– 3 –
موسى بن إسرائيل الكوفي – ماسرجوية متطبب البصرة – سلموية بن بنان متطبب المعتصم – ابراهيم بن فزارون – أيوب المعروف بالأبرش – ابراهيم بن ايوب الابرش – جبرائيل كحال المأمون – ماسوية ابو يوحنا – يوحنا بن ماسوية – ميخائيل بن ماسوية – عيسى بن ماسه – حنين بن اسحق – اسحق بن حنين – حبيش الاعسم – يوحنا بن بختيشوع – بختيشوع بن يوجنا – عيسى بن علي – عيسى بن يحيى بن ابراهيم الحلاجي – اين صهار بخت – ابن ماهان – الساهر
موسى بن إسرائيل الكوفي
متطبب إبراهيم بن المهدي . قال يوسف بن إبراهيم : كان موسى هذا قليل العلم بالطب إذا قيس إلى من هو في دهره من مشايخ المتطببين ، إلاّ أنه كان أملأ لمجلسه منهم بخصال اجتمعت فيه، منها : فصاحة اللهجة : ومعرفة بالنجوم ، وعلم بأيام الناس ، ورواية الأشعار . وكان مولده فيما ذكر لي سنة تسع وعشرين ومائة ووفاته في سنة اثنتين وعشرين ومائتين . فكان أبو اسحق يحتمله لهذه الخلال ولأنه كان طيب العشرة جداً يدخل في كل ما يدخل فيه منادمو الملوك . وكان قد خدم وهو حدث عيسى بن موسى بن محمد ولي العهد
قال يوسف بن إبراهيم : حدثني موسى بن إسرائيل قال : كان لعيسى بن موسى متطببّ يهودي يقال له فرات بن شحاثا ، كان تياذوق المتطبّب يقدمه على جميع تلامذته ، وكان شيخاً كبيراً قد خدم الحجاج بن يوسف وهو حدث . قال : وكان عيسى يشاور في كل أمر ينوبه هذا المتطبب . قال موسى . فلما عقد المنصور لعيسى على محاربة محمد بن عبد الله بن حسن العلوي وصار اللواء في داره قال للفرات : ما تقول في هذا اللواء ؟. قال له المتطبب: أقول انه لواء الشحناء بينك وبين اهلك إلى يوم القيامة . إلاّ أني أرى لك نقل اهلك من الكوفة إلى أي البلدان أحببت ، فانّ الكوفة بلد شيعة من تحارب ، فان فللت لم تكن لمن تخلف بها من اهلك بقيا، وان فللت وأصبت من تتوجه إليه زاد ذلك في أضغانهم عليك ، فان سلمت منهم حياتك لم يسلم منهم عقبك بعد وفاتك. فقال له عيسى: ويحك إن أمير المؤمنين غير مفارق للكوفة ، فلم أنقل أهلي عنها وهم معه في دار ؟ فقال له إن الفيصل في مخرجك ، فان كانت الحرب لك فالخليفة مقيم بالكوفة ؛ وان كانت الحرب عليك لم تكن الكوفة له بدار وسيهرب عنها ، ويخلف حرمه فضلاً عن حرمك
قال موسى : فحاول عيسى نقل عياله من الكوفة فلم يسوغه ذلك المنصور . قال : ولما فتح الله على عيسى ورجع إلى الكوفة وقتل إبراهيم بن عبيد الله انتقل المنصور إلى مدينة السلام، فقال له متطببه : بادره بالانتقال معه إلى مدينته التي قد أحدثها ، واستأذن المنصور في ذلك فأعلمه أنَّه لا سبيل إليه ، وانه قد دبر استخلافه على الكوفة ، فاخبر بذلك عيسى متطببه
فقال له المتطبب : “استخلافه إياك على الكوفة قد حل لعقدك عن العهد لأنه لو دبر تمام الأمر لك لولاّك خراسان بلد شيعتك . فأمّا أن يجعلك بالكوفة مع أعدائه وأعدائك، وقد قتلت محمد بن عبد الله، فوالله ما دبر فيك إلا قتلك وقتل عقبك . ومن المحال أن يوليك خراسان بعد الظاهر منه فيك . فسله توليتك الجزيرتين أو الشام ، فاخرج إلى أي الولايتين ولاك فاوطنها . فقال له : “تكره لي ولاية الكوفة واهلها من شيعة بني هاشم ، وترغب لي في ولاية الشام أو الجزيرتين ، واهلها من شيعة بني أمية ؟! ” فقال له المتطبب : أهل الكوفة وان وسموا أنفسهم بالتشـيع لبني هاشم فلست وأهلك من بني هاشم الذين يتشيعون لهم ، وإنما تشيعهم لبني أبي طالب وقد أصبت من دمائهم ما قد أكسب أهل الكوفة بغضتك ، وأحل لهم عند أنفسهم الاقتياد منك . وتشيع أهل الجزيرتين والشام ليس على طريق الديانة ، وانما ذلـك على طريق إحسان بني أمية إليهم . وإن أنت أظهرت لهم مودة متى وليتهم فأحسنت إليه كانوا لك شيعة ، ويدلك على ذلك محاربتهم مع عبد الله بن علي على ما قد نال من دمائهم لما تألفهم ، وتضمن لهم الإحسان إليهم ، فهم إليك لسلامتك من دمائهم لما تألفهم، وتضمن لهم الإحسان إليهم ، فهم إليك لسلامتك من دمائهم أميل . وأسعفي عيسى من ولاية الكوفة وسأل تعويضه عنها ، فاعلمه المنصور أن الكوفة دار الخلافة ، وانه لا يمكن أن تخلو من خليفة أو عهد . ووعد عيسى أن يقيم يمدينة السلام سنة ، وبالكوفة سنة. وانه إذا صار إلى الكوفة صار عيسى إلى مدينة السلام فاقام بها . قال موسى : فلما طلب أهل خراسان عقد البيعة للمهدي قال لمتطببه : ما تقول يا فرات فقد دعيت إلى تقديم محمد بن أمير المؤمنين على نفسي ؟ فقال له : فتدفع بماذا ! أرى أن تسمع وتطيع اليوم ، وبعد اليوم . “فقال له : وما بعد اليوم ؟ قال : إذا دعاك محمد بن أمير المؤمنين إلى خلع نفسـك وتسليم الخلافة إلى بعض ولده أن تسارع . فليست عندك منعة ولا يمكنك مخالفة القوم في شيء يريدونه منك ، قال موسى: فمات المتطبب في خلافة المنصور
فلما دعى المهدي عيسى إلى خلع نفسه من ولاية العهد وتسليم الأمر إلى الهادي قال عيسى بن موسى قاتلك الله يا فرات ما كان أجود رأيك ، واعلمك بما تتفوه به ، كأنك كنت شاهداً ليومنا هذا ! قال موسى بن إسرائيل ، ولما رأيت فعل أبي السرايا بمنازل العباسيين قلت ما قال عيسى ابن موسى . وقال يوسف بن إبراهيم : لمّا بلغه وهو بمصر ما ركب الطالبيون واهل الكوفة من العباسيين، وقتل عبد اللـه بن محمد بن داود مثل ما قال عيسى بن موسى وموسى المتطبب . قال يوسف : وحدثني موسى بن إسرائيل المتطبب أنَّ عيسى بن موسى شكا إلى فرات متطببه ما يصيبه من النعاس مع مسامريه ، وانه إن تعشى معهم ثقلت معدته فنام وفاته السمر ، واصبح ومعه ثقلة تمنعه من الغداء وإن لم يتعش معهم أضرت به الشهوة الكاذبة فقال له : شكوت إليَّ مثل ما شكا الحجاج إلى أستاذي تياذوق ، فوصف له شيئاً أراد به الخير فصار شراً . فقال له : وما هو؟ قال : وصف له العبث بالفستق فذكر ذلك الحجاج لحظاياه فلم يبق له حظيّة إلا قشرت له جاماً من الفستق وبعثت به إليه . وجلس مع مسامريه فأقبل يستفُّ الفستق سفاً فأصابته هيضة كادت تأتي على نفسه ، فشكا ذلك إلى تياذوق . فقال : إنما أمرتك أن تعبث بالفستق وأردت بذلك الفستق الذي بقشريه جميعا لتتولى أنت كسر الواحدة بعد الواحدة، ومص قشرها المصلح لمعدة مثلك من الشباب الممرورين ، وإصلاح الكبد بما يتأدى إليها من طعم هذا الفستق وذهبت إلى أنَّك إذا أكلت ما في الفستقة من الثمرة وحاولت كسر أخرى لم يتمّ لك كسرها إلاّ وقد أسرعت الطبيعة في هضم ما أكلت من ثمرة الفستقة التي قبلها . فأمّا ما فعلت فليس بعجيب أن ينالك معه اكثر مما أنت فيه . وإن كنت تأخذ أيها الأمير الفستق على ما رأى أستاذي أن يؤخذ انتفعت به . قال موسى فلزم عيسى بن موسى أخذ الفستق اكثر من عشرين سنة فكان يحمده
ماسرجويه متطبّب البصرة
وهو الذي نقل كتاب اهرن من السرياني إلى العربي . وكان يهودي المذهب سريانياً ، وهو الذي يعنيه أبو بكر محمد بن زكريا الرازي في كتابه الحاوي بقوله قال اليهودي
وقال سليمان بن حسان المعروف بابن جلجل : إن ماسرجويه كان في أيام بني أميّة . وانه تولى في الدولة المروانية تفسير كتاب اهرن بن اعين إلى العربية الذي وجده عمر بن عبد العزيز، رحمه الله، في خزائن الكتب ، فأمر بإخراجه ووضعه في مصلاه ، واسـتخار الله في إخراجه إلى المسلمين للانتفاع به، فلمّا تمَّ له في ذلك أربعون صباحاً أخرجه إلى الناس وبثّه في أيديهم
قال سليمان بن حسّان : حدثني أبو بكر محمد بن عمر بن عبد العزيز بهذه الحكاية في مسجد الترمذي سنة تسع وخمسين وثلاثمائة
وقال يوسف بن إبراهيم : حدثني أيوب بن الحكم البصري المعروف بالكسروي صاحب محمد بن طاهر بن الحسين – وكان ذا أدب ومروءة، وعلم بأيام الناس وأخبارهم . قال : كان أبو نواس الحسن بن هانىء يعشـق جارية لامرأة من ثقيف تسكن الموضع المعروف بحكمان من ارض البصرة ، يقال لها جنان وكان المعروفان بأبي عثمان وأبي أمية من ثقيف قريبين لمولاة الجارية . فكان أبو نواس يخرج في كل يوم من البصرة يتلقى من يقدمه من ناحية حكمان فيسـائلهم عن أخـبار جنان. قال : فخرج يوما وخرجت معه ، وكان أول طالع علينا ماسرجويه : المتطبب، فقال له أبو نواس : كيف خلفت أبا عثمان ومية ؟… فقال ماسرجويه: جنان صالحة كما تحب . فأنشأ أبو نواس يقول
أسأل القادمين من حكمان كيف خلفتم أبـا عثمان
وأبا ميـّة المهذب والمأمول والمرتجى لـريب الزمـان
فيقولون لي جنان كما سرك في حالها فسـل عن جنان
ما لهم لا يبـارك الله فيهم كيف لم يغن عنهم كتماني
الخفيف
قال يوسف : وحدثني أيوب بن الحكم انه كان جالساً عند ماسرجويه، وهو ينظر في قوارير الماء، إذ أتاه رجل من الخوز فقال له : “إني بليت بداء لم يبل أحدٌ بمثله “. فسأله عن دائه فقال : اصبح وبصري عليَّ مظلم ، وأنا أجد مثل لحس الكلاب في معدتي فلا تزال هذه حالي حتى أطعم شيئا ، فإذا طعمت سكن عني ما أجد إلى وقت انتصاف النهار ، ثم يعاودني ما كنت فيه ، فإذا عاودت الأكل سكن ما بي إلى وقت صلاة العتمة ، ثم يعاودني فلا أجد له دواء إلا معاودة الأكل،” فقال ماسرجويه : “على هذا الداء غضب الله فإنّه أساء لنفسه الاختيار حين قرنها بفلة مثلك، ولوددت أن هذا الداء يحول إلي والى صبياني ، وكنت أعوضك مما نزل بك منه مثل نصف ما أملك ” ، فقال له : ما أفهم عنك ؟ فقال له ماسر جويه: هذه صحة لا تستحقها أسأل الله نقلها عنك إلى من هو أحق بها منك
قال يوسف : وحدثني أيوب بن الحكم ، الكسروي قال : شكوت إلى ماسرجويه تعذر الطبيعة فسألني أي الأنبذة أشرب ، فأعلمته أني أدمن النبيذ المعمول من الدوشاب البستاني الكثير الداذي فأمرني أن آكل في كل يوم من أيام الصيف على الريق قثاة صغيرة من قثاة بالبصرة يعرف بالخريبي . قال فكنت أوتي بالقثاء وهو قثاء دقيق في دقة الأصابع وطول القثاء منه نحو من فتر فآكل منه الخمس والست والسبع ، فكثر علي الإسهال فشكوت ذلك إليه فلم يكلمني حتى حقنني بحقنة كثيرة الشحوم والصموغ والخطمي والأرز الفارسـي ، وقال لي : “كدت تقتل نفسك بإكثارك من القثاء على الريق لأنه كان يجدر من الصفراء ما يزيل عن الأمعاء من الرطوبات اللاصقة بها ما يمنع الصفراء من سحجها وأحداث الدوسنطاريا فيها.
ولماسرجويه من الكتب: كناش ، كتاب في الغذاء ، كتاب في العين
سلمويه بن بنان متطبب المعتصم
لما استخلف أبو اسحق محمد المعتصم باللـه وذلك في سنة ثمان عشرة ومائتين اختار لنفسه سلمويه الطبيب واكرمه إكراماً كثيراً يفوق الوصف ، وكان يرد إلى الدواوين توقيعات المعتصم في السجلات وغيرها بخط سلمويه ، وكل ما كان يرد على الأمراء والقواد من خروج أمر وتوقيع من حضرة أمير المؤمنين فبخط سلمويه . وولى أخا سلمويه إبراهيم بن بنان خزن بيوت الأموال في البلاد، وخاتمه مع خاتم أمير المؤمنين . ولم يكن أحد عنده مثل سلمويه وأخيه إبراهيم في المنزلة . وكان سلمويه بن بنانصرانياً حسن الاعتقاد في دينه ، كثير الخير ، محمود السيرة وافر العقل ، جميل الرأي.
وقال اسحق بن علي الرهاوي ، في كتاب أدب الطبيب ، عن عيسى بن ماسة قال : أخبرني يوحنا بن ماسويه عن المعتصم ، أنَّه قال: سلمويه طبيبي اكبر عندي من قاضي القضاة لأن هذا يحكم في نفسي ونفسي أشرف من مالي وملكي ، ولما مرض سلمويه الطبيب أمر المعتصم ولده أن يعوده فعاده . ثم قال : أنا أعلم وأتيقَّن إني لا أعيش بعده لأنه كان يراعي حياتي ويدبر جسمي ولم يعش بعده تمام السنة
وقال اسحق بن حنين ، عن أبيه : أن سلمويه كان أعلم أهل زمانه بصناعة الطب . وكان المعتصم يسمّيه أبي . فلمّا اعتلَّ سلمويه عاده المعتصم وبكى عنده وقال : تشير عليَّ بعدك بما يصلحني فقال سلمويه : يعزُّ عليَّ بك يا سيدي ولكن عليك بهذا الفضولي يوحنا بن ماسويه ، وإذا شكوت إليه شيئاً فقد يصف فيه أوصافاً ، فإذا وصف فخذ أقلّها أخلاطاً . فلمّا مات سلمويه امتنع المعتصم من أكل الطعام يوم موته وامر بأن تحضر جنازته الدار ويصلى عليه بالشمع والبخور على زيِّ النصارى الكامل . ففعل وهو بحيث يبصرهم ويباهي في كرامته ، وحزن عليه حزناً شديداً
وكان المعتصم الهضم في جسمه قوي ، وكان سلمويه يفصده في السنة مرتين ، ويسقيه بعد كل مرة دواء مسهلا ، ويعالجه بالحمية في أوقات . فأراد يوحنا بن ماسويه أن يريه غير ما عهد فسقاه دواء قبل الفصد وقال : أخاف أن تتحرك عليه الصفراء ، فعندما شرب الدواء حمي دمه ، وخمَّ جسمه وما زال ينقص والعلل تتزايد إلى أن نحل بدنه ومات بعد عشرين شهراً من وفاة سلمويه . وكانت وفاة المعتصم في شهر ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين
قال يوسف بن إبراهيم : قال المعتصم لأبي اسحق إبراهيم بن المهدي في أول مقدمه من بلد الروم وهو خليفة : يا عم أمورك مضطربة عليك منذ أول أيام الفتنة لأنك بليت في أولها مثل ما شمل الناس، ثم خصَّك بعد ذلك من خراب الضياع وتخرم حدودها لاستتارك سبع سنين من الخليفة الماضي ما لولم يتقدمه شيء من المكروه لقد كانت فيه كفاية ثم ظهر من سوء رأي المأمون بعد ذلك ، فيك ما طمَّ على كل ما تقدم من المكروه النازل بك فزاد ذلك في أمرك . وفكرت فيك فوجدتك تحتاج إلى أن يرد علي في يوم خبرك وما تحتاج إليه لمصالح أمورك . ورأيت ذلك لا يتم إلاّ بتقليدي عن القيام برقع حوايجك إلى خادم خاص بي . وقد وقع اختياري لك على خادمين لي يصل كلّ واحد منهما إليّ في مجالس جدي وهزلي ، بل يصل إليَّ في مرقدي ومتوضئي: وهما : مسرور سمانه الخادم وسلمويه بن بنان . فاختر أيهما شئت وقلده حوايجك ؟ فوقع اختياره على سلمويه ، وأحضره أمير المؤمنين فأمره أن يتولى إيصال رسائله إليه في جميع الأوقات
قال يوسف: فقربني أبو اسحق بسلمويه ، وكنت لا أكاد أفارقه . وكان خروج أمير المؤمنين عن مدينة السلام آخر خرجاته عن غير ذكر تقدم لخروج إلى ناحية من النواحي . وكان الناس قد حضروا الدكة بالشماسية لحلية السروج في يوم الأربعاء لسبع عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة عشرين ومائتين . فأخرجت الخيل ودعا بالجمازات فركبها ونحن لا نشك في رجوعه من يومه . ثم أمر المـوالي والقواد باللحاق به ، ولم يخرج معه من أهل بيته أحد إلاّ العباس بن المأمون وعبد الوهاب ابن علي . وخلف المعتصم الواثق بمدينة السلام ، إلى أن صلى بالناس يوم النحر سنة عشرين ومائتين . ثم أمر بالخروج إلى القاطول فخرج . فوجهني أبو اسحق بحوائج له إلى باب أمير المؤمنين ، فتوجهت ، فلم يزل سيارة مرة بالقاطول ومدينة القاطول ومرة بدير بني الصقر ، وهو الموضع الذي سـميَّ في أيام المعتصم والواثق بالايتاخية وفي أيام المتوكّل بالمحمدية . ثم صار المعتصم إلى سـرَّ من رأى فضرب مضاربه فيها وأقام بها في المضارب . فاني ، في بعض الأيام ، على باب مضرب المعتصم إذ خرج سلمويه بن بنان فاخبرني أن أمير المـؤمنين أمره بالمضي إلى الدور والنظر إلى سـوار تكين الفرغاني ، والتقدم إلى متطببه في معالجته من علّة يجدها بما يراه سلمويه صوابا . وحلف عليّ أن لا أفارقه حتى نصير إلى الدور ونرجع ، فمضيت معه فقال لي : حدثني في غداة يومنا هذا نصر بن منصور بن بسام انه كان يساير المعتصم بالله في هذا البلد يعني بلد سر من رأى وهو أمير
قال لي سلمويه : قال لي نصر : أنَّ المعتصم أمير المؤمنين قال له يا نصر أسمعت قط بأعجب ممن اتخذ في هذا البلد وأوطنه ! ليت شعري ما عجب موطنه حزونة أرضه أو كثرة أخافيفه ، أم كثرة تلاعه وشدَّة الحر فيه إذا حمي الحصى بالشمس . ما ينبغي أن يكون متوطن هذا البلد إلاّ مضطراً مقهوراً أو ردي التمييز
قال لي سلمويه : قال لي نصر بن منصور : وأنا والله خائف أن يوطن أمير المؤمنين هذا البلد، فإن سلمويه ليحدثني عن نصر إذ رمى ببصره نحو المشرق فرأى في موضع الجوسق المعروف بالمصيب أكثر من ألف رجل يضعون أساس الجوسق فقال لي سلمويه : أحسب ظن نصر بن منصور قد صحّ . وكان ذلك في رجب سنة إحدى وعشرين ومائتين . وصام المعتصم في الصيف في شهر رمضان من هذه السنة . وغدّى الناس فيه يوم الفطر، واحتجم المعتصم بالقاطول يوم سبت وكان ذلك اليوم آخر يوم من صيام النصارى فحضر غداءه سلمويه بن بنان واستأذنه في المصير إلى القادسية ليقيم في كنيستـها باقي يومه وليلته ، ويتقرَّب فيها يوم الأحد ، ويرجع إلى القاطول قبل وقت الغداء من يوم الأحد فأذن له في ذلك وكساه ثياباً كثيرة ووهب له مسكاً وبخوراً كثيراً . فخرج منكسراً مغموماً وعزم عليّ بالمصير معه إلى القادسية فأجبته إلى ذلك . وكانت عادتنا متى تسايرنا قطع الطريق إما بمناظرة في شيء من الآداب وأما بدعابة من دعابات المتأدبين ، فلم يجارني شيء من البابين جميعاً ، وأقبل على الفكرة وتحريك يده اليمنى ، وشفته تهمس من القول بما لا يعلنه فسبق إلى وهمي انه رأى من أمير المؤمنين في أمر نفسه شيئا أنكره ؛ ثم أزال ذلك الوهم عني إقدامه على الاستئذان في المصير إلى القادسية والثياب والطيب الذي جيء به . فسألته عن سبب قراءته وفكرته . فقال لي : سمعتك تحكي عن بعض ملـوك فارس قولاً في العقل ، وانه وجب أن يكون اكثر ما في الإنسان عقله فأعده علي وخبرني باسم ذلك الملك؟ قال له: قال انو شروان : إذا لم يكن اكثر ما في الرجل عقله كان اكثر ما فيه برديه ، فقال : قاتله الله فما احسن ما قال ، ثم قال : أميرنا هذا يعني الواثق ، حفظه لما يقرأ ويقرأ عليه من الكتب اكثر من عقله ، وأحسبه قد وقع في الذي يكره وأنا استدفع الله في المكاره عنه . وبكى . فسألته عن السبب فقال : أشرت على أمير المؤمنين بترك الشرب في عشية أمس ليباكر الحجامة في يومنا هذا على نقاء فجلس واحضر الأمير هارون وابن أبي داؤد وعبد الـوهاب ليتحدث معهم ، فاندفع هارون في عهد أردشير بن بابك، وأقبل يسرد جميع ما فيه ظاهراً حتى أتى على العهد كلّه فتخوَّفت عليه حسد أبيه له على جودة الحفظ الذي لم يرزق مثله وتخوَّفت عليه إمساك أبيه ما حد أردشير بن بابك في عهده من ترك إظهار البيعة لولي عهده . وتخوَّفت عليه ما ذكر أردشير في هذا الباب من ميل الناس نحو ولي العهد متى عرفوا مكانه وتخوَّفت عليه ما ذكر أردشير من انه لا يؤمن اضطغان ولي العهد على أسباب والده متى علم انه الملك بعد أبيه وأنا، واللـه عالم بأن أقل ما يناله في هذا الباب التضييق عليه في معاشـه، وانه لا يظهر له بيعة أبداً فاغتمامي بهذا السبب فكان جميع ما تخوف سلمويه علي ما تخوف
قال يوسف : واستبطأ المعتصم أبو اسحق إبراهيم بن المهدي في بعض الأمور واستجفاه فكتب إليه كتابا امرني بقراءته على سلمويه ومناظرته فيه ، فان اسـتصوب الرأي في إيصاله ختمته وأوصلته، وان كره ذلك رددته على أبي اسحق فقرأته على سلمويه فقال لي : قل له قد جرى لك المقدار مع المأمون والمعتصم أعز الله الباقي ورحم الماضي ، بما يوجب عليك شكر ربك، وألا تنكرّ عليّ بالخليفتين تنكرهما في وقت من الأوقات ، لأنك تسميت باسم لم يتسم به أحد قط فكاثر الأحياء ، فان كان المقدار استعطف عليك رحمك حتى صرت إلى الأمن من المكروه . فليس ينبغي أن تتعجب من تنكر الخليفة ، في وقت من الأوقات أن طعن بعض أعدائك عليك بما كان منك؛ فيظهر بالجـفاء اليومين والثلاثة أو نحو ذلك . ثم ينعطف عليك ويذكر ماسة رحمك وشابكتها فيؤول أمرك إلى ما تحب. ولك أيضا آفة يجب عليك التحرز منها وهي انك تجلس مع الخليفة في مجلسه وفيه جماعة من أهله وقواده ووجـوه مواليه ، فهو يجب أن يكون أجل الناس في عيونهم وأملأ لقلوبهم ، فلا يجري جار من القول إلاّ ظهرت لنفسك فيه قولاً يتبين نصرتك فيه عليه فلو كنت مثل ابن أبي داؤد أو مثل بعض الكتاب لكان الأمر فيه اسهل عليه . لأنه ما كان لتلك الطبقة ، فهو للخليفة لأنهم من عبيده وما كان لرجل من أهله له السن والقعدد له ، وذلك مزر بالخليفة . وأنا أرى أن لا أوصل هذا الكتاب وان يتغافل ، أعـزّه الله ، حتى يتشوق إليه الخليفة . فإذا صار إليه تحرز مما كرهته له ، ففي ذلك غنى عن العتاب والاستبطاء . قال فانصرفت إلى أبي اسحق بالكتاب ولم أوصله ، فوجدت سيما الدمشقي عند صاحبنا وقد أبلغه رسالة المعتصم بوصف شوقه إليه ، وبالأمر بالركوب إليه . فأخبرته بما دار بيني وبين سلمويه وركب فاستعمل ما أشار به ، فلم ينكر بعد ذلك منه شيئا حتى فرق بينهما الموت
قال يوسف وجرى بيني وبين سلمويه ذكر يوحنا بن ماسويه فأطنبت في وصفه وذكـرت منه ما أعرف من اتساع علمه . فقال سلمويه : يوحنا آفة من آفات من اتخذه لنفسه ، واتكل على علاجه وكثرة حفظه للكتب وحسن شرحه ووصفه بما يلجم به المكروه . ثم قال لي : أول الطب معرفة مقدار الداء حتى يعالج بمقدار ما يحتاج إليه من العلاج ويوحنا أجهل خلق اللـه بمقدار الداء والدواء جميعاً . فان زاول محرور عالجه من الأدوية الباردة والأغذية المفرطة البرد وبما يزيل عنه تلك الحرارة ، ويعقب معدته وبدنه برداً يحتاج له إلى المعالجة بالأدوية والأغذية الحارة ثم يفعل في ذلك كفعله في العلة الأولى من الإفـراط ليزول عنه البرد ويعتل من حرارة مفرطة فصاحبه أبدا عليل إما من حرارة واما من برودة. والأبدان تضعف عن احتمال هذا التدبير . وانما الغرض في اتخاذ الناس المتطببين لحفظ صحتهم في أيام الصحة ، ولخدمة طبائعهم في أيام العلة . ويوحنا لجهله بمقادير العلل والعلاج غير قائم بهذين البابين . ومن لم يقم بهما فليس بمتطبب
قال يوسف وأصابت إبراهيم بن بنان أخا سلمويه بن بنان هيضة من خوخ أكله فاكثر منه فكادت تأتي على نفسه . فسقاه أخوه سلمويه شهريار كثير السقمونيا ، فأسهله إسهالاً كثيراً زائداً على المقدار الذي يجب أن يكون ممن شرب مثل ما شرب إبراهيم من الشهرياران . وانقطع مع انقطاع فعل الشهرياران فعل الهيضة فقلت له : أحسبك امتثلت فيما فعلت بأخيك من اسقائه الدواء المسهل طريقة يزيد بور في ثمامة العبسي . فقال : ما استعملت له طريقة ولكني استعملت فكري كما استعمل فكره فنتج لي من الرأي ما نتج له
قال يوسف: وكنت يوما عند سلمويه وقد أجرينا حديث أيام الفتنة بمدينة السلام أيام محمد الأمين، فقال لي : لقد نفعنا الله في تلك الأيام بجوار بشر وبشير ابني السميدع ، وذلك إننا كنا معهما في كل حمى . ثم قال لي ؟ هل لك أن تركب إلى بشير فتعوده فقد كنت يئست منه أول من أمس ثم أفرق أمس ؟ فأجبته إلى الركوب معه وركبنا . فلمّا صرنا إلى باب الدرب الذي كان بشـير ينزله طلع علينا بولس بن حنون المتطبب الذي هو اليوم متطبب أهل فلسطين ، وهو منصرف من عند بشير فسأله عن خبره فأجابه بكلمة بالسريانية معناها بئس . فقال له سلمويه : ألم تخبرني أمس انه قد أفرق ؟ فقال له بولس : قد كان ذاك إلاّ انه أكل البارحة دماغ جدي فعاوده الإسهال . فعطف سلمويه رأس دابته وقال: انصرف بنا فليس يبيت بشير في الدنيا . فسألته عن السبب ، فذكر انه رجل مبطون، وانّ أوّل آفته كانت في البطن فساد معدته، فتطاولت أيامه في البطن بفساد المعدة إلى أن كان ذلك سـبباً لفساد كبده . وان الدماغ الذي أكله سيعلق بمعدته ويغري ما بين غضونها فلا يدخلها غذاء ولا دواء إلا زلق. وانصرفنا ولم يعده سلمويه ولا عدته فما بات حتى توفي
قال يوسف وصحبت بعد وفاة أبي اسحق ، أبا دلف . فصحبته وقد كان مبطوناً قبل صحبتي إياه بخمسة عشر شهراً . وكان مجلس أبي دلف مجمعاً للمتطببين لأنه كان معه من المرتزقة جماعة منهم يوسف بن صليبا ، وسليمان بن داؤد بن بابان ، ويوسف القصير البصري ولا أحفظ نسبه، وبولس بن حنون متطبب فلسطين وختن كان له من اللجلاج ، والحسن بن صالح بن بهلة الهندي. وكان يحضر مجلسه من المتطببين غير المرتزقين جماعة ، فربما اجتمع في مجلسه منهم عشرون رجلاً فكانوا على سبيل اختلاف في أصل علّته ، فبعضهم كان يرى أن يسقيه الدرياق ، وبعضهم كان يرى أن يعالجه بالأدوية التي يقع فيها الابيون مثل المتروديطوس وغيره . وكلهم مجمعاً على معالجته بالحمية وبالقيء في كل بضع عشرة ليلة لأنه كان متى تقيأ صلحت حاله ثلاثة أيام أو نحوها . فاقمت معه عشرة أشهر لا اذكر اني تشاغلت في يوم منها بأمر من أمور الأعمال التي أتقلدها . فسلمت من رسول له يستنهضني للمسير إليه وللنظر فيما بين المتطببين من الاختلاف
ثم أمر المعتصم حيدر بن كاوس بالعقد لأبي دلف على قزوين وزنجان ونواحيها وإبراهيم ابن البحتري بتقليده خراج الناحية ، ومحمد بن عبد الملك بتقليده ضياعها . فقلد أبو دلف ابنه معنا بن القاسم ، المعونة وقلدني الخراج والضياع ؛ وأمرنا بالخروج فأتيت سلمويه مودعاً ومشاوراً . فقال لي ، إنقلاعك من بلدك مع رجل منحل بدنه منذ خمسة وعشرين شـهرا، وجميع من يطيف به معك لا يجمعك وإياهم رحم ، وإنما هم أهل الجبل واصبهان وأكثرهم صعاليك . ولعلك قد استقصيت على بعضهم بالحضرة ، وحيث كنت تأمن على نفسك بما لا أحبه لك ، ولأنه إن حدث بالرجل حادث كنت في ارض غربة أسيراً في أيدي من لا مجانسة بينك وبينهم . وامتناعك على الرجل بعد أن أجبته إلى أن تتقدمه تسمج. ولكن استأجله في الخروج بعد سبعة أيام ، وأشرف في هذه الأيام على مطعمه ومشربه حتى لا يصل إلى جوفه في هذا الأسبوع مأكول ومشروب إلا عرفت مبلغ وزنه على الحقيقة . ووكل من يعرف وزن ما يخرج منه في هذا الأسبوع من ثقل وبول ، وارفع وزن ذلك ليوم بعد يوم إليك ، وصر إلي بعد هذا الأسبوع بمبلغ وزن جميع ما دخل بطنه من الطعام والشراب وغير ذلك، ووزن ما يخرج منه
فعنيت بذلك غاية العناية وتعرفته حتى صحَّ عندي . فوجدت ما خرج من بدنه قريباً من ضعف ما دخله من مطعم ومشرب . فأعلمت ذلك سلمويه ، فقال لي : لو كان خرج منه بوزن ما دخل بدنه لدلَّ ذلك على سرعة تلفه ، فكيف ترى الحال كائنة والخارج منه مثل ضعف ما دخل بدنه الهرب من التلبيس بأمر هذا الرجل فان الشوق قد جذبه”. فما لبت بعد هذا القول إلاّ بضع عشرة ليلة حتى توفي أبو دلف
قال أبو علي القباني : حدثني أبي قال : كانت بين جدي الحسين بن عبد الله وبين سلمويه المتطبب مودَّة ، فحدثني أنه دخل إليه يوماً إلى داره ، وكان في الحمام ثم خرج وهو مكمكم والعرق يسيل من جبينه ، وجاءه خادم بمائدة عليها دراج ، مشوي ، وشيء اخضر في زبدية ، وثلاث رقاقات كزمازك، وفي سكرجة خل . فأكل الجميع ، واستدعى ما مقداره درهمان شراباً فمزجه وشربه وغسل يديه بماء . ثم أخذ في تغيير ثيابه البخور . فلما فرغ أقبل يحادثني فقلت له : قبل أن أجيبك إلى شيء عرفني ما صنعت ؟
فقال: أنا أعالج السل منذ ثلاثين سنة لم آكل في جميعها إلاّ ما رأيت ، وهو دجاج مشوي ، وهندبا مسلوقة مطجنة بدهن لوز ، وهذا المقدار من الخبز . وإذا خرجت من الحمام احتجت إلى مبادرة الحرارة بما يسكنها كيلا تعطف على بدني فتأخذ من رطوبته ، فاشغلها بالغذاء ليكون عطفها عليه ، ثم أتفرغ لغيره