دور السريان في العلوم النظرية والتطبيقية / الدكتور يعقوب نامق

Posted by on Nov 5, 2018 in Library, دراسات سريانية | 1 comment

دور السريان في العلوم النظرية والتطبيقية

 الدكتور يعقوب نامق

القى الدكتور الراحل يعقوب نامق محاضرة عن دور السريان العلمي وذلك بتاريخ ( 12/ 12/ 1993 ) من على مدرج الجامعة الأمريكية ببيروت حيث تحدث عن دور السريان في العلوم النظرية والتطبيقية وقد اكتسبت المحاضرة أهميتها كونها ألقيت من قبل دكتور في الكيمياء وفيما يلي نص المحاضرة كاملاً :

 يتصف القرن العشرين بما سمي \” تفجر المعرفة العلمية والتكنولوجية \” . ويقال أن ما ينشر من هذه المعرفة في سنة واحدة بجميع اللغات يحتاج الفرد الواحد مئة سنة لقراءتها دون التوقف ! وهذا لا يعني أن المعرفة الحديثة غير مترابطة بالمعرفة السابقة ، إذ أنها تنمو منها وتتسع . وعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر قول اسحق نيوتن وهو في أوج إنتاجه العلمي ، إذ قال بأنه توصل إلى ما توصل إليه لأنه كان يقف على أكتاف العلماء العمالقة الذين سبقوه . كما وأنه يتضح لكل باحث متبصر بتاريخ العلوم ونموها أن المستوى المتقدم الذي وصلت إليه العلوم في زماننا الحاضر يقوم على كونها قد تأسست على التراث العلمي العظيم الذي تركته الشعوب في موكب التاريخ

يسرني في هذه الأمسية أن استعرض معكم نظرة شاملة على دور السريان العلمي وأبين لكم مدى إسهامهم في تقدم العلوم الطبيعية ، النظرية منها والتطبيقية ، دون التطرق إلى العلوم الإنسانية أو الدينية اللاهوتية  . تجدر الإشارة إلى أن العلوم الطبيعية تشمل أيضاً الرياضيات ،  لما بينهما من ترابط عضوي في مراحل النمو المختلفة . كما وإني أؤكد لكم أن هذه النظرية الشاملة هي نظرة علمانية موضوعية صادرة عن شخص علماني وليس عن رجل دين .فقد سعيت ألا يتداخل انتمائي الطائفي مع الحقائق التاريخية . ولكن لا أخفي عليكم بأنني أعالج موضوع هذا البحث من منظور إيماني بعظمة التراث السرياني في مجرى الحضارة البشرية . وقبل البحث بدور السريان العلمي يجب عليّ أن أوضح الخلفيات التاريخية مشيراً بصورة خاصة إلى دور الملل التي تكون منها السريان ، والأماكن التي قام فيها نشاطهم العلمي بصورة رئيسية .

تكون الشعب السرياني

بدأ انتشار القبائل الآرامية في منطقة الهلال الخصيب ، أي بلاد ما بين النهرين وسورية والسواحل الفينيقية والأردن وفلسطين وشمال الجزيرة العربية ، وذلك في أواسط الألف الثاني قبل الميلاد أي حوالي ( 1500 ) ق . م  . وبمرور الزمن أصبح الآراميون يكوّنون الشعب السائد في الإمبراطوريات الآشورية والبابلية والكلدانية . كما أن اللغة الآرامية أصبحت اللغة المحكية في هذه الأقطار رُغم تعدد لهجاتها . وقد تفرع من الآراميين فرع هو الشعب العبراني اليهودي . لم يستطيع الآراميون أن ينشئوا دولة آرامية موحدة : بل ظلوا دويلات وإمارات صغيرة ، نذكر منها على سبيل المثال : آرام نهرين ( الواقعة بين نهري الخابور والفرات ) ، وآرام فدان وعاصمتها مدينة حران ، وآرام دمشق وعاصمتها دمشق . ويجدر بنا أن نذكر أن اللغة الآرامية القديمة توسعت إلى درجة حتى أصبحت لغة التداول الدبلوماسي في عهد الإمبراطورية الفارسية بعد سقوط بابل .

وفي خلال انتشار المسيحية في هذه الديار واعتناق الشعوب الآرامية والآشورية والكلدانية الدين المسيحي ، نبذ هؤلاء التسميات القديمة ، الآراميون مثلاً ، لأنه أصبح يدل على الوثنية ، فسموا أنفسهم سريان (ܣܘܪ̈ܝܝܐ) لكون المسيحية أتت إليهم من سورية .  كما أن اللهجة الآرامية المتداولة في مدينة الرها وجوارها تطورت ، لأسباب سنذكرها فيما بعد ، وصارت اللغة الأدبية والكنسية لجميع السريان أينما كانوا فعرفت باللغة السريانية إلى يومنا هذا . واقتبس الآراميون الكتابة من إخوانهم الفينيقيين في لبنان ، وطورّ السريان الحروف الفينيقية إلى الشكل المعروف بالاسطرنجيلي ونشروها بعدئذ في بلدان الشرق الأدنى وفي بعض أقطار آسيا بعدما بسّطوا كتابتها .

انقسم السريان في القرون الأولى من المسيحية إلى فرق عدة  أهمها السريان الغربيين ومعظمهم في الأقطار الواقعة ضمن الإمبراطورية البيزنطية وعرفوا المنوفيزيين ، والسريان المشرقيين أو النساطرة ومعظمهم في الأقطار الواقعة ضمن الإمبراطورية الفارسية ، والسريان الحرانيين أو صائبة حران ومركزهم مدينة حران وجواره حيث بقي معظمهم على وثنيتهم الخاصة ، والسريان الموارنة ومركزهم لبنان .

إن العوامل التي أدت إلى هذا التطور التاريخي كثيرة منها سياسية ومنها حضارية دينية . لقد سقطت الإمبراطورية الآشورية في عام ( 612 ) ق . م ثم تبعها سقوط الإمبراطورية البابلية الكلدانية على يد داريوس الفارسي في عام ( 538) ق .م  . ومن ثم سقطت الإمبراطورية الفارسية الأولى في عام ( 330 ) ق . م على يد اسكندر الكبير المقدوني وجيوشه الإغريقية . وقبل هذا الحادث التاريخي الهام كانت اللغة الآرامية ، كما ذكرنا قد أصبحت اللغة الرسمية الدولية لكل البلدان الواقعة في الشرق الأوسط . لم يكن احتلال اسكندر الكبير لهذه المنطقة في الشرق احتلالاً عسكرياً فقط بل كان احتلالاً حضارياً أيضاً ،  فبدأت الحضارة اليونانية ولغتها تمد جذورها في هذه البلدان .

بعد وفاة الاسكندر الكبير في بابل في عام ( 323 ) ق. م ، انقسم قادته البلدان التي فتحها ، فوقعت بلاد فارس والعراق وسورية وآسيا الصغرى تحت حكم السلوقيين اليونان ، كما وقعت مصر وفلسطين تحت حكم البطالسة اليونان . وكان همهم الأول تأسيس مستعمرات ومعسكرات ومدن إغريقية وتغيير أسماء المدن المزدهرة إلى تسميات يونانية ، مثال ذلك مدينة الرها التي أصبحت تعرف  ب أوديسا . كما تأسست المدن الشهيرة : الإسكندرية في مصر ، وأنطاكية في سورية ، وسلوقية ( المدائن ) في العراق بالقرب من بابل .

لم يقف في وجه السلوقيين قوة كبرى سوى دولة البارثيين الفرس في شمال إيران ، فكانت المعارك تحتدم بين السلوقيين  و البارثيين بين فترة وأخرى . دام حكم السلوقيين في سورية حتى مجيء الرومان في عام ( 64 ) ق . م  . أما دولة البارثيين فدامت حتى أوائل القرن الثالث للميلاد ومن ثم انتقل الحكم الفارسي إلى الساسانيين ،  فكان هؤلاء يشنون الحرب على الرومان ، فأصبحت بلاد ما بين النهرين ساحة مفتوحة للمعارك القائمة بين هاتين القوتين ، فنزلت الويلات بمناطق السريان ومدنها من جراء ذلك .

ورغم المنافسة والحروب التي كانت قائمة بين الفرس البارثيين  و السلوقيين ، ثم بين الساسانيين والرومان ، فقد تكوّنت دويلات وطنية مستقلة أو شبه مستقلة في ما بين النهرين وسورية والأردن . من هذه الدويلات نذكر مملكة الرها ، مملكة تدمر ، ومملكة الأنباط في بتراء ، ومملكة الغساسنة  في حوران . ومملكة الحيرة في العراق .

التفاعل بين الحضارة الآرامية السريانية والحضارة اليونانية :

بعد الفتح الاسكندري للشرق الأدنى ومصر أخذت اللغة اليونانية والثقافة اليونانية تنتشران بسرعة بين شعوب هذه المنطقة . وكان لمكتبة ومدرسة الإسكندرية دوراً هاماً في التقاء الثقافات والمعارف المختلفة : اليونانية والبابلية والمصرية .

لقد طُمر القسم الأعظم من المعرفة البابلية وثقافتها تحت أنقاض القصور والمعابد والمدن التي هدمت وتلف كذلك ما كتب بالآرامية على الرق وعلى أوراق البردي ، ولكن بقي منها الكثير في حافظة الشعوب الآرامية والسريانية فيما بعد وقد ظهرت هذه الكنوز الحضارية للعيان منذ بدء الحفريات الأثرية في أوائل القرن الماضي ، فأدهشت العالم المعاصر !

يقول جورج سارتون في كتابه عن تاريخ العلوم أن علم الفلك اليوناني هو من أصل بابلي في أكثر أمره ، وكذلك الحال في الرياضيات . فاستمرار التأثير البابلي ظاهر بشكل رائع إلى يومنا هذا في النظام الستوني في التوقيت وحساب المثلثات . وكذلك معظم نظريات فيثاغورث منقولة عن الهندسة البابلية .

يذكر فيليب حتي أن الفلكي سلوقوس الكلداني الذي عاش في المائة الثانية قبل الميلاد كان يدافع عن اعتقاده بأن الشمس هي مركز الكون وليس كما قال بطليموس بأن كوكب الأرض هو مركز الكون . وكذلك وضع سلوقوس الكلداني نظريات صحيحة عن علاقة القمر بحدوث المد والجزر على السواحل البحرية .

وخلاصة القول ، أنه من المرجح أن الكثير من المعرفة العلمية الصحيحة انتقل من بلاد ما بين النهرين ومصر إلى اليونانيين عندما احتك هؤلاء بشعوب هذه البلاد قبل الفتح الاسكندري وبعده ، فنقل علماء مدرسة الإسكندرية هذه المعرفة في مصنفاتهم دون الاعتراف بهذا الواقع . وكتب بهذا المعنى تاثيان الرهاوي المعروف بالآثوري والذي عاش في القرن الثاني الميلادي في مدينة الرها ، في مقالة \” ضد الأفارقة \” قائلاً أن اليونان لم يكتشفوا شيئاً وأنهم انتحلوا جميع معارفهم من أمم أخرى ، كالآشوريين والفينيقيين والمصريين وأن تفوقهم إنما يتجلى في إتقان الكتابة .

تجدر الإشارة إلى أن معارف الشرق القديم التحمت بالمعارف اليونانية : العلوم والرياضيات والفلسفة ، وذلك من خلال النشاط الثقافي في مدرسة الإسكندرية ومتحفها ومكتبتها . وبعدما أصبح معظم العاملين في هذه المؤسسة مسيحيين ، أخذ هؤلاء يقومون بالتنسيق بين المعارف والفلسفة اليونانية وبين اللاهوت المسيحي ، فنتجت عن ذلك ثقافة متطورة سميت بالثقافة الهلينستية . وكان من الطبيعي أن يعمل معظم الآباء السريانيين في إطار هذه الثقافة إذ كان إعجابهم بفلاسفة اليونان وخاصة أفلاطون وأرسطو كبيراً جداً  .

مراكز النشاط العلمي عند السريان

يمكن تصنيف مراكز النشاط العلمي عند السريان إلى أربع فئات وهي كما يلي :

أ – المدارس  أو الكليات التي أسسها السريان منذ المئة الأولى والثانية في بلاد ما بين النهرين وفارس وسورية ، وأشهرها مدرسة الرها ، ومدرسة نصيبين ، ومدرسة السلوقية أي المدائن ، ومدرسة حران ، ومدرسة جندشابور .

ب – الأديرة ومدارس الكنائس التي انتشرت في طول البلاد وأهمها : دير قنسرين على ضفة الفرات الشرقية إزاء مدينة جرابلس ، دير العمود بالقرب من رأس العين في الجزيرة ، دير قرتمين ويعرف بدير العمر ، دير تلعدا الكبير في حلب جوار أنطاكية ، دير مار زكا بجوار الرقة ، دير مار متى ودير مار بهنام بالقرب من الموصل ، دير مار برصوم بالقرب من ملطية ، مدرسة البطريركية الشرقية في بغداد ، ومدارس الكنائس في الحيرة والكوفة وكركوك وأربيل ….

ج – المدارس التي أسسها الفرس والعرب والمغول حيث كان علماء السريان يقومون بأبحاثهم أو يدرسون فيها أو يشتركون في إدارتها ، وأشهر هذه الكليات مدرسة جندشابور في شمال إيران ، وبيت الحكمة الذي أسسه الخلفاء العباسيين في بغداد ، ومكتبة ومرصد مراغا في شمال إيران .

د – المدارس اليونانية الشهيرة حيث عمل فيها بعض علماء السريان ، وأهم هذه المدارس مدرسة الإسكندرية ، ومدرسة أنطاكية ومدرسة أثينا .

ويجدر الذكر مرة ثانية أن اليونان بعد الفتح الاسكندري أخذ عددهم يتزايد في هذه الديار ، فسعوا إلى بسط حضارتهم ولغتهم على أهل البلاد الأصليين وساعدهم على ذلك الرومان . استمر البيزنطيون الروم على هذه السياسة فيما بعد .

فكان لا بد من أن تحدث ردة فعل ومقاومة عند الشعوب المتكلمة باللغة الآرامية السريانية ، فتزعمت هذه الحركة في صدر انتشار المسيحية في الربوع الشرقية المدن التالية : نصيبين و الرها وحران ، وكل واحدة منها وقعت مراراً تحت سيطرة السلوقيين والرومان والبيزنطيين حتى الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي . ويجدر الذكر أن هذه المدن الثلاث تقع على إحدى الطرق التجارية الرئيسية قديماً ، إذ كانت تمر بها القوافل الآتية من أو الذاهبة إلى بلاد الصين والهند وإيران .

وكانت حران مدينة مقدسة عند سكان العراق قديماً لأنها كانت أهم مركز لعبادة القمر أو الإله سن ، وبقي الحرانيون على وثنيتهم حتى خراب مدينتهم في القرن الثاني عشر بعد الميلاد . وإلى حران قدم إبراهيم الخليل ومكث فيها مدة لدى نزوحه من أور الكلدانيين قاصداً فلسطين .كما وأرسل إبراهيم عبده إلى حران قائلاً له : \” اذهب إلى حران واختر من بني قومي عروساً لابني اسحق \” . وقد حافظ الحرانيون على قسم كبير من العلوم البابلية في الطب والرياضيات والفلك . وكانت حران جزءاً من مملكة الرها إذ أنها تبعد تقريباً ( 45 ) كم عن الرها العاصمة .

تأسست مملكة الأباجرة في الرها حوالي مئة سنة  قبل الميلاد واستمرت مملكة مستقلة أو شبه مستقلة حتى العام ( 217) بعد الميلاد وحسب التقليد السرياني يقال أنه جرى اتصال بين الأبجر الخامس الملقب ( أوكومو ) ويسوع المسيح ، فقدم توما الرسول يبشر المسيحية في الرها وجوارها ومن ثم انتقل إلى الهند حيث أسس الكنيسة السريانية هناك . وتابع التبشير المسيحي في الرها مار أدى . أحد المبشرين السبعين . وهناك دلائل ثابتة على أن أبجر الثامن اعتنق الدين المسيحي هو ومعظم أتباعه في الرها في أواخر القرن الثاني ، وبذلك تكون الرها أقدم مملكة مسيحية في تاريخ الكنيسة .

ترجم الكتاب المقدس إلى اللغة الآرامية الرهاوية وسميت هذه الترجمة ( بشيطو ) أي المبسطة ، ولما استقر ططيان في الرها في العام ( 170) م ترجم الأناجيل الأربعة بقالب موحد ، وسمى هذه الترجمة( دياطيسرون ) أي من خلال الأربعة ، ودام استخدامها في الكنيسة السريانية حتى أبطلها مار رابولا في أواخر القرن الخامس . وكان ططيان ضليعاً في الفلسفة القديمة اليونانية إلا أن معظم ما كتب فقد . وجاءت من بعده برديصان الذي ولد على نهر برديصان في الرها وترعرع في بلاط أبجر الثامن وصاحب الأمير أبجر التاسع . وكان برديصان نابغة الشعر السرياني فألف القصائد الدينية والدنيوية ولحنها وعلمها للشباب والشابات في الرها وجوارها ، فكان مؤسس الكورس الموسيقي السرياني . وقد توفي برديصان في العام ( 220 ) م . وكان من نتائج الترجمة والمقالات والأشعار والأناشيد التي وضعت جميعها باللغة الرهاوية أن أصبحت اللهجة الآرامية الرهاوية لغة الكنيسة السريانية في جميع أنحاء البلدان فعرفت مذ ذلك الوقت باللغة السريانية إلى يومنا هذا كما ذكرنا . وتجدر الإشارة إلى أن مدينة الرها لا تزال قائمة ومعروفة بمدينة أورفا وهي واقعة في تركيا بالقرب من الحدود السورية التركية .

دور السريان العلمي

لا شك الآن أنكم تتساءلون ما هو دور السريان العلمي ؟ ماذا قدم السريان إلى العلوم النظرية والتطبيقية والرياضيات ؟

وماذا كان إسهامهم في الحضارة الإنسانية ؟
للسريان تاريخ طويل وإنتاج غزير في الكتب الذي ألفوه . وللإجابة عن هذه الأسئلة نحتاج إلى مجلدات عديدة من التدقيق والبحث والمقارنة . ولكني سأوجز لكم في هذه الأمسية ما اعتقد أنه يشكل المآثر البارزة عن دور السريان العلمي .

1- كما ذكرت ، كان السريان معجبين أشد الإعجاب بالتراث العلمي والفلسفي عند اليونان والبعض منهم شارك بتطويره إلى مرحلة جديدة عرفت بالهلينستية . فقام علماء السريان بنقل القسم الأكبر من التراث اليوناني إلى لغتهم السريانية بغية احتواء ذلك التراث وتعليمه في مدارسهم . وعندما فَقِدَ الأصل اليوناني كان هذا التراث محفوظاً باللغة السريانية وفي العهد الإسلامي العربي قام السريان بدور الترجمة مرة ثانية . ونقلوا هذا التراث من السريانية وأحياناً من اليونانية إلى العربية ، هكذا انتقل هذا التراث إلى أوروبا في القرون الوسطى ومن بعدها ، فكان ذلك عنصراً فعالاً في قيام النهضة هناك .

2- لم ينحصر عمل السريان بالترجمة فقط بل قاموا بالشرح والتفسير والتعليق على النصوص ومقارنة محتوياتها بالتراث السرياني وتراث شعوب أخرى . كما أنهم عملوا على التنسيق بين الفلسفة اليونانية والفقه المسيحي . وأشهر من قام بهذه الأعمال سويرا سابوخت ، ومار يعقوب الرهاوي ، وسرجيس  ريشعيني  ، وحنين بن اسحق ، ويوحنا بن ماسوية ، وابن العبري .

3- قام ملافنة السريان بتعليم عظماء الفلاسفة والعلماء المسلمين فقد تتلمذ الفارابي على يد متى بن يونس في  بغداد وثم ليوحنا بن خيلان في حران ، وكذلك الجيل الأول من الأطباء المسلمين تعلموا الطب من الأطباء السريانيين في بيت الحكمة في بغداد أمثال سرجيس بختيشوع وأولاده وحنين بن اسحق .

4- أتقن السريان الطب وبرعوا فيه . نقلوا الطب اليوناني إلى لغتهم وإلى اللغة العربية وأضافوا عليه الكثير من الطب البابلي . ويعتبر الطب السرياني أساس الطب العربي . ومن أشهر أطباء السريان نذكر : حنين بن اسحق ، وسرجيس بختيشوع وأولاده ، وثابت بن قرة الحراني وأولاده .

5- يعتبر جابر بن حيان الحراني مؤسس علم الكيمياء عند السريان والعرب وقد اشتهر أيضاً في علم السيمياء (alchemy)  ) . وهو الذي اكتشف كيفية تحضير بعض الأحماض كروح الملح وحامض الكبريتيك ، كما أنه حضر عدداً كبيراً من الأملاح الكيميائية . وقد اشتهر بعض ملافنة السريان في الكيمياء أيضاً وكتبوا مصنفات في العقاقير الطبية .

6- وللسريان دور هام جداً في تطوير الرياضيات وعلم الفلك ، وبرع الحرانيون خاصة بهذه العلوم لأنهم كانوا ضليعيين في الرياضيات والفلك البابلي . وأشهر العلماء في هذا الحقل هم ثابت بن قرة وأولاده ، ومحمد بن جابر بن  سنان البتاني ( توفي 929  م ) وهو حراني اعتنق الدين الإسلامي . ويُعد البتاني من عظماء الفلكيين والرياضيين في العالم .

وتجدر الإشارة بكل فخر إلى أن سويرا سابوخت ، رئيس دير ومدرسة قنسرين كان مطلعاً على الرياضيات الهندية وهو أول من أدخل الأرقام الهندية إلى الأوساط السريانية وكتب عن مميزاتها ، فأخذ العرب هذه الأرقام عن  سابوخت وليس عن الهنود مباشرة . وكذلك تجدر الإشارة إلى أن مار يعقوب الرهاوي الذي كان تلميذ سابوخت استنبط الأرقام المعروفة بالأرقام العربية السورية ومنه أخذ الأمويون هذه الأرقام معهم عندما انتقلوا إلى الأندلس ومن ثم انتقلت هذه الأرقام إلى أوروبا وتطورت إلى الشكل المستعمل في عصرنا الحاضر .

7- رغم استخدام السريان الأرقام الهندية أو السورية في الرياضيات والفلك فقد استمروا على استخدام الأحرف السريانية الفينيقية في تسجيل التواريخ وفي حساب الجمل في أشعارهم . ولا يزال هذا التقليد مستخدماً في العربية لبيان ترتيب المقاطع في النصوص المكتوبة أو المطبوعة ومثال ذلك إننا نكتب  ( ا ، ب ، ج ، د ، ه ،  … ) وليس ( ا ، ب ، ت ، ث …..) .

8- عندما انتشرت إرساليات السريان المشرقيين في الأقطار الأسيوية حمل الرهبان معهم الخط السرياني مما أدى إلى اشتقاق الخطوط المغولية والتترية والتركية القديمة في أواسط آسيا من الحروف السريانية الفينيقية . وتجدر الإشارة إلى أن بعض الرهبان السريان في الصين أخذوا التقليد الصيني فكتبوا السريانية بخطوط عمودية ، من الأعلى إلى الأسفل وليس من اليمين إلى اليسار .

9- لقد تأثرت اللغة العربية الفصحى بالسريانية بالنواحي التالية : دخول ألفاظ سريانية عديدة إلى اللغة العربية وطبعاً منها المفردات العلمية . وثانياً ، تنظيم الصرف والنحو العربي على مثال نظام الصرف والنحو عند السريان . ويقال أن سيبويه تعلم ذلك من يوحنا بار ماسويه . وثالثاً ، اشتق الخط العربي الكوفي خاصة من الخط السرياني .

10- كان السريان أصحاب تقنيات صناعية وزراعية وهندسية ويدوية في جميع مراحل تاريخهم الطويل . فاشتهروا بصناعة السجاد ، والتطريز ، ودبغ الجلود ، وتحضير الرق للمخطوطات ، وحياكة النسيج ، وصناعة الفخار ، وتحضير الأدوية والمأكولات ، وإلى هناك من انجازات . وقد ابتكروا الكثير من هذه التقنيات الحرفية ، وأخذت عنهم الشعوب التي اتصلت بهم . ويكفي أن أذكر لكم أن القماش المسمى  \” موصلين  \”  وهو ابتكار قام به سريان الموصل في شمال العراق ، وكذلك مشتقات البرغل والمأكولات التي تحضر منه .

نقرأ في إنجيل متى الإصحاح الحادي والعشرين ما يلي عن يسوع المسيح : ” وفي الصبح إذ كان راجعاً إلى المدينة جاع . فنظر شجرة تينٍ على الطريق وجاء إليها فلم يجد فيها شيئاً إلا ورقاً فقط . فقال لا يكن ثمر بعد إلى الأبد . فيبست التينة في الحال  “

هذا هو دستور الحياة ، فمن لا ثمرة له لن يعيش في هذا العالم . يوم كان العلماء السريان وكنائسهم يقدمون الثمار الحضارية .، كانت الشعوب الأخرى تقدرنا وتتعلم منا ، فكنا نعيش في هذه الربوع معززين مكرمين رغم الكوارث والاضطهادات العديدة . وإذ حفظنا التاريخ حتى يومنا هذا ، ويجدر بنا أن نتمسك بواقع العلم الحديث والتقنيات المعاصرة كي نسير نحو حياة أفضل مع الشعوب المتقدمة .

****

الدكتور يعقوب الدكتور يعقوب رزق الله نامق ( 1924 – 2000 )

– من مواليد أورفا ( الرها ) عام ( 1924 )

– حصل على الثانوية العامة عام ( 1948 ) من معهد حلب العلمي بحلب وعلى بكالوريوس في العلوم (الكيمياء ) من الجامعة الأمريكية ببيروت عام ( 1956 ) وعلى الماجستير في تدريس العلوم عام ( 1958 )

– حصل على درجة الدكتوراه بامتياز في اختصاص تدريس العلوم عام ( 1968) من جامعة ويسكونسين  -الولايات المتحدة الأمريكية .

– شغل منصب بروفيسور مساعد خلال الفترة ( 1964 – 1994 ) في الجامعة الأمريكية ببيروت ، ومنصب عميد كلية العلوم والرياضيات أعوام ( 1984   وحتى   1990 ) .

– ألف ووضع مناهج تدريس مادة العلوم للمدارس ( المرحلة ) الابتدائية والتي تم تدريسها في لبنان بدءً من عام ( 1972 ) وفي السودان عام ( 1973 ) وفي السعودية عام ( 1975 ) وفي البحرين عام ( 1984 ) .

– عضو مؤسس ل المركز التنموي للبحوث والإنماء في لبنان .

– عضو محترفي الهيئة الوطنية لمدرسي العلوم والهيئة الوطنية لتدريس العلوم وهيئة مدرسي العلوم  – لبنان  .

– عضو قيادة الفرقة ( 171 ) بحلب لكشاف سورية ( 1941 – 1946 ) ، ثم عميد الفوج السادس بحلب لكشاف سورية وقائد فرقة الأنصار حتى عام ( 1953 ) . وأمين سر اللجنة المركزية لمفوضية حلب لكشاف  سورية ( 1947 – 1953 ) . رئيساً لجمعية النجمة    بيروت دورتين .

One Comment

  1. Great post, уߋu may hаνe suggested ѕome ɡreat poіnts, I lіkewise ƅelieve tһis s a
    very superb website. http://24legnica.pl/