اليوم الأول في تكوين السماء والأرض وما فيهما وما معهما

Posted by on Dec 28, 2020 in Library, الايام الستة - مار يعقوب الرهاوي | Comments Off on اليوم الأول في تكوين السماء والأرض وما فيهما وما معهما

هذه هي الخليقة الثانية، وهي جسمانية وهيولية، متكونة من أربعة عناصر مختلفة هي: التراب، والماء، والهواء، والنار،

أن العلة الأولى الخالقة وصانعة الكل والقادرة على كل شيء، تتحرك نحو الخلق لطفاً منه، وأن ما دعا الله ليخلق الكائنات، هو صلاحه الوافر، وأنه تعالى الخالق والصانع أبداً، والقوي والقادر على أن يفعل ما يشاء، والحكيم العليم بما يجب أن يكون، أوقف بحر نعمته عن الفيضان لما رأى ذلك مناسباً، وصد قوة اقتداره الخلاق القادر على كل شيء ومنع إرادته عن الخلق، ولما حسن لمشيئته، ورأت حكمته العارفة بكل شيء أن الخلق صار أمراً ضرورياً، فيكشف عن بحر صلاحه، أظهر قوة اقتداره، وأعلن معرفة حكمته، بعد مرور عصور طويلة لا يتصورها البشر، وباعتقادي، كان له أن يمتنع عن خلق أي من الكائنات، بعد خلق تلك العقول التي أبدعها العقل الأعظم على صورته، تلك الأشعة الساطعة الثانوية التي أصدرها النور الأول، تلك القوات الروحية والسماوية وغير الهيولية أو الجسدية، ذلك الجمال السني والنموذجي الذي يفوق الكل، تلك الصور المطابقة لصورة باريها بمقدار ما يسمح به للمخلوقين، خدام مشيئة خالقهم النشيطين، وبعد هذه الخليقة البسيطة والمشابهة لله، القوية والسريعة، العاقلة والروحية، القريبة إلى خالقها والمنتسبة إليه بشكل ما: شاء أن يخلق أخرى مغايرة له وبعيدة عنه، خليقة محسوسة وكثيفة وجسدية وكثيرة التغير، فتحرك نحو خلقها لكونه صالحاً، وبصفته قوياً وقادراً على كل شيء، حرك إرادته لتنفيذ العمل، وكحكيم عارف بكل ما يلزم ويتطلب، فأنه أغنى هذه الخليقة منذ اللحظة الأولى، لتأتي كافية من كل النواحي للذي كان عتيداً أن يخلق من بعدها .

لذلك، فأن الكلمة الخالق، لكونه صالحاً وقوياً وحكيماً، والابن الوحيد لله الأب العقل الأعظم، خالق وصانع الكل، الذي هو أيضاً إله حق، وابن إله حق، وحكمة وقوة أبيه، ويمينه وذراعه القوية، وشعاع مجده، والصورة الكاملة لصلاح أبيه: جاء بخليقتنا هذه المحسوسة والجسدية بلحظة : من عدم الوجود، إلى الوجود، وفي اطار ما يستوعبه العقل من الكتاب الالهي الموحى به من الروح، أقول بتحفظ ومسترشداً الروح: أن الله الخالق والعلة الأولى، بكلمته وروحه المساويين له في الأزلية والسرمدية والقوة والارادة والسلطة والعمل! أبدع هذا العالم المنظور والمحسوس والهيولي بهذه الصورة العظيمة، وهذا الجمال العجيب البديع، من سماء وأرض وما يتوسطهما وما فيهما وما معهما.

فقد قال الروح الملهم عن هذه الخليقة، على لسان موسى: “في البدء خلق الله” أو كما ذهب مترجمون آخرون : “في البدء صنع الله السماء والأرض”، ولكن ليس هناك اختلاف في المعنى بين خلق وصنع،

ولا يختلف الأمر عما نتداوله نحن البشر، وكلتا الكلمتين توضحان للسامع والقارىء الذي من أجله قيل ودون: أن هذه الخليقة لم تكن موجودة اطلاقاً، بيد أن الله خلقها وصنعها وأوجدها وثبتها، وبلحظة جاء بها بكل ما فيها من منظر وكيان، كما ترى الآن منظورة ومحسوسة بكل ما فيها من تغيير وتنويع وخصائص متباينة ومدهشة، التي وجدت فيها وعليها وإلى جانبها، والكتاب، لم يقل أكثر من “خلق الله السماء والأرض”، لأنهما معروفتان وظاهرتان ومنظورتان ويعترف بهما كل واحد، فكل واحد وحتى السذج الذين لا يتقصون الأمور، يرون السماء والأرض أكثر من كل الأشياء الأخرى، ولكن خلقة هذه الأشياء مع السماء والأرض سوية، أمر ظاهر ومعترف به ولا جدال فيه، أعني بها التراب والماء والهواء والنار، العناصر الأربعة التي منها راكب ويركب كل ما في العالم من أجساد، وإليها تعود وتنحل.

  مفهوم الخلق

أبدع الله هذا العالم وما فيه من جمال مدهش يفوق الوصف وبأشارة من أرادته، وبلمح من قوته الهائلة، فوراً، وبلحظة زمن واحدة غير متجزئة وخاطفة

هذا ما أستطيع أن أعبر عنه بكلمات بشرية، معترفاً بعدم وجود أية كلمة أو لفظة تعطي المعنى الملائم لكلمة صنع وخلق، فالله، باعتباره خالقاً قوياً وصانعاً ماهراً، أبدع مادة جسمانية، كافية لجميع متطلبات أعماله الكثيرة والعجيبة، ومختلف الطبائع الجسدية، وتباين الأصناف التي لا يشبه بعضها البعض والتي لا يحصى عددها، وكلها مهمة وضرورية ومفيدة، ويشهد لها الخالق بأنها حسنة

  أصل العناصر الأربعة

ولكي ينظر الانسان ويدرك أنها قد خلقت وأعدت له، وجدت أربعة عناصر رئيسية وقوية وعامة، هي: التراب والماء والهواء والنار، منها يتركب هذا العالم وكل ما يرى فيه ويحس به، أي كل الأجسام المنظورة التي تقع تحت الحس، ويجب أن نفهم، أن هذه المادة ذات المتغيرات الأربعة، أي العناصر الأربعة التي خلقها الله بلحظة، كانت مختلطة وغير متميزة، وأن عناصرها أيضاً كانت غير متميزة، فكان الماء مختلطاً مع التراب دون تمييز، ككتلة من الطين معجونة ومجبولة ومغربلة ومتمازجة من التراب والماء، ومعهما الهواء والنار، ومثل قلاع مستدير مركب ومختلط من الحصى الرملي والتراب والماء والتبن، هذا هو التصور الذي يتخيله العقل الفاحص، وكانت العناصر الأربعة مع بعضها البعض، كرة واحدة مستديرة وكثيفة ومتلاحمة، ولم تكن المياه نقية وخالية من التراب بحيث يمكن أن يخترقها شعاع ما ساطع، أو يسمح للنظر أن يخترقها كما هي عليه الآن في صفائها، ولم يكن للتراب قوام تام وثابت بحيث يامس بكثافة وحقيقته، وبنفس الصورة، لم يكن أيضاً الهواء من النار، ولا النار من الهواء كلياً: غير أنها كانت مختلطة ومغربلة مع بعضها البعض، مثل سبيكة خليط من فضة ونحاس ورصاص، يصنعها الطماعون الجشعون والغشاشون الذين يغشون الفضة والذهب، وحينما يحاول الصياغ تصفيته من ذلك النحاس الممزوج به غشاً، لا يسعهم إلا أن يمزجوا هم أيضاً رصاصاً ويلقوا به في نار شديدة الحرارة، وبهذه الطريقة وحدها يستطيعون تنقيته، وهذا ما ينبغي أن نتصوره قبل كل شيء بالنسبة إلى عناصر المادة الأربة المخلوقة حديثاً، فقد كانت ممزوجة ولكن لكل منها خصائصه التي خصه بها الخالق، تقوده قسراً إلى المكان الذي خصصه له الخالق من الخليقة الأولى، وهذا ما جعله أن يكون متميزاً عن الأخرى،

 تشبيه

وإليك تشبيهاً نسبياً بحدود بحدود ما يستطيعه الكلام، ومثالاً يشير رمزياً إلى ما نحن بصدده، إذ لا يمكن تقديم تشبيه مطابق له تماماً، ولكن من الضروري أن نبرهن على هذا بالمقارنة ما أمكن ذلك، ليهتدي السامع والقارىء إلى فهم أعمق… فلكي يبرهن الانسان على هذا، عليه أن يأخذ إناء من الزجاج النقي مستديراً وكروياً، ويلقي فيه سوية وبنفس المقدار، زيجاً وعسلاً نقياً وماء وزيتاً، فيشاهدها بكل يسر ووضوح، تتفاعل كل بحسب خاصية طبعه، حتى يستقر في المكان المناسب له، حيث يترسب الزيج وفوقه العسل، والماء فوق العسل، والزيت فوق جميعها، وإذا شاء الذي يحمل الإناء أن يقلب عاليه سافله، بقصد تغيير أمكنتها، فأنه يلاحظ على الفور تفاعلها الطبيعي والقسري والذي لا مداهنة فيه اطلاقاً حتى يأخذ كل مكانه كالسابق فيطوف الزيت فوق جميعها ويليه الماء ويأتي العسل في الوسط، والزيج أسفل الكل، وأن شئت فخذ كذلك إناء زجاجياً واملأه بالماء واغلق فوهته، فسوف تلاحظ للحال تفاعل الهواء داخل الماء، حيث يجزئه أجزاء كثيرة ويتصاعد في داخله كخيوط رفيعة حتى يرتفع فوقه نهائياً، ويتحرر من الاشتراك معه .

والآن أفرغ الاناء إلى النصف، وألق فيه قليلاً من التراب الناعم، وخضه بالماء حتى يختلطا تماماً ويفقد كل منها شكله الطبيعي، وإذا تركتهما مدة ساعة واحدة، ترى كيف أنها تنفصل هي بذاتها عن هذه الخلطة، ويأخذ كل منها مكانه الطبيعي، فيستقر التراب في الأسفل، وفوقه الماء، في حين أن الهواء يرتفع فوق كليهما، وهذا هو شأنها حيثما وجدت وامتزجت سواء في الينابيع أو المستنقعات أو الأنهار أو الجداول الصغيرة، حيث يرسب التراب في الأسفل، وفوقه الماء والهواء فوق كليهما، وإذا أردت أن تشاهد النار تتفاعل لتستقر في المكان المخصص لها، ولئن كان هذا غير ممكن في مثل هذا، لكنك تستطيع مشاهدتها وهي تقوم بتفاعلها الطبيعي لتنفصل عن شركة الثلاثة الأخرى، وتنتحي المكان الذي خصصه الخالق لها، وبالتوهجات والأبخرة المتصاعدة من القدور والمراجل المستعرة، والأبخرة الرطبة المتصاعدة من الأرض والتي تسخن بالشمس، وبالروائح والأدخنة المتصاعدة من الحرائق، بكامل منظرها وهي تتصاعد من اللهب والمواقد والكوانين، فتمزق الهواء وتخترقه بألسنتها النارية الملتهبة، وأن شئت أن ترى هذا بصورة سهلة، يمكنك أن تلاحظ حركات النار نحو الأعلى، في إناء الزجاج نفسه الذي لاحظت فيه حركة التراب والماء والهواء، حيث تصب فيه ماء ساخناً بدلاً من الماء البارد، فتشاهد وهجها يتصاعد فوراً إلى الأعلى فوق الهواء الذي في داخل ذلك الإناء.

   خصائص العناصر

فبهذه البراهين والتشابيه تدرك، ولو يسيراً، أن الله خلق طبيعة خاصة لكل من هذه العناصر الأربعة، تجعله ينحرف إلى المكان المخصص له من الخالق، بموجب الخصائص التي أعطيت له، فمن خصائص التراب، الجمود والكثافة الداكنة، وما أعطي من صلابة وثقل وبرودة، واليبوسة الشبيهة بالتي للنار التي خلقت لتكون داخل ووسط وأسفل الكل وتحيطها المياه من الأعلى ومن الخارج ومن الجهات الست، ولتشبه بصورة ما أي النقطة الصغيرة البيضاء التي تشاهد في وسط صفار البيض الذهبي، فمثلما يحيط الصفار بتلك النقطة من جميع الجهات، هكذا تحيط المياه الأرض من جهاتها الست، بسبب وزنها وبرودتها وكثافتها النسبية، ويحيط بالماء من الخارج ومن فوق ومن سائر الجهات أو الجوانب: الهواء الأكثر رقة ونقاء وسرعة وصفاء ولطافة، المجرد من كل خاصية اللون: مثلما يحيط البياض الأصيل والجميل بصفار البيضة، وقد خلق الله خارج هذا وفوقه، ما هو بمثابة قشرة البيضة الرقيقة واليابسة والصلبة التي تحيط بالبيضة، ألا وهو النار الساخنة والمضيئة والمنيرة والسريعة والأكثر مرونة من الكل، وذات يبوسة كالتراب، لتحيط من الخارج والداخل بالعناصر الثلاثة الأخرى التي ذكرناها، الهواء والماء والتراب، لكي توضع هذه العناصر الأربعة مع بعضها البعض، من الداخل والخارج، بشكل كروي مستدير، فالتراب في الماء وتحته، والماء في الهواء وتحته، والهواء في النار وتحتها، هكذا كونت وخلقت هذه العناصر من قبل الله صانعها، متحركة ضمن بعضها البعض، وكل يتحرك نحو المكان المخصص له، فالتراب يتحرك بالماء نحو الداخل والأسفل، والماء يتحرك بالتراب من فوق ومن الخارج، والهواء يتحرك في الماء من فوق ومن الخارج، والهواء يتحرك في النار من تحت ومن الداخل، وهكذا … فأما أن تنجذب نحو الأسفل، تلك التي خلقت لتكون في الأسفل، أو أن تقفز نحو الخارج، تلك التي خلقت لتكون أعلى من التي تحتها،

  مقارنة بين الخليقتين الأولى والثانية

هذه هي الخليقة الثانية التي أبدعها الخالق، وهي، نظراً لما فيها من تغيرات عديدة، بعكس تلك غير المنظورة والعاقلة، خليقة القبول المنيرة والمضيئة والروحية والسماوية والشبيهة بالله، فتلك غير محسوسة ولا جسمانية، أما هذه فمحسوسة وجسمانية، تلك لطيفة ورقيقة وتدرك بالعقل فقط، أما هذه فكثيفة وثقيلة وهي ترى بالعين المجردة أو بأية حاسة اخرى، تلك غير متغيرة وثابتة ومستمرة بلا فساد، أما هذه فقابلة دائماً للتغيير والتحوير والفساد، تلك ابتدأت ولن تنتهي، أما هذه فأبتدأت وسوف تنتهي، أو بحسب تعبير الكلمات المقدسة السرية: يطالها تغيير كبير ثابت لا يطرأ عليه تعديل، ويشهد الكتاب على أن تلك خلقت في بدء التكوين، أما هذه فلم يذكر حتى متى أبدعها خالقها، تلك بسيطة وذات عقل فريد، أما هذه فمنقسمة أربعة أقسام منذ بدايتها، وتزدحم فيها الأضداد، وهكذا تبدو هذه الخليقة الثانية، غريبة ومتباينة في مزاياها بعكس تلك الأولى، فهي وحدة بعنصر واحد.

  أ- عنصر التراب

وسوف أبدأ الكلام بالعنصر الأقرب إلينا، الذي نطأه ونقف ونسير عليه، أعني به الأرض أي التراب، وبتعبير آخر، المدر هذا القلاع الذي نجلس ونتدحرج عليه، فهو العنصر الأول للمادة التي خلقها الله في الخليقة الثانية المتغيرة، وهذا العنصر هو جسم جامد وكثيف، صلد وصلب، فيه ألوان متنوعة وأشكال متباينة وروائح ومذاقات من كل نوع، وهل أصل العقل والبرودة، وسبب الكوارث وصانع المهالك، ومصدر الظلام الدامس البغيض المقيت، وبسبب هذا دعاه المانويون الهاً شريراً : هؤلاء الذين لا إله لهم، وهم أشرار وأولاد الشرير، كما أن آباءهم المرقيانيين وأجدادهم الأوائل هم الآخرون دعوه كذلك، ويقول فالنتينينس أنه في حرب مستمرة مع الشمس الإله الصالح وواهب الحرارة، وكان بودي أن أبين حقيقة الشر بكلمات قليلة وموجزة، إذ ليس بمقدوري الاسهاب في الأمر، إلا أن الوقت ليس وقت جدال، ولا الموضوع هو موضوع البحث هنا .

أن الأرض هي مصدر جميع العطور والأبخرة التي تعطي روائح يستنشقها الأحياء،، فأما أن تكون عطرة أو كريهة، وهي أصل مختلف المذاقات التي تتذوقها الأفواه والمرىء فاحصة الخصائص، وفيها أنواع مختلفة مما يحتاجه الناس في استعمالاتهم، كالحديد والنحاس والقصدير والرصاص والزجاج والفضة والذهب والالكترون والجواهر والأحجار الكريمة والثمينة، والعقيق والبلور، والياقوت والفيروز واليشب أي الجمرة، والسمانجوني، والكرستال وحجر الماس والحجر الأسم، والمغناطيس، وغيرها من مواد الحجر والكحل والزرنيخ والعفص والمفرة والتوتيا والزاج، مع مواد أخرى متنوعة، وبرادة الحديد، والزيوت التي تنساب من خصوبة هذه، المعدة وهي ضرورية لمهنة الطب وسواها من المهن، ومستلزمات الانسان، مثل الحناء والقير والكبريت والنفط وكثير غيرها موجودة في هذا الجسم كما يروي خبراء المعادن، وبواطن الأرض (الجيولوجيون) والذين يشقون الترع والقنوات، فما يتصاعد من الأرض، ليس فقط الأبخرة والعطور الذكية والطيبة والمفيدة، أنما تتصاعد أيضاً أبخرة كريهة لا تحتمل ومهلكة للبشر، حتى أن وهج النار وألسنتها التي في داخل الأرض، لا تستطيع الدنو منها كما يقال، كما يوجد فيها كذلك مختلف الأشياء، ليس فقط ما هو ضروري ومفيد كما يقول الأطباء مثل المغرة والرواسنج أي والكثير غيرها بل توجد أيضاً روائح كريهة وقاتلة أخرى ومنها سم الموت مثل الزرنيخ والقطران وصدأ النحاس، وكثير غيرها لا حاجة لذكرها، ومن هذه الأشياء يصنع بعض الأشرار الأثمة الذين لا إله لهم، أدوية قاتلة ومهلكة ويعطونها لأخوتهم.

ويوجد كذلك في تراب الأرض أشياء أخرى وخصائص غير التي ذكرت، تختلف في اللون والرائحة والطعم واللمس، مثال ذلك الأشياء التافهة والكلسية والمرة والمالحة وكثير غيرها لا نعرف أسماءها، وإذا قربت منها الماء، نتج ما يسمى، وملح حلو وملح مر ومواد أخرى كثيرة، وبتأثير هذه يكتسب الماء مزايا مختلفة، فيختلف طعم الماء باختلاف طعم المكان، لأن كلاً من هذه الأشياء ذو طبيعة خاصة، لها طعم خاص ومادة خاصة ولون خاص، فالماء أذن يختلف بالطعم والنوعية وأحياناً في اللون، فمياه الأرض المفحمة هي غير مياه الجبال أو السهول، وهذه بدورها غير مياه الصخور والصحارى، ويختلف التراب أيضاً في قوة انمائه وتغذيته، ففي بعض الأمكنة ينمي ويأتي بثمر كثير، وفي غيرها لا ينمي ولا يثمر، كذلك الأمر بالنسبة إلى الأحجار الموجودة في التربة، فهي الأخرى مختلفة الأنواع والألوان والروائح والملمس والمنظر، فيقال أن هناك حجر الماس الذي لا ينكسر، وحجر الصوان والرخام، وحجر الرحى، والمرمر، وحجارة بيضاء وحمراء وسوداء وخمرية، ولينة وقاسية، وتلك المستعملة للتبيض، وشفافة ولماعة ومنها ما لا يصلح لشيء أبداً، ومواد أخرى كثيرة ليس بمقدور العقل البشري حصرها أو حصر أنواعها .

وما أكثر الاختلافات في تكوين الأرض وطبيعتها، فهناك جبال وعرة يصعب تسلقها، في الوقت الذي تمزقها كهوف وشقوق غائرة يصعب اجتيازها، ووديان واسعة وأفجاج، وهضاب ورواب ووهاد تسود قسماً منها بقاع وصحارى شاسعة وصعبة الاجتياز، وقسم أخر صالح، تنبع فيه جداول المياه، وتشكل مصدراً للينابيع والعيون والأنهار، وتنمي الأشجار والغابات والمروج، وقسم منها قحل وجاف لا يصلح لإنماء أي شيء، قسم أهل ويصلح لسكنى الأحياء، وقسم أخر لا يصلح للسكنى مطلقاً لعدم اعتدال مناخه وصعوبة تحمله من قبل الناس والحيوانات على حد سواء، أما بسبب البرودة الشديدة أو نظراً لحرارة الشمس المحرقة، وبالاضافة إلى كل ما ذكر، هناك أخاديد طويلة وعميقة، وشقوق ووهاد مرعبة وعميقة الأغوار، سواء تحت الجبال أم تحت البقاع والصحارى، لأن هذا العنصر وحده دون (العناصر) الأخرى، له طبيعة ملائمة لتكوين هذه الأشياء، نظراً إلى كثافته وصلابته، والأغوار التي فيها ليست فارغة بل ملأى دائما نظراً إلى طبيعة المياه التي تحيط بالأرض وتكون الينابيع عندما تندفع نحو الأعلى في أمكنة عديدة، ويحدث أحياناً مثل هذا من اتحاد الهواء الخفيف اللين وطبيعة النار المحرقة مع الماء، أو من الماء والنار، أو الهواء والنار سوية، لذا توجد شقوق وأخاديد مملوءة بماء شديد الحرارة لقربها من عنصر النار، وحينما يندفع الهواء أو الماء نحو الأعلى فوق سطح الأرض، يكون ما يشبه الأخاديد المملوءة ماء، وسواء إذا كان الهواء مصدر تلك الينابيع أو الماء، فهي صالحة لعلاج أجسام البشر والحيوانات، وبخاصة علاج الأمراض الناجمة عن البرد، وذلك في حالة استحمام المرضى في ينابيع من هذه المياه الساخنة، أو تعرضهم باستمرار للحرارة المتصاعدة منها،

وفي أماكن كثيرة تندفع النار وترتفع فوق سطح الأرض، وتشاهد بوضوح في الجو وعن بعد كبير ولا سيما في الليالي، كما هو موجود في جبال فريجينا وكريت وخاصة جبال صقيلية، ولما كان هناك أخاديد في الأرض مملوءة ماء كما ذكرنا، فلا بد من أن يبرز أمامنا سؤال ملح هو: ما مصدر تغذية العناصر التي تحتويها هذه الأخاديد؟ أي الماء والهواء والنار، حتى أنها تستمر مليئة دون أن تنضب، في حين أن الينابيع تتدفق بصورة دائمة بما في داخلها منذ تكوين الأرض وحتى الآن دون أن تتوقف أو تنضب؟

نقول عن الأخاديد المملوءة ماء وهواء – آملاً أن يؤخذ الرأي بعين الاعتبار – أن أخاديد الماء تتغذى تدريجياً من ماء البحار التي تحيط بالأرض، حيث تتدفق من أماكن في البحار الأكثر أرتفاعاً بالنسبة إلى مدار الأرض، صوب تلك الأخاديد فلا ينقص ماؤها، أما بالنسبة إلى الأخاديد المملوءة هواء، فأن هذا الهواء يأتيها من أماكن بعيدة عن طريق مداخل فيملؤها تدريجياً من الهواء الذي على سطح الأرض، أما الأخاديد التي تملؤها النار، فإذا كان لا يوجد عنصر النار على سطح الأرض كما هو الحال بالنسبة إلى الماء والهواء : فأن المرء يقع في حيرة وهو يتقصى مصدر النار التي تغذي هذه الأخاديد تدريجياً، لم تفرغ ولم تنقص فأن النار فيها، وبالعكس فأننا نسمع حكايات من بعضهم حول نار تندفع وترتفع رغم مرور الزمن من هواوين في جزيرة صقيلية وتنتشر فوق سطح الأرض فتحرق وتبيد مناطق كثيرة، وإذ ليس هناك شيء أكيد عن مصدرها، نقول مع بعض الشك، ربما تتأتى من بلاد الحبشة الحارة حيث يتساوى الليل والنهار، لكونها معرضة دائماً لأشعة الشمس وتحدث فيها الحرائق من جراء شدة حرارة الهواء الآتية من الشمس، فتحوله إلى شرارة وتحرق حتى الأرض.

وهناك أيضاً مداخل تمتلىء بتوهجات محرقة، وبذلك تبقى محافظة على حرارتها التي تدفع بها الأمام، مثل مواقع انفجار هذا العنصر الناري في الجهات الشمالية من الأرض وليس الجنوبية، وتكثر المواقع التي تنفجر منها المياه الحارة في بلاد فلسطين وشمالها، ولم يذكر أحد أن مياهاً حارة أو ناراً تنفجر فوق سطح الأرض، سواء في البلدان العربية الخصبة، أو في مصر أو في بلاد الحبشة أو الفرس، أو موريتانياً أو قيصرية أو ليبيا، أي القسم الجنوبي من المسكونة، وإذا تأملنا الموضوع نستطيع أن نقول : أن مداخل الأخاديد النارية تقع في الجهة الجنوبية، في حين تقع منافذها في الجهة الشمالية، ونضيف إلى ما قلناه، ما سمعنا من بعضهم عن وجود نبع ماء حار حارق، ينبع من مكان ضحل لا يتعدى عمقه القامة في بحر جزيرة، ولما اكتشفه أهل الجزيرة، عزلوا الماء الحار عن ماء البحر بواسطة أنبوب من رصاص، وجعلوا له مصباً ليستغل للاستجمام وعلاج أجساد البشر، ويروي آخرون عن وجود منفذ للهواء الحار في منطقة ما في حمص تسمى عوتار، فعندما تهب رياح من الجنوب ينفجر بقوة عن توهج حارق بحيث لا يستطيع أحد الدنو منه، وهذا برهان على أن منفذ ذلك الهواء الحار هو في الجنوب، وربما يوجد في المنطقة ذاتها ما يغذي أخاديد النار فلا تنقص أو تتوقف أو تكف عن الخروج من منافذها، فمن لا يشك بهذا الكلام فليأخذ به، أما من كان لا يزال الشك يساوره ولم يقتنع بما قيل، فلتضف هذه إلى أمور أخرى كثيرة غير معروفة وغير مدركة، وتعزى فقط إلى معرفة الخالق العليم بكل شيء، ذاك الذي أوجدها، وحسن له أن تظل هذه الأمور محجوبة وغير مدركة من قبل عقلنا البشري الضعيف .

ومن الأمور التي لا تزال موضع شك وغير مدركة لدى جميع الناس، أهمية وجود أخاديد للهواء والنار في باطن الأرض، أما بالنسبة إلى أخاديد الماء فالأمر معروف وهو تكوين ينابيع وانهار لفائدة الناس كما أراد الله أن يكون، والحق يقال، أن الله لم يخلق أخاديد للهواء والنار عبثاً دون أن تكون لها أية فائدة للجنس البشري أو الحيوانات، لأنه تعالى خلق كل شيء حسناً، وبحكمة وصلاح ولضرورة ما، ولم يخلق شيئاً لا جدوى فيه، بهذه القضايا التي ذكرت ودونت هنا وطرحت للتأمل، لم يبق شيء للحديث عنه، أو لم يسمع عنه أو يعرفه الكثيرون .

لا أدري ما أسمي العمل الجبار العجيب، الذي قد لا يصدقه الكثيرون، الذي خلقه الله وجعله واقعاً وحقيقة، في أماكن كثيرة من أعماق الأرض الخفية، التي لا يعرفها الانسان ولا يراها، وقد شهد عليه بعض الكتاب وعلماء الطبيعة والمنقبون، إلى جانب شهادات نخبة من ذوي الاختصاص والسمعة، الذين ظهروا في الكنائس عبر التاريخ، أضف إلى هذا: علماء كثيرين من المدنيين الذين يروون ويؤكدون أنهم شاهدوا بأم اعينهم أشياء تبرهن على ما نحن بشأنه، سأثبتها فيما يلي: هناك حالة طبيعية كما يبدو في تراب بعض الأماكن في أعماق الأرض، وهي قابليته على التغيير إلى تراب لين، وإذا ما تبلل بالماء الذي كان فيه أصلاً، جعل منه حجراً صلباً وجامداً وصخرة لا تتبلل ولا تثلم، ومن الصعوبة كسرها حتى بالحديد، ويؤكد صحة هذا، أن ثمة فعلاً خليقة مثل هذه في الأرض، ما قاله العلامة أوسابيوس القيصري، الذي ولئن كان اختصاصه في شؤون غير هذه، إلا أن كلامه يؤخذ بعين الاعتبار، فهو يذكر في مقدمة تاريخه محاولاً تأكيد ما قاله الكتاب عن ارتفاع ماء الطوفان فوق كل جبال الأرض خمسة عشر ذراعاً، ويقول : “تأكيدا على أن مياه الطوفان ارتفعت فوق أعلى الجبال، يقول : لقد تحقق لدينا هذا نحن الذين نسطر، من مشاهدة مختلف أنواع السمك التي وجدت يوماً ما في أعلى قمم جبال لبنان، وذلك عندما كان البعض يقطعون الحجر من الجبال للبناء، وجدت أنواع مختلفة من أسماك البحر التي غرقت بالطين في أعماق البحار وتصلبت وكأنها ساخنة وذابلة ومتحجرة، الأمر الذي جعلها أن تبقى حتى الآن، يشهد على صحة هذا، النقارون الذين يعملون في قطع الحجارة، الذين يجهزون حجارة صغيرة للبناء من صخور جبلية، وكنت منذ مدة قد سمعت قصة ساورني الشك فيها، فكلمت بشأنها أحد هؤلاء النقارين بصورة جدية، فأكد لي بالقسم، القصة التي سمعتها وأطلعني على حقيقتها بالتفصيل، وقال، بينما كان يقطع حجراً في جبل حران، شوهدت داخل حجرة قطعت من صخرة خالية تماماً من أي مدخل أو عرق: عظام رسغ رجل منظمة، وفوقها ضلعان، وإذ كانت الصخرة مرنة، كانت ضربة العامل خفيفة بخلاف المألوف بحيث لم تتأثر تلك العظام، فأخرجت سليمة دون كسر أو تلف، أنا الذي أكتب هذا، وقفت شخصياً على هذه القصة بل الشهادة عمن رآها بأم عينه .

وزيادة في تأكيد كلامنا هذا وإيضاحه، نورد حديث أحد العلماء الحرانيين ذائعي الصيت الذي كان يدافع بشدة عن القضاء والقدر من الكواكب السبعة، والذي يشمل كل ما يحدث في هذا الكون ضد العالم ولغش الرهاوي أحد أتباع برديصان، وكان يحاوره ضد القدر محاولاً تسفيهه ببراهين من الطبيعة، فأجابه ذلك الرجل بتأهب تام قائلاً: أن ما تتحدث به عن أمور غريبة تحدث أحياناً في الكون، فأنا قد رأيت بعضاً منها وسمعت عن بعض أخر، ولكي تعلم بأني لست مخاصماً الحرانيين فسوف أقول ما سمعته، ويشهد عليه الكثيرون ممن شاهدوه في جبل “نشوك” هذا، بينما كانوا يقطعون حجراً، فإذا نزلوا إلى عمق بعيد في المقطع، وجدوا جسد إنسان وجثة كلب، أنه أمر يصعب تصديقه، ولكن أنا بأم عيني رأيت ذلك مع كثيرين غيري، أما خصمه فقال: أنه رأى مكاناً ينبع منه ماء من أعماق الأرض فينساب ثم يتوقف في مكان ما داخل الأرض، ويجمد ويتصلب ويكون حجارة، وكان الناس يستخرجونها دون أن تموع، وكانت تشبه المرمر ذات الالوان المختلفة، فقد استحالت ليونة الماء وصارت بصلابة الحجر، ويقول علماء الطبيعة، كثيراً ما يحدث مثل هذا في خصائص عنصر التراب، إما تلقائياً أو من جراء برودة طبيعة الماء الشديدة، أو من خصائص التراب الأخرى غير المعروفة لدينا،

وهناك أشياء أخرى مشابهة لهذه، تقوم عليها براهين كثيرة على أنها من تلك النوعية، وتوجد في سواحل وأخاديد التلول والوديان العميقة صخور كبيرة صلبة وغير قابلة للكسر والانحلال أبداً، فأنها ترى كأجسام مجبولة ومركبة من التراب والرمل والأحجار : مكونة باختلاطها كتلة واحدة، وترى إلى جوانبها أصداف حلزونية ومواد أخرى ملتصقة بها ومتماسكة معها وكأنها من صلب الصخر غير منفصلة عنه، وتوجد أيضاً في قيعان الأنهار، صخور أخرى تكونت من نفايات مياهها، وهي صلبة وغير قابلة للكسر، لكي يمثل هذه الأمور وما شابهها تتأكد تلك الخاصية الموجودة في عنصر التراب، التي ولئن دوناها هنا مشفوعة بالشواه، إلا أننا ما زلنا نجهل حقيقتها وعلة تكوينها، ترى هل هي رطوبة الماء أو يبوسة التراب أو البرودة أو الحرارة؟ بالإضافة إلى ما تناوله الحديث هنا، فلا تزال أشياء أخرى كثيرة في عنصر التراب مجهولة لدينا، وقد أوجزت الكلام نظراً إلى اختلافات خصائص عنصر التراب وتنوع الألوان والأشكال والأشياء الأخرى التي فيه، ونظراً إلى ما يحوم من شكوك حول الأخاديد التي في الأرض.

أما بالنسبة إلى كبر حجم الأرض، وقياس وكمية هذه الكتلة الترابية، أي بالنسبة إلى انتفاخ وكثافة هذا القلاع الصلب الصلد والثقيل والبارد، فليس من شأننا أن نؤكد على وجه الدقة كم وكيف هي، وليس هذا من شأن الضعفاء وغير الكفوئين أمثالنا، وأعتقد أنه ليس حتى من شأن العقل أو الكلام البشري، لكنه شأن من قاسها بمعرفته لدى خلقته إياها، الذي قال عنه الكتاب الالهي متسائلاً : “من أمسك فحم الأرض، من كان بكفه المياه”، واسمعوا ما يقوله الكتاب المقدس وبخاصة ملهمة الروح النبوي: “وقاس السموات بالشبر وكال بالكيل تراب الأرض ووزن الجبال بالقبان والأكام بالميزان، من قاس روح الرب، ومن مشيره”، نفهم من هذا، أننا لا نجرؤ على أن نقول شيئاً بالنسبة إلى قياس وكبر الأرض، وأننا نطرح جانباً كل ما افترضه أو جزم به العلماء الذين شطوا إذ تجرأوا وحاولوا معرفة ما يفوق ادراكهم، اعتماداً على غزارة علمهم، أما نحن فإذ نتحدث بمثل هذه الأمور، فلكي نعرف فيما إذا كانت صادقة أم كاذبة، أنها، والحق يقال، لن تكون صادقة لأنه أما أن تكون قد انقص منها أو أضيف إليها، ولا يسعنا إلا أن نبدي إعجابنا بعمل الله، ولا نتجاسر فنتدخل، مثل أولئك، لمعرفة ما هو فوق طاقتنا، أو معرفة مدى اقتداره الظاهر بأعماله.

لقد قسم بعضهم محيط الكرة الأرضية هندسياً إلى ثلاثمائة وستين جزءاً متساوياً، مثلما فعل علماء الفلك الذين قسموا كرة السماء كذلك إلى ثلاثمائة وستين جزءاً، وقسموا كل جزء وقالوا: أنه يساوي تسعين ميلاً، وكل ميل سبع غلوات ونصف، وكل غلوة أربعمائة ذراع، أي أن قطر الكرة الأرضية من الغرب إلى الشرق، ومن فوق إلى أسفل دائرياً، اثنان وثلاثون ألفاً وأربعمائة ميل، وكذلك الخط الذي يمر في وسطها من جانب إلى الجانب الآخر، سواء من الغرب إلى الشرق أو من الجنوب إلى الشمال، أما محيطها فيساوي ثلث هذه الأميال جميعها أي عشرة آلاف وثمانمئة ميل، في حين جعل آخرون كل جزء خمسة وسبعين ميلاً فقط، ومحيط الكرة الأرضية سبعة وعشرين ألف ميل، لكي يجعلوا الخط الذي يمر في وسطها من أحد جانبيها إلى الجانب الآخر، تسعة آلاف ميل، هذه هي تقديرات الذين تجرأوا وحاولوا معرفة مساحة هذا العنصر، ومهما يكن من الأمر، سواء كانوا صادقين أم كاذبين، وسواء أكان نقصان في تقديرهم أم زيادة، فأن عظمة هذا العمل، موضوع حديثنا، ليست بقليلة، فهو يثير اعجابنا باقتدار الخالق سواء من جهة ضخامته أم مساحته

  الأسبقية بين العناصر

 فالعنصر الأول الذي كونه الله الخالق من مادة جسمانية بأشارة من إرادته وكلمة قدرته، هو الأرض أي التراب، الذي تجرأنا وأطنبنا الحديث عنه، في حين أوجزنا في أمور كثيرة لا سيما في ما يخص القياس، علماً منا بأنه مهما أطلنا الحديث، فأن الكلمة تبقى عاجزة عن تقديم كل ما يستحقه من الكلام، فمن يستطيع، يقول الروح، أن يستقصي قوة الرب، أو من يتحدث عن عظم اقتداره أو يستمع إلى كل تسابيحه؟

ب- الماء

 أما العنصر الثاني الذي يلي التراب، والأكثر مرونة وليونة ورقة منه، وأكثر صلابة وقسوة وثقلاً وكثافة من عنصر الهواء: فهو العنصر المعروف بـ “الماء” ويعرف، بأنه جسم رطب ومرن وقابل للذوبان وشفاف وذو كثافة معتدلة، وبرودته معتدلة، فهو أقل مما للتراب، وهو ذو لون واحد وطعم واحد، ويعكس جفافه التراب، وهو سهل الاختلاط معه ويذيب عسره وصلابته نظراً إلى مرونته وقابليته للذوبان، ليس فقط مع طبيعة الأرض أي التراب، بل أيضاً لأنه سريع الاختلاط والامتزاج مع العنصرين الآخرين: أي الهواء والنار، فبالنسبة إلى الهواء فأنه يمتزج به كالدخان، على هيئة خيوط بخارية رفيعة، أما بالنسبة إلى عنصر النار فأنه يختلط به داخل الشقوق الملتهبة، هذا هو عنصر الماء الذي منذ البدء، كان يحيط بالأرض من فوق ومن أسفل ومن الجهات الست كما ذكرنا أعلاه، فقد كان دائماً يتفاعل ليفصل وينقي طبعه من طبيعة التراب العكرة والخشنة والثقيلة، هذا هو العنصر الثاني للمادة بعد التراب .

ج- الهواء

 أما العنصر الثالث الذي يلي الماء، فهو عنصر الهواء، والذي يحيط بالماء بنفس الصورة، من فوق ومن الخارج ومن الجهات الست كما أسلفنا، وهو العنصر الكروي الثالث الذي، بسبب طبيعة الهواء النقية والمرنة والرقيقة، وبسبب سرعته ورقته وصفائه، كان يتفاعل هو الآخر بصورة مستمرة من أجل تنقية ذاته بشكل تام من طبيعة الماء الكثيفة والثقيلة، لذا يجب أن يوصف ويعرف بكونه جسما رفيعاً صافياً نقياً ومرناً، وأكثر شفافية من سائر الأجسام، لذلك فأن النظر يخترقه بسهولة دون أي معوق، ويراه متفاعلاً مع الأجسام التي تدور في فلكه، بسبب قابليته للذوبان ومرونته، ويسمح بأن تمتزج به وتنتسب إليه وتصير كأنها منه، ولا يتقبل فقط خصائص مجاوريه المضادة، أي برودة الماء وحرارة النار حيث يكون بارداً حيناً وحاراً حيناً آخر، بل بالاضافة إلى هذا، فهو يتقبل بسهولة وبكل تناغم، ذات هذين العنصرين أي طبيعتها، لكي تمتزج وتذوب فيه إلى درجة الاعتقاد بأنها وإياه شيء واحد، لذا يعتقد بأنه على ثلاث هيئات، فأنه يبدو وكأنه عنصر صاف نقي وجاف بالنسبة إلى الأرض التي يجاورها ويحتك بها بعيداً عن عنصر الماء، ولا يمتزج به شيء سوى ذرات رمل دقيقة ويسيرة جاءته من التراب لتمتينه وحصره في الوسط، وهو مثل الزق محصور، كما حدد الخالق، خارج العنصرين المحصورين داخله: أي التراب والماء، ونظراً إلى ثباته خارجهما فهو لا يزحف، إذ لا يجوز أن يكونا فوقه أو خارجه، ولا أن يكون هو تحتهما أو داخلهما، لكنه ثابت ومرصوص بصورة دائمية، وبتعبير آخر، أنه يحيطهما كجسم صلب وصلد بأمر خالقه فلا يخترقانه، ويسميه الكتالب المقدس، الجلد أو السماء، بالاضافة إلى هذا، هناك طبقة ترابية أخرى تمتزج وتذوب بها طبيعة الماء، ويكون وإياها شيئاً واحداً مركباً ومتماسكاً وغير منفصل، وهو رطب وبارد نسبياً، وكثيف وأكثر صلابة من العنصر الذي يليه، أضف إلى هذا طبقة الهواء الثالثة المركبة، كما يعتقد، من امتزاج الهواء والنار بنسبة متساوية، وهي قابلة للاحتراق، جافة وسريعة وخالية من الرطوبة كلياً، ويسمي اليونان هذه الطبقة أثيراً، أي الهواء الملتهب، وهذا هو العنصر الثالث.

د- النار

وعنصر المادة الرابع هو طبيعة النار وحدها المحيطة بالعناصر الثلاثة الأخرى من الداخل والأسفل،بمقتضى إشارة خالقها، لئلا تتبدد وتتلاشى، وتكون مجتمعة كتلة واحدة مستديرة مثل بيت مبني من مختلف المواد، كالحجارة واللبن والخشب والقرميد، فهذا عمل واحد مركب من أسس وزوايا وسقوف بحسب معرفة ومهارة بانيه، وهذا العنصر هو جسم محصور وحار وسريع ومرن، ونير ويضيء جميع الأجسام، وهو ولئن يدخل في تركيب الأجسام ويتغلغل فيها، إلا أنه لا يسبب لها أي ضرر من الداخل، ولكن إذا جاءها من الخارج، فأنه يبيدها ويلاشيها تماماً، هذا هو عنصر المادة الرابع الذي خلقه الله لتركيب وتقويم كل الأشياء المادية التي كان عتيداً أن يبدعها،

وهذه هي الخليقة الثانية التي كونها في بدء العالم المنظور والهيولي والتي تقول عنها توراة موسى: “في البدء خلق الله السماء والأرض”، هذا هو الشيء الذي أتى به الله من عدم الوجود إلى الوجود، بقصد تكوين هذا العالم، وهو المعروف بين أعمال الله بالمادة، وهي أربعة عناصر أي أربعة أجزاء مختلفة هي: التراب والماء والهواء والنار .

هذا كل ما في وسع كلمتي الواهنة أن تقوله عن الخليقة الجسمانية التي أبدعها خالق الكل، وهي مادة واحدة ذات جواهر أربعة وعناصر أربعة مختلفة ومتفرعة عنها، وقد باشرت بالحديث من الأدنى إلى الأعلى فبدأت بعنصر التراب الأدنى، وانتهيت بالعنصر الناري الأعلى، وقد تحدث كتاب توراة موسى عن الخليقة بصورة ملائمة، وليس هذا فقط بل تحدث أيضاً عن تنظيمها وتمكوينها بصورة أكثر ملائمة، وقد رأيت من الضرورة أن أعقب ولو بكلمات هشة، على ما جاء في الكتاب، مستمداً قوة وزخماً لكلماتي المتلعثمة، من قوة وحقيقة ونقاء ذلك الكتاب .

يقول الكتاب : “في البدء خلق الله السماء والأرض”، فهو يسمي العناصر الأربعة التي تحدثنا عنها، سماء وأرضاً، معطياً كرامة للسماء بذكرها في الأول، لمكانتها الأولى عند البشر لأنها بمثابة مسكن لله كما يتوهم البسطاء، وتجزم به بعض الكلمات في المزامير، وقد علق هذا الوهم في أذهان الناس لأنهم اعتادوا أن يروا السادة يسكنون في الأدوار العليا، والعبيد في الأدوار السفلى، وحيث أن الكتاب يميل إلى الإيجاز، لذلك اقتصر على ذكر كلمتي السماء والأرض، دون أن يأتي على ذكر أسماء الماء والهواء والنار، علماً منه بأن الذين يقرأون سيدركون أن هذه خلقت وإياهما سوية، فقد حصر الروح الملهم العالم كله وما فيه بهذين الأمرين الرئيسيين، ثم يعود فيما بعد ليتحدث عن أرض أخرى ذكرها في بدء كلامه فيقول: “كانت الأرض خربة خالية”، أي لم تكن منظورة ولا مكونة “وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه”، في بدء الكلام لم يأت على ذكر المياه، ولم يتحدث عن تكوينها، لكنه أشار إلى أنها والتراب كانا سوية في مقدمة الكائنات، ولم تكن الأرض منظورة لأنها كانت مغمورة بالمياه من كل الجهات، فكانت مخفية في أعماق غمر المياه، وأردف قائلاً: أنها كانت غير منظورة وغير منظمة، ليوضح جلياً أنها لم تكن موجودة عندما كانت مغمورة بالمياه، وأنها لم تكن معدة لعيش الكائنات الحية عليها، أو صالحة لنمو وتغذية النباتات والأشجار والجذور والأعشاب والزروع، هذا ما تشير إليه عبارة : “غير منظمة”، ويقول : “وكانت ظلمة على وجه غمر المياه المحيطة بالأرض”، ذلك لأنها كانت مختلطة بالهواء الذي فوقها، وكانت ما تزال وإياه جسماً واحداً، مغطاة بالظلام الدامس، إذ لم يكن هناك بعد هواء نقي يخترقه شعاع مضيء ولا حرارة لتطرد الظلام، إذ لم يكن عنصر النور قد تنقى بعد بصورة كاملة، من الماء والهواء اللذين تحته .

ولهذا فأن الظلام كان يغطي الغمر الذي كان يغطي بدوره الأرض فيحول دون رؤياها، وكان روح الله الخالق، مانح الحياة ونافخ النسمة، ومكمل جميع الكائنات، الذي أعطى التنفس والحركة والحس لكل حي: يرف على المياه ليمنحها والأرض التي في داخلها ميزة التوليد، وهذا ما قاله الكتاب الموحى به من الروح، أخذاً عما هو مألوف لدينا نحن البشر، ولا ينبغي للإنسان أن يستغرب من استعمال الكتاب تعابير وتشابيه بشرية، بل أن نعبر عن اعجابنا ونقر بأن هذا يستحق الثناء حقاً، فأن روح الحق قد ينجلي حتى عند من هم ضد الحق، فأنهم إذ يتحدثون ويكتبون عن الحق مستشهدين بكلام الحق، يكون الحق قد رسخ أكثر بشهادتهم، وقد ورد في كتب الكلدانيين الذين يريدون أن يقولوا : أن السماء والأرض والشمس والقمر وسائر الكواكب هي أزلية غير مخلوقة، وهي آلهة وأرباب، وهم سادة هذا العالم ومولون إياه اهتمامهم،، أن هذه قد خلقت برفرفة روح الاله، وهم يحتفظون من حيث يدرون أو لا يدرون بظلال تشابيه ونماذج تتوافق مع ما نقول به، فهم يقولون : “في البدء كان كل شيء ظلاماً ومياهاً قبل أن يكون هناك آلهة أو بشر، وكان الروح يرف فوق المياه، فخلقت هذه كلها، وصنعت لهم سماء وأرضاً وأبراجاً لبيوتهم وحدوداً لمملكتهم وجهات لمسيرتهم، ووضعت نهاراً وليلاً وصورت تماثيل في الأبراج، وجعلت هيئة للأرض، وأمكنة في السماء، وخلقت بيل أولاً وبعده مارود سيداً للآلهة، ومن ثم البقية، وجعلت من الشمس والقمر سلاطين على الليل والنهار”، وهكذا جاء الكلام مطابقاً لكلام الحق، حتى من أعداء وأضداد الحق، فأنهم هم أيضاً تحدثوا بكلمات مقتضبة وموجزة عن السماء والأرض وما فيهما، كما هو الأمر في كتبنا، موضحين جلياً بذلك أن الخليقة ليست كما كان يعتقد الملحدون الضالون، غير مخلوقة، بل هي من صنع الله خالق الكل، كما تبين كتب روح الحق.

فإذا كانت هذه العناصر مختلطة وغير منفصلة عن بعضها البعض وصافية بصورة تامة، فكيف يمكن أن تكون لكل منها أذن خصائص نقية موجودة فيه، فللمياه صفاؤها، وللهواء نقاؤه، وللنار ضياؤها وحرارتها ؟…

يقول الكتاب: فأمر الله وقال: “ليكن نور فكان نور”، وشرح بكلمات يسيرة ما أراد الله أن يكون، قائلاً : “ليكن نور”، وللحال أضاف دون أن يجزم وعلى وجه التقريب: “وكان نور”، مظهراً بكلماته العابرة هذه: أن ذلك العمل قد تم على الفور دون أي ارتباك، وقد أشار بصورة رمزية وسرية إلى من وجه إليه ذلك الأمر، ولا بد أن يكون الكلام قد وجه إلى من هو قادر على تنفيذ الأمر عملياً، حيث صدر الأمر بأن يكون نور، وللحال كان نور، ومن المعروف أنه قصد بهذا، كلمته الخالق الذي هو حكمته وقوته وذراعه، الذي قال: “كنت معه عندما خلق السموات، ومنح القوة للرعود في العلى، والجمال للينابيع التي تحت السماء، وجعل أسس الأرض راسخة مرصوصة”، قال هذا بصفته أقنوم الحكمة

أن هذه الكلمات الموحى بها من الروح القدس توضح : أن الله وجه كلامه إلى حكمته وكلمته الخالق، لدى قوله “ليكن نور”، ولقد كتبت هذه لكي ينبعث منها لنا شعاع معرفة حكمة الله وأعماله، وما كان يعنيه بعبارة : “ليكن نور” هو تكوين هذه السموات وتصفية عناصر الهواء والنار، وتكوين النار في الهواء ليضيء ما هو فوق المياه، ويبعث شعاعاً مضيئاً إلى أعماق الغمر فتصفى المياه، ويشير إعطاؤه قوة للرعود في العلى، إلى ثبات الجلد داخل الهواء، أما إعطاؤه أسساً محكمة للأرض فلا يشير سوى إلى توطيد الأرض وتثبيتها، إذ كان الماء المتجمع فوقها عتيداً أن ينحسر وينفصل عنها، وهكذا قال: “وأمر الله أن يكون نور، وللحال تنقى طبع النار، وأظهر النور المنبعث من ذاته، وأرسله إلى صفاء الهواء الذي تحته، فالنور يتولد من النار منذ بدء تكوينها، تماماً مثلما أن الظلام الحالك هو وليد جسم عنصر التراب المادي، على هذه الصورة وجد النور، فأنار كل ما هو تحته، من هواء وماء وتراب، بمقتضى أمر الخالق.

“ورأى الله أن ذلك حسن” وبهذا يقدم له الكتاب المقدس شهادة ثناء، وفصل الله بينه وبين الظلام وليد الأرض وظلها، ففي اللحظة التي ظهر فيها هذا، تولد فيها ذاك، فصار وضعه وتكوينه معاكساً له،

ولهذا قال الكتاب “وفصل الله بين النور والظلام، ودعا الله النور نهاراً والظلام دعاه ليلاً ” وهذا ما عناه الله بقوله “ليكن نور”، أن هذا الأمر حرك عنصر النار نحو البقاء وهو يفصله عن الهواء، ويبرز النور الذي كان مطبوعاً فيه منذ بدء تكوينه، وهكذا دون أول أمر يصدر عن الله الخالق وعرفناه، وكتب أيضاً “كان يوماً واحداً “.

وقال الله “ليكن جلد في وسط المياه وليكن فاصلاً بين مياه ومياه” فعمل الله الجلد وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد، ودعا الله الجلد سماء، ورأى أن ذلك حسن، وكان ماء وكان صباح يوماً ثانياً “، كان الأمر الأول القائل “ليكن نور” صادراً إلى طبيعة النار، ذلك العنصر السامي المخلوق، لينفصل ويتنفس وينجلي نوره فيضيء كل ما هو تحته وفي داخله، أما الأمر الثاني هذا، موضوع البحث، فأنه صدر إلى طبيعة عنصر الهواء، لكيما هو الآخر بتنقيته من الماء الذي تحته، ويصفو يتطهر بصورة تامة، يقوى ويثبت مستقراً خارج نطاق عنصر الماء، ويحيطه التراب الذي يتخلله، ويشبه إلى حد ما هواء كثيفاً ومضغوطاً كما هي الحال بالنسبة إلى الهواء والمحصور في الزق دون أن يكون له منفذ، فأنه يشبه الجلد، يمكن أن يشعر به الذين يلمسونه، من هذا العنصر أمر الله أن يكون جلد متين وسليم، يثبت ويوطد فوق المياه وخارجها بعد تنقيته كلياً، ويكون فاصلاً بين المياه التي تحته، وبين المياه الممتزجة في الهواء الرطب الذي يسبب الرعود فوقه، والذي منه تتكون، بأمر الخالق، الطل والأمطار والبرد والثلوج والجلد، وهو الذي يرطب ويحفظ كل ما يدور في الهواء الجاف النقي، أي الناس والحيوانات والطيور والنباتات والأشجار والزروع والجذور، كي لا يصيبها ضر فتحترق بالأثير المحرق الملتهب الذي هو تحت الشمس، أو بكتلة هذا النور (الشمس) المحترقة والمحرقة، فالجلد الذي أمر الله بتكوينه بين المياه التي على الأرض وبين الهواء المائي الذي فوقه وليد هذا النور، والذي سماه الكتاب ماء نظراً إلى رطوبته وطراوته، وهو يرى بلون أزرق فيروزي مشوب بالأسود – الأبيض، ويعرف لدى الجميع بالسماء، نحن لا نرى شيئاً آخر في الفلك الذي ندور فيه، النقي الصافي الشفاف، إلا أن منظر الهواء في عمقه يشبه بلونه العميق، لون غمر البحار الأسود العميق، على هذه الصورة كون الجلد بأمر الخالق، وفصل، كما قال الله، بين الماء المنسكبة والمحيطة بالأرض، وبين تلك التي فوقها، والتي كانت مختلطة بالهواء وقد جعلت وإياه طبقة ترابية ثابتة، تتوسط الهواء النقي، وهذا المحرق الملتهب المعروف بالأثير، وهكذا دعا الله هذا الجلد سماء، كما جاء في الكتاب، ورأى الله ذلك حسناً، وكمل اليوم الثاني .

ونعلق على هذا الأمر كما علقنا على الأمر الأول فنقول : أننا ننسب عبارة “قال الله ليكن جلد” الواردة في الكتاب، إلى الله الأب خالق الكل، وهي موجهة إلى الابن الوحيد المساوي له في الأزلية والسرمدية والقوة والارادة والخلق، بصفته حاذقاً، حكيماً، عالماً، خالقاً مبدعاً، قوياً قادراً على كل شيء، أما عن عبارة “صنع الجلد” أو كما هو مدون “دعا الله الجلد سماء”، والتي هي بديل عن أبدع وخلق، فنقول : أنها تنطبق تماماً على الابن بصفته حكمة وقوة الله الأب، وهو، كما يقال، يمينه وذراعه أيضاً، وما قيل من أنه به خلق الكائنات وأبدع العالمين هو حق، وهو الذي كون هذا الجلد وأبدعه، أي خلقه بحيث تعلوه السماء، فقد كتب في المزامير “بكلمة الله خلقت السموات، وبنسمة فيه كل قواتها”، على هذه الصورة كون هذا الهواء البالغ النقاوة حول المياه وحول الأرض وفي داخلها، بأمر الكلمة الخالق لكي يرى جلداً ويدعى سماء، وهكذا رأى الله ذلك حسناً، فسر به وفرح كما كتب، إذ أعده بصورة ملائمة للسكونية وليعيش الحيوانات فيها، وسهلاً لاستنشاقها بمرونته ونقائه، فهذا الهواء النقي الصافي الذي نعيش فيه يدعى سماء، نظراً إلى غمق لونه المائل إلى السواد، لذلك فالطيور التي تحلق وتسبح به مثل السمك في الماء، تسمى طيور السماء، ليس فقط من قبل عامة الناس، بل ومن قبل الكتاب المقدس أيضاً، نظراً إلى عمقه واتساعه الهائل، فأن هذا الجسدي (الإنسان) الضعيف لا يستطيع أن يتفحصه أو يخترقه برمته لكي يرى الهواء المائي الرطب الذي فوقه، أدعى أحد امكانية اختراقه بسبب صفائه وشفافيته ورقته، حتى الوصول إلى ذلك المائي، قلنا : أن عمق هذا وذاك الذي نراه فوقنا كلون أسود، أبيض، هو ما دعيناه نحن البشر وندعوه سماء، وهو يدعى كذلك في كل لغة ولدى كل شعب، وكما قلت، أننا نشاهد ما هو باد لنا من فوق والذي اعتدنا أن نسميه سماء، ولا يجب أن يعتقد أنه شيء آخر أكثر من كونه عمق الهواء الذي يعلونا.

ومثلما تحدثنا عن الهواء أي السماء، لنتحدث أيضاً عن أمور أخرى تتبادر إلى الذهن بغية تنوير من يطلع عليها، فنبدأ بالحديث عن هذا التكوين المسمى سماء، ومن ثم عن كل ما نراه يدور فيه، فنقول : أن لفظة “سماء” ليست آرامية أي لغة بين النهرين، لكنها مستعارة ومأخوذة من لغة العبرانيين ونستعملها منذ زمان بعيد وكأنها من لغتنا، وهذا ما لا يعرفه الكثيرون من المتكلمين أو القراء أو الكتاب، ولكونها مقتبسة فلا فرق بين مفردها وجمعها، وأما من حيث المعنى فتستعمل جمعاً ومفرداً عندنا وعندهم سواسية فنقول عن المفرد سماء وكذلك نقول سماء عن الجميع، وليس بوسعنا أن نغير هذه اللفظة لأنها دخيلة كما قلت وليست من خصائص لغتنا، أما بالنسبة إلى العبرانيين أصحاب اللغة الأولى التي تكلم بها آدم فيستعملونها مفرداً وجمعاً شفهياً وتحريرياً، ففي المفرد يقولون “شوماً ” وفي الجمع “شوماييم” وقد ترجع هذه اللفظة في أسمها وتركيبها إلى كلمة “ماء”، فمفرد الماء عندهم هو “مو”، والجمع ” ماييم ” وهذا يتناسب وصياغة هذه الكلمة من منظر الجو الأبيض – الأسود والماء الذي فوقه المختلط بالهواء والمكون وإياه شيئاً واحداً يحمل لوناً أزرق سماوياً، وهو الذي ندعوه سماء، وهو مركب من الهواء والماء، وهذا هو مفهوم اللفظة المركبة عند العبرانيين، أما عند اليونان الذي يهتمون هم الآخرون بمثل هذه الأمور، فتسمى هذه اللفظة “أورانوس” ويعطي مفهومها عندهم معنى الحد الأعلى، ونحن نعرف السماء أما بالحد الأعلى كمفهوم اللفظة اليونانية، أما أنها جسم مركب من الهواء والماء كاللفظة الأخرى المستعملة أعلاه، أو أنها هواء مضغوط وكثيف ومكين وثابت وصاف ونقي، وهو منتشر فوقنا وغائر وعميق ولونه أسود – أبيض، ويستقر تحت الهواء الرطب والمختلط كما سبق وقلنا، أما بالنسبة إلى طبيعة وقام السماء وتكوينها ومضمون أسمها، فقد أوفينا، كما أعتقد، حق ذلك من الكلام، أما بالنسبة إلى ما نراه يحدث في هذا الجو أي السماء، فسنوضح ذلك تدريجياً على قدر المستطاع .

نلاحظ مرات عديدة تكوين سحب كثيفة بغتة، في أعلى هذا الجو النقي الصافي، دون أن تحتوي على أبخرة رطبة، وتوهجات ترتفع من الأسفل، قليلة كانت أم كثيرة، لكنها تثقل وتذوب من جراء ذوبان وجريان ذلك الخليط الرطب الذي فوقه، نقول: حينما تشب، بأمر مدبر الكل، ريح شرقية أو جنوبية، تظهر في البداية وكأنها حبات الماس، ولكن بعد أن تزحف نحو الغرب أو الجنوب تدريجياً وتتكاثف السيول الرطبة تأتيها اضافات من هنا هناك، فتكبر وتشاهد بصورة واضحة، وتغطي منظر السماء كله، كما أنها ترى بسهولة عندما تتبدد وتأخذ بالتلاشي وتغيب عن الأنظار ببطء، ويبتلعها الفضاء وتصير كأنها لم تكن بعكس تركيبها الأول، وعندما يأمر المدبر، وتهب بغتة رياح شمالية وتسوقها نحو الجهة الجنوبية، يلاحظ نشوء السحب في الجو من الهواء الرطب والمائي الذي هو فوق هذا الهواء الجاف الصافي الذي يحيط بنا، ويشاهد نشوء السحب من الهواء الرطب والمتخلط، كما يشاهد تلاشيها بنفس الكيفية.

ويتكون نوع آخر من السحب في الصيف، عندما تهب رياح غربية فوق القمم العالية، فيرتفع الهواء إلى أعلى قمة في سائر الجبال الأخرى حتى طبقة الهواء الرطب المائي، وأنا شخصياً رأيت بأم عيني مرات عديدة، تكوين مثل هذه في قمة جبل في منطقة انطاكية حيث كنا نسكن، فكانت تتكون في أعلى طبقة الهواء إلى الغرب من تلك القمة العالية على بعد غلوتين أو ثلاث، من الجبل، وكانت تظهر خفيفة أو كثيفة، أو كراحة يد الإنسان بحسب تعبير الكتاب وعندما كانت الريح الغربية تقودها نحو القمة تدريجياً، كانت تكبر وتظهر بوضوح أكثر، وغزارة حتى تغطي الجبل كله وتبلله أحياناً بالمطر الخفيف الذي تحمله، وعندما تحركها الريح نحو الجهة الشرقية، تأخذ بالتلاشي في الجو تدريجياً كلما ابتعدت عن القمة وعن الهواء الرطب، فتصبح كلياً كأنها لم تكن، ولكي يتفهم الناظر أكثر نقول: بالنظر إلى رطوبة الهواء الذي في القمة العالية، فأنها كانت تتكون وتشاهد بكثافة ودكنة، وعندما تبتعد عنها، كانت تتناقص وتتلاشى.

وتوجد مع السحب في الجو أي الجلد، بروق نارية مضيئة ورعود مرعبة وصاخبة، وهي تحدث بأمر الخالق الذي خلقها على هذه الهيئة. فعندما تصطدم الخصائص المضادة الواحدة بالأخرى في الجو، خاصة أثناء الخريف أو الربيع، مثل البرودة والحرارة: تتكون صواعق محرقة وقاتلة ومهلكة، كحمى غضب المدبر الذي ينزل لتأديب الخطاة، أو لتحذير الآخرين كي لا يخطئوا، وفي الليالي، تظهر في الجو شهب نارية مضيئة، وتتطاير في مختلف الجهات كسهام طائرة، ويسميها الكثير من السذج، كواكب سيارة، ويحدث مثل هذا أحياناً ولا سيما عندما يريد الله المدبر أن يجري تغييرات في سلطات الشعوب، وتكون بمثابة تأديب أو تخويف للكثيرين الذين يخشون مثل هذه المناظر، وقد تكون علامة يعطيها لخائفيه كما كتب لئلا يهربوا من أمام السهام، أو بأنواع أخرى خفية قضى تعالى بعدم استقصائها، وتظهر كذلك علامات أخرى مخيفة وراء الشمس في الشرق تحمل أشعة مضيئة وتنبعث منها شبه جداول بيضاء كأضواء ساطعة، لبعضها شكل المكامح، وللبعض الآخر شبه الرماح أو شبه ديدان طويلة، كما يوجد في مؤخرة البعض ما يشبه الكواكب، ويظهر غيرها أو تحتها أو إلى جانبها وكأن لها شعراً، وبناءً على هذا فأن اليونان يدعونها مذنبات أي شعرة وملتحية ودودية، وهي تقف وترى في هذا الجو أي السماء، وتتحرك في جميع أجواء الفلك خلال أيام معروفة، كما يحسن للمدبر القابض على زمام هذه القضايا كلها، وبارادة المدبر أيضاً تصاحبها أحياناً في الليل أشعة مضيئة تشبه لهيب نار المواقد، وتقف في إحدى الجهات دون أن تتحرك من مكانها إلى أي اتجاه، وتظل هكذا بضعة أيام، وقد يكون حدوث هذه الظاهرة من قبل الله لتخويف الناس، أو علامة حدوث أمر ما في المستقبل.

لقد تحدثنا بإيجاز عن البروق والرعود والعلامات النارية والأشعة المضيئة التي تظهر في الجو  .

أما بالنسبة إلى السيول التي تنزل من الجو ساقطة على الأرض فنقول : أن السحب التي تتكون من رطوبة الهواء المائي المختلط بالماء، كما سبق وذكرت، تتجلد بواسطة الرياح التي تهب عليها، وتمتزج الأبخرة الكثيفة بعضها بالبعض، فتصير أكثر كثافة وتكبر وتكون قطرات كبيرة إلى درجة أن رخاوة الهواء لا يعود بامكانها أن تحملها، فتنزل ماء كالاسفنج الذي يعصر، مكونة طلاً ومطراً ورذاذاً ناعماً ورقيقاً، وأحياناً، أمطاراً غزيرة ومتواصلة، وحينما ترتفع تلك السحب إلى الأعلى ويكثر تحتها الهواء البارد وترافقها رياح شديدة، تحدث فيها بروق ورعود وتتكون فوراً قطع البرد أو برد دقيق، وإذا لم تكن عالية الارتفاع، وكانت خالية من هبوب الرياح تماماً، فيتكون منها آنذاك أما ثلج مصحوب بالبرد الشديد القاسي أو مطر ثلجي هادىء ورقيق غزير المياه، إذا كانت برودتها قليلة.

وبالإضافة إلى ما سبقنا فتحدثنا، نتحدث الآن عن السيول الحلوة والساخنة التي تنزل من الجو في أثناء الصيف، والتي تتكون في الربيع من النباتات الحلوة والغرسات والأشجار ذات الطعم الحلو اللذيذ، والجذور والزروع والأعشاب، وفي نهاية الصيف والخريف، تتصاعد إلى الجو من الثمار التي نضجت بحرارة الشمس: عطور كثيفة ومنعشة جداً وطيبة، وتتكاثف وتنضج أكثر بالحرارة المخزونة في الجو الذي تتساقط منه مادة حلوة عسلية تشبه قطرات لينة تسمى المن الأبيض الذي يستقر على أوراق الأشجار على مثال المن الذي انزل الله الذي يعنى بشعب اسرائيل في البرية، وعندما يأمر الله أن تتصاعد من الغبار الذي على الأرض، أبخرة ممتزجة بذرات التراب، وترتفع إلى الأعلى حتى تصل الهواء الرطب المائي فتختلط به، يشاهد تراب خفيف ينزل مع المطر ويستقر على الحجارة وأوراق الأشجار، كما تروي قصص كثيرة مدونة، وقد رأيت بأم عيني كيف أن الله صنع مثل هذا من أجل تأديبنا وتبكيتنا بسبب خطايانا وآثامنا، ولا يزال هناك بعض الناس الأحياء الذين رووا، كيف شاهدوا ثلجاً أحمر نازلاً من الجو أي السماء، ومعروف أن هذا تكون بالكيفية التي ذكرناها، ويقولون : لما سقط على ثلج آخر سقط قبله، استمر لونه متميزاً عن ذاك أياماً كثيرة، وحينما يشاء الله المدبر أن يؤدبنا بسبب آثامنا، يأمر، فتتصاعد توهجات وروائح سمجة وأبخرة متأتية من أعشاب ضارة وأشياء أخرى من الأرض لها خصائص ضارة، فتختلط هذه بالرطوبة التي تسبب الرذاذ، فتنزل على الزرع والقمح في الربيع، مطراً ضابطاً يشبه الغرين، ويتساقط على السنابل اليانعة والحديثة النمو والغثة التي لم تسمن بعد، ويهلك الزروع كي لا تأتي بالقوت، إذ يغطيها وأوراقها وقصبات سنابلها، ولما يجف يصير ذات لون فاسد مثل أدران الزعفران والجدري، ومن المعروف أن العشب يكون مريضاً في عرف الشعوب إذا صار لونه مثل هذا، فهو كالمرض الذي يطرأ على أجساد الناس ويعرف لدى الأطباء باليرقان .

وإذ تحدثنا بصورة عابرة عن السيول الرطبة الساقطة من الجو، يجب ألا يغيب عن بالنا الكلام عن تحركات الهواء المرن والقابل للذوبان، والرياح التي تتكون بسببه، فليعلم جميع الذين لا يعلمون : أن جوهر الهواء أي طبعه شيء، وطبع الرياح شيء آخر، ولضرورة البحث تدعو الحاجة إلى إعادة تحديد وتعريف الهواء فنقول : هو جسم رقيق شفاف ومرن، بل هو أكثر لطافة وشفافية من سائر الأجسام، أما الرياح فليست هواء، بل هي حركات الهواء إلى هذه الجهة أو تلك، وانتقاله ومروره من مكان إلى آخر، وليعلم جميع الناس، السذج منهم وغير المثقفين، والذين يقرأون أو يسمعون، بأن الذي يتحرك هو شيء آخر غير حركته وجريانه، مثلما أن المياه هي شيء آخر غير حركتها وجريانها الذي يشاهد، أما في الأنهار أو الجداول والقنوات والروافد.

  أسماء الرياح

تتكون تلك الرياح أي النسائم حيث يوجد الهواء، ومن الهواء ذاته عندما يتحرك وينساب ويتنقل من مكان إلى آخر ويتموج كتموج المياه، ويدفع بقوة الأجسام الأخرى التي تصادفه، بشكل أو بآخر، كما يروي علماء الطبيعة ويشهد العديد من الناس الذين شاهدوها، فأن الرياح تتحرك بالهواء من الجهات الأربع كما نلاحظ، من الشرق والغرب والجنوب والشمال، وكثيراً ما يدعونها بأسماء تلك الجهات، ويسميها جميع الناس رياحاً ويعتبرونها رئيسية، وهذا أمر معروف لدى الجميع .

فقد اعتدنا أن نقول: رياحاً شرقية وغربية أو جنوبية وشمالية، كما يطلق الناس على الأنواع الثمانية الأخرى من الرياح، توجد بين الرياح الأربع الرئيسية التي عرفناها، فلكل ريح رئيسية نوعان من الرياح الأخرى تحيط بها من جانبها وتهب بشكل منحرف ومن الزوايا مثل الريح الرئيسية، ولكل من الشعوب تسمياته وأسماؤه أطلقها عليها متخذاً إياها من أمكنة شهيرة أو جبال معروفة، إذ لم تكن لها تسميات طبيعية معروفة، مثل الرياح الأربع الرئيسية، ولكي لا تبقى مصادرها غامضة نقول: أن الشرقية والغربية أخذت من شروق الشمس على الأرض في الشرق وغروبها في الغرب، وأخذنا تسمية الرياح الجنوبية كما فعل غيرنا من الشعوب من قدماء العبرانيين أصحاب اللغة الأقدم، حيث أطلقوا عليها هذه التسمية مأخوذة من مدينة تيمن التي شيدها أبناء تيمن، أو من أولئك المنحدرين من ابن اسماعيل أو المنحدرين من ابن قاطورة، أو من ابن عيسو، حيث دعي الثلاثة باسم تيمن، وهي تقع جنوب المكان الذي سكنه العبرانيون، وهكذا يبدو أن هذه الريح سميت جنوبية عند العبرانيين وعندنا نحن الآراميين، أما الشمالية فلا ندري لماذا سماها قدماء الآراميين كذلك، هكذا سمى الناس الرياح الأربع الرئيسية،

أما الجانبية والمنحرفة، فأن تسمياتها تؤخذ كما قلت، من البلدان والأمكنة التي تهب منها، مثال ذلك: رياح ما بين النهرين، أو الرهاوية أو ريح أرمنية وريح مؤذية وريح صحراوية، وتسميات أخرى كثيرة ومتنوعة، بحسب ما اعتاد كل واحد أن يسمي، وقد ورد ما يشبه هذا في الكتب الالهية، وفي كتابات الأقدمين، حيث أخذت تسميات الرياح من الأمكنة، كتلك الواردة في المزامير، في قوله عن الله، “اهاج شرقية في السماء وساق بقوته جنوبية وأمطر عليهم لحماً مثل التراب وكرمل البحر طيوراً ذوات أجنحة”، وكتلك التي وردت في المزامير أيضاً، “ومن البلدان جمعهم من الشرق ومن الغرب من الشمال ومن البحر”، ومن المعروف أن صاحب المزامير استعمل كلمة البحر تعبيراً عن الجنوب حيث اعتاد العبرانيون أن يستعملوا كلمة “بحر” بدلاً من “الجنوب” لأن البحر يقع في الجهة الجنوبية من بلادهم، وكذلك ما جاء في أعمال الرسل “هاجت عليها ريح زوبعية يقال لها اوروكليدون” أي مع موج من جهة اوروس هي التي تقع جنوبي الشرق وتجاوره إذا ما انحرفت قليلاً، وقد أوردت الكتب التاريخية وبخاصة اليونانية، قضايا كثيرة أخرى مثل هذه، وأرى من الضرورة بمكان الاشارة هنا إلى تسميات الرياح الثماني الباقية أي النسائم، كالتسميات التي وضعها قدماء اليونانيين، بعد تسميتهم للأربع الرئيسية .

فيجب أذن أن نضع ترتيباً مناسباً ومتسلسلاً لهذه الرياح الاثنتي عشرة كما فعل اليونانيون، وها أني أتحدث عن الأربع الرئيسية التي سبق ذكرها، وإلى جانب الثماني الأخرى التي سنتحدث عنها، وهي بحسب الترتيب: الشرق ثم اوروس وتقع إلى جنوبه وتهب شتاء من جهة شروق الشمس، والثالثة أورنتوس، والرابعة الجنوب، والخامسة ليباناتوس، والسادسة ليبا، السابعة الغرب الذي سماه بعض قدماء الكتاب زوفاروس، الثامنة يافوكوس، التاسعة ترافياس، العاشرة الشمال، الحادية عشرة قباقياس، الثانية عشرة والأخيرة افيلوتيس، وهي من شروق الشمس صيفاً، هذه هي الرياح العامة في العالم بأسره التي تهب لدى تحرك الهواء وتسمى بأسماء الجهات التي تهب منها .

وتهب رياح أخرى كثيرة ومتنوعة، منها ما يهب من جبال عالية مغطاة بالثلوج وتستمر طوال الصيف، وأحياناً تنحرف في سيرها نظراً إلى وضع الجبال المنحرف، وغيرها تتحرر من الأرض وتندفع صاعدة بشدة، أو أنها تتصاعد من هوة عميقة، وأخرى سريعة تسبق حدوث الرعود المخيفة، وهذه وقتية، فقسم منها يتكون في الصباح وتكون هادئة، في حين يهب قسم أخر عصراً فقط ويكون سيرها مستقيماً، وقد تكون هادئة أو عاتية، ويكون سير بعضها دائرياً، ويسميها الكثيرون زوابع وأعاصير، وكثير من هذه الأعاصير الشديدة والعاتية والمهلكة، يعزى إلى غضب الله، فهي تدمر حتى الأبنية العالية والراسخة، وتقتلع النباتات من أصولها، وتحطم الأشجار الضخمة بقوة عاتية غاضبة، وقد حدث مثل هذا في أيامنا وشاهدنا بأم أعيننا ما خلفته من رعب ومخاوف في نفوس الذين سمعوا ولم يشاهدوا، تفوق الوصف، وكانت تقلع الأشجار الضخمة وكأنها تقلع نبات السعد من الأرض وتدور بها في الجو ثم تلقي بها على الأرض، وكانت تتدحرج الضخور الكبيرة العسيرة التدحرج مثل الحصى الناعم، وتجرف كل ما يصادفها كالهشيم اليابس، حيوانات كانت أم نباتات، خشباً كانت أم حجارة، وكادت تطيح حتى بالأبنية وتسويها مع الأرض لو سمح المدبر واللطيف بالعباد أن تصطدم بها .

وهناك تغييرات أخرى للرياح وهبوب الهواء، فبعضها باردة بحسب أبخرة الأرض وبرودتها، وتكون الجليد والصقيع والجليد الخفيف المرشوش على الأرض كالرماد، وأخرى ساخنة وشديدة الحرارة بقدر ما تكونها الشمس من حرارة الهواء، وهي تنعش الحيوانات والنباتات، وتربي الزروع والبقول وسائر النباتات على الرض، وقد تتحول هذه أيضاً إلى ضارة وقاضية على كل شيء إذا شاء المدبر، إذ يأمر أن تهب حارة أو باردة أكثر من المعدل، تلك التي تحول الماء حجراً وتجمد الأنهار الكبيرة وتمنع جريانها، وتقضي على ما فيها من الأسماك، وتقتل الحيوانات والطيور والدبابات التي على الأرض، وتيبس الأشجار والنباتات حيث تقضي على ما فيها من طبيعة الإنماء، أو عندما تكون في الهواء رياحاً مهلكة تولد الأوبئة، حيث ينتشر الوباء عندما تستنشقها الحيوانات أو البشر فيموتون .

  أهمية الهواء في الطبيعة

ولئن تحدثنا عن تحركات الهواء كثيراً، إلا أننا نعود للحديث عنها ثانية لتكون أكثر فائدة لمن يقرأها، ويتناول الحديث التعقيب التالي: لماذا اقتضت الضرورة أن يتحرك الهواء بصورة مستمرة ولا يكون مستقراً مثل الأرض، ويقتصر على رقته وقابليته للذوبان واستنشاقه؟

بهذا الصدد نجيب: أن لتحركه ورقته وذوبانه فوائد جمة، وهي ضرورية جداً لجميع الكائنات الجسمانية .

أولاً : لو لم يخلق متحركاً وقابلاً للذوبان ورقيقاً، لما تمكنت الأحياء من استنشاقه بسهولة .

ثانياً : لو لم يخلق رقيقاً وقابلاً للذوبان ومتحركاً ليبتعد عنا ويفسح لنا المجال لنواصل سيرنا، ويملأ الحيز الذي نتركه كلما انتقلنا من مكان إلى آخر، لما أمكننا أن نتحرك، لأننا وجميع الأجسام الأخرى نتحرك بواسطته، مثل الأسماك في الماء الذي يتراجع تدريجياً وبسهولة ليملأ الحيز الذي تتركه لئلا يبقى فارغاً، على هذه الصورة كون الله هذا العالم وهيأه بيتاً كبيراً للإنسان الذي كان مزمعاً أن يخلق فيما بعد .

ليس فيه مكان فارغ تماماً دون أن يكون فيه جسم ما من أحد العناصر الأربعة، أو أجسام أخرى مركبة منها، مثل الزق المنفوخ الذي صنع كما أسلفنا، بصورة لا يمكن أن يكون فيه مكان فارغ وهو منعقد وليس بإمكانه أن يسع أكثر مما وضع فيه إلى جانب الهواء، فإذا صادف وأن تحرك ما في الزق، فأن الهواء الذي في داخله يتحرك ويفسح له المجال ليتحرك داخله بسهولة ويملأ الفراغات التي يتركها داخل الزق، هذا ما يجب أن نفهمه ولا شك، عن هذا الزق الكبير الذي تنحصر فيه كل الكائنات الجسمانية التي تحتاج إلى مكان تتحرك فيه، وهذا هو ما ندعوه جلداً متيناً وثابتاً بصورة متكاملة وسليمة، وليس فيه مكان فارغ، كما لا يمكن أن يستقبل شيئاً أكثر مما حصر فيه منذ البداية، الأمر الصادر عن القوة الخالقة، ومما لا ريب فيه، أن أي مكان في هذا الكون، زق الأشياء الجسمية، لا يوجد فيه سوى جسم واحد، أما التراب أو الهواء أو النار، أو جسم ما متكون من هذه، فلا [ يعطي ] أحدهما مكاناً لخدنه، حيث لا مكان فارغ في هذا الكون، إلا إذا كان هناك تبادل متعادل وعادل من حيث القوة والمرور، أي عندما تتبادل الأمكنة مع بعضها البعض، ثم تنفصل عن بعضها البعض وتتراجع دون أن يكون هناك غالب ومغلوب، ويمكن مشاهدة هذا بالعين، إذا أخذنا إناء فارغاً ذا فوهة ضيقة مثل الإبريق أو الكوز أو قلة زجاجية، وغطسناه بالماء بقوة، نشاهد الماء والهواء يتفاعلان في مدخل الإناء الضيق، فالهواء يحاول الخروج منه، في حين أن الماء يحاول دخوله، وكل واحد يحاول احتلال مكان الآخر، وكذلك عندما نلاحظ الحجامين وهم يضعون حجاماً على أجسام الناس حيث لا يوجد ولا يمكن أن يوجد مكان اضافي أو فارغ، وعندما يتنقل جسم النار الرفيع داخل الحجامة حيث لا مجال لدخول الهواء الرقيق والقابل للذوبان، لذا كان لا بد أن ينتزع حالاً المكان الفارغ داخل الإناء ليدخل ويملأ اللحم الطري الذي تغلغل بواسطته.

وهكذا نرى أن ليس في هذا الكون، مكان خال، وأن حركة الهواء وذوبانه ورقته أمر ضروري، وبوسعنا أن نعرف أيضاً أهمية حركة الهواء من المياه الراكدة في مكان ما دون أن تتحرك، فأنها تلسن وتصير غير عذبة وصالحة لشرب الناس والحيوانات، فكذلك هو الأمر أيضاً بالنسبة إلى الهواء إذا استقر ولم يتحرك فأنه يفسد ويصبح كريهاً ومسبباً للمرض وغير صالح لاستنشاق الناس والحيوانات، فيسبب ضيق النفس والاختناق ومرض الكآبة وضغطاً في قلوب الذين يستنشقونه .

أما إذا تحرك باستمرار، وكون رياحاً ونسائم منعشة، وجذب بتحركه البرودة المتكونة من بحار الأرض والرطوبة المعتدلة المتصاعدة من أبخرة المياه، وحرك الأشياء المختلطة به، وغيبها بالحرارة التي ازدادت به إذ كان هادئاً وجعلته سبباً للمرض وضيق القلب، وطرد الروائح الكريهة التي أفسدته، والأمراض التي ولدتها هذه الروائح بواسطته، فيصبح آنذاك منعشاً ومقبولاً وطيباً، وشافياً ومقوياً لأجساد البشر والحيوانات، ويحركها بحركته، كما يحرك النباتات والأشجار وأوراقها.

وعندما يكشفها ويحركها ويتغلغل بينها يغذي وينمي ثمارها ويجعلها لذيذة وذات نكهة طيبة، وعندما يحرك الطيور التي تسبح فيه كما يسبح السمك في الماء، يبدو سهلاً وسريعاً وقابلاً للاختراق، فلو لم يتحرك لثقل وتعسر، وبجهد جهيد تتمكن أجنحة الطيور من اختراقه، ولا سيما الطيور الكبيرة ذوات الأجسام الضخمة، فمن هذه الأشياء وأمثالها تبدو ولا ريب، ضرورة حركة الهواء والرياح والنسائم التي تتحرك بواسطته، وبالعكس فأن سكونه المكثف وعدم حركته يسببان أضراراً وأمراضاً،

وللهواء تغيرات أخرى في تحريكه للرياح والنسائم، كما يروي الخبراء العارفون : أن الرياح في هبوبها على البحار، تختلف عن التي تهب على اليابسة، والتي تهب على الجبال، غير التي تهب على السهول، فهي تختلف ف النوع والخصائص والاعتدال، فالتي على ساحل البحر والأماكن الرطبة، غير التي تهب على الأماكن الجافة والصحراوية، وغيرها هي تلك التي تهب في البلدان الشمالية الباردة، وتختلف عن التي تهب في الجهة الجنوبية الحارة كبلاد الهند والحبشة، وأن الحديث عن كل التغيرات والأنواع والخصائص المختلفة والمتباينة التي يشير العلماء إلى وجودها أو احتمال وجودها في عنصر التراب أو طبيعة الهواء: هو حديث طويل عريض يفوق الطاقة والعقل، والآن لنسترسل بالحديث دون تحديد، ونحاول جمع مختلف الأسماء والألفاظ والكلمات الكثيرة، مما يخص هبوب الرياح، ونلاحظ أن الله الخالق قد جعل من الهواء محركاً لمختلف الأشياء والأمور الأخرى المرعبة والمثيرة للعجب وغير مدركة وفائقة للوصف، والتي قد تكون أحياناً في خدمتنا، وأحياناً اخرى لتأديبنا، وذلك بمقتضى ما يحسن لحكمته وتدبيره العجيب وعمق أحكامه غير المدركة، والشيء الوحيد الذي يجب أن نعرفه هو أن نكتفي بالقول: أن كل ما صنعه حسن وجميل كما ورد في الكتاب المقدس، فالله لم يأت بشيء عبثاً أو غير صالح، وأنه لمن الضروري ولا شك أن الخالق يتحرك فيأمر بتكوين الأسباب الطبيعية الصحيحة والحقيقية لهذه الأشياء حيثما وكيفما شاء، وهذا ليس من شأننا ولا يقع تحت إدراك العقل والمعرفة البشرية، وهذا هو شأننا أيضاً كما أعتقد، بالنسبة إلى الطبيعة المخلوقة الناطقة برمتها، والأمور الأخرى العديدة غير المدركة، فهذه كلها ننسبها إلى معرفة حكمة ذاك الذي أوجدها بهذه الصورة، والذي يدبر الأمور بحسب معرفته وبما هو لصالح الجنس البشري .

فمن أجل معرفة الخليقة الثانية الجسمانية والهيولية والتي تقع تحت قوى الحواس، وأعني بها المادة المركبة من أربعة عناصر هي: التراب والماء والهواء والنار، ومن أجل معرفة الاختلاف في خصائص كل واحد منها والفصل بينها. ومن أجل تكوين وتثبيت السماء والأرض وما يتوسطهما، وهو الجزء المكمل لهذا الكون الواسع، والجمال العجيب الرائع الذي يمجد خلقه.

 ومن أجل تصفية طبيعة عنصر النار المخلوق والمرتفع، وظهور النور المنبثق منه واستنارته .

ومن أجل تصفية وتطهير طبيعة الهواء، ذلك العنصر الموجود داخل النار وتحتها .

ومن أجل الجلد المتين والثابت الذي كون من هذا العنصر وفيه، وفصل بين المياه على الأرض وبين التي اختلطت بطبيعة الهواء، وقد أعدت لتكون محطة متوسطة في الهواء الذي فوقنا الرطب والطري ومرطب حرارة الأثير الذي فوقه، ومكون السحب .

ومن أجل أمور أخرى مدهشة خلقها الله بأمره وإرادته وقوته وتدبير حكمته، في طبيعة الأرض وطبيعة الهواء الذي نتنقل فيه، والذي هو فوقنا.

من أجل كل ذلك تحدثنا أيها الأخ العزيز محب العلم والحق، على قدر ما أوتينا من قوة وإرشاد الروح المرشد وواهب المعرفة والكلمة.

: كل ما في الكون من صنع الله

ولما كان كلامنا عن هذه الأمور لا يفي بالغرض، كان من الضروري أن نشفعه بكلام من الكتب المقدسة الموحى بها من الروح لتكون إزراً له ومصداقاً، ولكي تشهد وتعلن بكلمات وتعابير مقتضبة، أن السماء والأرض وما يتوسطهما هي أعمال عظيمة وجليلة لله العظيم الحكيم الماهر، والخالق القوي والقادر على كل شيء، فلنفعل أذن هذا، ونهيأ كلامنا للختام كما يقتضي ويتطلب الواجب، فبعد شهادة موسى الرجل الشهير والعجيب والمستحق التصديق التي تقول : “في البدء خلق الله السماء والأرض”، أرى من الضرورة أيضاً اقتباس شهادات بينة من رجلين آخرين أو ثلاثة ممن لهم كلمة مقبولة، دعماً لكلامنا، ليس من اجل استنارة وتثبيت وتقوية فكر القراء فحسب، بل لأمر أهم، ألا وهو بطلان وتبكيت الذين يهذون ويتجاسرون على القول: أن هذا الكون، أما ليس مخلوقاً أو أنه أوجد ذاته بذاته، أو أنه كون من قبل سبعة آلهة هي الكواكب المدبرة التي تتحرك في السماء.

وقبل كل شيء نورد شهادة الرجل الكبير والشهير المدعو قلب الله، الملك والنبي داود الذي أراد أن يعلم العباد كيف يمجدون الخالق، قال: “السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه، يوم إلى يوم يذيع كلاماً، وليل إلى ليل يبدي علماً…،” “للرب الأرض وملؤها، المسكونة وكل الساكنين فيها، لأنه على البحار أسسها وعلى الأنهار ثبتها…” “بكلمة الله صنعت السموات وبنسمة فيه كل جنودها”… الرب “صنع السموات… جلال وبهاء أمامه… قوة ومجد في مقدسه… من القدم أسست الأرض والسموات هي عمل يديك، هي تبيد وأنت تبقى وكلها كثوب تبلى وكرداء تغيرهن فتتغير” “بسط السماء كالخيمة … الجاعل السحاب مركبته الماشي على أجنحة الريح” … “المؤسس الأرض على قواعدها فلا تتزعزع إلى الدهر والأبد”، ويقول عن الله أيضاً “أسست الأرض وجعلتها ثابتة”، وفي وصيته بالشكر لله يقول: “الصانع السموات بفهم… الباسط الأرض على المياه”، فبهذه الكلمات يشهد داود على عظم عمل الله،

أما سليمان ابنه ووارث ملكه فتحدث بما يشبه تلك وقال: “الرب بالحكمة أسس الأرض، أثبت السماء بالفهم، بعلمه انشقت اللجج وتقطر السحاب ندى”، ويقول وهو يتحدث بشخص الكلمة الخالق الذي هو حكمة الله الخالق وقوته: “لما ثبت السماء كنت هناك أنا، لما رسم دائرة على وجه الغمر، لما ثبت السحب من فوق، لما تشددت ينابيع الغمر، لما وضع للبحر حده فلا تتعدى المياه تخمه، لما رسم أسس الأرض كنت عنده صانعاً”، أما أرميا النبي الذي تقدس من بطن أمه فيقول : “صانع الأرض بقوته مؤسس المسكونة بحكمته وبفهمه بسط السموات”، ويقول زكريا النبي: “وحي كلام الرب على إسرائيل، يقول الرب باسط السموات ومؤسس الأرض”، هكذا وبهذه الكلمات يشهد رجال الله هؤلاء الملهمون، على ما صنعه الله خالق الكل

بعد هذه الشهادات الموحى بها من الروح والتي جاءتنا على ألسنة البشر، نرى من الضروري والمناسب إيراد شهادة الله الخالق نفسه عن نفسه، وقد جاءت في حوار الله مع الرجل الصديق أيوب، حيث قال: “أين كنت حين أسست الأرض؟”، ثم يسأله: “من يحصي الغيوم بالحكمة؟”، وهكذا يكون كلامنا المتعثر تعثر كلام الأطفال، أيها الأخ العزيز ومحب الحق، قد تمكن، بما أعطي من قوة، من الحديث عن الخليقة الثانية الجسمانية التي خلقها الله الصانع، وهكذا أيضاً أطلعنا الكتاب المقدس بكلمات مقتضبة ويسيرة، على كيفية تأسيس السماء والأرض، وهذا كان الأسلوب الملائم، الذي كان عتيداً أن يتحدث عن تشييد صرح ملكي عظيم، وإذا به يختصر الحديث بعبارة واحدة هي: تم بناء الصرح الملكي دون أن يتطرق إلى كيفية إنشائه وتزيينه . فقد حفظ هذا لحديث آخر…

وهكذا زينا خاتمة كلامنا بشهادات حقيقية عن العمل العظيم الذي أنجزه الله القوي والخالق: من رجال عظماء وذائعي الصيت وممن يستحقون التصديق، كهنة وملوكاً وأنبياء، أولئك الذين تكلموا بروح الله الذي خلق كل شيء بقوته، وحرك بحكمته عباده لكي يتحدثوا عن عظمته ويخبروا عن خليقته، ذاك الذي له المجد والعزة والسلطان من جميع أعماله ومن أجلها، الآن وكل أوان وإلى أبد الآبدين، أمين .