انتشار المسيحية والاضطهاد من كتاب ” السريان في العصور الوسطى الكاتبة نينا بيغلوسفكايا وترجمة أحمد الجراد

Posted by on May 22, 2021 in Library | Comments Off on انتشار المسيحية والاضطهاد من كتاب ” السريان في العصور الوسطى الكاتبة نينا بيغلوسفكايا وترجمة أحمد الجراد

انتشار المسيحية والاضطهاد

من كتاب ” السريان في العصور الوسطى الكاتبة نينا بيغلوسفكايا وترجمة أحمد الجراد

ترتبط اقدم المؤلفات السريانية بحركة التنصير ، أي مع دخول التعاليم المسيحية إلى المدن السورية . بالنسبة لمدينة إنطاكية تمّ التأكد بشكل قوي من تأسيس البيعة فيها من قبل الرسل (الحواريين) ، كما تشهد على ذلك ” أعمال الرسل ” (الإصحاح الثاني) . وتعود تقاليد الوعظ والكرازة الداعية إلى اعتناق المسيحية إلى أحد الرسل (الحواريين) الإثني عشر أو إلى أحد من التلاميذ السبعين الذين أوجدوا وأبدعوا أدباً غنياً تمتزج فيه الحقائق التاريخية الواقعية بكثير من اللمحات الخيالية والأسطورية.
ولم تكن بلاد ما بين النهرين بعيدة عن المشاركة في هذه الحركة العامة . فإن تأسيس المسيحية في الرها يرتبط بواحد من تلامذة المسيح السبعين – أدي أو آداي كما اشتهر بين السريان . في حين أن بعض الآثار الأدبية الأخرى تؤكد أن الرها أو ما جاورها كانت المكان الذي ألّف فيه النص السرياني لأعمال توما الرسول . وفي أوائل القرن الثالث للميلاد كانت هناك كنيسة مسيحية في أكبر أحياء الرها مع أن أكثرية الناس كانت لا تزال وثنية . أما بعد مرور قرن من الزمن فقد أصبحت المسيحية هي العقيدة السائدة وصارت الرها مركز التبشير المسيحي الرئيسي في الشرق بل وفي العالم قاطبة . وكانت الرها أول مملكة تعتنق المسيحية كدين رسمي . وشاعت في بلاد ما بين النهرين قصة حول رحلة توما الرسول إلى بلاد الهند مبشراً بالعقيدة الجديدة منطلقاً من سورية بالذات وقد بني في الرها معبداً كبيراً ، تذكر الروايات أنه كان مخصصاً لرفات الرسول.
أما القصص المسيحية حول آداي الرسول فهي أكثر قدماً وأكثر ثباتاً من الروايات (الأساطير كما تقول المؤلفة – المترجم) المتعلقة بحياة توما الرسول ويقصّ علينا يوسيفوس (يوسيبوس) القيصري (الملقب بـ هيرودوت الكنيسة القديمة) في تاريخه الكنسي قصة التبشير الذي قام به آداي ويتضح من هذا التاريخ أن مؤلفه كان يملك النص المكتوب لتلك المواعظ باللغة السريانية وهو النص الذي ترجم بدقة إلى اللغة اليونانية . ويقص علينا يوسيفوس كيف أن الملك أبجر ” الحاكم الأمجد للشعوب القاطنة في ما وراء الفرات ” أصيب بداء خبيث وسمع بالمعجزات العظيمة التي يقوم بها يسوع المسيح فأرسل إليه رسولاً طلب منه أن يعمل يسوع على شفائه.

فأرسل يسوع إلى الملك أبجر رسالة جوابية يقول فيها إنه سيعمد إلى إرسال أحد تلامذته لإشفاء الملك من مرضه وتخليصه وبقية حاشيته . وقد أوفى يسوع بعهده بعد صعوده إلى السماء حيث قام الرسول توما بإرسال تداوس (فاديوس) أحد تلامذة يسوع السبعين إلى أبجر الملك في الرها.

ويقدم يوسيفوس نصوصا ووثائق حول تلك الأحداث يقول بأنه استقاها من أرشيف الوثائق الرسمية ” في مدينة الرها الملكية ” حيث وضعت لحفظها وصيانتها.

وبناء على ما تقدم يكون المؤرخ الكنسي الأشهر يوسيفوس قد استفاد من المواد والوثائق التي كانت محفوظة في أرشيف الرها ، بما في ذلك أعمال آداي (أدي) المكتوبة بالسريانية وقد ترجم يوسيفوس هذه النصوص من السريانية إلى اليونانية وذكر هذا الأمر بنفسه في الخاتمة وينقل يوسيفوس نص الرسالتين : من أبجر إلى يسوع والرسالة الجوابية من يسوع المسيح إلى الملك أبجر.

وبعد ذلك يقصّ علينا يوسيفوس أعمال ومعجزات الرسول آداي (أدي) ومنجزاته في الرها ، وعن عجائبه العظيمة التي كان يقوم بها وكيف كان يشفي المرضى والأوجاع ثم يتحدث عن الحوار الذي جرى بين تداوس (آداي) والملك أبجر وكيف أن آداي وضع يده على الملك المريض باسم يسوع المسيح فشفي حالاً من دائه والعذاب الذي كان فيه وأخيرا يسوق لنا المؤلف عظات ووصايا الرسول آداي إلى الملك أبجر والى أهالي الرها للإيمان برسالة يسوع وتلامذته واعتناق المسيحية ثم يكرر يوسيفوس في نهاية القصة واقعة أنه قام بترجمة تلك الوثائق من السريانية إلى اليونانية خدمة ومنفعة للقراء في كل مكان من العالم المسيحي.

تعرف المؤرخون على النص السرياني المنحول (الابوكريفا) الذي جاء على ذكره المؤرخ يوسيفوس بعنوان ” تعاليم الرسول آداي ” وهو يتضمن رسالة أبجر إلى يسوع المسيح ولكن هذا النص السرياني يخلو من الرسالة الخطية التي كتبها يسوع المسيح وان كانت قد دونت الكلمات التي يقال أن يسوع رد بها شفويا على رسالة الملك أبجر عبر الموفد الخاص للملك والحقيقة أن المخطوطات السريانية التي تتضمن ” تعاليم الرسل ” تعود إلى القرنين الخامس والسادس للميلاد محفوظة في المكتبة الحكومية العامة في ليننغراد (مكتبة سالتيكوفا – شيدرينا) وفي المتحف البريطاني أيضا ويحتوي النصّ السرياني على لمحات إضافية ورسم لصورة يسوع وللصليب الذي يقال انه صلب عليه ومهما يكن فإنه توجد أدلة واقعية تدفعنا إلى التأكيد بأن هذا النص الزائف (الابوكريفا) كان معروفاً لدى يوسيفوس قبل أن تضاف إليه تلك الإجراءات .

إن الرواية السريانية (الأسطورة كما تقول المؤلفة – المترجم) عن المراسلة بين أبجر ويسوع وبقية حكاية أبجر ترسم كثيرا من التفاصيل الجذابة وتشكل مادة حية لأحداث تحتوي على عناصر التبشير بالعقيدة المسيحية بأسلوب شعبي مؤثر ويمكن في هذا الإطار اعتبارها من اعظم قصص التبشير الجميلة في العصور المسيحية الأولى ولكن توثيق الأحداث يتطلب دون شك موقفاً نقدياً موضوعياً وتدل دراسة الوثائق والأحداث المنسوبة إلى شخصيات تاريخية حقيقية أن كثيرا من التفاصيل أضيفت في فترات متتالية كما انه جرى خلط بين بعض الأسماء لكي تكتمل الرواية وتؤدي الأغراض التي وضعها مؤلفوها نصب أعينهم فالواضح أن الأحداث الجارية في عهد أبجر الخامس أوكاما الذي حكم في بداية العهد المسيحي يجب ربطها بأيام أبجر الثامن والقديس مار ماري حيث كان أبجر الثامن أول ملك من ملوك الرها يعتنق المسيحية وعليه تكون القصة كتبت في النصف الأول من القرن الثالث للميلاد أي بعد ثلاثمائة سنة من حياة يسوع المسيح وهذا يلغي إمكانية التخاطب المباشر بين يسوع والملك أبجر الثامن وقد أجمع على هذا التاريخ (القرن الثالث) أحدث الباحثين المختصين في هذا المجال أما بالنسبة للنص السرياني الكامل والمنحول (الابوكريفا) أي تعاليم مار آداي فإنه يمكن أن ينسب إلى نهاية القرن الرابع وبداية القرن الخامس للميلاد .

والمعروف أن قصصاً وحكايات شعبية كثيرة شاعت حول المكانة المميزة بل المقدسة لمدينة الرها ، نذكر من بينها الرواية القائلة أنه توجد في المدينة أيقونة عجيبة تحميها وتصونها من الأعداء وظلت هذه الحكاية متداولة لمدة طويلة كما كان الأمر بالنسبة للقصة التي تقول بأن يسوع المسيح وعد الملك أبجر بأن مدينة الرها ستكون مباركة ولن يسيطر عليها عدو . وعلى أية حال فإنه في أيام محاصرتها من قبل الفرس عام 544 م يذكر المؤرخ بروكوبيوس (بروقوبيوس) هذا الوعد الذي كان معروفاً للناس جيداً كما يبدو.

والملاحظ أن الرواية التي تتحدث عن الملك أبجر والرسول آداي (أدي) تتكرر بصورة مختصرة في تاريخ مار ماري ” رسول الشرق ” ، الذي شاعت سيرته في الدعوة المسيحية في المناطق الآشورية والبابلية والبارثية . إلا أن قصة مار ماري لم تكن معروفة لدى السريان الغربيين وقد كتبت هذه السيرة ضمن هدف محدّد يرتكز على تثبيت المنشأ الرسولي لكنيسة كوكه (كوكي) المعبد الرئيس في قطيسفون (كتيسفون) . وفي الواقع فإنه كما استفاد المونوفيزيون من نشر تفاصيل سيرة الرسول آداي (أدي) فقد عمل النسطوريون من طرفهم أيضا على ربط مركزهم العقائدي الرئيسي باسم رسول أو تلميذ معروف من تلامذة المسيح وتعود سيرة مار ماري تلميذ آداي المنحولة في كثير من تفاصيلها إلى الحركة الناشطة في تنصير عدد من المناطق الإيرانية ويؤدي التحليل النقدي لهذا الأثر الأدبي – الديني إلى الاستنتاج بأن الصورة التي بقيت منه حتى تاريخه وضعت بعد عام 642 م ، أي في زمن سقوط الحكم الساساني تحت ضربات الزحف العربي.

أما المصدر الذي بني عليه ” تاريخ مار ماري ” فهو من منشأ غير قديم مطلقاً إضافة إلى أنه يتضمن تناقضات كثيرة كما أنه فوق ذلك كله ، يحمل آثارا واضحة للصراع والتنافس بين الرها وسلوقية وكشكر (كسكر في المصادر العربية – المترجم) من أجل الزعامة واثبات المنشأ الرسولي لكنائسها لما في ذلك من أهمية دينية كبرى يضاف إلى ذلك أن المناطق الوارد ذكرها في السيرة التاريخية المذكورة تنصرت في القرن الخامس فقط والحوادث الموصوفة في هذا التاريخ تتكلم عن ثلاثة قرون خلت وهذا أمر غير معقول من حيث الدقة والموضوعية والتوثيقية ومن وجهة نظرنا فإن المعلومات المتضمنة في هذا الأثر تعود إلى الفترة الواقعة ما بين القرنين السادس والسابع للميلاد وهي تعطي الباحث المهتم إمكانية ربط انتشار الثقافة السريانية وأيديولوجيتها في إيران مع مرحلة الفتوحات العربية – الإسلامية الأمر الذي يكتسب أهمية كبرى وهي معلومات هامة سواء لجهة تحديد الجغرافية التاريخية لإيران من جهة أو لمعرفة سماتها الاثنوغرافية في ذلك الحين من جهة أخرى .

ولكن مهما كانت التواريخ الفعلية للمؤلفات التي جئنا على ذكرها فإننا يجب ألا ننفي الظهور المبكر للتبشير المسيحي في مناطق ما بين النهرين المختلفة ولا توجد أدلة ثابتة من شأنها التشكيك في حقيقة أنه في الفترة الواقعة ما بين نهاية القرن الأول وبداية القرن الثاني بلغت العقيدة الجديدة الحدود الشرقية القصوى من الإمبراطورية القريبة من أحد المراكز إن لم نقل من المركز المسيحي الأول – إنطاكية.

والحقيقة أن التآليف السريانية التي يغلب عليها طابع القصص والمرويات الشعبية الأسطورية ظهرت في القرن الأولى مترافقة وموطدة لدعائم الدين المسيحي وهي أكثر من أن تعد وتحصى وقد وصلنا عدد من سير الشهداء المسيحيين (القديسين وأصحاب المقامات والألقاب الكنسية المختلفة) التي تتطلب دراسة تحليلية نقدية للمعلومات الواردة فيها نذكر من بينها على سبيل المثال أعمال شربل (شربيل) وبرسميا (أسقف الرها في حدود سنة 105 م) وهي قصة تروي أحداثاً ترتبط بعهد الإمبراطور ترايانس (تراجيان) والملك أبجر السادس ويكشف تحليل مضمونها أنها تعود في الواقع إلى التاريخ الذي تعرض فيه المسيحيون للاضطهاد والتنكيل على يد الإمبراطور ديقيوس (أواسط الثالث للميلاد) ويتضح ذلك بجلاء من خلال حديث برسميا (بارسميا) ” أسقف المسيحيين ” إلى شربل (شربيل) رئيس الكهنة ” زعيم وقائد الكهنة الوثنيين ” في الرها الذي يجيء على ذكر الملك السابق المدعو أبجر أيضا الذي اعتنق المسيحية وتذكر القصة كيف أن شربل كاهن الوثنيين تحول إلى المسيحية في مهرجان وثني كبير جرى في نيسان سنة 104 م. وما يهمنا هنا هو أن التاريخ الفعلي لوضع هذه القصة يتضح من خلال ذكر أسماء المواطنين الزعماء في الرها وأسماء الآلهة الوثنية في ذلك الحين، الأمر الذي جعل دوفال يؤكد بالمقارنات الوثائقية أن هذه الأحداث (الواردة في الرواية) لا تعود إلى عهد خضوع الرها لإمبراطورية روما الشرقية وإنما إلى تاريخ حكم أسرة مانو والابجريين إضافة إلى ما تقدم فإن الرواية تذكر أن الأسقف برسميا (بارسميا) كان معاصراً للبابنيوس (فلابيانس) ، الذي تزعم كنيسة روما بين سنتي 236 و 250 م ، والذي جرت في عهده (كما تذكر الحكاية السريانية) محاولة خطف رفاتي الرسولين بطرس وبولس وجلبهما من روما.

وتؤكد التحليلات المتخصصة أن الحكاية السريانية المزيفة (الابوكريفا) عن استشهاد شربل جرى وضعها من قبل أشخاص مطلعين ولا يستبعد أن يكون منهم مارين وأناطوليوس اللذين وضعا ما كتباه في أرشيف مدينة الرها .

وتنتمي إلى قصة استشهاد الكاهن شربل (شربيل) بشكل مباشر حكاية استشهاد الأسقف بارسميا الذي أقنعه بالتحول إلى المسيحية وتتضمن هذه الحكاية الأسماء والشخصيات ذاتها التي ذكرت في القصة السابقة (قصة أعمال شربل) . ويذكر مجددا اسم فابيانس (فلابيانس) أسقف مدينة روما كإحدى الشخصيات الكنسية الكبرى المعاصرة لبارسميا ” الذي أهدى شربل الكاهن ” إلى المسيحية وقد أضيف ذلك إلى نهاية السيرة وتحديداً في الحاشية المتضمنة أسماء أساقفة الرها ومطارنتها الذين حصلوا على التكريس الرسمي والمباركة الآتية من شيمون كيفا (أي من بطرس) الرسول من الطبقة الأولى ومع أن هناك اتفاق بين الباحثين على أن هذه القصص ليس لها قيمة تاريخية كبيرة إلا أنها يمكن أن تعكس الظروف الواقعية للأحداث الحاصلة في القرنين الثالث والرابع للميلاد وليس في القرن الثاني ولهذا يمكن أن تكون مهمة أو مفيدة بالنسبة لتاريخ الأدب والثقافة في سورية.

يعكس الأدب السرياني الاضطهاد الذي قام به الإمبراطور ديوقلتيان (248 – 305 م) إذ وصلنا من سير الشهداء المسيحيين في ذلك العهد قصص الشهداء الرهاويين الثلاثة كورية ، وشمونا وحبيب ، التي يزعم أنها كتبت من معاصر لهم وشاهد عيان يدعى ثيوفيلوس (ثيوفيل) وقد شك الباحثون (وهم محقون) بتلك الروايات التي لا تخلو من تزو يق وإضافات كثيرة وإن كنا نعتقد أن تلك الشخصيات قد تعرضت للمظالم في عهد الملاحقة للمسيحيين .

ويتكرر الحديث عن عهد الإمبراطور ديوقلتيان في كثير من المواضيع في قصص جهاد أولئك المسيحيين الرهاويين وهذا ما أعطى ناشر القصص أ. رحماني الافتراض بأنها سجلت قبل عام 297 م . والمؤكد فعلاً أنه في زمن حكم ديوقلتيان حدث اضطهاد للمسيحيين وكان هناك شهداء حقيقيون في الرها ، وإذاً فالواقع ان الاضطهادية حدثت فعلاً كحقيقة تاريخية والمعروف أنه صدر أمر إمبراطوري في عام 303 م ينص بأنه يجب أن تسلم وتحرق نسخ الكتاب المقدس في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية وأن تهدم الكنائس وتمنع العبادة المسيحية وصدرت التعليمات لرجال الدين المسيحي ولأفراد الشعب كافة أن يعبدوا الآلهة الوثنية وان يقدموا لها القرابين _ كل هذه التفاصيل حدثت فعلا في القرن الثالث وبداية القرن الرابع للميلاد وعموما فإن التحليل الانتقادي لهذه الرواية بشكل عام (22) ، يؤدي إلى الاستنتاج ، بأنها ترتبط بالرواية الاستشهادية التي سبقتها ، أي بأعمال ومآثر الشهداء شربل وباباي وبارسميا ، ولهذا يمكن إرجاعها إلى أواسط القرن الرابع للميلاد ، وتحديداً ليس أبعد من عام 360 م ويعود تعذيب حبيب واستشهاده إلى عام 620 (من العهد السلوقي) الموافق لعام 309 م أما كورية وشمونا فقد عذبا وذبحا في سنة 306 م (618 من العهد السلوقي) والملاحظ أن العبارات ، التي كتبت على لسان أبطال هذه القصص الجهادية تحمل صيغاً نيقاوية واضحة (متأثرة بقرارات وتفاسير المجمع النيقي _ المترجم) مثل ترديد عبارة (المساوي في الجوهر) وهي عبارة سادت بعد ذلك المجمع . وتحفل هذه الروايات بكلمات يونانية وألفاظ لاتينية للشهداء المسيحيين أو على لسان جلاديهم ومضطهديهم وحتى في المحاورات الحادثة أثناء المحاكمات والتهم الموجهة إليهم . وتفسر هذه الظاهرة بانتشار كثير من الألفاظ والمصطلحات اليونانية واللاتينية في اللغة السريانية المتداولة في ذلك الحين ، ولكن ذلك الأمر لا يعطي أي دليل على الزعم بأن النص الأصلي قد كتب أصلا باليونانية. ويجدر بالذكر أن القديس مار أفرام السرياني خصّ هؤلاء الشهداء بإحدى مرثياته الشهيرة . لم يكن هدفنا استعراض كل قصص وسير الشهداء المسيحيين، ولكننا أردنا فقط الإشارة إلى الأوضاع التي كانت سائدة في مدينة الرها في الربع الأول من القرن الرابع للميلاد ، وإعطاء ملامح عامة عن حياة هذه المدينة الهامة تحت سيطرة الإمبراطورية الرومانية . فالمعروف أن السريان الذين عاشوا على الأراضي البيزنطية شكلوا ذلك الوسط الذي انتشرت فيه الديانة الجديدة (المسيحية) بنجاح عظيم . كان إقليم أوسروين يضم الرها التي تمتعت بنظام الإمارة الهلنستية المسقفة ولكن هذا النظام سرعان ما استبدل بسيطرة مباشرة للإمبراطورية الرومانية التي كانت حتى عهد الإمبراطور (القيصر) قسطنطين ترفض الاعتراف بالمسيحية . وقد كانت هذه العلاقة العدائية من قبل روما ضد إقليم أوسروين ومدينته الكبرى _ الرها تتحول إلى حملات عسكرية تحت ذريعة واهية ، كما تمثلت بأسوأ أنواع الاضطهاد والملاحقة للمسيحيين ليس فقط في غرب الإمبراطورية ، ولكن في أقاليمها الشرقية بالذات كما حصل في عهد الإمبراطور ديقيس (ديكيس) لقد ترافق انتشار المسيحية في الوسط السرياني منذ أقدم الأزمنة بل منذ المراحل الأولى لقيام هذا الدين الجديد بنهوض مراكز ثقافية هامة ، مثل إنطاكية ، التي جعلت مركز الاستقطاب الثقافي ينتقل بعد مدة من حدود الإمبراطورية إلى بلاد فارس . لكن هذه الديانة الجديدة لم تلفت اهتمام السلطات الإدارية الإيرانية منذ لحظات ظهورها الأولى بل أثارت مقاومة عنيفة في هذه البلاد منذ بدء تطبيق الإجراءات الدينية الزرادشتية كسياسة رسمية في عهد الساسانيين . ويعود أحد الأسباب الرئيسة للملاحقة الفارسية إلى أن مسيحيي إيران كانوا في رأي السلطات الرسمية مؤيدين للإمبراطورية الرومانية وذلك منذ صدور مرسوم ميلانو سنة 313 م ، الذي أوقف محاربة المسيحية واضطهاد معتنقيها . أما بالنسبة للوضع الاجتماعي الاقتصادي للسريان الإيرانيين فقد كانوا في المدن ينتمون إلى شريحة التجار _ الحرفيين وكان بينهم أفراد اشتهروا بثرائهم الكبير ، وقد أدت السياسة الخارجية النشطة والحيوية التي قادها شابور الثاني إلى وقوع الدولة الإيرانية في عجز مالي مما جعله يأمر بجباية الضرائب من المسيحيين – السريان بما يعادل ضعف المواطنين الآخرين وقد طبق هذا القانون الشاهنشاهي (الملكي) في السنة الحادية والثلاثين من حكم شابور الثاني أي في عام 340 م.

قدم المرسوم الملكي القاضي بتكليف الرعايا المسيحيين بدفع أتاوة مضاعفة إلى أسقف سلوقية – قطيسفون شمعون (شمون) برصباعي الذي كان يعني شمعون ابن الصباغين وهو لقب جاء من أبويه اللذين كانا يعملان بصباغة الحرير باللون الأرجواني ليرتديه الملوك في ذلك الحين.

وحسب لقبه الكنسي فقد كان مار شمعون برصباعي رئيس الطائفة المسيحية في إيران . وقد أعدم الجاثليق برصباعي في السنة السادسة والثلاثين من حكم شابور الثاني الموافقة لسنة 344 م . وبدءاً من هذا التاريخ يبدأ حساب الاضطهاد الذي امتد أربعين عاماً فعرف باسم الاضطهاد الأربعيني وفي بعض الدراسات التاريخية الأخرى يشار إلى أنه امتدّ إلى 39 عاماً فقط وترافق هذا الاضطهاد الذي أودى بحياة آلاف المسيحيين بنهب أموالهم ومصادرة ممتلكاتهم إضافة إلى تدمير كنائسهم وإزالتها عن الوجود.

ويسمي مؤرخو الكنيسة مركزين رئيسين جرت فيهما أبشع الاعدامات والمذابح بحق المسيحيين أساقفة وكهنة ومؤمنين ولهذا خلّد هذان المركزان (المقبرتان الجماعيتان) تعظيماً وإجلالاً لأولئك الشهداء الذين ذهبوا ضحية الاضطهاد الأكبر في عهد شابور الثاني أحدهما كان في العاصمة وفي قصر الملك وبقربه – في مدينة كـرخ دي ليدان من أعمال الأهواز (حيث قتل مار شمعون وجمع غفير معه–المترجم) . والثاني في مقاطعة أديابين (حدياب).

وقد حلّلنا كافة الأحداث والظروف المرتبطة بإعدام الجاثليق مار شمعون على صفحات كتاب آخر لنا، ولهذا فإننا لا نوي تكرار ما فعلناه هناك مكتفين بالإشارة فقط إلى أن الرابطة الأيديولوجية لسكان إيران المسيحيين مع الإمبراطورية الرومانية من جهة والحالة المادية للشرائح التجارية – الصناعية للمدينة التي ينتسب إليها السريان من جهة أخرى ، ربما تكون هي الدوافع الأساسية لقيام شابور الثاني بملاحقة المسيحيين واضطهادهم كما لو أنه يتصدى مملكته فعلاً . وتقدم الكلمات والحجج الدفاعية الصادرة عن مار شمعون برصباعي مادة قيمة استفدنا منها في وصفنا للحالة الاجتماعية – الاقتصادية لإيران في تلك الآونة . يضاف إلى قصة استشهاد مار شمعون قصص اضطهاد عدد آخر من الأساقفة والكهنة المسيحيين واستشهادهم أيضا وهي قصص ذات أهمية كبيرة بالنسبة للمؤرخين والباحثين الاجتماعيين وغيرهم من المهتمين.

وينبغي القول أن تواريخ وقوع هذه الأحداث الجسيمة ما زالت موضوع نقاش وخلاف أما بالنسبة للنص الأصلي المتعلق بتاريخ موت مار شمعون ومن معه، فقد استخدم في نسخته الأقدم من قبل سوزومين الذي كان قد وضعه باللغة اليونانية ما بين عامي 439 م و 450 . ثم أعيد ترتيب النص الأصلي بناء على دراسة دقيقة مستفيضة قام بها غ. ويسنر الذي أعطاه رقماً رمزياً أسماه النص .

ويجدر بالذكر أنه توصل إلى تعيين معالم هذا النص بطريقة المقارنة ما بين النموذج المختصر والنماذج المطولة لقصص استشهاد شمعون بارصباعي كوشتازاد وتربو (طربو) وغيرهم المكتوبة منها باللغة السريانية أو اعتماداً على التاريخ الكنسي الذي وضعه سوزومين باللغة اليونانية ويمكن القول بثقة أن الإضافات والزيادات والتزويقات الأدبية والتصحيحات التي لحقت بهذه النصوص تعود إلى مرحلة قريبة من الأحداث المعروفة جيدا بالنسبة لمؤرخها الأصلي كما يبدو (ماروثا الميافارقيني حسب مؤلف كتاب اللؤلؤ المنثور – المترجم).
أما بالنسبة لحياة مستشار الملك الفارسي كوشتازاد وشقيقة مار شمعون – تربو فهي مدونة في النص الأصلي للشهداء من قبل الأسقف ذاته وهي قصص تروي معلومات هامة عن نظام الإدارة والضرائب في ذلك العهد وما يرويه التاريخ عن كوشتازاد المستشار (رئيس الحجاب) ، يسمح بأخذ صورة واقعية تتطابق إلى حد كبير مع حياة البلاط الإيراني آنذاك والواقع أن كوشتازاد هذا دخل في عداد المجلس السري للشاه أي أنه أسهم في اتخاذ القرارات الأكثر أهمية في حياة النظام وإدارة شؤون البلاد. وقد حدد له موقع (جناح) خاص في القصر الملكي كان يتواجد فيه عادة كان هذا الموضع غير بعيد عن المدخل الرئيس ، بحيث يستطيع أن يراه كل داخل أو خارج . وتحدد هذه اللوحة الحيّة معالم التنافس الذي حصل بين ثقافة وأيديولوجية السريان والفرس في تلك الأزمنة ومما يشهد على تعقد وضع المسيحي كوشتازاد في القصر الإيراني أنه كان ملزماً بعبادة الشمس وبالتبرؤ من صداقته القديمة لشمعون برصباعي الأمر الذي جعل الجاثليق (برصباعي) يلوي وجهه عنه ، كما يديره عن مرتد أثيم وكان استياؤه عظيما وأسفه لذلك بالغاً فقرر ممارسة طقوسه وعبادته المسيحية علناً فحكم على نفسه بالموت.

أما القصة الجهادية الأكثر جاذبية وعبرة فهي تلك المتعلقة بتاريخ شقيقة مار شمعون برصباعي المدعوة تربو . حيث تتطابق المخطوطة المتضمنة لقصة هذه الشهيدة مع قصة استشهاد أخيها شمعون وقد رجعنا إلى الآثار الخطية لكثير من سير وقصص الشخصيات المسيحية المقتولة في تلك الظروف العسيرة فوجدنا أنها تحتوي على معلومات ثمينة جدا، وهي على أهمية كبيرة ولا سيما أنها تحتوي على معطيات جديدة . فالأسقف شمعون وبوسي (بوساي) رأس الصناع وابنته والطواشي رئيس الحجاب كوشتازاد – هم أشخاص حقيقيون نسمعهم يتحدثون ونرى أفعالهم وردود فعلهم دفاعا عن عقيدتهم ومبادئهم.

ولهذا تبدو محاولة وصف حياة تربو على شكل قصة مرسومة بصورة محددة سلفاً عملية تحتوي على مبالغة نقدية فالاتهام والاعتراف والحكم كقضايا مرصوفة في نظام معين تبدو ليس كمخطط مسبق وإنما انعكاس لإجراءات محاكمة فعلية واحدة الملامح سواء بالنسبة لمحاكمات المسيحيين في الشرق وفي الغرب أو بالنسبة لأية محاكمة أخرى في العالم وتذكر الرواية المتداولة أن الاتهام الموجه ضد تربو كان بإيحاء من اليهود اقنعوا به زوجة الملك الإيراني التي أصيبت بداء خطير نجم عن ” نقمة المسيحيين وسحرهم ” وبخاصة الفتاة تربو ، فهذه التهمة ليس مستغربة إذ تعكس الصراع الضاري الطويل بين السريان واليهود على أرضية اقتصادية بالدرجة الأولى وتعكس تنافسهم في الصناعات الحرفية والتجارة والتصارع على الامتيازات التي كان يمنحها الملوك الفرس لمن يكونون أقرب إليهم ، كما تظهر محاولة كل طرف للحصول على رضى القصر والتقرب إليه ، للحصول في النهاية على تأييده في مجال الأيديولوجيا والعقيدة ومن ثم لترسيخ مواقعه عبر هذه الوسائل.

فالتوجه اليهودي عند الملكة الفارسية جعلها تصادق على تهمة اليهودية الموجهة ضد تربو بأنها تشتغل بالسحر المكرس ضد الملكة بزعم الانتقام لمقتل أخيها شمعون في هذا الوقت بالذات انتصر التيار الزرادشتي في البلاط الفارسي وتوطدت مكانة الأحبار اليهود فيه أيضا وكما يبدو فإن اتهامهم السريان بممارسة السحر الشرير كان ردا على موقفهم السلبي من الزرادشتيين أما الكلمات الدفاعية التي نطقت بها تربو فهي تكرر المنطلقات العامة والخطوط العريضة المعروفة في آثار أدبية سريانية أخرى تعود إلى القرنين الثالث والرابع للميلاد ومن حيث الشكل فإن آراء تربو تتطابق مع التعابير التي نقلت عن شمعون برصباعي وهي على شكل جمل استفهامية مع أجوبة عليها.

أثناء المحاكمة التي جرت لتربو قررت هيئة المحكمة تجريمها مع فتاتين أخريين بتهمة ممارسة السحر لكن الملك الفارسي (الشاهنشاه) وعد بعدم قتلهما إذا ما سجدن للشمس وقدم الاقتراح نفسه رئيس هيئة المحكمة لكنه قوبل كذلك بالرفض من تربو حيث أوضحت أن السجود للشمس يعني الشرك وأن المسيحية تحظر عبادة الكواكب كما رفضت عرض الزواج قائلة أنها ” مخطوبة للمسيح ” وقرر الكهنة الزرادشتيون (أعضاء المحكمة) قتل الفتيات الثلاث ولكي تبرأ الملكة من علتها سارت على الطريق الذي اقتيدت به الصديقات الثلاث نحو حتفهن ثم سار خلفها الملك وعدد كبير من أفراد الحاشية وقادة الجند.

وتتضمن قصة استشهاد تربو مرثية (بكائية) عنها وعن صديقاتها ومن المحتمل أن هذه الإضافة جرت من قبل ماروثا الميافارقيني (من ميافارقين) . ومن المعروف أنه وضع مجموعة سير يخبرنا عنها عبد يشوع الصوباوي في الفصل السابع والخمسين من جدول المؤلفين وقد تعود للمؤلف ذاته (ماروثا الميافارقيني) تحرير أقوال شمعون برصباعي وشقيقته تربو التي كتبها شخص واحد في كل الأحوال.

أما بالنسبة لأوضاع المسيحيين – السريان في إيران عدا الصراع العقائدي والاضطهاد الأكبر (العظيم) الذي تعرضوا له في عهد شابور الثاني (المضطهد) فإن جوانب هذا الصراع كانت غير بعيدة عن المنافسات المادية – الاقتصادية كما ألمحنا إلى ذلك سابقا ، والواقع أن تنظيم الصناعة الحرفية في عهد الساسانيين يمكن أن يعزى إلى المواهب والإمكانات السريانية المادية وقد سبق وأن أشرنا إلى بوسي ، رئيس الصناع في البلاط الفارسي الذي كان سريانياً مسيحياً ومع ذلك تمكن من شغل ذلك الموقع الرفيع في مملكة الفرس.

وتسمح لنا قصة حياته ومجموعة الوثائق السريانية الخاصة بالاجتماعات المحلية (الحرفية) التوصل إلى استنتاجات هامة حول وجود مجموعة شركات تعاونية كانت تضم عددا كبيرا من الورش الحرفية ويدل على أهمية هذه الاتحادات الحرفية الأولية ، إمضاءات رؤسائها وشيوخها تحت محاضر اجتماعاتها ومصادقة السلطة الحكومية الإيرانية عليها والمؤكد أن بوسي السرياني بحكم مسئوليته كرئيس لصناع القصر ، خضعت لزعامته الورش الصناعية ، – الحرفية في مختلف المدن الإيرانية.

استمرت ملاحقة المسيحيين واضطهادهم لمدة طويلة كما ذكرنا في عهد شابور الثاني وكان من ضحايا ذلك الاضطهاد المروع أسقف سلوقية شاهدوست (شاه دوست) الذي أعدم في بيت لافاط ثم أعقب ذلك إعدام ابن أخت شمعون برصباعي – بارباشمين . أما في عام 348 م (إذا اعتبرنا أن قتل شمعون جرى في سنة 344 م) فقد استشهد وقضى (قتلاً) و 120 من رجال الدين المسيحي بين قس وراهب وبعض المسيحيين العاديين. وبدءا من عام 347 م بدأت ملاحقة المسيحيين في مناطق بيت كرماي وأديابين (حدياب) وقتل في هذه الملاحقة الدموية الأسقف شهرجيرد (ميهر) نرساي. ومن بين القصص الاستشهادية التي وصلت إلى أيدينا، وصف إعدام عناني في عربايي والكاهن الأسبق أثيالاها في إربيل، وذاك في سنة 358 م. وقد تحدث عنهم المؤرخ الكنسي المعروف سوزومين ، الذي تحدث أيضا عن مقتل ميلس ، دون أن يسمي المدينة التي كان أسقفا عليها فالنهاية الاستشهادية لميلس ، أسقف السوس ، يجب أن تكون قد حدثت في بداية ” الاضطهاد الكبير “.

والى جانب أولئك الشهداء المعروفين كان عشرات الشهداء المسيحيين المجهولين حتى أن بعض المصادر المسيحية تعد هؤلاء الشهداء بعشرات الألوف ومع أن وثيقة استشهاد مار كرداغ (قره داغ) (358 م) حاكم أديابين (حدياب) ، الذي اعتنق المسيحية تثير بعض الشكوك والتحفظات إلا أنها تحتوي على كثير من التفاصيل التاريخية الهامة والطريفة كما تضم في الوقت ذاته معطيات طبوغرافية لا بد أنها كتبت من قبل شخص واسع الاطلاع على تلك المعلومات الهامة وعلى مجمل الأوضاع التي كانت سائدة حينئذ.

وعلى مدى القرون : الرابع والخامس ، وحتى السادس كان تتفجر بين فترة وأخرى حمى الملاحقة والاضطهاد ضد المسيحيين ومن أجل ذلك الأمر كان ملوك الفرس يجدون باستمرار الحجج والمسوغات الملائمة وكان أحد العوامل الهامة في تلك الإجراءات التعسفية سعي الحكام الفرس في تلك الآونة لملء خزينة الدولة بالأموال على حساب الحرفيين الموسرين والتجار الأثرياء وذلك من خلال مضاعفة الضرائب وحتى المصادرة التامة للممتلكات وسبب آخر لتلك الملاحقة يعود حسب رأي الباحثين إلى ” غيرة ” و ” حقد ” زعماء الزرادشتية بسبب أن هذا الدين (المسيحي) الجديد والغريب عن الفرس انتشر بهذه السرعة وأصبح يشغل مكانة كبيرة في البلاط بعامة وفي البلاط الحكومي الرسمي بصفة خاصة. وقد أثرت هذه الملاحقة تأثيرا بالغا على مسيحيي إيران ، ولا سيما على السريان فبقيت نتائجه على مدى بضعة قرون . لكن هذه الملاحقات رغم طابعها العنيف والدموي في بعض الفترات لم تتمكن من إيقاف مسيرة التطور المتصاعدة التي تجلت بأشكال متنوعة نذكر من بينها ازدهار التآليف المسيحية وآدابها المختلفة في بلاد ما بين النهرين عبر اللغة السريانية بالذات فتأسست المدارس وانتشر التعليم في مستوياته المتعددة في كنف الكنائس والأديرة التي غصت بها هذه المنطقة جبالا وسهولا.

وتطورت في الوقت ذاته النزعات والتيارات العقائدية المختلفة في الجماعات المسيحية المختلفة فبرزت أفكار علماء ولاهوتي مدرستي الإسكندرية وإنطاكية وقرارات المجامع الكونية التي ظهرت على أساسها تفاسير عقائدية أصولية كانت محور مناقشات ومجادلات في سورية حيث نقلت من اليونانية إلى السريانية ليس فقط المؤلفات العقائدية واللاهوتية وحسب وإنما الحكمة الكلاسيكية والمعارف العلمية القديمة أيضا. وتقدم الدليل الساطع والبرهان الصادق على ذلك الرقي الثقافي مجموعة كبيرة من المصادر المتعلقة بالأنشطة العظيمة للمدارس العليا مثل أكاديمية الرها ونصيبين وجنديسابور (جنديشابور) التي ارتبطت بأسماء عدد ضخم من العلماء الأجلاء نذكر من بينهم على سبيل المثال فقط : سرجيس (سرجيوس) الرأسعيني ، وسابورا سابوخت ، وحنانا الحديابي ، ونرساي وغيرهم.