من الفوائد التي فصلها الكتاب بأسماء معروفة وتسميات خاصة. وسنفصلها نحن أيضاً ولا سيما في ما يخص تسمياتها المختلفة وخصائصها المتميزة
أصناف البهائم
لقد اعتاد الكتاب والناس على حد سواء. أن يدعوا بهائم. الحيوانات ذوات الأربع أرجل آكلة العشب، وبخاصة تلك التي تألف الإنسان وتستأنس له. وترضخ لعبوديته. لذلك يسميها اليونانيون بقراً. بدلاً من تسميتها “بهائم”
وتدعى بهائم بصورة رسمية وحقيقية كل من : الفيل وذي السنامين والجمل والثور والحمار والحصان. فهذه تسمى بهائم. استعارياً أو عملياً، لكونها عبيداً للإنسان حقاً
وكذلك تلك التي ندعوها ماشية، أعني الغنم والماعز وصنف الخنازير. هذه كلها يستعبدها الإنسان. هذه هي البهائم من الحيوانات ذوات الأربع أرجل وآكلة العشب. أما التي تعيش مع الإنسان دون أن تخضع له فهي: حمار الوحش، والغزال والظباء وتيس الجبل ومعز الجبل الذي يسمى الوعل، والتيس البري واليحمور. والريم ووحيد القرن، هذه هي حيوانات آكلة العشب المعروفة لدينا والتي تعيش في مناطق سكنانا. ويوجد أخرى كثيرة من آكلة العشب في أقطار أخرى، كما أعتقد، لا بل أجزم، غير معروفة لدينا، كما ونجهل أنواعها وأسماءها. وأن احدى فصائل حيوانات الأرض ذوات الأربع أرجل، هي ما تسمى بالحيوانات آكلة العشب، والفصيلة الثانية هي المدعوة: الوحوش، وهي حيوانات آكلة اللحم، وهي خاطفة وقاسية على نظرائها، وقد تبحث حتى عن الإنسان المتسلط عليها. ومن أصنافها وأسمائها: الأسد، الدب، النمر، الفهد، الذئب، الضبع، ابن آوى، الثعالب. النمس (دويبة كالنسور) وما شابهها
وتلك الموجودة في أقطار أخرى غير معروفة لدينا، ولا نعرف حتى أسماءها. وهناك بعض آكلة اللحم تألف الإنسان، مثل الكلب رفيق الإنسان والقط. وكذلك ما يتوسط آكلة اللحم وآكلة العشب، مثل خنازير البر والدعلج والأرانب. وما يسمى بالقرود، وربما هناك أنواع أخرى صغيرة بين آكلة اللحم، أو ما بينها وبين آكلة العشب، مثل التي تدعى أيل الجبل وهي تعيش بين الأشجار. وغيرها من أمثالها، وأصغر غير معروفة لدينا التي تنتمي إلى كلا فصيلتي الحيوانات ذوات الأربع أرجل، من آكلة العشب وآكلة اللحم
الصنف الثالث : الدبابات
أما الصنف الثالث الذي سمي دبابات تدب على الأرض. فأن أنواعه كثيرة ومختلفة ولا تحصى. ولا تعرف أسماؤها وتسمياتها. وأول هذه الأنواع هو ذات الأربع أرجل مثل الوحوش والبهائم. وهي تحبل وتلد مثلها. ومن أمثالها: الخلد والفئران وابن عرس، وربما هناك ما يشبهها ولا نعرفها. وبينها نوع آخر من ذوات الأربع أرجل كالنوع السابق. فهو لا يحبل ويلد أجنة متكاملة حية، لكنه يضع بيضاً كالطيور ويحضنها. فتخرج منها أبناء أحياء حاملة نوعها. وأمثال هذه، الورل والعضايا والتمساح والضب والحرباء أي نوع من الحرباء الذي يسميه اليونانيون أسد الأرض. وهناك نوع ثالث لا أرجل له البتة، ويضع بيضاً ويسمى حية، وتعم هذه التسمية سائر أنواع الحيات. أما النوع الرابع الكثيرة الأرجل فمنها العقارب والشبث وجميع التي تعيش مثلها في التراب. وبه تولد أنسالاً لأجناسها
ونوع الدبابات الخامس هو النمل والحشرات الصغيرة، وهي الأخرى تضع بيضاً في التراب وتولد بنين وتربي من أجل تسلسل جنسها
وهناك أيضاً نوع سادس من الدبابات له فروع كثيرة وهو مختلف الأجناس. أمثال القانصة المسماة ثيران الأرض، وتلك المدعوة عناكب المستمد اسمها مما تصنعه من نسيج وهي الأخرى أنواع وأشكال مختلفة. وتلك المسماة أسد الذباب. واضافة إلى هذه هناك نوع سابع يضم سائر أنواع وأجناس الجراد والحرجل وما شابهها. فهي الأخرى تضع بيضاً في التراب وتولد بنين وتربيها وهي من حشرات الأرض، وفي الوقت نفسه من الحشرات الطائرة في الجو، لذا تطلق عليها كلا التسميتين. أي دبيب الأرض وطير السماء
وهناك نوع ثامن بين هذه، يلد جراداً زحافاً أي دوداً، وبأشكال كثيرة ومتباينة، ويرمي بكثير من الفضلات وهو يزحف. ومن ثم يكشط جلده ويطير، لذا فأنه يعتبر وسطا؟ً وثنائي الحياة، حيث أنه يحصى مع كلا الدبابات والطيور. وهذه كلها رباعية الأجنحة. ومنها ما تكون أجنحتها خفيفة، ومنها ما هي ظاهرة دائماً وليس لها غطاء. فجميع هذه الأنواع التي أحصيناها توجد في صنف الدبابات. وكثير غيرها موجودة في أقطار الأرض المختلفة لا يدركها عقل الإنسان لكثرتها ولاختفائها في الأرض. وقد جعل الله الخالق والقادر على كل شيء. صنفي أجناس الحيوانات ذوات الأربع أرجل التي سبق ذكرها، تحتوي على أنواع أخرى كثيرة، ما خلا التي ذكرت في أطار عديدة وبعيدة. لأننا نجهلها ولم نألفها. إذ ليست مدونة لدينا ولم ترد لها أسماء في لغتنا. فهذه كلها أوعز أمر الله الخالق والقادر على كل شيء، أن تخرجها الأرض
ومن الملاحظ أن تأثيره ما زال قائماً يفعل نفس الشيء عندما وحيثما يشاء، سواء بقصد التأديب أم لفائدة ما. فهو الذي، بعمق أحكامه الإلهية، يعرف ما يجب أن يصنعه. فعندما يحسن له فأنه يأمر الأرض فتخرج بلحظة واحدة جراداً كثيراً أو فئراناً لا تحصى، تأديباً للناس وردعاً لهم. إما سناً أو جندياً أو قملاً أو صرصوراً أو شيئاً آخر. وأن كان رحمة بهم فيرسل السلوى أو طيوراً أخرى طعاماً لهم. ندرك ونفهم من هذه الأمور، أن مفعول أمر الله الأول ما زال، يرافق الأرض، ويضغط عليها لتخرج حيوانات للحال إذا شاء، وأن لم يشأ أن تخرج بالطريقة الأولى، فتقيم النسل بطريقة الولادة دون أن تضعف طبيعتها. هذه هي فاعلية الأمر الذي صدر إلى الأرض لتخرج حيوانات. مثل الأمر الصادر إلى السماء لتدور وإلى أنوارها لتنير الأرض، ومثلما أن تلك لا تهدأ من الدوران. هكذا أيضاً فأن الأنواع التي خلقت بفعل الأمر الأول، لا تحرم النسل المستمر الذي يحفظ طبيعتها. وقد قدمت كلمة الله السماء وما فيها من أنوار، وفصلي الصيف والشتاء برهاناً على ذلك
ولما كان الحديث قد تطرق بصورة عابرة إلى مثل هذه الاختلافات (في الحيوانات) التي أخرجتها الأرض، لذا استوجب أن نبدأ من جديد فنتحدث عن كل منها بقدر المستطاع، وبها ندلك على عظمة اقتدار خالقها، وتشعب حكمته غير المدركة
يوجد بينها اختلافات عديدة وأشكال متنوعة لا يشبه بعضها البعض، سواء في فترات حبلها أم ولادتها وتربيتها، أم في اختلاف أنواع طعامها. أم في مدة حياتها أم في خصائص رغباتها. وكذلك في عمالها وفي أمور أخرى كثيرة ومتنوعة لا يشبه بعضها البعض
الفيل
يقال في صنف الفيل : أن مدة حملها في بطون أمهاتها سنتان. ولا تكتمل حضانتها إلا في السنة الثانية عشرة. ومثلما أن فترة حملها تختلف عن سائر الحيوانات. هكذا أيضاً فأن فترة حضانتها تأخذ وقتاً طويلاً يتناسب وضخامة جسمها، فأن الله الخالق والقادر على كل شيء، نظم مدة حياتها بالقياس إلى فترة حملها وحضانتها وضخامة أجسامها. ويقول الخبراء. أن الله أمد حياتها إلى ما يقارب الثلاثمائة سنة
وقد رتب الله أيضاً أن يخضع للإنسان هذا الحيوان الضخم. بل جبل اللحم كما سماه بعضهم نظراً إلى ضخامته، ولكن مهما بلغ من الضخامة فهو ذليل أمام الإنسان، ولا يستغله الناس للركوب وحمل الأثقال فحسب. بل يصحبونه معهم في الحروب ضد الأعداء. حيث يروضونه على القتال والانتقام من الأعداء أكثر منهم، إذ يسقونه خمراً ممزوجاً بلبان ويسكرونه حتى يجعلوه يركض نحو كتائب المحاربين بغضب واندفاع لا يستهان به، وبذلك يكون قد أزر أصحابه. ويقول الخبراء الذين وقفوا على عادات الفيلة، أن لها خبرة متميزة في الحروب. وأنها تستطيع أن تميز أصحابها من الأعداء مهما اشتبك الفريقان أو سقط الواحد فوق الآخر أو تتبع الواحد الآخر، فتندفع بشراسة وتدوس أولئك وتقضي عليهم، في حين تجتاز أصحابها بنفس الاندفاع ولكن دون أن تلحق بهم أي ضرر، أو تدوس أياً منهم. ويقال أن الفيل لا يحارب بأرجله فقط، بل أيضاً بشفته الطويلة (الخرطوم) وبأنيابه التي على جانبي وجهه، حيث ينطح بها الأعداء ويشقهم، ويبسط شفته إلى الأمام أو اليمين أو اليسار فيصطادهم بها ويقربهم إليه ويطرحهم أمام رجليه لكي يدوسهم ويقتلهم. فقد جعل الله شفته بمثابة أيد له. ليس فقط في حربه مع الأعداء. بل وحتى عندما يحتاجها لتناول الطعام. ففيها يأخذ ما يأكله ويقربه من فمه، وبها أيضا؟ً يجرع الماء أو أي شيء آخر، وبها يأخذ من الأرض ما يريد أخذه، وقد جعل له رقبة قصيرة ومنكمشة ومربوطة بالقرب من أكتافه، لكي تكون شفته القليلة الأذى قريبة جداً من أرجله، وتتردد تحت نابيه المخوفين بشجاعة ودون خوف. هكذا خلق الله الفيل وحصنه من كل جهة لكي لا يلحقه أذى من الأعداء بسهولة. وقد وشحه من الخارج بجلد ثخين وسليم، يليه لحم كثيف مشتبك بالأوردة لئلا يبقر بسهولة بضربة من الخارج، وبسبب كثرة لحمه وثقله، جهزه الله بأرجل مستقيمة لا تنحني شبه أعمدة. وليس له مفاصل أبداً لكي يتمكن من احتمال ثقل الأحمال دائماً إلى جانب ثقل جسمه، ولم يخلقه الله قادراً على أن يركع أو يتكىء مثل بقية حيوانات الأرض، إذ أن أعصاب أرجله لا تقوى على رفع جسمه الضخم وانهاضه بسهولة عندما يتكىء. لذا فأنه لا يتكىء حتى على الأرض. ولكن عندما يريد أن ينام ويرتاح قليلاً. فأما أن يسند جسمه على أشجار قوية راسخة أو على الحائط. لذا فأنه موضع الدهشة لدى الإنسان وهو يتأمل قوته وفهمه من جهة وخضوع إرادته من جهة ثانية، ففي حين زوده الله الخالق بضخامة فائقة وقوة الجسم، وحصنته الطبيعة ببأس وصحة وفهم متميز لا ينقص كثيراً عن فهم ذوي النطق، فأنه مستعبد وخاضع للإنسان. لا يقوى على العصيان والتمرد بالاتكال على ضخامة جسمه أو شدة بأسه، لكنه يخضع لعبودية الناس كلما أمروه. ولو شاء لاستطاع أن يحرر نفسه ويصير سيد ذاته. وعندما يحاول الباحث أن يكتشف الحقيقة الكامنة وراء خضوعه. يرى أن سبب هذا الخضوع لا يعود إلى إرادته هو، بل ينسب إلى الله خالقه القادر على كل شيء الذي أقام الإنسان – صورته، رأساً ومتسلطاً على الخليقة المنظورة كافة، وله يستعبد الفيل، خضوعاً منه لأمر الخالق ولئن كان أضخم وأقوى منه
الجمل
وعلى نفس الطريقة يستعبد للإنسان كذلك ذلك الحيوان الجميل المنظر والبهي المدعو ذا السنامين الذي يزهو بقامة رفيعة وطويلة، وبشعر كثيف ذي لون جميل، وبسنامين منفصلين ومتساويين طبيعياً. يشبهان بحجمهما راكبين متساويين على متن حيوان ما. وبأرجل مستقيمة ومتوازية مثبتة تحت جسمه كأعمدة راسخة، وبرقبة طويلة عالية ومتشامخة. رتبتها الطبيعة بما يتناسب وحجم جسمه، وبرأس ملك الأعضاء مزين بحواس حية ملائمة، وعليه تاج من شعر أنيق. أن هذا ولئن هو أقل من الفيل قوة وحجماً. غير أنه يفوقه كثيراً جمالاً وتشامخاً بجسمه وأعضائه، وهو لا يرفض الرضوخ للبشر الذين هم أقل منه قوة، اطاعة منه لأمر خالقه الذي جعله أن يخدم الإنسان صورة الله الخالق وملك الجميع. وهكذا يستعبد هذا أيضاً للناس بكل أمانة ودون أية ضجة، حتى إذا شاءوا وضعوا زماماً في أنفه واتخذوه مركوباً لهم ووضعوا عليه حملاً ثقيلاً منهكاً. كما يفعلون بالنسبة إلى بقية الحيوانات التي تستعبد لهم
كما تخضع لعبودية الإنسان جميع الجمال التي تنتمي إلى جنس ذي السنامين ولئن لا تنحدر من نفس النوع، والتي تكثر بطريق الصدفة، في بلاد العرب، ودعاها الجميع بهذا الاسم المميز (الجمال العربية). وقد صار هذا اسمها الخاص الثابت. وقد احتال بعضهم بطريقة غير شرعية، رغبة منهم في زيادة ما يخدمهم. فزوجوا النوعين، فنتج نوع يختلف عن كليهما يسمى الهجين ويتصف بالخبث والخداع. وهو حاقد وقاتل ويقترف جرائم كثيرة. فأنه ولئن يخدم أصحابه من دون إرادته، إلا أنه لا يحتمل منهم سوى القليل نظراً إلى غباوته الزائدة، فهو يحقد عليهم لفترة طويلة ولا ينسى شره وخبثه حتى ينتقم من الذين ضربوه. هذه صورة من شر الجمال ولا سيما تلك الهجينة. واعتقد أنه بسبب هذا اعتبره الكتاب الإلهي من الحيوانات غير الطاهرة ولئن ينتمي إلى فصيلة آكلة العشب وليس إلى فصيلة الوحوش آكلة اللحم النجسة برمتها
: الثور
وإلى جانب هذه، فأن الله قد وضع تحت عبودية الإنسان وفي خدمته، الثور ذلك الحيوان الأليف الطاهر، الذي تقول فيه كلمة الله مثنية “حيث الغلال الكثيرة