مقدمة
أن الله الخالق والمعني بخليقته، جمل تكوينها بكل ما هو ضروري ونافع ولم يهمل شيئاً مما عرفت حكمته، أنه من مستلزمات هذه الخليقة المحسوسة والجسمانية، شأن الذين يبنون ويجهزون بيوتاً ملكي، فبعد أن ينجزوا الأبنية، ويزينوا الجدران والأعمدة والسقوف وأرضية البيت، ويهيئوا النوافذ التي منها يتسرب النور إلى البيوت التي يسكنونها، فأنهم يولون اهتمامهم بتجميل البيت بما يزينه ويجمله، من قناديل وسواها من أواني الإضاءة. هكذا أيضاً الله خالق هذا الكون ومبدعه، والمعني والمدبر بحكمته الإنسان جبلته الذي كان عتيداً أن يخلقه ويبدعه على صورته، ويقيمه سيداً على هذا البيت الكبير، مبدعاً السماء الصافية العجيبة سقفاً له، وزينه وجمله بهذا الجو الرائع الصافي المنير بدلاً من النوافذ، وجعل هذه الرض اليابسة الفسيحة ملائمة للسكن وعيش الحيوانات، ونظم فيه البحار والأنهار والينابيع بدلاً من القنوات. وإلى جانب هذ، أهتم بوضع الأنوار فيه بمثابة قناديل، لتنير ليلاً ونهاراً أمام الملك الساكن والحيوانات التي تخدمه – هكذا سبق الله الخالق وجمل وجهز هذا البيت بكل المستلزمات، من أجل الإنسان الذي كان عتيداً أن يخلقه صاحباً للمسكن. لذا فقد تابع الروح الذي نطق بلسان موسى قوله السابق قائلاً : “وقال الله لتكن أنوار من جلد السماء لتفصل بين النهار والليل وتكون لآيات وأوقات وأيام وسنين. وتكون أنواراً في جلد السماء لتنير على الأرض. وكان كذلك. فعمل الله النورين العظيمين، النور الأكبر لحكم النهار، والنور الأصغر لحكم الليل، والكواكب، وجعلها الله في فلك السماء لتنير على الأرض، ولتحكم على النهار والليل ولتفصل بين النور والظلمة. ورأى الله ذلك أنه حسن، وكان مساء وكان صباح يوماً رابعاً” .
هذا ما نطق به روح الله بلسان موسى الذي كتب عن تكوين هذا الكون وابداعه. وموضحاً أيضاً ابداع الأنوار التي خلقها الله في فلك السماء، وجعلها في هذا الكون – بيت الجنس البشري – بمثابة القناديل والمشاعل التي توضح في قصور المملكة.
ولما كانت هذه الكلمات من روح الله، استوجب ايضاحها واحدة فواحدة للذين سيقرأونها، مميطين اللثام عن مفاهيمها الخفية والسرية، أمام من يعنى بقراءتها من محبي العلم.
قال الروح: “لتكن أنوار في جلد السماء”. من هو ترى الذي قال “لتكن أنوار”، ولمن قيل هذا؟. يجيب الفكر الباحث المستنير المدرك للحق فيقول: أن الله الأب خالق الكل الذي لا يرى، والعقل غير المولود أو المخلوق أو المدرك، قال بصورة سرية إلهية، لكلمته الخالق المولود منه أزلياً الذي لا بداية له. الإله الأب يقول لأبنه الوحيد الإله القوي والقادر على كل شيء. ولقوته غير المدركة والقادرة على كل شيء، ولحكمته التي قالت: “كنت معه عندما خلق السماء.. وعندما وضع أسس الأرض كنت معه”. فالله الأب وجه كلامه إلى كلمته الذي هو قوته وحكمته وذراعه ويمينه وشعاعه الأزلي وجوهره، وهو قوي وقادر على كل شيء وخالق. وقوله: “لتكن أنوار في جلد السماء” كان موجهاً إلى هذا الذي به صار كل شيء. وبغيره لم يكن شيء مما كان. قال الله الأب والده: “لتكن أنوار في جلد السماء” فبقوله “لتكن.. في السماء” أشار إلى مكان وجودها الدائم. هذا ما قاله بصدد مكانها الذي كان يجب أن تنتظم فيه؛ ثم تحدث عن الغاية من خلقها فقال: من أجل الفصل بين الليل والنهار، ولتكون للآيات (للعلامات) والأزمنة والأيام والسنين. فقد أوكل الفصل بين الليل والنهار إلى كلا النورين، وحسن له أن يجعل النور الأكبر لحكم النهار، لأنه الوحيد الذي يستطيع أن يصنع النهار لدى وجوده فوق الأرض. والليل لدى وجوده تحت الأرض. وليس من شأن النور الأصغر أن يصنع نهاراً عندما يكون فوق الأرض، أو ليلاً عندما يكون تحت الأرض، وجل ما نستطيع أن نقوله عنه. هو، أنه يضيء في الليل فقط. لأن نور النهار بكليته هو من النور الأكبر، لذا كتب، أن الله عمل نورين كبيرين، النور الأكبر لحكم النهار والنور الأصغر لحكم الليل، موضحاً بهذا عدم قدرة النور الأصغر على الإنارة في النهار، لأن ذلك من صلاحية النور الأكبر، وأحياناً لا يضيء النور الأصغر حتى في الليل. كذلك أضاف كلمته “الكواكب” لدى ذكر النور الأصغر بأنه لحكم الليل، مشيراً إلى أن الكواكب تضيء حينما لا يضيء النور الأصغر ليلاً. هذا ما أعلنه كلام الروح عن كون النورين هما للفصل بين الليل والنهار، لذا فأنهما يفصلان بإنارتهما بين الليل والنهار، ويظهران لكل من له حاسة النظر، متى يكون الليل.
ثم يتابع الروح حديثه قائلاً : “وتكون لآيات وأوقات وأيام وسنين”. فاستوجب أن يشمل إيضاحنا هذا أيضاً. ولكن قبل أن نفعل يجب أن نسأل عن أسماء الأنوار ليأتي الحديث وافياً وواضحاً.. أن الروح لم يتطرق إلى هذا ولم يدرج لنا أسماءها في الكتاب المقدس، لكنه اقتصر على القول : النور الأكبر والنور الأصغر. مشيراً بهذا إلى تمايزهما واختلافهما وخاصة بالنسبة إلى حكم كل منهما. أنهما الشمس والقمر كما اعتاد الناس أن يسموهما، وعنهما قال: ليكونا للآيات والأزمان والأيام والسنين. فقد قال للآيات، لأن الله خلقهما ليصنعا للبشر: آيات عجيبة ومثيرة. بواسطة الأحداث التي تصادفها بين حين وآخر، كما يحدث للشمس من قبل القمر عندما يجتمعان ويسيران جنباً إلى جنب، إذ يقف القمر أمام الشمس ويحجبها عن الناس. أما بالنسبة إلى القمر فعندما يبتعد عن الشمس كثيراً إلى مسافة نصف الكرة، ويكون ابتعاد الواحد عن الآخر من جهات مختلفة ومعاكسة، يحرم من نورها. ويظهره لنا القمر، النور الأصغر، إلى جانب هذا، آيات أخرى بتغييراته وبأشكاله التي يشبه بعضها البعض، التي تتكون بسبب الزيادات والتناقص التي تطرأ عليه بصورة مستمرة. وما خلا هذه، فأن الشمس والقمر يصنعان آيات أخرى متنوعة ومدهشة. في السماء وفي الجو. فالشمس تكون قوساً مثيراً ومدهشاً يشبه نصف الكرة، وآيات أخرى يكونها بواسطة السحب التي يدعوها عامة الناس قوس قزح. وهناك آيات أخرى في فلك السماء فوق هذه، تدعى باللغة اليونانية : Lancena, Docides, Pogoniae, Cometae, Trabes, Slopae ومن آيات القمر، الطوق المستدير الذي يكونه في السحاب، وغيره من التغييرات، والأشعة المتباينة الألوان التي يكونها بواسطة الهواء الرطب، وفي الزوايا الكثيفة أو الخفيفة التي يشكلها خلال عملية اكتمال نوره أو تناقصه. وفي هذا الصدد أقول: هناك أمور أخرى يتشبث بها بعض من جربوا، ممن يعتقدون أنهم علماء حاذقون، ويعلنون عن إمكانهم التنبؤ عن أمور مستقبلية. لكنهم واهمون في اعتقادهم هذا، ويوهمون آخرين بأنهم يعرفون المستقبل، لكن بالحقيقة أنهم لا يعرفون، ولئن يعطون بعض الدلالات عن أمور قريبة الحدوث، عن الشمس والقمر مثلاً، وذلك بواسطة التغيرات الشكلية التي تحدث لهما في الجو الرطب أو الجاف الذي يقع تحتهما والقريب إلى الرؤية، وإذ أدرك بعضهم هذا، توهموا أنهم يستطيعون أن يعرفوا أموراً مستقبلية، فينبئون بها. وأحياناً يؤكدونها، لكن أقوالهم لا تتحقق دائماً، لأن الله المدبر يغير الأمور متى شاء عدة مرات خلال ساعة واحدة. ويكثر من الآيات المختلفة المدهشة، في الجو وفي الأنوار نفسها والتي لم تعرف فيها من قبل، بل لم تكن موجودة، ولم يشر إليها من قبل. فقد كتب، ما كتب حق، أن الله يعمل ما يشاء. وأن الشمس والقمر لا يستطيعان أن يلزمانا على أن نؤمن بما يظهر فيهما أو منهما من اشارات سبق وأنبأ بها ذوو الاختصاص. فالآيات تحدث عندما يحسن ذلك لخالقها المدبر .
الشمس والقمر وتحديد الزمان
.. أما بالنسبة إلى الأزمنة والأيام والسنين فأقول : أن كليهما (الشمس والقمر) وجدا من أجل تحديد الأزمنة بدروانهما حول هذه الكرة. فعندما تدور الشمس في كرة السماء باتجاه الغرب، تكون في دورة واحدة يوماً بأربع وعشرين ساعة، وبابتعادها عن الكرة باتجاه الشرق، وبدورة واحدة حول الكرة، تكون سنة بأربعة فصول، وبمدة ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً وربع اليوم أي ست ساعات. وبابتعاد القمر عن هذه الكرة باتجاه الشرق، وبدورة واحدة حول كرة السماء، يكون شهراً قمرياً، وتتم الدورة بـ 29 يوماً وأكثر من نصف يوم. وقد اتخذ العبرانيون واليونانيون من اسم القمر مجموعة شهرية. وحددوا الأوقات بفترات دورانهما حول كرة السماء بابتعادهما عنها…
أما الكواكب الخمسة المعروفة بالتائهة، فأن أحدها وهو المسمى كرونوس أي المشتري، يكمل دورته المعاكسة في المدار كله في مدة ثلاثين سنة. وأما المسمى زحل أي بعل فيكمل دورته في نحو 12 سنة. وأما المسمى المريخ فينهي دورته في الفلك بأكمله في خلال سنة وستة أشهر. وثمة اثنان آخران يسميان الزهرة افروديت وعطارد فأنهما يحددان الأوقات [كالشمس] على أساس الفترات السنوية. ويكملان دورتهما المعاكسة بالابتعاد عن مدار الفلك السريع أحياناً، أو بتقدمها احياناً أخرى. فتصير هي الأخرى مثل الشمس والقمر بالنسبة إلى تحديد الآيات والأزمنة والأيام والسنين، هذا ما يعنيه كلام الروح القائل: “وتكون للآيات والأزمنة والأيام والسنين” .
ثم قال: “وتكون أنوار في جلد السماء لتنير على الأرض”. فبعد أن يقول : وتكون أنوار في جلد السماء، يضيف: “لتنير على الأرض”. وبهذا يظهر أن الأرض فقط بحاجة إلى انارتهما وليس فلك السماء الموجودة فيه. ولا الله خالقها بحاجة إلى نورها، ولا خدامه المدعوون قوات سماوية، حتى ولا المكان الذي وضعت فيه، هذه هي حقيقة هذا الكلام. لكنها خلقت لتنير الأرض ومن عليها من البشر والحيوانات الذين كان الله عتيداً أن يخلقهم على الأرض. هذا ما قاله الله عن الأنوار التي خلقت في جلد السماء. وقال الروح، وللحال “كان كذلك”. فعبارة “كان كذلك” يجب ألا نأخذها اعتباطاً، دون ترو أو امعان، كما يفعل بعض الوثنيين الغرباء عن معتقدنا فنقول معهم أن الأنوار تكونت من ذاتها فجائياً وتلقائياً، أو أن نتساءل، من الذي أوجدها وثبتها في جلد السماء؟ بل علينا أن نتأمل بدقة وامعان بما قاله الروح بعد قوله: “وخلق الله نورين كبيرين”. إذ يجب أن يؤخذ ما قاله أعلاه: “وقال الله لتكن أنوار في جلد السماء”، وقوله هنا: “وخلق الله نورين كبيرين”، ببساطة وغباوة ودون ترو، فنردد ما يقوله اليهود عشوائياً : أنها دلالة وجود أقنوم واحد وليس أثنين كما يقضي الكلام ولا شك. فعلينا أن نعتقد بأن الذي قال: “لتكن الأنوار” هو أقنوم، والذي عناه الروح بقوله: “وخلق الأنوار” هو أقنوم أخر، فلم يكن القائل والمنفذ أقنوماً واحداً. وإلا لما كان هناك ضرورة ليقول الروح: “لتكن الأنوار”، بل كان يجب أن يقال: “لتخلق ولا لتكن الأنوار”، وأن يكتب الروح: “خلق الله الأنوار” دون أن يتطرق إلى العبارات الأولى .
العالم هرمس وخلقة الشمس
ومن المعروف أن الذي قال “لتكن الأنوار” كان الله الأب خالق الكل، قالها لكلمته الخالق والقادر على كل شيء، المولود منه أزلياً والمساوي له في الجوهر والقوة والخلق. وهو الذي خلق الأنوار، ويعرف مع الأب بالروح القدس. هو الذي خلق الكل وبغيره لم يكن شيء “بكلمة الله خلقت السموات وبنسمة فيه كل جنودها”. هذا هو مفهوم كلام على الأرض بأمر الخالق، لتكون طعاماً وحاجات أخرى للناس والحيوانات والبهائم والطيور وكل ما يدب على الأرض. وبصدد ذكر الحنطة والكرمة والزيتون نقول: أن الله قد أعطانا من هذه ما هو الأكثر ضرورة لحياة البشر، أعني الخبز والخمر والزيت، وأعطى معها سائر المواد الأخرى، مظهراً غزير صلاحه وعظيم صنيعه بالنسبة إلى كل الأشياء الكبيرة منها والصغيرة .
وبحسب روايات بعض من كتبوا، فقد خلق الله للجنس البشري أثماراً أكبر من التي عندنا في بلاد أخرى نائية – كالهند والحبشة وبلاد سبأ – ولكي نستطيع أن نستوعب هذا، أوجد عندنا الطرنج (السندي) الذي ينقذ ويحفظ بذره في ثمرته حفاظاً لنوعه ضمن غلاف شحمي كبير وثخين ودسم. ومن الأعشاب التي تنمو علىالأرض، ثمرة البطيخ الحلوة اللذيذة. كل هذه الثمار، وغيرها كثير أعطانا الله من الأرض التي أمرها بانبات العشب الذي يبذر بذراً لجنسه، وشجرة تصنع ثماراً تحوي بذرتها كنوعها وشكلها. وتلك التي أنبتت، بأمر الخالق، يعطي كل منها الثمر الذي زرعه، قوة طبعه بصورة طبيعية ثابتة، وبامكانه أن يحافظ على تسلسل نوعه الخاص بحسب طبيعته. فكل بذرة تحمل داخل الثمرة، سواء ثمرة الأشجار أم الأعشاب، خصائص طبيعتها والقوة التي تحفظ نوعها، وإذا أراد الإنسان أن يعرف الطبع بالنسبة إلى هذه الأمور، لا يسعه إلا أن يقول: أن الطبع هو ما وجد في شيء ما بصورة دائمية ثابتة سماه الإنسان قوة أو شيئاً ما مفيداً. فهو أبداً المصدر الأول لتكوين وتثبيت ذلك الشيء. ونظراً إلى ما فيه من خصائص، بامكانه أن يحرك أي شيء من اجل انبات نوعه، وأن يحافظ عليه لئلا ينتهي أو يتغير. بهذه الكلمات يعرف الطبع، وهي توضح قصد الله من قوله: “ليكن شجر مثمر” حيث عنى ذاك النوع من الشجر الذي يحمل بذرة بحسب نوعه. أي البذرة التي تحتوي على قوة انقاذ الذات وتثبيت طبيعة نوعه. ففي بذرة التفاح والسفرجل وما شابهها، وفي بذور جميع ما ينبت على الأرض : توجد قوة تكوين الطبع الخاص لكل واحد منها. وهكذا أعطى الله الخالق المعني بالجنس البشري، من الأرض كمن من مرضعة، ما يكفي من القوت ويناسب البشر والحيوانات التي تعيش معهم على الأرض، وطيور السماء وكل ما يدب على الأرض، حيث يفتح يده فيشبع رغبة كل حي، كما يرتل الروح ممجداً، فيعطي الحنطة لاستخراج الخبز الذي يسند قلب الإنسان، والكرمة التي بها يفرح قلب أن يتأكد الجميع بأن الله الأب وجه عبارة “لتكن الأنوار في جلد السماء” إلى كلمته الخالق، ومن ثم وكما كتب الروح، نفذ الكلمة الخالق ومبدع الكل، الإله القوي والقادر على كل شيء والمساوي لوالده في الجوهر، فخلق الشمس والقمر النورين الكبيرين، ومجموعات فائقة ومدهشة من الكواكب، فتحركت باشارة منه في فلك السماء لتنير الأرض وتفصل بين النور والظلام. وقد تم هذا بفعل الروح المساوي في الجوهر والقوة والخلق للأب المبدع وكلمته الخالق. على هذه الصورة جهز هذا الكون كما يجهز بيت الملوك، بالأنوار والمشاعل والقناديل، قبل أن يخلق الإنسان ذلك الملك الذي اتخذه مسكناً، ورأى الله أن كل ما عمل هو حسن كما سلم إلينا الروح الملهم والعارف بالأمور الإلهية .
الشمس لإنارة الأرض
يقول الروح في خلقة الأنوار: “أن الله جعلها لإنارة الأرض والفصل بين النور والظلام، ولتكون للآيات والأزمنة والأيام والسنين”. بعد استمداد العون من الروح، نقول كلمتنا، ترى ما الذي كان يقصده الروح بقوله في اليوم الأول: أن الله قال: “ليكن نور وكان نور”، وما الذي يقصده بقوله هنا: “لتكن الأنوار وخلق الأنوار” ؟ وهل من اختلاف بين نور ونور؟. وإزاء هذه التساؤلات نود أن نتحدث بالتفصيل التام عن الشمس وبقية الأنوار.
فمن المعروف أن الله عندما خلق في البدء السماء والأرض، خلق العناصر الأربعة في آن واحد، التي منها تكونت السماء والأرض. وما فيهما. وخلقت في الوقت نفسه خصائص كل عنصر. فإذن خلق مع السماء والأرض، الماء والهواء والنار وجميع خصائصها. ومن المعروف أن النور يتولد من النار، أو أنه صفة ثابتة فيها مثل الحرارة، قابلة للتحرك فوق أو خارج العناصر. كالظلام الذي هو الأخر صفة كامنة في الأجسام القيمة والصلبة والجامدة: كلياً في الأرض وجزئياً في الماء. فهذه خلقت منذ البدء مع العناصر، ولم يخلق النور فيما بعد مع النار. والظلام المظلل مع الأرض. فالظلام الذي ظلل جسم الأرض، ظلل جزئياً وبصورة شفافة. فإذن كان النور مع النار منذ البدء، كما هو الظلام مع الأرض والماء. عندما قال الله: “ليكن نور” كما سلم لنا الروح، لما قال: “ليكن” أي ليظهر وينجلي وينير، وكما قال أحد ملافنة الكنيسة القديسين : “أن قوله، ليكن نور، يعني أن يتغلغل النور المنبثق من النار إلى هذا الوسط الذي كان يسوده الظلام”. هذا ما تعنيه عبارة: “ليكن نور” التي نطق بها الله في اليوم الأول. فقد قيلت لكي يفسح المجال أمام النور لينير حلكه رطوبة المياه المنتشرة في الجو، فيطرد بدخوله المياه التي على الأرض، الظلام المنتشر على وجه الغمر، وحيث أن كل العناصر كانت في البدء متداخلة جزئياً مع بعضها البعض، لم تكن الأرض قد تنقت كلياً من الماء، ولا الماء من الهواء الممتزج به، ولا الهواء من بخار الماء، ولا طبيعة النار من الهواء الرطب الذي تجذبه إليها بواسطة الحرارة المرتفعة نحو الأعلى. لذا لم يكن نور النار كافياً أو متمكناً من اختراق الهواء الممتزج والرطب والقاتم، لينير الظلام السائد على وجه غمر مياه الأرض، لذلك قال الله الخالق المبدع: “ليكن نور” أي أن يتسرب من النار فينير ما هو فوق مياه الغمر بعد تنقيته. فمثل هذا النور كان يحيط الأرض من فوق ومن تحت، ويكون أصباحاً وأماسي في الأيام الثلاثة، شأن النار التي تنير عن بعد بفعل أشعة نورها .
على هذه الصورة اكتملت الأيام الثلاثة ولياليها، أي بالنور المنبعث عن النار، حيث كان الظلام المخيم على وجه الماء يدوران باتجاه معاكس لدوران الأرض، مكونين نوراً للنهار وعتمة لليل، مع ظلال الأرض المسماة بالظلام. فهذا النور لم يكن سوى شعاع النار المرتفعة، وكان ينير الجو قبل أن ينحصر ويتجمع بكرة واحدة متماسكة وثابتة. ولما حسن للخالق أن يكون في اليوم الرابع هذه الكرة المضيئة والنقية المسماة شمساً، وضع نوراً في فلك السماء لانارة الأرض، وهو النور المنبث من النار والذي صدر إليه الأمر لينير في اليوم الأول، وهو الشمس نفسها التي كونت في اليوم الرابع. وهكذا يتميز الواحد عن الآخر، مثلما يتميز شعاع النار الذي ينير عن بعد عنم مصباح ذي نور باهر، موضوع في الوسط، فشعاع النور الذي ينتشر في البيت ويلقي فيه أضواء خافتة، هو غير المصباح أو السراج الذي يجمل النور، فكم بالأحرى طبيعة النار المنيرة، فالنور الأول كان مجرد شعاع للنار، أما الشمس التي خلقت في اليوم الرابع، فلم تكن شعاعاً من نار، بل لها طبيعة النار النقية والنيرة ذات الفاعلية العظمى كما سبق البيان عنها. هكذا كانت هيئة الشمس التي خلقت كنور أكبر في اليوم الرابع، كما قال الروح الملهم، وفصل نهائياً بين النور والظلام وبين الليل والنهار. فلماذا أذن يقول الروح، أن الأنوار خلقت في اليوم الرابع؟ أن الجواب المناسب يحتفظ للنظرية العقلية لأنه من اختصاصها.
ويتساءل بعضهم عبثاً عن النور والظلام أيهما سبق الأخر في الخلقة، هل النور أم الظلام؟ نقول بهذا الخصوص : كانت الأرض والنار قد خلقتا سوية، وأن الأرض خلقت منذ البدء كقول الروح : “في البدء خلق الله السماء والأرض”، وتلك النار كانت النهاية الخارجية للسماء، وقد خلقت معها خصائص كل منهما، فمع الأرض خلق ظلها، ومع النار نورها، وظل الأرض هو الظلام، فمن هنا يتضح عدم جدوى السؤال حول أسبقية النور والظلام أحدهما للأخر، فلا نستطيع أن نقول أن النور سبق الظلام، أو الظلام النور، لأن الأرض والنار لم يسبق أحدهما الأخر في الخلق. بل أن جميعها خلقت وكونت في آن واحد بكلمة الخالق القادر على كل شيء، ولئن أدرج الروح عملية الخلقة بترتيب، مراعاة لما اعتاد إليه العالم، ولضعف السامعين، وقال: أن الأنوار خلقت في اليوم الرابع.
طبيعة الشمس
بعد هذا الحديث، يجدر بنا أن نوضح جوهر أو طبيعة جسم كل واحد من الأنوار، أي الشمس والقمر والكواكب، بقدر امكانية الفكر الباحث، وعن حجم وكبر وشكل اجسامها، وبعدها عنا وعن بعضها البعض، ومكان وجودها ووضعها من الكرة التي يسميها الكتاب جلد السماء. وبعد تأمل هذا الموضوع بشكل منطقي نقول: أنها أجسام وليست مجردة عن الأجسام كما تشهد الحواس، وكما يؤكد الرسول الإلهي بولس الحكيم إذ يقول : “يوجد أجسام سماوية وأجساد أرضية” فأنه يدعو الشمس والقمر والكواكب أجساماً أو أجساداً سماوية. ثم يتابع قوله: “مجد الشمس شيء ومجد القمر أخر، ومجد النجوم أخر، ونجم عن نجم يمتاز بالمجد” فأنه يدعو استنارة النور مجداً، وهي تتفاوت من واحد إلى أخر، ولكونها أجساماً فأنها صادرة عن العناصر الأربعة الأولى الهيولية التي هي بدورها أجسام. ولما كانت تلك العناصر الربعة الأولى مستنيرة ومنيرة، ولها مجد ونور يبعث أشعة وأضواء، كان علينا أن نبحث هادفين، من كل منها وبتمعن وتفكير عميق، معتمدين ومسترشدين روح الله خالقها الحق والصالح، لنعرف من أي العناصر كون كل منها، هل من عنصر واحد أو عنصرين أو ثلاثة أو من الأربعة، مستشهدين بالطبيعة الموجودة في كل منها أو الأكثر قرباً إليه. فالشهادة عن الذي هو حار بطبعه ومنير ومحرق وميبس (الشمس)، تتحقق هكذا: ليس من المعقول والصحيح أن نقول أنه من مادة التراب أو الماء أو الهواء، إذ لا بد من أن يكون ما قلناه سابقاً هو الصحيح، وهو أن جسم الشمس أو جوهر قوامها، نار نقية صافية وكثيرة الاستنارة وفاعلة ومحرقة. فقوامها هو من عنصر النار هذا، ولا يشترك معه أي من العناصر الثلاثة الأخرى، فما قلناه أذن صحيح وحري بالتصديق. فأن فاعليته في الحرق تشهد على أنه نار مضطرمة تبعث الدفء إلى الأرض بأضعاف مضاعفة أكثر من تنور متقد أو أتون ملتهب، وقد تشتعل النار في بعض البلدان كالحبشة بمجرد حرارة وأشعة نور الشمس، فتتلف وتحرق كل ما يصادفها، وقد شاهدنا مرات عديدة بأم أعيننا أشعة ساقطة على صفحة مياه صافية باردة أو على فضة مجلية صقيلة. وأن النار تضطرم وتلتهب وتحرق، ليس فقط المواد اليابسة القابلة للاشتعال بسرعة، بل وحتى الرطبة منها. فهذه البراهين والشهادات تؤكد الشمس ناراً، وتشير في الوقت نفسه إلى كبر حجمها الذي لا يتعدى في كل الأحوال حدود المنطق، ولا يخرج عن نطاق التصديق. ومع هذا فمجرد كونها ناراً لا يكفي لكي تضرم الأرض وتحرقها بفعل حرارتها الشديدة. وهذا أيضاً يشكل دلالة على سعتها وكبر حجمها .
الحق يقال، أنه ليس بامكان أي إنسان معرفة أو إدراك مدى حجمها، ولئن تجرأ بعض البعيدين عن الحق، انسياقاً وراء اعتقاد خاطىء، على أن يجزموا دون تردد ويقدروا كبر وحجم الشمس، النور الأكبر، بـ 27 ضعف حجم الأرض. والذين لم يشاءوا منهم أن يبالغوا في كلامهم، قالوا أن الشمس تكبر الأرض بـ 18 مرة. لقد شط هؤلاء جميعهم في ما يخص حجم الشمس، وانجرفوا وراء وقاحتهم، فكتبوا عن حجمها ما كتبوا. بيد أن نخبة من جماعتنا قدروه عن حكمة وفهم، فقالوا ؛ دون أن يشطوا عن الحق. أن كرة الشمس تكبر الأرض ببضعة أضعاف. ولئن لم يدركوا تماماً حقيقة الأمر. هذا هو جوهر حجم الشمس وضخامتها وشكل هيئتها. فهي ليست طويلة ولا ذات أربع زوايا، ولا دائرية مسطحة أو رقيقة، بل أنها دائرية كروية من جميع الجهات، متساوية تماماً في الطول والعرض والارتفاع، ومن جميع جوانبها مثل جوهرة مستديرة صافية. هذا هو جوهرها، وهذا حجمها، وهذه هيئتها. وهذا كل ما استطعنا تحديده بالنسبة إليها. نكتفي بهذا الحديث البسيط عن حجمها.
ولئلا ينتقص مجدها أو نقلل من حجمها، رأينا أن نزين كلامنا بكلمات الروح، خالق الأنوار قاطبة، مع أبيه وكلمته الخالق. لذا كان علينا أن نضيف إلى كلامنا بهذا الخصوص، كلمات الروح السنية. ففي حين قال موسى أن الله خلق نورين كبيرين في جلد السماء لينيرا الأرض، النور الأكبر لحكم النهار: أنشد داود المرتل عن السماء وعنه قائلاً: “السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه”. وفي حديثه عن عظمة الشمس يقول: “جعل للشمس مسكناً فيها”، وفي حديثه عن جمال وبهاء السماء يقول: “وهي مثل العروس الخارج من حجلته، يبتهج مثل الجبار للسباق في الطريق، من أقصى السموات خروجها ومدارها إلى أقاصيها، ولا شيء يختفي من حرها”. بهذه الكلمات أشاد الروح بمجد وعظمة الشمس، النور الأكبر. وهذا ما تحدثنا به .
القمر
ولنا أيضاً أن نقول كلمتنا في القمر بكل دقة وامعان. لكي نبين على قدر الامكان ماهية مادته، فهو الأخر جسم مثل الشمس، يشهد على هذا عين الناظر والكلام الرسولي المذكور أعلاه. ولما كان جسماً فلا بد أن يكون من العناصر الأربعة، أما من جلها أو من كلها. فمن عنصر التراب اكتسب في تركيبه، البرودة المنعشة التي تتكون فيه لدى ظهوره فوق الأرض، وفيه قليل من عنصر الماء، وهي الرطوبة التي تظهر في الزروع والعروق والأعشاب وأثمار الأشجار، وفيه قليل من طبيعة الهواء الرقيق الصافي، كما يبدو من رقة جسمه وصفائه، وفيه أيضاً قليل من النار، كما يبدو من لونه الأحمر، ومن استنارته وصفائه. فعندما يمعن المرء النظر في هذه الأشياء، يقرر أن هذا النور الأصفر المسمى قمراً، مركب من العناصر الأربعة، التراب والماء والهواء والنار. وإذا سأل خصم مرتاب، لا يدرك أعمال الله قائلاً : إذا كان عنصر النار داخلاً في تركيب جسمه، فلماذا يقال أنه يستمد النور من الشمس لخلو طبعه من النور؟ فليعلم مثل هذا، أنه يوجد على الأرض أجسام كثيرة يدخل فيها عنصر النار ولا تقوى على الإنارة بفعل تلك النار التي فيها. فالنار مثلاً توجد في الخشب والأحجار ومع ذلك فأنها لا تنير، وتوجد أيضاً في الحديد والنحاس والفضة، لكنها لا تقوى على الإنارة بذاتها، غير أنها لو هذيت وصقلت لاستطاعت أن تتقبل النور من الخارج، أما من الشمس أو من النار فتضيء قليلاً. كذلك القمر الذي ولئن يدخل في تركيبه قليل من عنصر النار، لكنه لا ينير من ذاته، وكل عنصر أو جسم، باستثناء النار، لا يقبل نوراً من الخارج، لا ينير بذاته، لأن طبيعة الإنارة الذاتية أعطيت للنار فقط من قبل المكون المبدع .
وربما يقول الخصم: أن القمر لا يحتوي أي جزء من عنصر التراب، إذ لا يمكن أن يكون فيه تراب وهو بهذا الشكل من الصفاء واللمعان. لأن التراب هو ضد النور، وهو مادة غشيمة وكثيفة، غير شفاف ولا براق، ولكن ليعلم: أن هنالك أجساماً كثيرة مركبة من عنصر التراب، ليست فقط صقيلة وبراقة وقابلة لاستمداد النور من الخارج كما تبدو، بل هي أيضاً رقيقة وشفافة مثل عنصر الهواء، يخترقها النور بسهولة دون عائق من الداخل، كما يخترق الهواء دون عائق. لكل من الزجاج الصافي البراق والجبس (الكلس) النقي، ولا سيما حجر (كرستال) Crystallus مثل هذه الطبيعة الصافية، يدخلها النور من أحد جوانبها إلى أخر دون عائق، مثلما يخترق النور الهواء دون عائق، ومن خلال هذه الأجسام يمكن رؤية ما هو أمامها. فبواسطة هذه الأشياء نعرف أن الله المبدع والخالق جعل جسم القمر أكثر صفاء ونقاء، منها، وذا قابلية كبيرة لاستمداد النور وإنارة الأجسام الأخرى، بالرغم من وجود نذر يسير من عنصر التراب الكثيف فيه. فقد جمع الله المبدع ما في كل من العناصر الأربعة من صفاء وركب منها هذا النور. ويستطيع الباحث أن يجعل طبيعة الخشب جسماً صافياً نقياً يخترقه النور بواسطة الهواء باستمرار، وتشاهد فيه عن بعد أشعة مضيئة، مثلما تشاهد في النار. ولنا مثال في ذلك، القطرة الصافية النقية التي يفرزها شجر اللوز في الصيف، فهي مثل عرق يسيل من مادة الخشب الدهنية، وهي صغيرة لا يتجاوز حجمها حبة عنب أو على الأكثر حبة جوز. فلما يشرق شعاع الشمس على أحد جوانبها، تبعث أشعة إلى الجانب الأخر مثل الشمس، وحيث أنها من عنصر الخشب، فهي تحتوي شيئاً من كل من العناصر الأربعة.
من هنا يجب أن يوثق بالكلام الذي تحدثنا به عن هذا النور (القمر)، بكونه مركباً من العناصر الأربعة، وليس في طبيعته نور أو إنارة، وهو يستمد النور من الشمس عندما يسقط على وجهه المقابل لها، مثل الماء الصافي والحديد الصقيل والفضة البراقة، فيستنير وينير الأجسام الأخرى. هناك من يقول أن هذا النور ليس مركباً من العناصر الأربعة، لكن من الماء والهواء فقط، مجردين إياه من عنصر التراب، وهذا ما يجعله بالرغم من كبر حجمه، أن يسير في الفلك وكأنه طائر سريع، وهو رطب باستمرار عكس يبوسة الأرض، كما ينكرون علاقته بعنصر النار، نظراً إلى رطوبته وبرودته المضادتين لصفات النار من حرارة ويبوسة، وإلى جوهر جسم وتركيب هذا النور، مثل هذه الاعتقادات المتباينة تكونت لدى بعض القدماء، إلا أن الحقيقة هي أن الله هو خالق وصانع الكل.
أما بالنسبة إلى كبر حجمه أو مساحة دائرته، فقد قال قوم أنها أربعة آلاف وخمسمائة غلوة، مستندين بذلك إلى فترات حدوث كسوف الشمس. وبالنسبة إلى شكله، أكدوا لنا أنه مستدير وكروي مثل شكل الشمس، إذ لا تليق بالمجوهرات أشكال غير هذه، لا أشكال طويلة ولا مسطحة ولا مربعة، بل الشكل المستدير الكروي فقط، لكي تنير كل الجوانب على حد سواء، ما خلا الأنوار السماوية التي تبعث هي الأخرى نوراً إلى جميع الجهات دون عائق أو مانع.
أما بالنسبة إلى البقع التي تشاهدها العين في جسم القمر الكروي وهو بدر، أو العلامات السوداء أو المضيئة، أو مهما شاء المرء أن يسميها فليسمها، فيقولون أنها أغوار تشبه الوديان الجبلية، لأن جسمه ترابي صلب وقوي لدخول عنصر التراب في تركيبه، وهذا ما يكسبه اللون الأسود، فجسمه كله لماع براق يلتقط النور باستثناء الأغوار العميقة التي تبدو سوداء بسبب الظلل الذي يشكل هذه البقع السوداء في جسم القمر. هذا هو جوهر أو طبيعة كيانه.
وبهذا نكون قد بحثنا وأوضحنا حجم وشكل كل من الشمس والقمر وجوهر جسميهما
الكواكب
ومن الضرورة بمكان البحث في الأنوار الأخرى التي تسمى الكواكب، وجوهر أجسامها وما إلى ذلك. ومن ثم كيفية الربط، بصورة غير إرادية، بينها وبين أحداث هذا الكون التي تؤثر في حياة الناس، من ولادة ونمو وخصب وجدب، وغنى وفقر، وصحة ومرض وسائر ما يتعلق بحياة البشر .
فقد توهموا (القدماء) في تقييمهم لهذه الكواكب وزعموا، أنها آلهة غير مائتة ومدبرة لكل هذه الأمور، فقسموها وفصلوها عن بعضها البعض بصورة معاكسة، فأحتفظ كل منها في فلك السماء بأرادة ما وسلطات خاصة ومتنوعة وأماكن ومواضع معاكسة بعضها لبعض، منها مرتفعة وأخرى منخفضة، وحاولوا رصدها ولا سيما ما يخص فترات حركتها ودورانها في هذا الفلك العجيب، عمل حكمة الله الخالق المبدع، واعتقدوا خطأ، أنهم أدركوا الحقيقة الناصعة بالاستناد إلى طول أو قصر الفترات المحددة لكل منها والتي رصدت وقررت وسجلت، وقالوا من باب الحدس والمقارنة وليس من باب الحقيقة والواقع، أنهم رصدوها، فجعلوا موضع كل واحد من الكواكب التائهة، أما في الأعلى أو بالقرب من الحافة الحادة العليا للفلك، أو في الأسفل بعيداً عنها. وعليه فأما أن يكون ليناً ومتيناً أو حاداً نشيطاً سريع الحركة، أقل بقليل في حركته من حركة الفلك الشديدة. وقد لاحظوا، أن صح ذلك، أن الكوكب المسمى Kewan أي المشتري Cronos يكمل دورته نحو الوراء حول كرة السماء في ثلاثين سنة دون أن يفترق عن حافتها سوى مرة واحدة فقط طيلة هذه المدة. هذا هو رأيهم حول هذا الكوكب الذي دونوه في كتاباتهم الغثة، وزعموا أنه فوق كل الأنوار التي في أعلى فلك السماء .
كذلك الأمر أيضاً بالنسبة إلى الكوكب المسمى بيل أي زوس Jupitir (زحل) فقد اعتقدوا أو لاحظوا وقرروا ثم دونوا، أنه يدور حول كرة السماء بمدة اثنتي عشرة سنة، في مسار يقع أسفل مسار، وقالوا عن كوكب المريخ أريس Mars أنه يكمل دورته في سنة وستة أشهر، مؤكدين أن مساره وحركته هما تحت الآخرين اللذين سبق ذكرهما. أما بالنسبة إلى الشمس والكوكبين الآخرين أعني ذاك المسمى Belati أي الزهرة Aphrodite والمسمى فينوس Venus فأن موقعهما وحركتهما هي بحسب رأيهم تحت هذه الثلاثة. لذا حددوا مدة إكمال دورتها حول كرة السماء بسنة واحدة دون زيادة أو نقصان .
هذا ما ذهب إليه القدماء، أخذا عن الوثنيين، في ما يخص مواضع ومسارات هذه الأنوار، وقد قالوا بهذا مستندين إلى فترة دورانها حول هذه الكرة، لأنهم عجزوا عن الوصول إلى الحقيقة، ولم يفكروا في أن ينسبوا ذلك إلى الله خالقها، كما لم يدركوا أن هذه كلها هي من أعماله، ولم تدرك عقولهم حقيقة مواضعها ومساراتها وحركتها، لينطقوا بالصدق والحق، وإذ لم يضعوا هذه الحقيقة أساساً مناسباً، فلم يتمكنوا من البناء عليها بصورة صحيحة.
لذا كان الأجدر بهم أن يدركوا، أولاً: أن الأولى (الفكرة) هي الأنسب، فيتبينوا عظمة وقوة وحكمة الله خالقها من هذه الأعمال نفسها، من ضخامتها واتقانها العجيب. ثانياً: أن يميزوا أن اعمال الله ليست آلهة ولا مدبرة لما في هذا الكون.
ثالثاً : وهذه تلي السابقتين بالأهمية وهي أن يدركوا بما أعطوا من حكمة كبشر، أن موضع الشمس في دورانها في السماء هو فوق جميع أنوار السماء قاطبة، كما أنها أكبرها وأسناها سواء بطبعها الرفيع أو كبر حجمها، وهي بالنسبة إلى المحسوسات كما هو الله بالنسبة إلى المعقولات (ذوي العقول). وهنا يقول قائل: إذا كان هذا هو شأن الشمس، فأنه سيكون كذلك ليس فقط بالنسبة إلى نيرات السماء، بل وسائر المحسوسات الأخرى أيضاً، ذلك أنه من الواضح أن الله أرفع وأسمى من سائر المعقولات، التي فيه تستمد الرؤية والثبات. كذلك فأن سائر المحسوسات ولا سيما تلك المنتظمة معها (الشمس)، تستمد منها الثبات والرسوخ، كما تستمد منها أيضاً ما تنير به ما هو تحتها على الأرض، وهي في موقعها في السماء ودورانها أعلى من جميعها وجميع الأنوار الأخرى التي تليها في الموقع والمسار، وكل منها يتحرك في كرة السماء، في الفترة التي خصصها له الله خالقه دون أن ينحرف أو يتغير مساره، فهذه ليست آلهة ولا هي حية وناطقة وذات سلطان وإرادة ذاتية. وقد توهم بعض اليونانيين والكلدانيين بأن لها سلطاناً على الحياة، وهي التي تدير شؤونها، معتبرين إياها آلهة ومدبرة هذا الكون وكل ما فيه. في حين أن الله خلقها للآيات والأزمنة كما قال الروح، وبحسب مقولة الرسول بولس: “تضيئون بينهم كأنوار في العالم متمسكين بكلمة الحياة”. وقد أولها المانويون الضالون بل الأكثر ضلالاً من الوثنيين، بحسب مفهومهم الباطل الضال، فقالوا : أن هذه (الأنوار) نفسها هي المتمسكة بكلمة الحياة. وهي تدبر وتنظم الأمور من أجل حياة هذا العالم، أن تأويلهم هذا باطل وكاذب وليس بحق. فعبارة “متمسكين بكلمة الحياة” لا تشير إلى الأنوار، بل إلى المؤمنين الحقيقيين الموجودين في مدينة فيلبي .
الأنوار ليست عاقلة
ومن الضروري أن نبحث عن المصدر الذي استند إليه هؤلاء الضالون في زعمهم أن هذه الأنوار هي حية وعاقلة وذات سلطان وإرادة ذاتية، وزادوا في ضلالهم حين جعلوها آلهة ومدبرة. فهؤلاء الضالون، إذ رأوا الكواكب الخمسة التائهة تترك بحركتها محطات، وخسوفات، وتتمركز في كرة السماء أحياناً دون أن تتحرك، لا إلى الأمام مع الفلك، ولا إلى الوراء عندما تبتعد عنه باتجاه الشرق: وأحياناً أخرى تسبق الفلك بحركتها باتجاه الغرب، وأحياناً تبتعد عنه قليلاً باتجاه الشرق، وأحياناً تغير اتجاه حركتها، شأنها شأن العقلاء الذين يعيدون النظر في أمر ما. فعندما لاحظ أولئك الشقاة المعتوهون، وبلا روية، ما يحدث، اعتقدوا أن الكواكب إنما تفعل هذا من ذاتها ومتى شاءت، فأعتبروها عاقلة وحية وذات إرادة، لا بل آلهة ومدبرة. في حين أن هذه الحركة والحرية والسلطة الذاتية ليست سوى مخلوقة، وضعها الله الخالق فيها لكي تتحرك نحو حركة الشمس التي تمدها بالنور والحركة، كما خلقها الله المبدع هي الأخرى. فأنها لا تتحرك بإرادتها وحريتها الذاتية. مثال ذلك. لو صنع أحدهم آلة متقنة لرفع المياه لدى تشغيلها، ووضع فيها بعض القطع التي يمكن أن تحركها بصورة مستمرة (أوتوماتيكيا) وبفاعلية تامة ومحكمة. فأنها تنجز تلقائياً. فالظاهر أن هذه (الآلة) عاقلة، لها سلطة وإرادة ذاتية وتنجز كل الأعمال، ولكن من الثابت والمعروف أن مهارة الصانع هي التي أبدعت تلك الآلة التي تعمل تلقائياً، وليس للآلة نفسها أية سلطة وإرادة ذاتية. كذلك الشمس، قد خلقت لتصنع ما تصنعه بصورة مستمرة، بواسطة الكواكب التائهة التي تنفذ بحركتها المعاكسة لها. وبمقتضى ما خلقها الله مبدعها من أجله. فلا الشمس هي حية وناطقة وذات إرادة ذاتية، ولا الكواكب التي تتحرك منها وإليها لتكمل الآيات والأزمان ؛ والتي خلقت لتكتمل بواسطتها وبصورة مستمرة وثابتة، فلا تتغير أو تحيد عما حتم الله عليها، أو عن الناموس الكامل وغير المتغير الذي وضعه الله لها، كما رتل الروح بلسان داود قائلاً: “ناموس الرب كامل يرد النفس، شهادات الرب صادقة تصير الجاهل حكيماً”، لكي يعرفوا الخالق من أعماله العجيبة. هذه هي الارادة التي تحركها، فما يؤثر فيها أذن هو ناموس الرب الذي وضع لها، وشهادة الرب الصادقة المودعة فيها، وليست إرادتها الحرة وسلطتها الذاتية أو العقلانية، كما توهم المنطقيون الذين لا منطق لهم .
كما أن الكواكب التائهة ليست هي الاخرى عاقلة ولا مضيئة بطبعها كما ثبت، بل تستمد النور من الشمس فتتحرك أما إلى الأمام أو إلى الوراء، أي أما نحو الغرب أو نحو الشرق، وهي بمجموعها تحت الشمس بموقعها ودورانها. وهذا نفسه يقال عن القمر أيضاً، فهو ليس ذا طبع منير، بل يستمد النور من الشمس وينير جهتنا. وهذا ثابت منطقياً من جهة، ومن البراهين العملية المستمدة من أحداث طبيعية من جهة أخرى، ومنها. أولاً: الخسوف الذي يحدث له مرتين في السنة وبصورة مستمرة، ففي كل ستة أشهر يحرم مرة من النور ويدخل في ظلام لفترة طويلة من اليوم، عندما يكون بدراً وأكثر نوراً. ثانياً: من الاختلافات المرئية في شكل القمر، أي في زيادة أو نقصان نوره.
فمن هذه الشهادات الواقعية يتبين أن طبعه خال من النور، لذلك نقول: لو كان في طبيعة القمر نور ثابت لا يزول، أذن لما أظلم وأحمر كالدم وهو في حالة بدر عندما يصادف دخوله ظل الأرض، ويقابل الشمس طولاً وعرضاً في الجهة العاكسة دون أن ينحرف إلى أحد الجوانب، حيث يغيب كلياً عن مواجهة الشمس، يظهر من هذا أن ليس للقمر نور طبيعي لينير نفسه، لكنه يستمده من الشمس ويعكسه علينا، وهذا ما يفسر صيرورته مظلماً خالياً من النور لدى غياب الشمس عنه في ظلال الأرض، ويعرف هذا من اليوم الأول لمولده، كما هو مألوف لدى العامة، عندما يبتعد عن الشمس ويرى مساء في الجهة الخلفية في الغرب، ويضيء قليلاً كخيط رفيع من الجهة الغربية التي كانت فيها الشمس، ومن الجانب المعاكس لها إذ ترسل إليه النور الذي يظهر فيه في المساء الأول، وفي المساء الثاني يصبح كحلقة رفيعة، حتى اليوم الخامس عشر يوم اكتماله. وعندما تتجه زاويتاه نحو الوراء باتجاه الشرق. أو كما يقال: كأنه يشير باصبعه ويطلق إليك صوته قائلاً: أني أستمد نوري من الغرب، من الشمس التي تنيرني، فيغطي النور الدائرة كلها في اليوم الخامس عشر وتغدو مستديرة كاملة كقرص الشمس، وجهها المنير متجه نحو الشمس، وكأنه ينظر إليك ويقول: أن نوري هو منها. ولما يقترب قليلا من الشرق ويسقط عليه ظل الأرض، وتنحجب عنه الشمس لئلا يستمد منها النور وهو يدخل حجاب الأرض بصورة معاكسة ومتوازية طولاً وعرضاً، كما ذكرت أعلاه، يسوده الظلام تماماً، حتى يبتعد عن حجاب الأرض نحو الشرق. ولما يأخذ بالتناقص التدريجي يتجه نحو الجهة التي سقطت عليها أشعة الشمس في الشرق حتى يدخل مجدداً بين أشعتها تماماً. فيشاهد نوره من الشرق حيث الشمس وليس من الغرب حيث كان يشاهد خلال مرحلة نموه. فهذه التغيرات والأشكال التي تظهر لنا جلياً، تؤكد استمداده النور من الشمس، وخلو طبعه منه. فليعلم الجميع وليشهدوا أن ليس هناك ما له نور طبيعي ثابت سوى الشمس، النور الأكبر، وطبيعة النار التي يتكون منها قرص الشمس المنير، فلا القمر ولا تلك الكواكب غير التائهة الموجودة ضمن هذه الدائرة المعروفة والشديدة الحركة. وهي تتحرك بصورة دائمية ثابتة.
نكتفي بهذا المقدار من الحديث حول مواقع وجود الأنوار في فلك السماء وكونها ليست حية وعاقلة أولها سلطة ذاتية، كما وليست آلهة تدير هذه الأمور كلها، كما توهم المعتوهون، ولا يوجد نور في طبيعة القمر والكواكب باستثناء الشمس لكونها من طبيعة النار، ومنها يستمد الكل نوره فيضيء. وهذه جميعها هي تحت الشمس بموقعها ووضعها .
مدى ارتفاع الشمس
وحيث أننا تحدثنا عن ارتفاع الأنوار الواحد عن الآخر، وعن مواقعها في فلك السماء، وبينا أن الشمس هي فوق جميعها بموقعها ووضعها في أعلى السماء. لذلك تقتضي الضرورة أن نتحدث عن مدى ارتفاع الشمس. فنأتي برأي أحد القدماء بهذا الخصوص، لكي نقرب ذلك إلى إفهام القراء ونحدده بشكل مناسب ومنظم، فقد اتخذ برهاناً من الأرض حول مدى ارتفاع السماء الذي لا يمكن قياسه، فقال: لو نصبت الأرض كلها بشكل عمود واحد لما أمكن الوصول إلى أقصى السماء، لذا فأن موقع الشمس ليس في أقصى الارتفاع، ولكن مما لا شك فيه أن الوسط الذي تدور فيه هو واسع ويفوق الوصف، وأن مواقع جميع الأنوار السماوية هي تحتها، وهذه بدورها أعلى من موقع القمر، والذي هو في موقع منخفض أكثر من جميعها. فيجب أذن أن نعلم هذا. ومثلما يحجب القمر الشمس عن أنظارنا، يحجب عنا أيضاً جميع الكواكب التي تصادفه إذا ما واجهها. وإنما يفعل هذا لأن موقعه ووضعه في فلك السماء أقل انخفاضاً منها .
حركة السيارات حول الأرض
ونضيف هنا الحديث عن حركتها حول الأرض طولا وعرضاً، أي حركة الشمس والقمر والكواكب الخمسة التائهة في كرة السماء. فأن فلك رقيع السماء والكواكب الأخرى غير التائهة التي فيه، تدور حول الأرض باتجاه الغرب بصورة ثابتة غير متغيرة، فهي تشرق وتصير في منتصف السماء فوق الأرض، وتغيب وتصبح تحت الأرض ثم تشرق ثانية، وهكذا تعمل دون توقف كما أمر مبدعها الحكيم. فالشمس والقمر والكواكب الخمسة التائهة تدور في كرة السماء حول الأرض باتجاه الغرب، بنفس القوة التي توجه الفلك نحو الغرب. ويبدو أن كلا منها يتحرك إلى الوراء باتجاه الشرق بحركة مدهشة غير متغيرة، عندما تبتعد عن حافة الفلك الثابتة بمقتضى ما نظمه الخالق، ويتم هذا على طول الفلك من الغرب إلى الشرق، بابتعادها عن الفلك بصورة متساوية طولا وعرضاً وبشكل زاوية منحرفة. وتكمل نصف الكرة بارتفاعها نحو الأعلى غرباً، والنصف الآخر عندما ينحرف مسارها هابطاً نحو الجنوب. وحينما تتحرك الشمس بمثل هذه الحركة المختلفة والمنحرفة وتصير وراء حافة الفلك، فأنها تكمل هذه الدورة السنوية بثلاثمائة وخمسة وستين يوماً، وتتبادل خلالها بصورة مستمرة، فصول السنة الأربعة المتساوية في الزمن، وهي الربيع والصيف والخريف والشتاء، وتتولد فيها مناخات ملائمة لحياة كل ذي جسد، بموجب الأمر الصادر إليها من قبل الخالق عن طريق اليبوسة والرطوبة، وتنبت في الأرض نباتات وتنمي الثمار – وتنضجها، وتعدل مناخ الجو بصورة لا تضر بحياتنا، وهي لا تزال تسير على هذا المنوال الذي خططه الله لها منذ البداية، ولا تحيد عنه يمنة أو يسرة، ولا تخرج عنه شمالاً أو جنوباً، فلا ترتفع أو تنخفض أكثر من المقرر، بل تسير في مسارها الأول دون تغيير سواء أثناء الشروق أو الغروب، وهكذا تعيد الكرة بخفة عائدة إلى مدارها كقول الكتاب .
أما القمر فيتحرك نفس الحركة المنحرفة والمتغيرة، طولاً وعرضاً، فهو يتحرك إلى الوراء مثل الشمس حيث يترك حافة الدائرة ويسير تجاه الشرق. ويكمل دورته الشهرية حول الفلك بتسعة وعشرين يوماً ونصف، لكنه لا يسير بصورة متوازية مع مسار الشمس، بل خارجه، حيث يقطع نصف الكرة شمال مسار الشمس، والنصف الآخر جنوبه، ويتقاطع معها ويجتاز هنا وهناك أو يرتفع وينخفض أو يتجه نحو الشمال أو الجنوب. لكن مساره هذا يختلف بين شهر وآخر، حيث يتقاطع ومسار الشمس في مواقع تختلف عن الأولى ولا يسير في نفس مساره دائماً. وكذلك عندما يبتعد عنها شمالاً أو جنوباً قليلاً أحياناً، وكثيراً أحياناً أخرى. وهي نفسها تتحرك كالقمر حركات متغيرة ومنحرفة نحو الشمال والجنوب خارج مسار الشمس، حيث تتحرك طولاً وعرضاً وإلى الوراء نحو الشرق وتتقاطع في عدة أماكن مع مسار الشمس. وكذلك الكواكب الثلاثة التائهة أي المشتري وزحل وعطارد تبتعد عن مدار الشمس كثيراً أحياناً وقليلاً أحياناً أخرى. وكذلك الكوكبان الآخران الزهرة والمريخ، هما دائماً بالقرب من الشمس أما شرقاً من الوراء أو غرباً. وهذه هي نقاط ابتعادهما عنها. فالأول يقع في خط ثمانية وأربعين، والثاني في خط ستة وأربعين، وهما الآخران يتحركان نفس الحركة المتغيرة والمنحرفة طولاً وعرضاً على حد سواء. ويتقاطعان مع مسار الشمس في مواقع مختلفة شمالاً وجنوباً، خلال ارتفاعهما وانخفاضهما، شأنهما في ذلك شأن القمر والكواكب الثلاثة الأخرى المار ذكرها. وبهذا نكون قد تحدثنا بما فيه الكفاية عن حركة النور طولاً وعرضاً .
تغيرات تحدثها الشمس في الأرض
والآن، واستغراقاً منا في حب العمل، نضيف فنتحدث عن التغيرات التي تحدثها الشمس، هذا النور الكبير الأول، في الأرض وما يسكنها في مختلف الأماكن والمناطق سواء كانت شرقي بعضهم البعض أم غربهم أو شمالهم أم جنوبهم، وذلك بحكمها على النهار الممنوح لها من قبل خالقها. ومثلما قال الروح: أن الله أمر لتجتمع المياه من عن وجه الأرض وتظهر اليابسة، لكي تصبح ملائمة لسكنى الجنس البشري، وصالحة لتحرك وراحة جميع الحيوانات التي كانت عتيدة أن تخلق لخدمة الإنسان، وقد تم هذا من قبل الخالق المبدع كما سبق الحديث أعلاه. وظهرت المسكونة التي على الأرض تحت الجزء الشمالي من دائرة السماء، إلى الشمال من المنطقة الواقعة تحت منتصف الدائرة، لكي يكون دوران قرص الشمس باستقامة نحو الغرب خلال السنة كلها لدى شروقها أو غروبها. وهذا يتم بحكمة الخالق الذي شاء أن يخلقها هكذا. فحدوث اختلافات الليل والنهار هو لصالح الناس الذين يسكنون الأرض، ونظراً إلى ميلانها تحتهم وبزوغ أشعة الشمس فوقهم، وانحجابها عنهم، في مختلف مناطقهم، رتبنا حديثنا على النحو التالي :
اختلاف النهار
نتحدث أولاً عن اختلاف النهار (نهر) بالنسبة إلى عرض المسكونة واعتباراً من الجنوب إلى الشمال. ومن ثم نتحدث عن الاختلافات التي تحدث طولاً، موضحين الاختلافات التي تبدأ من الشرق إلى الغرب ففي المنطقة التي تقع تحت منتصف كرة السماء كما ذكرت، وهي المنطقة الواقعة جنوبي الحبشة، يكون السكان فيها سوداً ومتفحمين أكثر من الفحم، ومنطقتهم متفحمة لذا تعرف بـ “منطقة حرارة أشعة الشمس غير المعتدلة”. لأن الشمس تضطرم اضطرام أتون النار وتحرقها على مدار السنة. سواء حينما تنتصب فوقها أو ترتفع نحو الشمال أو تهبط نحو الجنوب. وعندما تنتصب الشمس في وسط الكرة، في المناطق التي يتساوى فيها الليل والنهار، أي رأس الفلك حيث وضعها الله المبدع منذ البداية لدى خلقته إياها في بداية برج الحمل بحسب مصطلح العامة، أي في بداية فصل الربيع في نيسان، أو في بداية فصل الخريف، أو في مطلع برج الميزان. ولكي استخلص معلومات من الوقت ومن المناطق، أقول: تتكون ليال ونهر متساوية في الوقت أي اثنتي عشرة ساعة لكل منها، لجميع سكان الأرض. فالذين يسكنون الأرض المتفحمة المشار إليها، التي بسبب انبساطها وعدم ميل كرة السماء فوقها دائماً خلال السنة، تتساوى لديهم الليالي والنهر مدى أيام حياتهم، حيث لا تطول النهر في الصيف عندما ترتفع الشمس نحو الأجزاء الشمالية لكرة السماء، ولا تقصر الليالي. وفي الشتاء أيضاً عندما تهبط الشمس في مسارها نحو المناطق الجنوبية، لا تقصر النهر ولا تطول الليالي، لأن وضع كرة السماء هناك يكون باستقامة، وقد وضع كلا قطبيها، أي أركان الدوائر على استقامة واحدة، الواحد تجاه الآخر، نظراً إلى وضع الفلك المستقيم، لا يعلو أحدهما على الآخر ولا ينخفض عنه، واحد فوق الأفق الجنوبي أي الخط الذي يفصل بين السماء والأرض في الجنوب. وآخر فوق الأفق الشمالي. وكلما أشرقت (الشمس) وارتفعت من الشرق إلى جميع أرجاء دائرة السماء، سواء من الأجزاء الشمالية أو الجنوبية، فأنها تتجه صعداً نحو الغرب مرتفعة إلى السماء دون أن تتجه نحو الجنوب أثناء ارتفاعها عن الأرض.
وهنا نجمل كلامنا بكلمات الروح الحقيقية كخاتمة وسند له، مؤكدين أنها (الأنوار) مخلوقة ومصنوعة وغير أزلية، بشهادة ما سبق ذكره وما جاء على لسان موسى القائل “قال الله لتكن الأنوار في جلد السماء.. وعمل الله الأنوار لمعرفة المواقيت.. ولكي تنير الأرض.. وتفصل بين النهار والليل “. ويشهد الروح أيضاً بلسان داود فيقول: “صنع القمر للمواقيت والشمس تعرف مغربها، فيجعل ظلمة فيصير ليل فيه يدب كل حيوان الوعر، الأشبال تزمجر لتخطف ولتلتمس من الله طعامها، تشرق الشمس فتجمع وفي مآويها تربض، الإنسان يخرج إلى عمله وإلى شغله إلى المساء”. ويشير إلى كونها وجدت لتشكر الخالق وتظهر للمتأملين مجده فيقول: “احمدوا الرب.. إله الآلهة ….الصانع السموات بفهم.. الباسط الأرض على المياه.. الصانع أنواراً عظيمة.. الشمس لحكم النهار.. القمر والكواكب لحكم الليل..” ثم يوعز إلى جميع الكائنات بالتمجيد فيقول : “سبحي الرب أيتها الشمس الحق، أن أنوار السماء جميعها مكونة ومخلوقة، وليس هذا فقط، بل أن بعض الغرباء لم يبتعدوا كثيراً عن أشعة النور الحقيقي .
فقد جاء في كتاب هرمس قوله: قال الله لكلمته “ليكن شمس”. فأظهر بقوله هذا أنها (الشمس) وسائر الكواكب الأخرى مخلوقة. وقد خلقت من أجلنا، ليس لخدمتنا فحسب، بل لكي تسحرنا بجمال منظرها، وأعدادها الهائلة وأثرها في شكر الله خالقها ومجده. الذي له المجد والعزة والسلطان دائماً. الآن وكل أوان وإلى أبد الآبدين آمين .