نينوى وبابل في ابان مجدهما

Posted by on Nov 6, 2018 in Library | Comments Off on نينوى وبابل في ابان مجدهما

نينوى وبابل في ابان مجدهما

بعد أن تقلص ظل الحكم الكوسي من بابل سنة 1169 ق . م حدث أن نور الحياة ومض فيه وقتاً قصيراً الا أنه عاد فتضاءل أمام الأنوار الوهًاجة التي أنبعثت من نهضة الدولة الآشورية في الشمال

كان الآشوريون والبابليون من أرومة واحدة . ولكن إتصال الأولين بالشعوب الشمالية هذّب شيئاً من عقليتهم ولغتهم وأورثهم قساوة في طباعهم . ولم تكن نشأتهم مكمّلة لنشأة البابليين بل كانت موازية لها سائرة معها جنباً الى جنب . ويمكننا أن نحصر صفات الآشوريين في كلمة واحدة وهي ” المقدرة ” فقد كانوا يقومون بكل أعمالهم ومشاريعهم بجد ونشاط مراعين في سائر نواحيها منتهى الدقة الزائدة . ومقدرتهم هذه على تحمل المشقات واقتحام المصاعب التي بلغت منهم مبلغ العبقرية هي التي ساعدتهم على تأسيس دولة عظيمة . ولكن يجب الا ننسى أن تكوين هذه الدولة نفسه أدى الى فنائهم وذلك لتشتتهم وتفرقهم في أنحائها وهكذا زالت دولتهم سريعاً دون أن تخلف وراءها شيئاً من مجدها

ان مدنية الآشوريين في الشمال لهي مديونة بالشيء الكثيرة لمدنية البابليين في الجنوب لدرجة يصعب معها التمييز بين العادات الخاصة بكل من هاتين الأمتين . فقد انتقلت معظم الآداب البابلية الى المكاتب الآشورية كميراث شرعي ، وكانت الثقافة الدينية في نينوى وكلح وآشور متّسمة بسمات الطقوس والأشعار والأناشيد البابلية

أخذ الآشوري عقيدته في تكوين العالم والخليقة عن البابلي ، انما أحلّ فيها الإله القومي ” آشور ” محل الإله البابلي ” مردوخ ” صاحب الدور الأعظم في الخليقة والتكوين وعلى النظريات البابلية بنى معارفه . وممّا تقدم يتضح لنا أن حضارة الآشوريين وحضارة البابليين هما حضارتان شقيقتان مرتبطتان بأوثق الصلات فلا غروَ اذاً إن استعنا بالمصادر البابلية على تحليل الحياة الاشورية

بلغت الدولة الآشورية أوج مجدها الذهبي في القرن السابع قبل الميلاد فكانت جحافلها قد اجتازت شرقاً المرتفعات التي تخترق الحدود الفارسية متجهة نحو مادي ورجعت بأسلاب اللازورد وغيرها من الأحجار الكريمة وتوغلت في كيليكية وفينيقية حيث أتشح أفرادها بالأرجوان الفينيقي ومن هناك عبروا البحر الى قبرص واخيراً أمتدت فتوحاتهم الى ابي الهول فكان الانتصار تاجاً لظفرهم

ولما كان لكل دولة عمر ولكل نهضة أجل محدود أخذت الدولة الآشورية تنحدر عن قمة عظمتها شيئاً فشيئاً فمال نجم جبروتها نحو الأفول ، وفي سنة 612 ق . م اذن عليها مؤذن الختام : فطرد البابليون والماديون البقية الباقية من تلك الدولة العظيمة الى ما وراء الدجلة – الى حرّان وخلفوها في الحكم لمدة ثلاثة أرباع القرن كانوا في خلالها دول الأرض العظمى . وهكذا تنعمت بابل بلذة الحكم في أيام ملكيها نابو فلاّصر ونابو خدناصر غير أن هذه النهضة لم تدم طويلاً بل سقطت أمام شوكة الفرس وذلك سنة 539 ق . م ومن العوامل التي أدت الى تقصير عمر هذه النهضة دسائس الكهنة الذين كانوا يعملون لمصالحهم الشخصية فيسلمون مقاليد الحكم الى ملوك عاجزين عن إدارة المملكة وآخر ما كان من سياستهم الخرقاء هذه تنصيبهم الملك نابونيدس المعروف بالاثري الضعيف الرأي والفاتر الهمّة

سقطت بابل سنة 535 ق . م في أيدي الفرس فاقدة استقلالها لكنها لم تعدم اسراً بابلية ظلت لمدة 500 سنة متمسكة بتقاليدها الجنسية والدينية والأدبية تمسكاً وثيقاً يدلنا على شدة محافظة البابليين على التقاليد القديمة ويرينا أسباب بطآء حضارتهم الزاهرة

أصبحت ( نينوى ) مدينة الملوك العظام ، ومعقل القوة الهائلة عاصمة للدولة الآشورية في أواخر القرن الثامن قبل الميلاد . وكانت نينوى سليلة أسرة من العواصم ، أدارت دفة الحكم قبلها بزمن مديد . فكانت العاصمة في بادئ الأمر في مدينة ( آشور ) التي تبعد مسافة يومين من نينوى الى جهة الجنوب ثم انتقلت منها الى مدينة ( كلج ) الواقعة على بعد يوم الى الجهة الجنوبية من نينوى . وهذه سلمت زمـام الحكم الى شقيقتها ( نينوى ) يوم كان تيار الأمة الجارف متجهاً نحو الشمال لا يحول دونه حائل

كان سور ( نينوى ) البالغ طوله 8 أميال يحيط بأكمتين عاليتين تزدان قمتاهما بجلال الهياكل والقصور الفخمة وكان الملك يشرف من أعالي قصره على شوارع المدينة المزدحمة ويجيل بطرفه في الأفق من الشمال والشرق فيرى سفوح الجبال والشرق المكلّلة بالثلج في فصل الشتاء ومع أن طقس نينوى في الصيف يماثل طقس المنطقة الحارة كانت ترتدي احياناً حلّة بيضاء من الثلوج عند اشتداد البرد في زمن الشتاء . والناظر الى الغرب كان يشاهد حقول القمح الواسعة الأطراف ممتدة على ضفة دجلة المنساب في كنف المدينة ذلك النهر العظيم البعيد الغور في أيام فيضانه والقريب القعر في أيام القيظ . وفي الصيف كانت ترى المدينة الرابضة بين حقول القمح الفسيحة الأطراف المنتشرة في السهول الخصيبة الأكناف كجزيرة يحيطها بحر من الزمرّد الموشّى بألوان زاهية من زهور الشقيق القرمزي والخشخاش ، يهب من فوقها نسيم عليل تعبقت أردانه بالعطور المنبعثة من زهر البرسيم

وعلى الأكمة الشمالية المسماة اليوم ( قيونجق ) قامت أفخم المباني الشاهقة التي كانت تناطح السحاب بعلوها . فكان في الزاوية الشمالية منها قصر لآشور بانيبال محازياً لهيكل الإله ( نبو ) ، وفي الزارية الجنوبية قصـر آخر لسنحاريب على مقـربة من هيكل ( عشتاروت ) وفي الناحية الشرقية منها قام قصر صغير لسنحاريب على مرتفع شاهق مطلٍ على نهر الخوصر وكانت الأكمة الجنوبية التي تعرف اليوم ( بنبي يونس ) على بعد ميل من الأكمة الشمالية عليها قصر فخم لأسرحدون

ان هيام ملوك الآشوريين بالفنون الجميلة كان بالغاً أقصى درجاته وبالجملة فقد كانوا من الفئة التي تستجمع وتدمـر جهود الانسان الفنية لتزين في الطبيعة ما قد أهملته هي . وهوذا أحدهم سنحاريب الذي كان توّاقاً للإبداع لمّا رأى قصره القديم القائم في القسم الجنوبي من الأكمة غير لائق بعظمته أحبّ أن يخلد له اثراً نفسياً فعزم على جعل قصره بهجة القصور وآية في الفن والاتقان ودوّن خلاصة ما عمله على قطع من الآجر ليقرأها من يأتي بعده

فأول عمل أتاه أنه أمر في تجديد الأسس المتقوضة من مجرى صغير كانت قد تسربت المياه اليها ثم طلب الى رؤساء التسخير أن يأتوه بجموع من الفعلة والعمال من الشعوب المستعبدة كالكلدانيين والآراميين والكيليكيين فحملوا على ظهورهم المتصببة عرقاً الطين اللازم لصنع الآجر وهدموا القصر القديم محولين مجرى النهر الطامي ليملأوا قاعه حتى يرتفع عن مستواه القديم . ومن ثم جاء بالعمال والصناع لصقل ونقش أنواع الأخشاب والعاج والرخام من المقاطع القريبة ونقشوا الجدران وجعلوا تماثيل الأسد الحجرية في نحاس البواب . ورسموا مثلها على خزائن الملك ثم أنشأ حديقة غنّاء اكسبت الأكمة منظراً يماثل منظر ( جبال أمانوس ) الواقعة فوق اسكندرونة التي منها يأتي الأرز الجميل . ولم يكتف بكل هذا بل وسّع نهر ( الخوصر ) بجداول جرّها من الآكام وأفرغ مجراه في حالة يسهل معها سقي السهول سقياً مستمراً وحفر بحيرة ليصب فيها ماء النهر بعد أن زرع القصب على شواطئها لتأوي اليها قطعان الخنازير وأسراب اللقالق وأخيراً زرع ما يسمونه (شجرة القطن) العجيبة او ( شجرة الصوف ) لتجز كالأغنام وتصنع من منتوجاتها الأقمشة ورمّم السور المحيط بالمدينة وفتح فيه خمسة عشر باباً بين جديد وعتيق ومرمّم . وهكذا أصبحت نينوى كاملة لا ينقصها شيء . وقد دوّن الحفارون هذه الأعمال كلها في وثائق لتبقى شاهدة على ما بلغه المهندس الآشوري من البراعة في الفن اذا ما خربت نينوى يوماً ما وبادت من الوجود

ان مقاطع الرخام التي كانت تمدّ ملوك الآشوريين بكميات لا تنضب كانت ولا شك موضوع غيرة البابليين الذين عدموا كنزاً كهذا حتى أنه بعد سقوط نينوى 612 ق.م  وانقراض قومية الآشوريين بينما كانت بابل تتسلق قمم العظمة والمجد وبينما كان نبوخذ نصر يحاول بكل جهده ان يجعل عاصمته مستحقة القول المأثور ( ان بابل نخلة والثمرة في اعلاها حلوة لذيذة ) حتى بعد هذا كله لم يكن لدى تلك المدينة ما تفاخر به من الأحجار المنقوشة التي كانت تبهج ملوك الآشوريين . ولا يعلم السبب في عدم حصولهم على هذه الأحجار هل كان ذلك ناجماً عن إهمال المقاطع أم متأتياً عن صعوبة نقل الحجارة الضخمة الى بابل على شلالات دجلة . وكل الحفريات الحديثة تدل على أن الجنوب لم يوفق سوى في الأحجار الكلسيّة ( والبريتشا ) التي جلبها من أعالي الفرات

ومن هنا يتّضح لنا الفرق المحسوس بين المدينتين البابلية والآشورية فقد برع الفنان النينوي في حفر ونقش صفائح الرخام التي كانت تزيد في جلال جدران القصور أما النحات البابلي فنظراً لفقدان هذا النوع من الحجر من بلاده لم يتقدم في معارج الفن بل اكتفى بتقليد زميله النينوي ومحاكاته في تصاوير الثيران ورسوم العنقاء بنقش بارزٍ على قطع الآجر واللبن خالية من الزخارف وكان يطليها ليزين بها واجهات القصور

ولما كان فقدان الحجر قد غلّ يد الملك البابلي عن اتيان الزخارف ، أخذ على نفسه أن يجعل مدينته المحبوبة مثالاً للبساطة ويقيمها رمزاً لظفر الآجر والزعفران والكهرب منافساً بتلك الأكوام القائمة من قطع الآجر العارية عن كل زينة ملوك نينوى الذين خصهم حسن حظهم بالحجر

واننا لنشاهد حتى اليوم آثار تلك البساطة بادية على الاطلال التي عصت على مرور الأيام فبقيت ماثلة للعيان تبعث في النفوس ذلك الوحي المؤثر الذي كان يبعثه جلال أبنية في منتهى الفخامة مشيدة من آجر بسيطٍ

كانت بابل رابضة في بقعة من الارض يبلغ محيطها 11 ميلاً تحرسها من جهاتها الثلاث أسوار شاسعة ما عدا الغريبة منها فإنها كانت محميّة بنهر كشقيقتها نينوى وكان في الجهة الشمالية من المدينة الرابية المعروفة اليوم ببابل  (Babil) ) وعلى قمتها قصر يؤخذ من آثاره أنه كان لنبوخذ نصر وفي وسطها قام مجموع كبير من الأبنية والهياكل الفخمة بينها قصر عظيم للملك وبوابة ( عشتاروت  Ishtar) المزدوجة الشهيرة تناطح السماء بعلوّها الشاهق التي لم يزل ارتفاعها حتى الآن يبلغ 40 قدماً مزينة بتسع صفوف من الصور البارزة للتنانين والثيران الحارسة . والى الجنوب قام برج هائل عظيم فاق كل ما حوله من الأبنية علواً يدعى ( اي – تيمن – ان – كي E – temen – an – ki  ) وهو برج بابل الحقيقي التي حامت حوله التقاليد القديمة وكان مربع الشكل يبلغ طول إحدى جوانب من قاعدته 1362 قدماً

ان نبوخذ ناصر في بابل وسنحاريب في نينوى كلاهما عملا بطريقة خاصة على ما يبهج النظر غير أنه لم يكن لا لهذا ولا لذاك شيء من عبقرية آشور بانيبال الذي جمع بين ما تقرّ برؤيته العيون وترتاح اليه الخواطر وتكاد أهمية قصره – القائم في منتصف الأكمة الشمالية في نينوى – تتضاءل بازاء المشروع العظيم الذي تمّ عن يده ، وهو جمع ( مكتبة مسمارية ) حوت من جميع أصناف المؤلفات مكتوبة على قطع الآجر في مواضيع مختلفة ما عدا أناشيد الحب والروايات التمثيلية غير المصطبغة بصبغة الخرافات . فكان فيها قواميس متنوعة وتراتيل وتعاويذ ضد الأبالسة وكتب طقوس تشرح بإسهاب ما يجب على الكاهن عمله في الهيكل وأشعار قصصية مطولة يدور البحث فيها حول تكوين العالم وطواف البطل ( جلغامش ) واختطاف النسر الأميرة ( هيتانا ) الى السماء وترحاب الديان السموي ( بآدابا ) من أجل كسره جناح الريح الجنوبية . أضف الى ذلك رسائل في الكيمياء تعرّف الكيماوي كيفية صنع الزجاج وتلوينه مع وصفات طبية ونبذ في العيافة وفصول في التنجيم وسجلات احصاء وتواريخ على اسطوانات كبيرة وعقود ورسائل أخرى تعد بالمئات

وقد وصل الينا نسختان محفوظتان من كتاب بعث به آشور بانيبال الى أحد عماله يخوله فيها حق التفتيش على سائر أنواع الكتب الممكن اقتناؤها من أي مكتبة مسمارية كانت في جواره جاء فيه : ” لا يمسك أحد عنك لوحة واذا عثرت على لوحة أو رقية مما لم أذكره أنا لك وكانت صالحة لمكتبتي خذها وأرسلها لي”

وكان أعظم سروره أن يقتني الكتب وقد نجح في جمعها نجاحاً باهراً نستدل على ذلك من قطع آجر يربو عددها عن العشرة آلاف قطعة عثر عليها المنقبون مبعثرة في أطراف الأكمة الكبرى وهي من بقايا تلك المكتبة فحملوا معظمها الى المتحف البريطاني حيث لا تزال محفوظة الى الآن . وأكثر المعلومات التي وصلتنا عن الآشوريين هي مستقاة من هذه المكتبة التي عليها عولنا في مقالنا هذا

كان آشور بانيبال شديد الاعجاب بتهذيبه الذي استغرق وقتاً طويلاً كما يؤخذ من أقواله عن نفسه . ففضلاً عن التربية البدنية التي هي من خواص الرجولية فقد مهر ، على ما رواه ، في الرماية بالقوس وركوب الخيل وسوق المركبة ومسك الزمام وأدعى أنه وقف على خفايا كنوز الأدب وتوفّق الى حل مسائل رياضية عجز الغابرون عن حلها قبله . ومع قطع النظر عما اذا كان دعاؤه هذا صحيحاً او فارغاً ، فنحن نعلم أن حبه للكتب هو الذي دفعه لجمع هذه المكتبة التي تعد من أعجب مكاتب العالم . مع هذا فإن جمعه لهذه الكتب لم يكن سوى ولع به وميل من ميوله التي كان يخفف بها أعباء الملك الملقاة على عاتقه

كان الملك وهو على رأس الدولة مثالاً للاستبداد . غير أن استبداد هذا لم يكن مطلقاً بل كان مقيداً ببعض القيود الدينية التي كان لها التأثير الأعظم على ( العقلية السامية ) في سائر أدوارها . فكان من عادته أن يستشير الآلهة في الأمور الحربية الهامة املاً بالحصول على رضاهم وتعطفهم الموحى به على لسان الكهنة . وكما أن الأنبياء الاسرائيليين كانوا قادرين على صد ملوكهم عن اتباع سياسة غير رشيدة في الشؤون الخارجية كذلك الكهنة عند الآشوريين فقد كان في وسعهم ان يميلوا نوايا الملك السياسية الى أي جهة أرادوا لكونهم المعبّرين عن أفكار الآلهة

وأما شؤون الدولة فكان يديرها حكام محليون يقيمون في الولايات وقد ترتب على عاتقهم كثير من الواجبات والمسؤوليات . ومن المرجح أن وظيفة الحكام كانت كثيرة الشبه بوظيفة ( الوالي التركي ) في العراق قبل نشوب الحرب الكبرى . وكان الشعب منقسماً الى ثلاث طبقات : ( 1ً ) طبقة الاشراف ومنها كانت تنتخب أمراء الجيوش وموظفي الدولة . ( 2ً ) طبقة نقابات الصناع والكتبة والفخّاريين والنحّاسين ولكل من هذه النقابات حي خاص بها في مختلف المدن . ( 3ً ) طبقة العامة وكان لأفراد هذه الطبقة من الحقوق ما يخفّف عنها فقرها

ومتى علمنا أن جانباًَ كبيراً من الأهلين في ذلك الدور كان ينتمي الى أصل أجنبي وأن أكثر الولايات البعيدة كانت بلاداً مغلوبة على أمرها تدار وتحكم بقوة السيف ، أتضح لنا أن مسؤولية الحاكم كانت مضاغفة وكان يحضر الى مكتبه كالوالي التركي ويصغي الى أقوال لا حدّ لها من رؤساء عمّاله فيلخّص ما يراه مهماً من هذه المعروضات ويرفعه في تقرير للحكومة المركزية باسم الملك

وكثيراً ما فرضت الجزية على مقاطعة أحد هؤلاء الحكام كما فرضت على مقاطعة (حرّان) فأدتها هذه من محصولات البساتين والحدائق ومزارع ( الصرباطوSarbatu  ) وغابات البلوط الذي ثمره العفص المستعمل في الدباغة . وعند حدوث حرب صغيرة في احدى الولايات البعيدة كان يفرض على الأهلين تقديم الخيل

كانت قيادة الجيش الأسمية بيد الملك الذي كان ينزل في أغلب الاحيان بنفسه الى ساحات الحرب . وان تخلف عن النزول كان ينتدب لتولي القيادة العامة ابنه ( ولي العهد ) او القائد الاكبر المسمى عندهم ( تورتانو Tur-tan-nu  ) ولم تزل الرسائل التي بعث بها سنحاريب لما كان أميراً فتياً يقود الجيوش على الحدود الشمالية الى أبيه سرجون موجودة وهي تتضمن خلاصة الأنباء التي تمكن من التقاطها من أتباعه ومن رجال القبائل المحلية . ومما لا ريب فيه ان الآشوريين كانوا بارعين في تجسس الأخبار التي تعد من أصعب المهام الحربية وأن دوائر الاستعلامات والاستخبارات عندهم كانت قديرة جداً في تأدية وظيفتها

تعبئة الجيش :  كان الجيش مؤلفاً من قسمين : ( 1ً ) الجنود النظامية ( 2ً ) القوى الوطنية (الرديف) . وكانت هذه الجيوش منقسمة الى فرق ومفرزات شتى بحسب أنواعها . فمنها فرق المركبات والفرسان والمشاة ومفرزات الانشاءات والحصار . وكانت الجيوش النظامية تحاكي بأرديتها العسكرية ومناطقها وخوذها وتنانيرها وأحذيتها العالية فرق الانكشارية في الدولة العثمانية . وكانت تؤلف الحرس الملكي الخاص وانحصرت وظيفتها في أيام السلم في مراقبة الاسرى المشتغلين في الأبنية الملكية وحفظ النظام حول الساحة التي كان يصطاد فيها مولاها الملك الاسود بقرب المدينة . وعند نشوب حرب كانت القوى الوطنية تستدعي لحمل السلاح . وامتازت هذه القوى بخوذها المخروطية الشكل

اما فصيلة المشاة فكانت تتألف عادةً من 25 صفاً مقسومة الى خمسة أقسام على رأس كل منها عريف . وكانت الصفوف تسير خماس والصف مؤلف من رامٍ ورماح يحمل ترساً ولم يكن هذا الاخير يفترق عن زميله مهما تضعفت وحدات القطعة من هول المعركة

ان تجهيز الحملات كان يعدّ أمراً هاماً عند ملوك الآشوريين أانفسهم ذوي العساكر المدربة . وكانت تسبق الحملة إشاعات عن اضطراب حبل الامن على الحدود تحملها رجال القوافل فيتناقلها عامة الشعب بعد أن يبالغوا فيها فتأخذ في الازدياد والنمو وتكثر إذ ذاك أحاديث السخط والتذمر ومعظم هذه الأحاديث كانت تدور حول عصيان قبيلة ثائرة تمنعت عن تأدية الجزية أو عن اداء إحدى الأمم المجاورة . وهكذا تظل الاشاعات متداولة على الألسنة حتى تستعلم الحكومة من عمالها القريبين من منطقة الخطر عن حقيقة الأمر وهؤلاء كانوا يوفدون الجواسيس الى مقر الثوار للوقوف على جليّة الحال ومن ثم يرفعون تقريراً مسهباً على لوحة يسردون فيها ما تمكنوا من الوقوف عليه من الأخبار كحدوث إتحاد بين الأعداء ضد سلامة الدولة وإمكان نشوب الحرب مع تفاصيل عن القوى التي يمكن للأعداء تجهيزها وإيفادها الى ميادين الحرب وكان هذا التقرير يتناقله السعاة في محطات مختلفة حتى يوصلوه الى الملك

ونستدل من اللوحات الباقية حتى الآن أن الملك كان يستولي عليه اضطراب عند نشوء الحرب فيبادر الى سؤال الآلهة عما اذا كان سيرجع حياً من هذه الحرب فيعود الى تجواله في أرجاء قصره في نينوى ويظل مضطرباً حتى يأتيه الكاهن بجواب مريح من الآلهة فيطمئن باله وعلاوة على هذا يخبره بأن أحد مشاهير الكهنة قد عثر على علامة تدعو الى التفاؤل بالخير وهي أن خنزيرة قد وضعت خنوصاً مزدوجاً بثمانية أرجل واذنين ولما كان في هذه الولادة الشاذة دليل قاطع على انتصار الملك على أعدائه كانت تحفظ بالملح وترسل الى البلاط ليزداد بها الملك اطمئناناً

وعلى هذه الصورة كانت تتضاعف قوى الجنود المعنوية فتشاهد الجنود النظامية على استعداد تام وترى وحدات القوى الوطنية مجهزة بالخيل والمركبات وكلها على أهبة الرحيل فكانت تتعالى إذ ذاك أصوات عويل النساء في شوارع نينوى فيأخذون في البكاء وقرع الصدور ولطم الوجوه حزناً على رحيل أزواجهنّ ومهج نفوسهنَّ

ومن ثم تخرج مركبة الملك فتسير على أرصفة المدينة بقرقعة وهي بعيدة عن غبار الجنود تتبعها مركبات الامتعة اللازمة لراحته وكان يرافق الملك رئيس ديوانه لتدوين أخبار الحملة فيصف شجاعة الملك وكيف أنه ترجّل وحمل في محفّة على الأكتاف عند سفوح الجبال وكيف لما تعذر السير على هذه الطريقة تسلق على أقدامه العقاب وكيف روى غليله من قربة الجلد

ومتى اعترض طريق الجند نهر ، كانوا يلجأون اولاً الى إله النهر فيستعطفونه بإلقاء تقدمات لائقة الى أمواجه لكيلا يأخذ جزية من أرواح البواسل الذين يعبرونه . ومن ثم يشرع البناؤون من الجنود في أنشاء جسور عائمة من أرماث جلدية واما الأشداء من أفراد الجيش فكانوا يجتازونه سباحة على عوّامات من الجلد

كان اعتماد الآشوريين في تموين الجيش وامداده بالذخائر على سلب الفلاحين ونهبهم في البلاد التي يجتازونها شأن غيرهم من الجيوش الشرقية فكانت ترسل مفرزات من الجند الى القرى المجاورة للتفتيش عن اهراء القمح المخبوءة في جوف الارض

واذا ما صار الجيش على بعد رمية سهم من العدو يُعسكر في محلة محصنة بالابراج والقلاع تُضرب فيها الخيام لإتقاء حرارة الشمس أو مطر الشتاء وريحه فيدخلها آمناً مع كامل معداته وذخائره . وكان يُشاد الديوان الملكي في أمنع بقعة من المحلة ويجهز تجهيزاً كاملاً لا ينقصه شيء حتى من أصنامه وهياكله . وأما العدو فكان يحتشد في حصون مدينته هازئاً من وراء قلاعه المنيعة بالمهاجمين فيحيط اذ ذاك رماة السهام بأسوار المدينة احاطة السوار بالمعصم مستخفين بجبن أعدائهم ويأخذون في رشق الاعداء بنبالهم من وراء مجان قوية بينما الرماة بالمقاليع يمطرون المحاصرين من بعيد بوابل من القذائف

ولا يمر كثيراً على هذه الحال حتى تتقدم المجانيق وغيرها من آلات الهدم والتخريب لدك أبواب المدينة دكاً وعبثاً كان يحاول اذ ذاك المهاجمون المساكين صدّ أعمال المجانيق أو عرقلتها بالسلاسل . وفي هذه الآونة كانت تنسل فصيلة من الجنود البنّائين الى مقربة من الأسوار وتأخذ في نزع الآجر من الأسوار لفتح ثلمة يلج منها من يودّ أن يكون أول الداخلين الى المدينة قصد النهب والسلب . وفي تلك الساعة الرهيبة كان يحلّ البلاء ويزول الرجاء فتبدو علائم النصر والظفر في جانب الآشوريين وترتفع عندئذٍ الأصوات صارخةً أحرقوا المدن ! أنزلوا الويل بالمدينة والحقل ! لأن الويل للمغلوب ! ولا تسل عما يحدث بعدئذٍ من الفظائع . زعماء وقوات يعذبون ، ثائرون يعدمون ، نساء حسان تخطف ، ومن تبقى من الأهلين يبعد الى إيالة بعيدة لإتقاء شرهم فيسود النهب والسلب والحرق ويرجع الظافرون بالأسلاب التي جمعها المغلوبون التعساء بكدّ وجد في أيام الرخاء ولا عجب في ذلك كله لان هذا جزاء من يحاول ان يسخط الاله آشور والآلهة عشتاروت العظيمة!

 

كان الملك الآشوري ينظر الى الحرب والصيد نظره الى اللهو والسلوى فيختار احدهما اذا ما شعر بحاجة الى الانشراح وقت الفراغ

أجل ان صيد الاسود في الساحة المجاورة لجنائن القصر كان عند الملك من أهم بواعث السرور العظيم في أيام السلم واذا كان الكريتيون يسرّون بمصارعة الثيران فالآشوريون كانوا يؤثرون الاسود على غيرها في ألعاب الميدان

ومتى خطر على بال الملك الصيد كان ينتشر حرس مسلح حول الساحة لإخلائها وحجز الاسود في نطاقها ومن ثم كان يؤتى بالوحوش في أقفاص ويطلق سراحها بعد ما يكون الملك قد تهيأ في مركبته أو أمتطى جواده معداً للأمر عدته . وقد أراد أحد المصورين الملاّقين ان يظهر سيده آشور بانيبال بمظهر القوة الدالة على عافية تامة فصوره ماسكاً بيده ذنب اسد … ومتى فرغ الملك من الصيد كانت تجمع الأشلاء لتقدم ذبيحة الشكران على هذه السلوى العظيمة الى الآلهة عشتاروت

وعند هذا الحد نكتفي من البحث عن القتل وسفك الدماء منتقلين الى شؤون وأعمال الآشوريين السلمية فنقول

دونت الشرائع في آشور في الجيل الثاني عشر او الثالث عشر قبل المسيح . ويؤخذ من المعلومات التي وصلتنا عنها انه لم يكن بينها وبين الشرائع البابلية وجه الشبه الا فيما ندر . ويلاحظ ان قانون العقوبات في آشور كان اشد صرامةً مما في شقيقتها بابل فالآشوري التعس التي سولت له النفس بمخالفة القانون كان عرضة لأشد أنواع العقوبات كالاعدام والبتر على اختلاف أنواعه والجلد والاشغال الشاقة في مباني الملك والجزاء النقدي وقدره وزنتان من الرصاص . أما القضايا التي تتطلب تحقيقاً فكان يناط بأمرها الى محاكم مؤلفة من حاكم البلد وبعض الأعيان فتنظر في القضية وتصدر الحكم فيها

كان أمام الشاب فضلاً عن خدمة الجيش ودرس الحقوق مجال واسع للعمل في سلك الكهنوت سيما اذا كان ذا نزعة خاصة لمهنة الكتابة . فيجد اذ ذاك أمامه فرصاً كثيرة للنجاح فعلم الفلك وفنون الادب والدين والطب والجراحة والكيمياء الطبية والفنون العالية كالهندسة كل هذه كانت ميسورة الحصول للطلاب من الكهنة فلم يكن إذ ذاك خوف على تقلص ظل سلطة كهنوتهم بسبب تعمقهم في ابحاث نيرة كهذه

وكانت أول الشروط الجوهرية التي يقتضي أن تتوفر في الشاب المرشح نفسه للانتظام في سلك الكهنوت ، أن يكون كامل الجسم ( اي خالياً من العاهات والأمراض ) وكان يبتدئ تهذيبه بتعلمه القراءة والكتابة المتقنة بالخط المسماري على ألواح من الآجر يتمرّن عليها بقلم من عظم فيكتب في بادئ الامر قوائم طويلة من العلامات والإشارات والرموز على النسق المعين له ومتى أستوفى حظه من ذلك يأخذ في نسخ بعض فصول معينة من الكتب

ان تعلم القراءة والكتابة لم يكن من الهنات الهينات كما يلوح لنا بل كان يستغرق عدة سنين يخصص القسم الأعظم منها لإتقان الخط الجميل الدقيق الذي كان يتنافس فيه الفنانون من الكتبة ولا يزال هذا النوع من الخط باقياً على الواح دينية وهو في الغالب دقيق جداً تكاد تتعذر قراءته دون آلة مكبرة

وكانت الخطوة الثانية في تهذيبه اشتراكه في طقوس الهيكل حيث يتعلم كيفية استعطاف الإله من سيره في الحفلات التي كان يقيمها الكهنة ويرأسها الملك في بعض الاحيان . وهناك في أجنحة الهيكل المظلمة على أصوات خوار الأبكار من البقر خارج الهيكل التي جيء بها لتقدم ذبيحة كان يتقدم الطالب المتمرن الى حضور تمثال الاله الممثّل بشكل انسان أمامه مائدة تئن مما عليها من أنواع الطعام وقاعدة تحمل ما لذّ وطاب من الشراب ومباخر عالية تفوح منها رائحة العطور المحترقة . فيتعلم الاوقات المناسبة للصلاة والركوع بحيث تلمس جبهته الارض وترتيل الأناشيد بصوت أخنّ على نغمات السنطير والقيثارة الدقيقة وقرع الطبول والرقص عند الحاجة

كان عدد الكهنة كثيراً وجميعهم من مختلف الطبقات والأجناس فمنهم من كان من الفئة التي تمارس إزالة التحريم عن الانسان وبعضهم من طبقة الرائين الذين كانوا يتنبأون عن المستقبل مستقين معلوماتهم في هذا الصدد من مجموعات قديمة في الفأل أو من الحوادث الممكن وقوعها أو من الشمس في السماء أو من بقية الحيوانات العائشة تحت الارض

وكان من خصائص الكهنة دائماً أن ينقذوا الانسان التعس من الأمراض أو من تأثيرات التحريم الشريرة . أما أسباب المرض عند الآشوريين فكانت كثيرة منها الأرواح الهائمة التي فقدت مأواها فحلّت في جسم انسان آخر وأخذت تعذبه وجوقات الأبالسة التي كانوا يعتقدون فيها أنها قادرة جميعها على التسلط على الانسان من ( لابارتو ) عدو الطفولة الخاص الى الشياطين السبعة الذين جاء وصفهم في رقيّة طويلة كانت تتلى على المرضى واليكها

هم سبعة ! هم سبعة !

في أعماق البحار هم وعددهم سبعة

ليسوا ذكوراً ولا أناثاً

بل هم الريح الهائمة

لا نسوة لهم ولا يلدون الأولاد

ولا يعرفون للرحمة معنى ولا للشفقة

كلا ولا يصغون للصلوات والتوسلات

وكان الآشوريون يعتقدون بأن هناك ارواحاً غير الأبالسة والأرواح الهائمة المذكورة نصفها إنسان ونصفها شيطان مولودة من أرواح دأبها امتصاص دماء الناس ليلاً . وعلاوة على هذا كانوا يعتقدون بأن السحرة والساحرات هم قادرون على سحر من يبغضون بالتعاويذ والعزائم وذلك بعمل تماثيل من الشمع لأعدائهم يضعون فيها شيئاً ممن يريدون سحره كشعرة منه أو قطعة من ثوبه أو بصاقه وهاك رقيّة من هذا النوع

… هؤلاء الذين صنعوا لي صوراً

وجعلوها شبيهة بي

الذين قد نزعوا من شعري أو أخذوا من بصاقي

أو مزقوا من ردائي أو جمعوا الغبار المتساقط من رجلي . .. الخ

ومتى استدعي الكاهن لطرد ابليس كان يترتب عليه أن يُري هذا الخصم ( ابليس ) أنه يعلم أسمه وصفاته وجميع دخائل أمره ولذا كان يتلو جدولاً طويلاً بأسماء كل الأبالسة المعروفة حتى يوهم السامعين انه شخّص الابليس وعرفه تمام المعرفة ومن ثم كان يستعين بأحد الالهة على عدوه بتلاوة طلبه موجهة الى الإله مردوخ وآيا ويصف بعدئذٍ للمصاب وصفة لشفائه استمد لها قوة فعّالة من الالهة

ومن الطرق الشائعة في السحر الآشوري لطرد الارواح النجسة كانت تقديم الكفارة وذلك بتقديم شخص أو شيء يرغم ابليس على الدخول اليه بعد إخراجه من المصاب . ويجدر بنا بعد أن أتينا على وصف موجز لأعمال هؤلاء السحرة البعيدة كل البعد عن الطب الصحيح أن نقول كلمة في ما نحن مديونون به للكهنة الآشوريين في العلم

كان الكهنة مسؤلين قبل كل شيء عن حفظ مصباح الأدب منيراً ففضلاً عن درسهم وأبحاثهم وتنقيبهم في المخطوطات كانوا مكلفين بتأسيس مكتبة في الهيكل وكان البابليون الأتقياء يعدّون تقديم نسخة لهذه المكتبة اجراً وثواباً

ومن المؤكد أنه وجد مكتبة كهذه في هيكل ( نبو ) في نينوى ولا بد أن آشور بانيبال الهائم بحب الكتب كان يمدّها بالمؤلفات في أيامها الاخيرة وأننا مديونون بلا مراء في معظم معلوماتنا عن بابل لجهود الكهنة هذه ولا نرى مندوحة عن سرد شيء عن اكتشافاتهم في مختلف فروع العلم

اننا نجد آثار أول استقرائهم في العلم أساس كل اكتشاف صحيح في المعجمات البابلية القديمة التي يرجع عهدها للألف الرابع قبل المسيح وهذه المعجمات تحتوي على مفردات أسماء الآلهة والموظفين الرسميين وسائر الاشياء التي لها علاقة بالحياة اليومية وهي من تآليف كتبة مدينة شوروباك . ان هذه المقدرة على تبويب المفردات ووضع التحديدات الصحيحة لها لهي دليل قاطع على همّة عالية ولدت فيهم تدريجياً ملكة الملاحظة الدقيقة في البحوث والتجارب العلمية فوضعوا التعابير الدقيقة المختصرة في تآليفهم الأدبية وخاصة في الصكوك الرسمية

والحق يقال أن وضع المعاجم في أيام المتأخرين من ملوك بابل وآشور بلغ ذروة رفيعة يصحّ معها أن ندعو هذا العمل – وضع المعاجم – ولعاً هام به سكان الرافدين ولم يكن لإحدى الامم المعاصرة هذا الولع قط والسبب الاصلي لهذه الميزة هو بلا شك وجود شعبين ممتازين في جوار واحد

ان حاجة الساميين لكتب اللغة والمعجمات لم تكن في عهد إزدهار اللغة السومرية فحسب بل بعد انقراضها وتلاشيها أيضاً فقد شعروا اذ ذاك بضرورة المعاجم لكي يستعينوا بها على نقل بقايا هذه اللغة وذلك لان الساميين كانوا مديونين للسومريين في آدابهم الدينية وقد بقيت هذه المعاجم معتبرة حتى أواخر الخط المسماري فكان تقديم قاموس للهيكل يعد هدية نفيسة جداً

وكان بين هذه القواميس كل أنواع مؤلفات اللغويين منها معاجم في اللغتين السامية والسومري، وكتب جمل واصطلاحات في اللغتين وكتب المرادفات في اللغة الأكادية السامية وبعض الأحيان قواميس في اللغات الأجنبية كالحثية والكوسية والمصرية مع تفاسير أكادية وهناك جداول تتضمن أسماء الآلهة والهياكل والكواكب والبلاد والمصنوعات المعدنية والخشبية والقماشية . وأهم ما ذكر القوائم التي بأسماء الحيوانات والنباتات والحجارة

والقوائم الاخيرة قوائم ( الحيوانات والنباتان والاحجار ) تهمنا بنوع خاص لعلاقتها بالعلوم الآشورية . فقوائم الحيوانات مقسّمة الى فصائل من الوحوش والطيور والأسماك واأفاعي والحشرات والقوائم الحجرية تحتوي على كثير من التراكيب الكيماوية نجد معظمها في رسائل الطب ورسائل صنع الزجاج وأكبر هذه القوائم قائمة النباتات الدالّة على معرفة واسعة في المحصولات النباتية

ولدينا في المتحف البريطاني 120 قطعة من هذه القوائم النباتية من بقايا مكتبة آشور بانيبال وقطعتان اخريتان اقدم عهداً من هذه القطع تُرينا أن علماء الآشوريين رتبوا أسماء النباتات عندهم في نظام ثابت واحد أو نظامين على الاكثر . وهذا اذا اعتبرت بعض الاختلافات بين مختلف القوائم ومن المعلوم أن نظرهم للنوع والفصيلة كان غير نظرنا ومهما يكن من أمر ذلك فإن اسلوب قوائمهم لها يدعو الى الاعجاب اذ تراهم يبدأون اولاً ، وبدؤهم صحيح ، بالاعشاب والقصب وفصائل الحليبة ومن ثم تأتي البلبلة في ترتيبهم فترى مثلاً فصيلة الخيار والخشخاش مجموعة تحت أسم واحد . ويرجح أن السبب في ذلك وجود علامتين متشابهتين في بدء أسـم كل منهما وهي تعرف في الخط المسماري بعلامة خول (   khul) ويبلغ عدد الأسماء التي وضعها الآشوريين للمملكة النباتية 300 اسم على وجه التقريب

كان للآشورين معرفة تامة بأنواع الأدوية وخصائصها وفوائدها . من ذلك أنهم عرفوا خاصية القنب المسكرة فضلاً عن كونه صالحاً لعمل الخيوط ووقفوا على قوة الأفيون المخدرة وعلى أنواع الصمغ . وأننا نجد في كتب الصيدلة التي خلّفوها قوائم بأسماء الأدوية منسّقة في ثلاثة عواميد . جاء في الأول منها أسماء الأدوية ، وفي الثاني أسماء الأمراض التي تصلح لها تلك الادوية ، وفي الثالث طريقة الاستعمال مثال ذلك : عرق السوس دواء للسعال – يسحق ويشرب مع البيرة . وهناك أدوية كثيرة أخرى للاسهال والصفراء حتى ولمنع القمل

اما المؤلفات الطبية فكانت تتألف من مئات من قطع الآجر تحتوي على عدد كبير من الوصفات الطبية مع وصف مسهب للأمراض يتلو ذلك تعليمات عن كيفية معالجة هذه الامراض مثال ذلك:

اذ تألمت العين من الرشح تداوى بمسحوق قشر الرمان ، ولإلتهابها يستعمل شحار القدر ، وجرب الرأس يعالج بالكبريت المسحوق في زيت شجر الارز – هذه جميعها أمثلة من الوفٍ من تلك الوصفات الطبية للأمراض المختلفة – من لسعة العقرب الى عسر الولادة

ويلاحظ أن الطبيب الآشوري لم يكن قادراً على التخلص من السحر من مزاولته مهنته اذ قلما نجد كتاباً في الطب مهما كان نوعه دون أن يحتوي على رقىً وتعاويذ كانت تعد ضرورية للشفاء

وكما في الطب كذلك في الكيمياء العملية ، كان يتحتم على من يحترفها أن يتعلم فروعاً أخرى في العلم . فكان يجب عليه : ( 1ً ) أن يكون كاهناً يدفع آفات الارواح النجسة عن تراكيبه . ( 2ً ) أن يكون جيولوجياً لمعرفة أنواع الأتربة والمواد المستخرجة منها اللازمة لتراكيبه الكيماوية . ( 3ً ) أن يكون ذا خبرة في العقاقير وخاصةً السموم منها . ( 4ً ) أن يكون فوق كل شيء فناناً لتهيئة الطلاء بألوانه المختلفة

كان الآشوري يقرأ الكيمياء على الكهنة في الهيكل وفي كتب الهيكل وقواميسه ومنها كان يقتبس معلومات غنية عن الخصائص الجيولوجية للحجارة . وكان يعرف أنواع الحجارة من ألوانها وصلابتها فيميز الياقوت من لونه الأحمر واللازورد من زرقته وحجر الكلس من لونه الأبيض وصلابته المتوسطة وحجر الحية من هيئته ولونه . وقد تمكن من معرفة طريقة أخرى لتمييزها وذلك بصب بعض الحوامض على الحجارة فيحكم اذ ذاك على نوعها من الفوران الذي تحدثه هذه الحوامض في بعضها . وفضلاً عن هذا فقد عرف كيفية الحصول على الزئبق من الأماكن المجاورة لآبار البترول الواقعة قرب كركوك

جميع هذه المعلومات والفوائد كان يتعلمها الكيماوي من الكتب ليستعين بها في صنع الزجاج وتلوينه بألوان قرمزية أو زرقاء جميلة للغاية لا يزال التاريخ ينسب اكتشافها الى أمم قامت بعد الآشورين

أما وقد اتينا على بيان موجز بمعلومات الآشوري الأرضية فلا نرى مندوحة عن الانتقال الى وصف نظرياته في الكون وعلم الفلك فنقول:

استهوت العلوم الرياضية سكان ما بين النهرين منذ أقدم العصور التاريخية وليس ذلك بالأمر الغريب في شعب أعار معظم اهتمامه للمراقبات الجوية والمساحات الارضية . فكان الطالب في صدر التاريخ البابلي يجد أمامه كتباً بالخط المسماري تتضمن جداول في الضرب وما أشبه وفي العصر الذي تلا فجر التاريخ البابلي أصبح لديه جداول في استخراج الجزر المالي والمكعب ومعظم هذه الجداول نقشت على الواح يرجع تاريخها الى الاسرة الثالثة في مملكة اور ( سنة 2400 ق. م )

والى هذا التاريخ ( سنة 2400 ق. م ) يرجع الزمن الذي فيه تمكن رياضيوا بابل من إيجاد مساحة شكل الاضلاع ببراعة فائقة ونحو سنة 2200 ق. م استطاعوا ايضاً أن يضعوا قاعدة لإيجاد الزاوية القائمة ويحلّوا غيرها من المسائل الهندسية

ولا نكاد نصل الى القرن السابع ق. م حتى تنقص معلوماتنا عن الرياضيات عند الآشوريين ويزداد اطلاعنا على علم الفلك عندهم . ان علم الفلك لم يكن قد تجاوز حتى ذلك العهد حدود التنجيم عند الفلكيين الآشوريين غير أنه لم تفتهم الاستفادة العملية من هذا العلم . كتقرير طول الشهر القمري وبالتالي طول السنة القمرية للتوفيق بينها وبين السنة الشمسية اذ عرفوا الفرق بين السنتين منذ عصور قديمة . فكان من واجبات المراصد الآشورية أن تقرر طول الشهر القمري فيما اذا كانت ايامه 29 او 30 وتبلغ ذلك شهرياً الى البلاط الملكي وقد اخترعوا فيما بعد طريقة عجيبة لتقدير أيام الشهر مقدماً وذلك من مراقبة مراكز الشمس والقمر وملاحظة النسبة بينهما . ومن مخترعات الآشوريين الفلكية النظام الستيني المشهور الذي لا يزال مستعملاً الى يومنا في تقسيم الأوقات والساعة المائية والساعة الشمسية (المزولة)

لم تؤثر الحقائق والأبحاث العملية في عقائد اللاهوتيين البابليين قط لأنهم لم يجدوا شيئاً يخالف قواعد دينهم في ما وصلوا اليه في ابحاثهم العملية حتى يفصلوا الدين عن العلم بل كان العلم والدين في نظرهم شيئين متفقين لا تناقض بينهما ، وهذا ما جعلهم لا شك ان يتمسكوا بعقائدهم تمسكاً شديداً أضف الى ذلك ميلهم الفطري الى الاحتفاظ بالقديم . وما قلنا عن البابليين القدماء يصدق ايضاً عن الآشوريين في الجيل السابع والسادس ق . م وعن البابليين الذين قاموا بعد سقوط الآشوريين . وكان البابلي والآشوري يعتقدان في الأجرام السماوية التي كانا يرصدانها بإهتمام زائد قصد الوقوف على مشيئة الآلهة ، ان الآلهة وضعتها في مراكزها وسنت لها نظام حركتها

اما معلومات الآشوري عن الخليقة فكان يستقيها من القصص التي أورثته إياها التقاليد أجدرها بالذكر الرواية العظيمة المنقوشة على سبعة الواح وكان يسلم بصحتها دون ادنى شك او ريب وهذه الاساطير أخذت في الأصل عن البابليين وهاك أسطورة منها عن الخليقة

في البدء لم تكن السموات ولا الارض . ولم يكن من خلائق سوى ايسو ( البحر ) وطيمات ( الوحش الهائل ) زوجته وموّمو خادمهما . وهذان الأولان ولدا الإلهين ( لخمو ) و ( لخامو ) اللذين ولدا ( انشار ) و ( قيشار ) وهذان ولدا ( انو ) إله السماء الذي صار اباً ( لإيا ) إله الارض وما تحتها . غير أن هؤلاء الآلهة أزعجوا جدهم الأعلى ( ايسو ) حتى انه تآمر مع زوجته ( طيمات ) على إبادتهم . اما طيمات فلم توافق على أهلاك أحفادها بينما ( مومّو ) شجع ( ايسو ) على المضي في تنفيذ خطته الشريرة ، وأتصل الامر باسماع إيا فثار ثائره والقى بقوة سحره سباتاً عميقاً على ايسو وقتله وأوثق مومو وسجنه وفي هذا الزمان ولد الإله ” مردوخ ” من إيا ( على رأي البابليين ) او آشور من لخمو ( على رأي الآشوريين )

ولما رأت طيمات ما حلّ بزوجها فكرت بالانتقام وبهذه النيّة ولدت وحوشاً مختلفة وسلطّت عليهم ” كنغو ” واستعدت لمحاربة الآلهة ولما بلغ الأمر مسامع إيا اضطرب جداً وراح يستعين بانشار الذي اشار عليه بمنازلة الوحش ولكنه لم يجسر على ذلك فطلب انشار الى ولده انو ان يذهب لمقاتلة الوحش وهذا ايضاً رجع هائماً مذعوراً من هول منظرها . وأخيراً كلف مردوخ بالأمر فرضي بذلك مسروراً وقاتل الوحش الهائل طيمات وقتلها وأسّر كنغو . ومن هنا تبتدئ الخليقة اذ فسخ انو الوحش الى قطعتين وجعل من الأولى السموات ومن الأخرى الأرض وسنّ نظاماً للأجرام السموية وحركتها وللأوقات . ثم ذبح كنغو الشرير وأتخذ دمه لخلق البشر ليكونوا خداماً للآلهة

هذا كان اعتقاد الآشوري القويم ! في تكوين العالم ولم يكن يرى في اعتقاده ادنى باعث للشك او الريبة . وقد جاء عن السموات في كتب اخرى تبحث عن الخليقة أنها مؤلفة من ثلاث طبقات فوق الارض المسطحة المحاطة بمياه البحر ووراء هذا البحر سد شاهق من الجبال تحيط به وعلى هذه الجبال ترتكز السماء . وفي الجهة الشرقية من هذه الجبال باب تخرج منه الشمس كل صباح في رحلتها نحو المغرب . وتحت الأرض عالم سفلي مظلم كريه حيث مساكن الموتى المسورة بسبعة أسوار

ورغماً عن هذه العقليّة المحدودة في الاعتقادات ، فقد بدأ الآشوريين بوضع علم الفلك على أسس علمية ثابتة وان كانت معظم استفادتهم منه تنجيمية بحتة . وعرفوا سيارات سبع وهي كما يأتي : الشمس والقمر والزهرة والمشتري وعطارد والمريخ وزحل واستطاعوا أن يعرفوا أوقات خسوف القمر وقسّموا منطقة البروج الى اثني عشر برجاً تكاد تكون نفس الأقسام المعروفة اليوم ورصدوا الزهرة بإهتمام وسجّلوا وجود الكواكب في هالات القمر . بقي علينا الآن ان نلخص ما كتبناه عن بابل وآشور وذلك بتتبع نشوء عقلية السامي وكفاءته وتأثيرها على المدنيات المتأخرة

اننا لدى درسنا سجايا الساميين الذين اشغلوا وادي الرافدين نجد أن عاملين مهمين حالا دون تسلمهم قمة السيطرة على سائر الأمم المتمدنة . وأول هذين العاملين خارجي وهو اقليم البلاد المثبط للعزائم وثانيهما داخلي وهو شدة احتفاظهم بالقديم

واننا نرى في هؤلاء الساميين ولاءً بالغاً لآلهتهم ، إخلاصاً لجنسـهم اكثر مما لوطنهم ، لطفاً وامانةً لعيالهم وذويهم ، كفاءة عظيمة في الصناعة والتجارة ، وشجاعة حكيمة في الحرب وتقديراً كبيراً للموسيقى والشعر وتبصراً في جميع أعمالهم.

اما الآراء الفلسفية والنظريات في العلوم غير المادية فلم يكن لها هوىً في نفوسهم ولم يأبهوا كثيراً للابتكارات الفكرية ولم يكونوا على استعداد لقبول آراء جديدة في الدين اللهم اذا كان هنالك أساطير يمكن نسبتها لآلهتهم

ومع أنهم كانوا يطلقون الحرية لأنفسهم في ترجمة الأشعار القصصية عن الأبطال نراهم شديدي الحرص والتحفظ عند استنساخهم طقوسهم الدينية القديمة وبذلك كانوا يضربون نطاقاً منيعاً حول هذه العقائد التي كانت بحاجة شديدة الى أصحاب أدمغة نيّرة ينقّحونها من الأوهام والخزعبلات المتحدّرة اليها من تصورات العصور المتوغلة في الهمجية . وهذه الأوهام علقت بأذهان نسلهم حتى أصبحت عقائد راسخة لا تقاوم يعضدها كهنوت متصلب في الرأي

مع هذا كله ورغماً عن شدّة الاحتفاظ بالقديم التي أتسم بها كثير من الشعوب الشرقية فالساميون بقوة ملاحظتهم الدقيقة تمكنوا من كشف كثير من أسرار الطبيعة وأننا اليوم مديونون لهم بأشياء كثيرة حملتها الينا قوافلهم..