في كفاحهم اليائس ضدّ الجهل والركود تطلّع اليعاقبة إلى حدّ ما إلى التعاون مع الغرب. وبدت الإرساليات التبشرية ، أولّ وهلة، طريق الخلاص الناجح ، لهذا السبب، قبلت الكنيسة في وقت مبكّر نشوء عامل التـجديد هذا في حياة الشعب الثقافية والروحية . أتت الإرساليات الدينية من ثلاثة مصادر : روما ، والولايات المتحدة الأميريكية ، وأنكلترا . ولا شكّ في أنّ جميعها صدرت عن حسن نيّة في البداية لتقديم أكبر خدمة ممكنة للتعاون . كان الرومان الكاثوليك من الأوائل وتبعهم كثير من البروتستانت المستقلّين عن الولايات المتحدة بالإضافة إلى أعداد كبيرة من انكلترا . كي تكتمل صورة التاريخ الحديث لهذه الكنيسة القديمة والصعوبات التي لاقتها مع المساعدين الجدد ، علينا أن نطّلع على نحوٍ موجز على كلّ من هذه الحركات الثلاث.

كما تبيّن سابقاً ، على الرغم من الأسف الشديد الذي أبداه المونوفيزيون الأرثوذكس لمجاهرة الخلقدونيين بإيمانهم في الغرب ، فإنهم لايزالون يعتبرون روما إحدى الأبرشيات الثلاث القديمة الرائدة ، بالإضافة إلى أبرشيّتي الإسكندرية وأنطاكية ، والتي لهم صـلات قريبة منها . لم يكن المسيحيون الشرقيون ضدّ إرسال مندوبين للتقارب وإقامة العلاقات الودية مع روما ،  كانت أقدم البعثات سنة 1552 حين ذهب موسى المارديني إلى روما في محاولة تسوية الخلاف مع ” جـوليوس الثالث “ ، والظاهر أنّ لا أحدَ من الأطـراف أخذ محاولة التقرّب هذه على محمل الجدّ . وفي منتصف القرن السابع عشر اهتدى أرثوذكسي يعقوبي اسـمه “عبد الغال اخيجان” إلى الكثلكة عن طريق بعثة تبشيرية كاثوليكية ولجأ الى لبنان حيث أُرسل الى الرهبانية المارونية في روما ليتلقّى تعليمه بعدها سنة 1656 . وبطلب من القنصل الفرنسي “بيكوت” في حلب قام البطريرك الماروني برسامة “عبد الغال” مطراناً للسريان الكاثوليك في حلب تحت اسم “أندرو” . وخلف أضواء السياسة الساطعة ومع ما يستطيع تقديمه من خدمات الغرب المتقدّمة بالإضافة إلى علمه المقنع ضدّ استعداد اليعاقبة الأرثوذكس وقابليتهم المحدودة نجح “أندرو” في تعزيز وبناء مجموعة من الأنصار والأتباع. وحين مات البطريرك الأرثوذكسي في ماردين وبدأ الصراع على خلافته ، عمل ” بيكوت ” ودبلوماسي فرنسي آخر اسـمه ” بارون ” بجدّ في مساعدة أندرو للجـلوس على العـرش الشاغر.

 وكتب مؤرّخ عن هذا الفصل الهام كلمات منقولة عن ملفّات رسميين تجاءت كما يلي : بإنفاقه الأموال الكثيرة وتدخّل المسؤولين الفرنسيين نجح “أنـدرو” في إقناع السلطان سنة 1662 كي يصدر أمراً لمصلحته كان الأوّل من نوعه وقد كتبت حروفه بالذهب الخالص ، وأمراً آخر للباشوات والقضاة الشرعيّين ليحيلوا جميع الشعب السرياني في نطاق سُلطة المذكور أعلاه وسيادته في جميع أجزاء الإمبراطورية ولقد وافق البابا “كليمنت التاسع” على الإنتخاب وأرسل إليه الطيلسان البابوي سنة 1667 . وهكذا ولدت البطـريركية السريانية الكاثوليكية وواجه اليعاقبة الأرثوذكس أزمـة جديدة في تاريخهم . إنه لأبعد من حدود العمل متـابعة تفاصيل هذا النضال ونتائجه في أوقات مثيرة للشفقة حيناً ومخزية أحياناً أخرى.

وبواسطة الإنفاق المُسرف ، وبناء كنائس عظيمة في مدن رئيسية مثل الموصل ، والتعاليم العميقة التفكير ، والدعوات المتماسكة ، والإنضباط الكنسي ، والفائدة من الدراسات العليا التي قدّمتها جامعة القديس يوسف في بيروت ، بالإضافة إلى المعاهـد الوقتيّة اللاهوتية لإعداد رجال الدين ، كُتب على الكنيسة الكاثوليكية أن تبقى وسط السريان وتكسب أعداداً كبيرة من الطائفة اليعقوبية الأرثوذكسية القديمة قُدّرت في السنوات الأخيرة بين ٦٠٠٠٠ و ٦٥٠٠٠ نسمة.

صنّف اليعاقبة الأرثوذكس الراسخي الإيمان السريان الكاثوليك في فئة المغلوبين . في البداية ، واجه الكاثوليك معـارضة عنيفة ووصلوا في الواقع إلى حافة الإبادة حين نادى مطران حلب “ميخائيل جروة” بولائه لبابا رومـا . ثمّ تبعه اربعة مطارنة يعاقبة ارثوذكس: إبراهيم ، ونعمه ، وموسى ، وجورج الذين نـادوا به بطريركاً على ماردين وأسرع البابا  “بيوس السادس” لإجازة ذلك بالطيلسان المألوف في السنة نفسها . فلقد حـدث أنّ البطريرك اليعقوبي توفّي فتحرّك المطـران “جروة” بسرعة الى ماردين للإستيلاء على الكرسي البطـريركي الشاغر ، ولكنّ المطارنة اليعاقبة كانوا قد عيّنوا واحداً منهم وطـاردوا جروة الذي هرب ، خوفاً على حياته ، إلى بغداد ثمّ إلى لبنان حيث توفّي هناك سنة 1800 كلاجيء مطارد في قرية مارونية.

ومع ذلك ، حافظ الكاثوليك على سلسلة متتابعة ما زالت حتى يومنا هذا ، وتضمّنت بعض العلماء الجديرين بالملاحظة منهم البطريرك “إغناطيوس افرام رحماني” (1898 – 1929) الذي كان رجل علم احتفظ باهتمام مفعم بالحيـوية في الأدب السرياني واللاهوت . وحين تنصيبه قرّر أن ينقل مركز البطريركية الرومانية إلى بيروت وسط الموارنة شركائه في العقيدة والذين كانوا أكثر تشجيعاً وتأييداً للهرب من عداء اليعاقبة الأرثوذكس الأكثر عدداً ومن تدخّل السلطات التركًية المسـتمر . وارتقى خلفه إغناطيوس كبرئيل تبوني إلى مرتبة كردينال سنة 1936 ، وللمرة الأولى في التاريخ يصبح شخص سرياني اميراً من أمراء روما . وبالعمل المستمر والمواظبة العنيدة انشأت الإرساليات الكاثوليكية منظمات للعمل ضمن السـريان، ففي سنة 1882 انشأت رهبانيات مار افرام في ماردين التي تضاءلت باسـتمرار . ووظّفت الحركة نشاطها سنة 1935 كمدخل لتقديم قانون “مار بينيدكت” في دير الشـرفة ، حيث قام أفرادها بإدارة معاهـد لاهوتية ، ومدارس، ومطبوعات، ونشر الدعوات دون التعدّي على نطاق سُلطة الأبرشية. وأصبحت رهبانية مار بهنام التي كانت قاعدة لليعاقبة الأرثوذكس معقلاً للتأثير الكاثوليكي في وسط مركز مهمّ جدّاً لليعاقبة الأرثوذكس في مقاطعة الموصل.

وفي بيروت أيضاً بدأ البطريرك رحماني بإنشاء دير مار أفرام للراهبات السريانيات. إنّ تبنّي إعلان الإيمان الكاثوليكي أثار قلقاً على السريان . كانت نواة المشكلة هي الخضوع لروما. وحين أكّد مجمع دير الشرفة في العام 1888 بتولية رجال الدين كان البابا مفتوحاً مع نظام ديني خاصّ ، لأيّ كاهن سرياني متزوّج (خوري) يرغب في تحويل مذهبه من اليعقوبية الارثوذكسية إلى المذهب الكاثوليكي . لقد اتخذت روما الطقس السرياني في اللهجة الرهاوية الأصلية نفسها مع تغيير طفيف لتجنّب معارضة مقررات مجمع خلقدونية وتعزيز السلطة البابوية.

كان قدوم الإرساليات البروتستانية إلى مسرح الأحداث في الشرق الاوسط خلال القرن التاسع عشر أمراً مختلفاً . فمن أميريكا انتقلت السُلطة إلى لجنة طائفية من مجلس الإرساليات الدينية في العام 1819 وفي “اولد ساوث” في بوسطن اختير “بليني فيسك” و “ليكس بارسوت” مبعوثين أوّلين للعمل في البلدان الشرقية من تركيا دون خطّة مدروسة سلفاً موجّهة إلى أية كنيسة شرقية ، ومن المستبعد أنّه كانت لدى الأميريكيين فكرة واضحة عن التعقيد في شبكة الطوائف القديمة في الشرق . كانت الإعانة الأولى 92290 دولاراً وقد زادت لتصل إلى ربع مليار دولار في يومنا هذا، ساعد هذا في مجيء “بليني” و”ليكي” إلى إزمير ليكشفا احتمال مساعدة المعدومين والمرضى تحت نير الأتراك وعبوديتهم. كانت الساحة غنيّة بالفـرص . وصل اثنان آخران إلى بيروت سنة 1823 هما الأب “ايزاك بيرد” و”وليم كوديل” للتركيز على سورية ولبنان اللتين كانتا تتكلّمان اللغة العربية . عُيّن الأب “جستين بركنيز” في فارس وكرّس نفسه للعمل مع النساطرة أو مع السريان الشرقيين المسيحيي.

في  سنة 1836 كُلّـف الاب “هوراشيو سارثجبيت” بواسطة المجلس ليبحث احتمال بعث مبشّرين إلى كـلٍ من تركيا, وفارس، وسوريا، ومصر وقد أشادت تقاريره بالعمل بين المسيحيين الشرقيين كإجراء تمهيدي في اتجاه التعامل مع غير المسيحيين ، وهكذا ظهرت إرسالية الشرق الادنى إلى الوجود في السنة اللاحقة وعُيّن الاب “جان روبرتسون” على اليونان في القسطنطينية و”ساوثجيت” على اليعاقبة الأرثوذكس في مـاردين . كانت تعاليمهم واضحة للحفاظ على وحدة الكنائس الشرقية وتجنّب شرّ الإنقسام والاعتراف بشخصياتهم الرسولية دون فرض مبادىء البروتستانتية . وحين رجع “روبرتسون” إلى الولايات المتحدة الأمريكية لأسباب عائلية سنة 1842 خلفه “ساوثجيت” في القسطنطينية وفي النهاية في سنة 1844 أصبح أسقفها البروتستاني الأول.

ومع أنّه تحوّل من العمل مع اليعاقبة إلى العمل مع الأرمن في الأناضول وحافظ على علاقات جيّدة مع البطاركة الشرقيين ، إلاّ أنّ مرشحين المجلس بدأوا بهداية الكلدان المسيحيين ضدّ رغبته وضد تعـليمات معتقداتهم الأصلية . ولقد أدّى هذا إلى فوضى واضطراب مستمرين وإلى انسحاب الإرساليات الدينية من الساحة وأنتهى ذلك سنة 1850 باستقالة “ساوثجيت” نفسه.

لم يوقف فشل “ساوثجيت” في العاصمة توسّع الإرساليات الدينية في بيروت، حيث وُجدت الجامعة البروتستـانية السريانية سنة 1866. كان حقل الثقافة تراث الإرساليات البروتستانية الرئيسي في الشـرق الأوسط. إننّا نرى مراكز الإرسالية في سورية تتضاعف جنباً إلى جنب مع مدارسها ، كما استمرّ مبشرو الكنيسة البروتستانية في تحقيق مكاسب كثيرة بين السريان، ومختلف الكنائس القديمة. إجمالاً ، كان من المستحيل على الإرسالية الأميريكية أن تقدّر طبيعة تلك الكنائس وتقاليدها، التي اعتبرها ساوثجيت آراء متحجّرة لا أمل في إحيائها . بالنسبة إليه، بدأ تاريخ الكنيسة مع مارتن لوثر . وجد كثير من السريان في هذه المنظّمة العـصرية وقاءً يحميهم من تجاوزات الكنيسة الكاثوليكية . بالتالي  وصل أفراد الطائفة البروتستانية في سورية الكبـرى ، وتشمل ما وراء لبنان وفلسطين  إلى 74700 نسمة معظمهم ، على وجه التحديد ، انسحب من الكنائس القديمة المتضمّنة الطائفة اليعقوبية.

قَدِمت من الكنيسة الإنكليزية محاولة أخرى أكثر اعتدالاً ممّا سبقها لتقديم المساعدة ، إلاّ أنّها اعتمدت على مبادىء مختلفة . قـام “إيثرج” في العام 1840 بزيارة الطائفة اليعقوبية ونشر تقريراً مطوّلاً عن الكنائس السريانية وطقوسها الدينية وآدابـها . وفي العام 1842 درس “بادجر” ، ممثّل رئيس بعثة أساقفة كاتنبري الدينية للآشوريين النساطرة ، حالة الكنيسة اليعقوبية وقـدّم تقريراً عن دراسته هذه . ولكنّ أهمّ التقارير عن تلك الكنيسة جاءت في نهاية القرن حين أنشأت الجمعية الثقافية للبطريركية السريانية في إنكلترا . اختارت هذه الجمعية “بيري” من كلّية ماجدلين في أكسفورد ليسافر إلى الشرق بالنيابة عنها لدراسة وضع الكنيسة اليعقوبية واختيار سبل المساعدة التي تستطيع الكنيسة الإنـكليزية تقديمها. على الأخصّ ، كان من المتوقّع منه أن يفحص المدارس التي أنشأها البطريرك ويصف الوسائل الثقافية المتداولة فيها . كانت نتيجة زيارته ، التي استمرّت ستّة أشهر قضاها في دير سرياني ، تقريراً بارعاً عن اللقاء الأول والمباشر مع الشعب السرياني وكنيسته التاريخية . شمـلت رحلته الخارجية كلاًّ من حلب، وأورفة، ودياربكر، وماردين، والموصل، ودير الزعفران مركز البـطريركية السريانية التاريخي . لاحظ بيري خلال زيارته إلى منطقة طور عابدين أنّ القرية الواحدة تملك معدل 4 كتب، وأنّ الحاجة إلى المساعدة الثقافية التي طلبها السريان من الغرب ملحّة جدّاً. هذا الطلب الثقافي الذي جاء من داخـل الطائفة ذاتها كان الخطوة الصحيحة في سبيل إصلاح ثابت ومستقرّ . كان السريان شعباً فخوراً بنفسه محبّاً لوطنه ، توسّل المساعدة من الغرب ليرفع الاعتداءات التي وقعت على كنيسته،  وإنّه من واجب الكنيسة في إنكلترا الاستجـابة لهذا الصراخ بروح مسيحية دون توخّي أن يتحوّل السريان عن معتقدهم من جرّاء هذه العلاقات المتبادلة . إنّه لمن الصعوبة بمكان أن نقوّم النتائج المثمرة من مشروع بيري . ففي إنكلترا ، لم توافق الموارد المادية التي حقّقها المشروع القيمةَ المعنوية التي اكتسبها على مرّ الزمن.

كان لتأثير الحركة التبشيرية البروتستانية في الشرق الأوسط أهميّة كبرى في يقظة الكنائس القديمة . في البداية ، لم تتعرّض الإرسالية الأمريكية لأيّة خصومة أو عداء من رجال الدين وأعضاء الطوائف المسيحية الشرقية ، الذين راقبوا بفضول نظاماً جديداً في العبادة وقواعد جديدة في ضبط السلوك لم يعهدوه من قبل.  بالإضافة إلى الفرص الممتازة في مجال الثقافة والطبّ والحقول الاجتماعية ، اعـتُبر البروتستانت مسـاعداً حقيقياً وحليفاً جديداً ضدّ تصاعد تهديدات روما . كان السريان في ذلك الحين في صـراع مع الكاثوليك في وطنهم يعلّلون النفس بمساعدة البروتستانت القادمين الجدد وتعزيتهم . وعلى عكس ما توقّعوه، نشأ تحرّر من الوهم حين بدأ البروتستانت يغيّرون مواقفهم تجاه المؤسسات الجليلة التي لم يستطيعوا فهمها واعتبروها بعيدة عن أيّ إصلاح . لذا باشر بيري تنظيمَ كنيسة إنجيلية بروتستانية خاصّة به ، ضمّ فيها الأعضاء المهتدين حديثاً من مختلف الكنائس القديمة التي كانت في حالة يُرثى لها . رحّـب اليعاقبة بلهجة اللامبالاة الصادرة عن كنيسة إنكلترا حول التغييرات الجديدة وانكبوا على تحصيل العلم دون خوف الانفصال عن كنائسهم التقليدية . بعدها ، في العام 1874 زار بطـريرك اليعاقبة بطرس الثالث إنكلترا بدعوة رسميّة من الدكتور تايت، أسقف كاتنبري ، حيث استقبلته الملكة فيكتوريا في حفاوة وتكريم . إنّ المؤسّسات التي أنشأها بيري بالإضافة إلى إقامته في دير الزعفران لمدّة ستّة أشهر في صيف 1892، جعلتاه يكوّن فكرة واضحة عمّا يعانيه هذا الشعب ، وعن نـوعية المساعدة التي يبتغيها، ودفعته إلى العمـل ضدّ نشاطات البروتستانت في أيّامه . لقد أُخذت بعين الاعتبار ملاحظاته النيّرة حول الأديان المسيحية الشديدة التعقيد في بـداية القرن . كما أنّ التحدّي البروتستاني أعطى الكنيسة القديمة نهضة عنيفة أضرمت جذوتها مجدّداً لتعطي بريقاً من الماضي التليد يومض ثمّ يخبو.

 

One Comment

  1. I don’t even know how I ended up right here, however I believed this publish was once good. I don’t understand who you are however certainly you are going to a famous blogger in case you aren’t already. Cheers!|