رواية
ماردين هي احدى المناطق السورية التي انتقلت الى السيطرة التركية بفعل مؤامرة سايكس – بيكو وما جرّته على امتنا من ويلات على صعيد وحدتها ، وصولاً الى وعد بلفور وتأسيس دولة الاغتصاب في الجنوب السوري .
مادرين ، كما مناطق اخرى في تركيا ، كان يقطنها ارمن أو سريان ، تعرّضت للمذابح والتهجير ، وهذا ما يعرفه كل مطلع على التاريخ الحديث لامتنا ، وللشرق الاوسط ، وشكلت – تلك المذابح – قضية سياسية ما تزال تتفاعل حتى يومنا هذا .
” وداعاً يا ماردين ” هو الكتاب الصادر عن دار ” بترا ” بالاشتراك مع دار “الفرات” ، للروائية هنرييت عبودي وهو رواية من 312 صفحة ، حجم وسط .
التعريف التالي ننقله عن الغلاف الاخير للرواية ، ومنه يستدل على مضمون الرواية التي رغبت هنرييت عبودي ان تحكي فيها عن قصة السريان السوريين في مدينة ماردين:
الذاكرة لا تخمد ما دام الراهن يستدعيها . وعندما تمتلئ الذاكرة البعيدة بصور القهر والاضطهاد وعندما تطغى على الذاكرة القريبة الصور ذاتها ، مع اختلاف الناس والزمن والجغرافيا ، لا يمكن لحاملتها – إن كانت كاتبة – إلا أن تعيد تظهير جميع الصور المتناثرة في ذاكرتها ، سواء منها ما عاشته او ما عايشته من خلال ذاكرة الآخرين . فالذكريات الأليمة ما لم تُبلسَم بالتسامح تبقى كالجرح غير المندمل تنكأه أبسط الاحداث فيعاود نزف الآلام .
وعلى سؤال ” لماذا هذه الرواية ” ، تجيب هنرييت عبودي :
كانت إذا ما استذوقت حبة عنب سارعت إلى القول: “يبقى عنب ماردين أحلى وأزكى” .
وكانت إذا ما أكلت قطعة من الجبن الشهي عقّبت على الفور: “لا شيء يمكن أن يضاهي جبن ماردين نكهة” .
وكانت إذا ما أعدّت لنا شواءً ، يسيل اللعاب لما يفوح منه من الروائح ، ضحكت من إقبالنا النهِم عليه وقالت: “ماذا كنتم ستفعلون لو قدمت لكم طبقاً من قليّة ماردين؟ كنتم ستلتهمون اللحم والطبق معاً” .
حتى قمر حلب – ويعلم الله كم هو جميل قمر حلب في لياليها الصيفية – ما كان ينال كامل رضاها: فأين هو من “قمراية” ماردين؟ ذلك أنها ثابرت على التكلم بلهجة ماردين مع أنها غادرتها وهي طفلة .
وما من مرة أتت فيها بذكر مدينتها ، التي تتفوق على سواها بمناخها وبساتينها ، بأهلها وعاداتها ، بطعامها وسهراتها ، إلا وكنت أمازحها قائلة: حتى لو بقي من عمري يوم فسأذهب لزيارة ماردينك هذه .
عندما كنت أتعمد تكرار هذه العبارة كانت أمي لا تزال على قيد الحياة وكنت أنا لا أزال في مقتبل العمر . عمر كان يبدو لي مديداً ، مطاطاً ، له نهاية ولا شك ، ولكن بعيدة… ومضت السنوات ، وشسعت المسافات الفاصلة بيني وبين مدينة أمي ، وتضاءلت ، إلى حد التلاشي ، فرص زيارتها . ولكن بقي العهد الذي قطعته على نفسي يلازمني ويلّح عليّ بالتنفيذ . فعزمت على النهوض بتلك الرحلة ، بتلك العودة إلى ينابيعي الأولى ، ولكن بالوسيلة الوحيدة المتاحة لي : أعني المخّيلة ، فانكببت على كتابة هذه الرواية .
ثمة اعتبار آخر دفعني إلى محاولة إعادة إحياء أجواء وأحداث لم أكن ، بالطبع ، شاهدة عليها : شعوري بأن للماضي حق الحضور في ذاكرتنا ، وبأن علينا واجب السهر عليه . فمن الظلم أن تكون آلاف مؤلفة من الضحايا البريئة قد قضت في لحظة من لحظات جنون التاريخ من دون أن تجد من يرثيها ويروي فاجعتها . ذلك أن ماردين ، التي اختارت أمي ألا تحتفظ عنها إلا بالذكريات الحلوة ، كانت في مطلع القرن الماضي مسرحاً لجرائم همجية وتصفيات جماعية أسوة بسائر مناطق ولايات الأناضول الشرقية . ولئن حفظت ذاكرة التاريخ المجزرة الرهيبة التي حلّت بالأرمن ، بل حرب الإبادة التي هدفت إلى استئصالهم ، فقد أسقطت من حسابها مأساة السريان الذين قدمّوا عشرات الآلاف من الضحايا ، لا على مذبح التمييز الإثني ، بل على مذبح التمييز الطائفي : فقد جرى الفتك بهم وتهجيرهم لا لسبب إلا لكونهم من دين مغاير .
عندما كنت أصغي إلى الفواجع التي ألمّت بهم ، ترويها عليّ خالة مسنّة كانت في عداد من هاجر إلى حلب واستقر فيها ، كنت ، رغم تأثري الشديد بكل ما أسمع ، أشعر أن هذه المآسي هي ملك ماضٍ ذهب إلى غير رجعة . أفلم نكن نردد ، منتشين: “الدين لله والوطن للجميع” ، ساخرين من الطائفية ، محيلينها ، في أذهاننا ، إلى متحف التاريخ؟
ولكن أحداث لبنان جاءت توقظنا من حلمنا الجميل! فقد عاد “القتل على الهوية” يحصد الضحايا البريئة؛ في بلاد الأرز أولاً ، وفي بلاد الرافدين والعديد من الأقطار العربية الأخرى لاحقاً . وما عادت آلة القتل تكتفي باستهداف التمايز الديني ، بل غدت تبحث عن وقودها في التمايز الطائفي داخل الدين الواحد ، وهي لا تني تزداد شراسة وضراوة حتى غدا شبه مستحيل أن ينقضي يوم واحد بدون أن نسمع عن سقوط ضحايا لم تقترف من ذنب سوى أنها تمثل “الآخر” الذي أمسى ممقوتاً لأسباب يتأبى العقل عن فهمها ، فكم بالأحرى عن المصادقة عليها .
“وداعاً يا ماردين” رواية ، وهذا يعني أن للخيال فيها دوراً رئيسياً . لكن رجال السياسة والإدارة من أبطالها حقيقيون ، كما أن أحداثها المأسوية هي وقائع تاريخية مثبتة . وفي مطلق الأحوال ، كان الخيال سيخونني ، كما كان سيخون أي روائي آخر ، في تخيّل نظائر تلك الجرائم الهمجية التي اقترفت بحق أبرياء: فالواقع ، هنا ، يفوق بالفعل كل خيال .
يبقى أن أقول إن بعض المصادر تقدّر إجمالي عدد الضحايا من السريان ، في سلسلة الاضطهادات والمجازر التي شهدها الربع الأخير من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين ، بأكثر من خمسمائة ألف .
كلمة الغلاف
الذاكرة لا تخمد ما دام الراهن يستدعيها . وعندما تمتلئ الذاكرة البعيدة بصور القهر والاضطهاد وعندما تطغى على الذاكرة القريبة الصور ذاتها ، مع اختلاف الناس والزمن والجغرافيا ، لا يمكن لحاملتها – إن كانت كاتبة – إلا أن تعيد تظهير جميع الصور المتناثرة في ذاكرتها ، سواء منها ما عاشته أو ما عايشته من خلال ذاكرة الآخرين . فالذكريات الأليمة ما لم تُبلسَم بالتسامح تبقى كالجرح غير المندمل تنكأه أبسط الأحداث فيعاود نزّ الآلام .
بعمق الروح المتسامحة ، غير الغريبة عن هنرييت عبودي التي كانت ترجمت للقارئ العربي رسالة ڤولتير عن التسامح ، تروي لنا الكاتبة بسرد مشوق تاريخ أسرتها السريانية وحكاية مدينة ماردين ، وحكاية ديار بك وولايات الأناضول الشرقية ، بل حتى حكاية أهالي مدينة حلب التي فتحت صدرها للمنكوبين . فنتعرف من خلال أحداث الرواية على جانب مهم ومؤثر من تاريخ المجتمع السوري الحديث .
وتصور لنا الرواية على لسان أبطالها ، وبلغة نابضة بالواقعية ، درب الآلام الذي سلكه السريان العرب هرباً من المذابح وحملات التهجير التي تعرضوا لها في الربع الأول من القرن العشرين عندما عصفت بالإمبراطورية العثمانية المحتضرة الرياح المجنونة للعصبية الاثنية والطائفية التي ما برحت تضرب بالجنون نفسه في شتى أرجاء منطقتنا وكأنها قدرنا الذي لا تخمد ناره تحت الرماد .
“من الظلم أن تكون آلاف مؤلفة من الضحايا البريئة قد قضت في لحظة من لحظات جنون التاريخ من دون أن تجد من يرثيها ويروي فاجعتها”؛ فللحقيقة حقها وللتاريخ حقه ، وكذلك لروح التسامح الذي ترى هنرييت عبودي فيه وسيلتنا لمواجهة ذلك القَدَر: لهذا كتبت روايتها مودِّعةً ماردين .
هنرييت عبودي في ملحمتها الكبرى
بقلم : هاشم صالح
هذه ليست رواية . هذه ملحمة عائلية تخص شعبا بأسره : إنّه شعب السريان الذي لا نكاد نعرف عنه شيئا لأنه ينتمي إلى الأقلّيات المحتقرة عادة من قبل الأغلبيات ، وخاصة في ظل السيطرة العثمانية . فمن سيهتمّ بهؤلاء الناس الذين ينتمون إلى الأقلّية مرّتين لا مرّة واحدة : أقلية على المستوى العرقي ، وأقلية على المستوى الديني . ولماذا لم ينقرضوا أصلا ونرتاح منهم؟ في الواقع ، كادوا أن ينقرضوا من كثرة الاضطهاد والعسف ، أو التعصب الأعمى والجهل والطغيان . فمن يستطيع أن يصف مجرّد وصف طغيان الإمبراطورية العثمانية وجنرالاتها وباشواتها المرعبين خاصة في أواخر أيامها؟ لقد ضرب بها المثل في هذا المجال وانهارت غير مأسوف عليها . ولكنها قبل أن تنهار نهائيا ارتكبت أكبر مجزرة ضد الأرمن والسريان والكلدان وسواهم من الأقلّيات المسيحية . وهي المجازر التي امتدّت منذ نهايات القرن التاسع عشر حتى بدايات القرن العشرين . أي بشكل خاص عام 1895 ، و1909 ثم المجزرة الكبرى بين عامي 1915 و 1918 .
وهنا ، في هذه الرواية ، نجد أحد فصول رعبها وهمجيتها الأكثر سوادا .
هل هذه الرواية هي سيرة ذاتية أم قصة خيالية؟ لا يهمّ . هي كلّ ذلك دفعة واحدة . لا ريب أنّ الواقع يختلط فيها بالخيال . ولكن لم يحصل أي تلاعب بالأحداث التاريخية ، فقد وضعت كما هي . فقط حصل تغليف للظروف الشخصية بالخيال الروائي المحبّب والمشوق . ولولا ذلك لفقدت الرواية رونقها أو لتحوّلت إلى كتاب وثائقيّ جافّ في علم التاريخ عن مجازر الأرمن والسريان وسواهم . لولا ذلك لما كانت رواية تنبض بالحياة . ومعلوم أنّ الكاتبة تبرع في وصف شبكة العلاقات العائلية والاجتماعية بشكل إنساني ، حميمي ، دافئ . إنها قادرة على أن تخلق جوّا متكاملا يضجّ بالحياة ككلّ الروائيين الحقيقيين . وذلك على عكس الروائيّ الفاشل الذي يبدو جوّه أو عالمه مصطنعا متفكّكا غير مقنع على الإطلاق . وقد برهنت على مهارتها الفنية هذه أكثر من مرّة في رواياتها السابقة .
ولكنّ هذه الرواية تتفوّق على كل سابقاتها في رأيي لسببين : الأوّل هو أنها تطرح موضوعا حميميا يخصها نفسيا وشعوريا إلى أقصى الحدود . إنه ليس موضوعا خارجيا عليها وإنّما داخليّ . فهي تخرج إلى دائرة الضوء قصّة الاضطهاد الرهيب الذي تعرّض له ليس فقط شعب الأرمن وإنّما شعب السريان أيضا . فمن كثرة ما تمّ التركيز على مجزرة الأرمن نسي الناس مجازر أخرى تمّت تحت غطائها أو تحت معطفها إذا جاز التعبير . وبالتالي فهم “منسيّو التاريخ” كما يرى كبار مؤرّخي تلك الفترة المظلمة من حياة منطقتنا . والثاني هو أنّ المؤلفة لا تخترع هذه المرّة شخصيات روايتها من العدم وإنّما تستمدها من أقرب المقربين إليها : أي من أمّها وأبيها وجدّها وجدتها وعمّاتها وأعمامها وأخوالها وجيرانها .
باختصار فإنّها تقدّم لنا الذكريات العائلية الشخصية على طبق من ذهب أو من نار . لا ريب في أنّه لزمها الكثير من الشجاعة والجرأة كي تتحدّث عن موضوع خطير ومؤلم كهذا الموضوع . فمن المعلوم أنّ الإنسان يميل إلى طمس الذكريات الأليمة في أعماق وعيه أو لاوعيه لكي يستطيع أن يعيش أو يستمرّ في العيش . إنّه يهرب منها باستمرار ولا يطيق تذكّرها إلا بشقّ النفس . كلّ من عاش طفولة تراجيدية أو كابوسية سوداء يعرف ذلك . أنا شخصيا عاجز عن مواجهة طفولتي حتى بعد مرور خمسين سنة تقريبا على الأحداث . وعاجز عن التحدّث عنها إلا بشكل تلميحيّ سريع هنا أو هناك . إنّها أكبر منّي . فما بالك بمجازر مرعبة تقشعرّ لها الأبدان؟ هل يمكن للمؤلفة أن تكون سعيدة بذلك وهي تستعرض أمامنا شريط الأحداث المتوالية رعبا على رعب؟ هناك صفحات لا تستطيع قراءتها بسهولة . وأنا شخصيا عانيت أثناء قراءتها وتقريبا أجبرت نفسي إجبارا على ذلك . صحيح أنّها تغلّفها بأسلوبها المشهور . ولكني أعتقد أن هنرييت عبودي استطاعت أن تفعل ذلك لأنّها لم تكن معنيّة مباشرة بالأحداث . فهي لم تكن قد ولدت بعد عندما حصلت المجزرة ثمّ الهرب من ماردين إلى حلب حيث ولدت بعد فترة طويلة نسبيا . أمّها كانت شاهدة عليها وهي التي تتّخذ في الرواية اسم : لطيفة . أمّها التي كانت مصابة مباشرة وليس هي . ولكن إذا كانت أمّك مصابة ألن تكون مصابا أنت أيضا بشكل من الأشكال؟
لقد فوجئت عندما اطلعت على كلّ هذه التفاصيل . واستغربت كيف أنّ المؤلفة سكتت حتى هذه اللحظة عليها . كيف لم تكتب حتى الآن عن أخطر موضوع في حياتها؟ ولكن لحسن الحظّ أنّها تجرّأت وفتحت فمها أخيرا . وكما يقول المثل الفرنسيّ : من الأفضل أن يأتي الشيء متأخّرا على ألا يأتي أبدا . والواقع أنّ استمرار السكوت على موضوع إنسانيّ كهذا كان يمكن أن يتحوّل إلى جريمة بحدّ ذاته : أقصد جريمة بحقّ الإنسانية والحقيقة والتراجيديا الكبرى التي تعرّض لها أناس أبرياء كانوا مطمئنين في ديارهم . ثم انقلب عليهم الدهر فجأة وحوّل حياتهم إلى جحيم وأنقاض وأشلاء . من يستطيع أن يسكت على جرائم كهذه؟ نقول ذلك خاصة وأنّ الرواية ناجحة من الناحية الفنية ، بل ربما كانت أنجح رواياتها وأهمّها على الإطلاق . والواقع أنّ الجانب التاريخي من الرواية أو قل الجانب الوعظيّ الأخلاقيّ لم يطغ على الجانب الفنّي كما كان متوقعا ومخشيا في مثل هذه الحالة .
كان يمكن للمؤلفة أن تستسلم لعواطف الألم والضغينة على هؤلاء المجرمين الذين قتلوا عائلتها وتحوّل روايتها إلى مجرد إدانة كاملة لهم . لا ريب في أنّها أدانتهم ولكن بشكل غير مباشر وغير وعظي مملّ على الإطلاق . لقد عرفت الكاتبة كيف تظل مخلصة للفن الروائي وكيف تأخذ مسافة معينة عن عواطفها الذاتية وهي تقدم الأحداث التاريخية من خلال السرد المشوق لسيرة هذه العائلة وعائلات ماردين الأخرى وما تعرضت له من متاعب وويلات . في بعض اللحظات لا تستطيع أن تواصل القراءة . هناك صفحات مزعجة بالفعل ولا تكاد تحتمل من شدة الفظاعات والجرائم التي ارتكبت في حقّ أناس أبرياء لا ذنب لهم إلا أنهم مختلفون دينيا . فقد خلقهم الله مسيحيين لا مسلمين . هل يمكن أن تُحاسب على مكان ولادتك؟ شيء لا يكاد يصدّق . ومع ذلك فهذا ما حصل . الشيء المرعب في القصة هو التالي : يحصل أحيانا أن تنفرد بك قوّة غاشمة في غفلة من الدهر حيث كلّ الناس مشغولون عنك ، وحيث تتخلى عنك كلّ قوى الأرض والسماء فجأة وتجد نفسك أمام المصير المحتوم ولا مهرب ولا نجاة ولا مناص . هناك يكمن الرعب أو رعب الرعب . ولذلك فإنّ بعض شخصيات الرواية تكفر بالله في لحظة غضب ويأس وهلع لا تكاد توصف . (انظر ممدوح .ص 49 . إنه غضب الله…غضبه على ما يُقترف بحق الأبرياء! غضب الله! كان ممدوح يردد بحدة وانفعال وهو يصارع الطبيعة الهوجاء ، وفي ظلمة الليل ارتفع صوته يسأل : ولِمَ يكتفي بالغضب . لِمَ لا يتدخل؟
عندما يقرأ المرء هذه الصفحات يستغرب كيف أن أحدا لم يتحدث عن هذه الفترة العصيبة ، عن هذا الاضطهاد الذي لا يكاد يصدق والذي لم يحصل في العصور الوسطى وإنّما في بدايات القرن العشرين! ولكن هل تجاوزنا العصور الوسطى يا ترى؟ عندما يطلع المرء على كل ذلك لأوّل مرّة ، وهذه هي حالتي ، يستغرب كيف لم تحتلّ هذه الأحداث أية أهمية داخل الثقافة العربية أو داخل كتب التاريخ المدرسية التي قرأناها . على حدّ علمي لا أثر لها في برامج تعليمنا ولا حتى في جامعاتنا أو معاهدنا العليا . لو كانت المسألة تتعلق ببعض المشاغبات أو الاعتداءات البسيطة على هذا الطرف أو ذاك لهان الأمر . ولكنها تتعلق بمقتل مليون ونصف المليون أرمني بالإضافة إلى نصف مليون سرياني وكلداني! ومع ذلك فلا أثر لها تقريبا في تاريخنا أو في ثقافتنا . كيف يمكن لشخص مثلي يلتهم عشرات الكتب سنويا إلا يكون قد سمع بالموضوع حتى الآن؟ لولا رواية هنرييت عبودي لمرّ عليّ مرور الكرام . هذا هو الشيء المقلق وربما لم يكن أقل إقلاقا وخطورة من المجازر ذاتها!
هل يحقّ للمثقفين العرب أن يسكتوا أبديا عن موضوع كهذا؟ لحسن الحظّ فهناك استثناء على هذه الصورة السوداء . إنه صادر عن المثقفين الأتراك أنفسهم . ويمكن أن نذكر في طليعتهم أورهان باموك الحائز على جائزة نوبل للآداب . ومعلوم أنه تعرض للمتاعب بسبب موقفه المشرف من المجزرة الأرمنية الكبرى . فقد اعترف بها وأدانها ودعا قومه للاعتراف بها . وبسبب ذلك وأشياء أخرى تعرض للتهديد من قبل اليمين المتطرف التركي . ولذلك فهو يعيش خارج البلاد لكي يكتب ويتنفس ويفكر بحرية . ولكنه ليس الوحيد . فقد بلغ عدد التوقيعات على الانترنيت أكثر من سبعة آلاف مثقف وصحفي . وكلهم أتراك من جيلنا يدعون حكومتهم للاعتراف بما حصل . وهذا يعني أن الضمير التركي لم يمت بعد . بل إنه في طور الانبثاق والتشكل كضمير حديث ومسؤول . وربما كان قد سبقنا من هذه الناحية . ولا أعرف لماذا تكابر القيادة التركية الحالية وتعاند وترفض الاعتراف بالمجزرة الكبرى سواء تلك التي تخص الأرمن أو تلك التي تخص السريان . . فهي ليست مسؤولة عنها بأي شكل ولا كذلك الشعب التركي الحالي وإنّما الأجيال السابقة قبل مائة سنة . بل وليست الأجيال السابقة كلها مسؤولة وإنّما فقط القيادة الإجرامية التي حكمت في تلك الفترة . وهي معروفة بأسمائها وأسماء باشواتها وجنرالاتها وجلاديها وجلاوذتها . ومعظمها مذكور على مدار الرواية لحسن الحظ . فقد كان ينبغي أن نُتحف بأسمائهم لكي نتعرف عليهم على الأقلّ أو لكي نتذكرهم ونبصق عليهم إذا كنا قد نسيناهم بعد كل تلك الفترة الطويلة التي تفصلنا عنهم . إذا لم تخنّي الذاكرة فإن مؤسس التحليل النفسي سيغموند فرويد كان يقول ما معناه : سوف تظل روح المظلوم تصرخ وتستغيث حتى يعترف الظالم بما اقترفته يداه بشأنها . عندما يعترف بأنّه ظلمها واضطهدها بغير حقّ فإنّ روحه تستريح وتهدأ . أما قبل ذلك فلا . وهذا شيء يعرفه ويحس به أي مظلوم في التاريخ وليس فقط الأرمن أو السريان . انظر الحالة الفلسطينية . وبالتالي فالحكومة التركية سوف تعترف بذلك عاجلا أو آجلا ولن تستطيع التهرب من الحقيقة إلى الأبد . وسوف تكسب احترام العالم كله عندما تعترف بأن القادة الأتراك السابقين المجرمين استغلوا ظروف الحرب العالمية الأولى وانشغال الناس بها لكي يحلوا المسألة الأرمنية والمسيحية كلها على طريقتهم الخاصة : أي عن طريق التصفية الجماعية الكبرى : أو ما يعرف بالإبادة .
هذا لا يعني أن الرواية كلها سواد في سواد أو بكاء ونحيب وعويل على مدار الصفحات! أبدا لا . فالرواية ممتعة بل ومضحكة في أحيان كثيرة . ومن يعرف هنرييت عبودي يعلم أنّها بارعة في التهكم الساخر المبطن . ورغم مأساوية الموضوع ورعب الأحداث إلا أن روح الدعابة لا تفارقها . هل تريدون أمثلة على ذلك؟ إليكم بعضها: كيف كان الجدّ يمضي وقتا طويلا في تضبيط الطربوش على رأسه فيستقيم تماما ولا يحيد عن موضعه قيد شعرة أبدا .ص12 . ويثير بذلك استغراب أحفاده وإعجابهم إن لم يكن ضحكهم وسخريتهم . أو كيف “نفدت” غالبية اليتيمات العازبات في ماردين وحواليها لأنّ من يتزوج يتيمة يعفى من الخدمة العسكرية لدى الأتراك .ص 14 . أو كيف منحوا الزعيم الديني للأرمن الأسقف مالويان وساما عثمانيا دون علمه وحتما ضد إرادته . وهذا هو المضحك المبكي . تقول المؤلفة :
“هل علمت بالذي حصل؟ سألته بفضول . وإذ بدا واضحا على ملامحه أنه لم يعلم ارتفعت جوقة من الأصوات تزف إليه الخبر المذهل: لقد منح الأسقف مالويان وسام استحقاق! أعطاه السلطان نيشانا .حصل عليه بموجب فرمان . نيشان الشاهاني الذي منح هو من أسمى الأوسمة وأرفعها مكانة . لقد ذهل الأسقف عندما سمع بالنبأ . فهو لم يطلب أي وسام من الباب العالي ولم يكن يتوقع أصلا أي بادرة ايجابية من السلطات العثمانية بعد الذي حصل…”
هذا الأسقف المسكين هو الذي قتلوه بعدئذ شرّ قتلة بعد أن أهانوه على رؤوس الأشهاد .
أو لنستمع إلى هذه العبارة عن شخص آخر: “قطع ميخائيل العواد سيل التعليقات الصادرة من كل صوب ليقول ، وهو يخلع طربوشه ليحك صلعته الجافة البشرة” . .ص 21 الخ . وبانتظار أن يكون قد حك صلعته يكون قد نفد صبرهم وهم ينتظرون ما سيتفوه به من كلام . .
وعموما فإن المؤلفة تبرع في تصوير النماذج البشرية وبخاصة البخلاء . فهي تنقض عليهم انقضاضا وتتلذذ بفضح حكايا بخلهم وشحهم وكل الحيل التي يستخدمونها لكيلا يصرفوا شيئا . انظر مثلا البورتريه الممتع الذي تقدمه عن ميخائيل العواد السالف الذكر . من الصفحة 30 إلى الصفحة 33 وما بعدها . إن قراءتها تمثل متعة ما بعدها متعة .
فهناك بورتريهات أخرى عديدة على مدار الرواية . وهي ليست محصورة بالبخلاء فقط وإنّما تخص مختلف أنواع النماذج البشرية . من خلال هذه البورتريهات أو الصور الشخصية تمارس المؤلفة النقد الاجتماعي على هواها كما تشاء وتشتهي وتقدم فلسفتها في الحياة أو عن الحياة بشكل غير مباشر .
ولكن سرعان ما نحزن على ميخائيل العواد هذا ونتعاطف معه بعد أن نعرف إنهم قتلوه شر قتلة.
لن أدخل في تفاصيل المجازر والفظاعات الواردة في الرواية لأن ذلك مزعج أولا ولأنها كثيرة جدا ثانيا . ولن أتحدث عن مغادرة آل مسعود لماردين على الرغم من أنّها أعز عليهم من روحهم . ولكن غادروها في آخر لحظة غصبا عنهم إلى حلب كيلا يبادوا كليا بعد مقتل ابنهم ممدوح . وقصة هذه المغادرة وما حصل أثناء الطريق من حوادث وتقلبات وتضامن عائلي إبان المحن تشكل الجزء الثاني من الرواية بكل ما تحمله من تشويق ومتعة ومعلومات انتربولوجية عن منطقتنا في تلك الفترة . لقد قرأت هذه الفصول بدءا من مغادرتهم ماردين إلى رأس العين لركوب القطار إلى حلب أكثر من مرة . إنّها مغامرة ممتعة فعلا وتشدك إليها غصبا عنك . وفي أثناء ذلك يجد القارئ لمحة تاريخية عن ماردين منذ أقدم العصور وحتى اليوم . ص 113-125 . ما كنت أعرف أن صفي الدين الحلي كان أحد شعرائها بعد أن استضافته وأقام فيها لفترة طويلة من الزمن . بعدئذ تبتدئ فترة حلب ويتفرق بعض أعضاء العائلة في شتى أنحاء الأرض من زحلة إلى بيروت إلى الاسكندرية إلى أمريكا الجنوبية… وعندئذ تتحول ماردين إلى ذكرى أسطورية لا تنسى . إنّها تشبه الفردوس المفقود . من هنا العنوان الجميل الذي يشكل غصة حارقة في القلب:
وداعا ماردين ، وداعا لا لقاء بعده . .
وفي آخر الرواية(ص 311) تسجل المؤلفة بشكل متواضع وشبه خفي تقريبا هذه العبارة: “سيتابع أبطال هذه الرواية حياتهم في جزء تال” . ولكن هل تعلم أن هذه العبارة البسيطة هي التي تزرع الأمل في القلوب؟
بم تذكّرني رواية هنرييت عبودي؟ سوف أقولها بكل صراحة وربما أدهشتكم: إنّها تذكرني بمجازر
البروتستانتيين الفرنسيين على أيدي الأغلبية الكاثوليكية في فرنسا القرن السابع عشر وعلى يد لويس الرابع عشر بالذات . فمناظر التعذيب لتحويلهم عن مذهبهم ، وعمليات الطرد الجماعي على الطرقات والدروب/ وتمزيق العائلات ، و”الكبسات” على البيوت الآمنة في جنح الظلام ، واغتصاب الفتيات . .كل ذلك حصل في كلتا الجهتين . هنا أيضا لا تستطيع أن تقرأ التفاصيل في كتب التاريخ الكبرى إلا بشقّ النفس . هنا أيضا يدمى قلبك في كل صفحة أو كل سطر وتستغرب وحشية الجنس البشري إذا ما أرغى وأزبد وأفلتت الأمور من عقالها . ويمكن أن نذكر أيضا كرومويل البروتستانتي وما فعله من فظاعات ضد الكاثوليك في ايرلندا الشمالية . فبعد أن استباحهم قال لجنوده: اقتلوهم عن بكرة أبيهم فإذا كأن فيهم أحد صالح فالله يعرف كيف يتعرف على عباده الصالحين . فذهبت مثلا . الفرق الوحيد هو أنه في الحالة الأولى كان هناك اختلاف ديني ، وفي الحالة الثانية اختلاف مذهبي داخل الدين الواحد . ولكن في كلتا الحالتين تلاحظ نفس آليات التعصب الأعمى . هنا أيضا تلعن الساعة التي ولد فيها الجنس البشري وتفهم لأول مرة هذا البيت الشهير للأحيمر السعدي:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
وصوّت إنسان فكدت أطير!
الذئب أفضل من الإنسان . الذئب على الأقلّ لا يقتلك إلا لأنه جائع ، ثم يحل عنك بعد أن يشبع . أما الإنسان فيقتلك أنت وكل عائلتك وجيرانك وجماعتك ولا يشبع من الدم إلا بعد أن يوغل فيه ويسقط عشرات أو مئات الآلاف من الضحايا . بل وقد يمثل بك حتى بعد أن يقتلك ثم يتفنن في تعذيبك والتلذذ بهذا التعذيب . لا أستطيع أن أذكر مشاهد التعذيب في الرواية وأعتذر عن ذلك مرة أخرى . يكفيني أني قرأتها وصبرت عليها حتى النهاية . ولست مستعدا لقراءتها مرة أخرى .
لكن لنضبط أعصابنا قليلا ولنتفاءل بمستقبل الجنس البشري رغم كلّ شيء خاصة بعد أن يتطور ويتحضر ويستنير . فليس هناك أعظم من الإنسان على وجه الأرض إذا ما كان مهذبا متعلما مثقفا . وليس هناك أبشع منه إذا ما كان جاهلا متخلفا أعمى التعصب قلبه . لنضع إذن مسؤولية كل ذلك على عاتق الجهل والظلامية الدينية التي كانت سائدة إبان عهد الإمبراطورية العثمانية خصوصا في أواخرها بعد أن شعرت بأنها أصبحت مهددة فراحت تخبط خبط عشواء . لا لست مستعدا للتضحية بمستقبل الجنس البشري على الرغم من كل المجازر التي حصلت في التاريخ . والدليل على ذلك حجم التقدم الذي حصل في أوروبا بعد انتصار التنوير وتبلور مفهوم ليبرالي جديد للدين . وهذا ما سيحصل عندنا أيضا لاحقا أن شاء الله . سوف أظل متطلعا إلى الأمام وحالما بمستقبل أفضل لمنطقتنا التي عانت من الويلات أكثر من غيرها . وأعتقد أن هذا هو موقف هنرييت عبودي . بل وتشعر بروحها الطيبة في كل صفحة تقريبا على الرغم من كل ما حل بقومها وأهلها من مصائب وويلات . لا تشعر بوجود أي روح للانتقام أو للحقد والكره . وربما كان يكمن هنا الدرس الأساسي للرواية . ومنذ الإهداء الأول تشعر بأنّها تكتب للتاريخ والذكرى ، ذكرى الذين قضوا وتعذبوا وماتوا ، لا لإشعال الضغينة على الآخرين . إنّها تغفر حتى للجلادين . يقول الإهداء :
إلى أمي
وإلى جميع الذين عانوا ، ثم سامحوا .
جميل . هل هناك أفضل من ذلك؟ انه موقف مسيحيّ إنجيلي بامتياز . ألا يقول الإنجيل هذه العبارة الرائعة التي لا تكاد تصدق: “سمعتم أنه قيل : أحبب قريبك وأبغض عدوك . أما أنا فأقول لكم:أحبوا أعداءكم ، وصلوا من اجل مضطهديكم…فان أحببتم من يحبكم فأي أجر لكم؟” .
لا أجد ردا أعظم من هذا الرد على الأشرار ومجازر التاريخ وظلمه الذي لا يحتمل . وهو الرد الذي واجه به غاندي جبروت الاستعمار الإنكليزي وخرج منه منتصرا . وحتى لو سقط على يد متعصب هندوسي في نهاية المطاف فانه ترك لنا درسا أخلاقيا لا ينسى . بل إنّ سقوطه مضرجا بدمائه على يد متعصب من أبناء جلدته ودينه دليل على عظمته أكثر فأكثر . فقد أثبت أنه كان يحارب التعصب من كل الجهات لا من جهة واحدة وإلا لما قتله واحد من أبناء طائفته . . وأنا واثق من أن الشعب التركي الناهض والصاعد حاليا سوف يفهم ذلك بل وابتدأ يفهمه على يد نخبه المستنيرة الرائعة كما ذكرت سابقا . و”لا تزر وازرة وزر أخرى” كما يقول القرآن الكريم في آيات بينات . لا يمكن إطلاقا تحميل الشعب التركي الحالي مسؤولية إجرام حصل قبل قرن أو أكثر . هذا ظلم وعبث . ولكن لا يمكن في ذات الوقت محو هذه الصفحة السوداء من تاريخ الأتراك بشكل أوتوماتيكي . هناك طريقة واحدة لمحوها أو لتقليصها على الأقلّ وطي الصفحة نهائيا هي: الاعتراف وطلب الصفح والغفران من أحفاد الضحايا . انه لشرف عظيم للشعب التركي الكبير أن يعترف بذلك ويتحمل مسؤوليته ويزيح هذه التركة الثقيلة عن كاهله . نقول ذلك وبخاصة أن هذا الشعب مرشح لقيادة مستقبل المنطقة وأن زعيمه أردوغان يقف بحزم لصالح شعب عانى هو الآخر من الاضطهاد والمجازر ولا يزال يعاني: قصدت الشعب الفلسطيني .
على مدار الرواية نلتقي بشخصيات إسلامية محترمة جدا ، شخصيات حاولت بقدر ما تستطيع أن تنقذ المسيحيين من بطش الباشوات الأتراك . نذكر من بينهم الشيخ النبيل المستنير مصطفى حمدان . ولكنه ليس الوحيد . فعلى مدار الرواية نلتقي بهذه الشخصيات الطيبة التي حاولت مساعدة المسيحيين المنكوبين المطاردين في عقر دارهم . وبعضهم دفع حياته ثمنا لذلك . نضرب عليهم مثلا قائمقام منطقة ديريك . تقول المؤلفة بالحرف الواحد:
“ومن ديريك وصلت المعلومات التالية: لقد أصدر والي ديار بكر ، رشيد السفاح ، أمرا إلى قائمقام ديريك بتصفية سائر سكان بلدته من النصارى ، أي ما يقارب من ألف شخص جلهم من الأرمن ، وبعضهم من السريان والكلدان . عزّ على القائمقام تنفيذ هذا الأمر ، اذ أن مسيحيي ديريك ، الذين يزرعون الكرمة أبا عن جد ، ويتجرون بالخضار والفاكهة ،كانوا يعيشون في وئام تام مع إخوانهم المسلمين ، ويسددون ضرائبهم بانتظام وفي المواعيد المحددة . وتفاديا لتنفيذ إرادة الوالي أعلن القائمقام أنه لن يحرك ساكنا ما لم يصله أمر خطي . فكان أن استدعاه رشيد إلى ديار بكر وأرسل من يغتاله وهو في طريقه إليه . وقد توج الوالي جريمته بأن ادعى بأن الأرمن هم الذين قتلوا القائمقام ، فاستباح دمهم واستولى على أموالهم . كهنة ديريك لم يُذبحوا ، أسوة بإخوانهم في بقية الولايات الشرقية ، وإنّما شنقوا . علقوا على الأعواد كأنهم من مجرمي الحق العام”ص 74 .
لن أدخل في تفاصيل المذبحة ومن هو المسؤول عنها وهل تورطت فيها القوى العظمى ممثلة بألمانيا حليفة العثمانيين إبان الحرب العالمية الأولى . أم هل هم يهود تسالونيك(الدونما) كما تنقل المؤلفة على لسان بعض الشخصيات في بعض صفحاتها . ص 55-60 . لا أعتقد أنه ينبغي أن نذهب بعيدا جدا في هذا الاتجاه الذي أوحى به الطبيب الانكليزي عدو الألمان آنذاك . ربما كان للقوى العظمى دور غير مباشر في العملية . ولكن لا ريب في أن التعصب القومي وليس فقط الديني هو المسؤول الأول . أما إلقاء المسؤولية على الألمان أو القول بأن قادة تركيا آنذاك كطلعت باشا ، وأنور باشا ، وجمال باشا ، كانوا من أصول يهودية فشيء لا يصمد أمام الامتحان . لقد كانوا مسلمين وأتراكا طورانيين متعصبين لقوميتهم ضد كل القوميات الأخرى بما فيها القوميات الإسلامية غير التركية . والدليل على ذلك أنهم اضطهدوا العرب المسلمين أيضا بل وشنقوا زعماءهم في الساحات الكبرى لبيروت ودمشق . ماذا فعل جمال باشا السفاح عام 1916: أي في نفس الفترة التي حصلت فيها مجازر الأرمن والسريان؟ ماذا فعل بشكري العسلي وعبد الحميد الزهراوي وعارف الشهابي وسليم الجزائري وآخرين عديدين من قادة النهضة العربية؟ نفس الشيء قالوه عن مصطفى كمال عندما فرض العلمانية . قالوا بأنّ أصله يهوديّ وهو مسلم مقنع وليس مسلما صحيحا ولذلك تبنّى العلمانية . كل هذا هراء . لقد كان مسلما مثله في ذلك مثل قادة الأتراك الآخرين .
بدلا من الانشغال بنظريات المؤامرة الهلوسية والخرافية التي اعتدنا عليها لا بد من الاعتراف بمسؤولية العوامل المحلية الداخلية وإلا فلن نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام . لا بدّ من الإشارة إلى خطورة فقه العصور الوسطى بكلّ فتاواه المتخلفة والمتعصبة التي عفي عليها الزمن . فلولاها ولولا التربية الطائفية والتعليم الطائفي للدين في المدارس والجوامع والمكاتب لما تجرّأ كل هؤلاء الجهلة على ذبح المسيحيين بمثل هذه الطريقة الوحشية . وبالتالي فينبغي أن نعود إلى المسألة الأساسية التي تخص الشرق كله وليس فقط الأرمن والسريان . مادمنا نعتبر فتاوى القرون الوسطى التي تقسم الناس إلى مسلمين وكفار ، أو دار حرب ودار سلم ،أو فرقة ناجية وفرق ضالة منحرفة ، أقول ما دامت هذه الفتاوى صالحة لكل زمان ومكان فلن نخرج من الورطة . وأنتهز الفرصة هنا لكي أحيّي رجال الدين الذين اجتمعوا في ماردين نفسها مؤخّرا وألغوا إحدى الفتاوى التكفيرية لابن تيمية المعروفة “بفتوى ماردين” حيث أيد قتل غير المسلمين (“الأوان” بتاريخ الأول من ابريل عن الموضوع) . وهذا يعني أن التفكيك الراديكالي للاهوت القرون الوسطى يشكل شرطا أساسيا لا بد منه من اجل عدم تكرار مثل هذه المجازر الطائفية الإجرامية . وهذا ما ألححت عليه كثيرا وشرحته مطولا في كتابي الأخير: الإسلام والانغلاق اللاهوتي . منشورات رابطة العقلانيين العرب ودار الطليعة في آن معا .
أخيرا هل من داع للقول بأننا ننتظر الجزأين الثاني والثالث من هذه الملحمة الكبرى التي تلقي أضواء ساطعة على فترة هامة من فترات حياتنا وتاريخنا؟ إن هنرييت عبودي تقدم خدمة كبيرة ليس فقط للآداب العربية وإنّما أيضا إلى علم التاريخ والمؤرخين المقبلين الذين سيتخذون روايتها كوثيقة تاريخية لا تقدر بثمن من أجل فهم تلك الفترة بكل أحداثها وتقلباتها . فنحن ورثة تلك الفترة شئنا أم أبينا ، وهي لا تزال سارية المفعول حتى الآن بدليل ما يحصل من مجازر مرعبة في العراق وغير العراق .
دار بترا للنشر والتوزيع دمشق – سوريا
وداعاً يا ماردين
هنرييت