ذُكِرَ أنَّه كان في زمن عبد اللـه المأمون رجلٌ من نبلاء الهاشميين وأظنه من ولد العباس، قريب القرابة من الخليفة، معروفٌ بالنسك والورع والتمسّك بدين الإسلام وشدَّة الإغراق فيه والقيام بفرائضه وسننه، مشهور بذلك عند الخاصَّة والعامَّة. وكان له صديق من الفضلاء ذو أدب وعلم، كِنْدي الأصـل مشهور بالتمسّك بدين النصرانية، وكان في خدمة الخليفة وقريباً منه مكاناً. فكانا يتوادّان ويتحابّان ويثق كلٌ منهما بصاحبه وبالإخلاص له. وكان أمير المؤمنين “المأمون” وجماعة أصحابه والمتصلون به قد عرفوهما بذلك، وهما عبد اللـه بن إسماعيل الهاشمي، وعبد المسيح بن اسحق الكِنْدي، فكتب الهاشمي إلى الكِنْدي هذه نسخته
رسالة الهاشمي الى الكندي
بسم اللـه الرحمن الرحيم
أما بعد، فقد افتتحتُ كتابي إليك بالسلام عليك والرحمة، تشبُّهاً بسيدي وسيد الأنبياء محمد رسول الله (ص) فإنَّ ثُقاتنا ذوي العدالة عندنا، الصادقين الناطقين بالحق، الناقلين إلينا أخبار نبينا عليه السلام، قد رووا لنا عنه أنَّ هذه كانت عادته، وأنَّه كان (ص) إذا افتتح كلامه مع الناس يبادئهم بالسلام والرحمة في مخاطبته إياهم، ولا يفرّق بين الذمّي منهم والأمّي، ولا بين المُؤمن والمُشرك. وكان يقول إني بُعثت بحُسن الخلق إلى الناس كافةً، ولم أُبعث بالغِلظة والفظاظة. ويستشهد الله على ذلك إذ يقول “بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم”. وكذلك رأيتُ من حضَرْتُه من أَئِمَّتنا الخلفاء المهتدين الراشدين، رضي الله عنهم أجمعين، انهم كانوا، لفضل أدبهم، وشرف حسبهم، ونبل همتهم، وكرم أخلاقهم يتتبعون أثر نبيِّهم ولا يفرِّقون في ذلك ولا يفضّلون فيه أحداً. فسلكتُ ذلك المنهج، واحتذيت تلك السبل، وأخذت ذلك الأدب المحمود. فابتدأت في كتابي هذا بالسلام والرحمة، لئلا ينكر عليَّ منكر يقع إليه كتابي هذا. والذي حملني إليك وحثَّني على ذلك محبتي لك، إذ كان سيدي ونبيي محمد (ص) يقول: “محبة القريب ديانةً وإيمان”. فكتبتُ طـاعةً له، ولما أوجبه لك عندنا حقَّ خدمتك لنا ونُصحك إيانا، وما أنت عليه من محبتنا وتظهره من مودتنا والميل إلينا، وما أرى أيضاً من إكرام سيدي وابن عمي أمير المؤمنين، أيده الله، لك وتقريبه إياك وثقته بك وحسن قوله فيك، فرأيت أن أرضى لك ما قد رضيته لنفسي وأهلي ووالديَّ، مخلصاً لك النصيحة ومبذلها، كاشفاً عمَّا نحن عليه من ديانتنا هذه التي ارتضاها الله لنا ولجميع خلقه، ووعدنا عليها حسن الثواب في المعـاد والأمن من العقاب في المآب، إذ يقول تبارك وتعالى “ملَّة إبراهيم حنيفاً” (بقرة 129) ويقول عزَّ وجل، وقوله حق: “الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين” (الزخرف 69) ويقول أيضاً مؤكداً: “ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً، وما كان من المشركين” (آل عمران 60). فرغبت لك ما رغبت فيه لنفسي، وأشفقتُ عليك لما ظهر لي من كثرة أدبك وبارع علمك وتقدّمك على الكثير من أهل ملّتك أن تكون مقيماً على ما أنت عليه من ديانتك هذه. فقلت: اكشف له عمّا مَنَّ الله به علينا، وأُعرِّفه ما نحن عليه، بأََلْيَن القول وأَحْسَنه، متَّبِعاً في ذلك ما أذن الله به إذ يأمرني ويقول، جلَّ ثناؤه: “ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن” (عنكبوت 5). فلست أجادلك إلاّ بالجميل من الكلام والحسن من القول، والليّن من اللفظ، لعلك تنتبه وترجع إلى الحق وترغب في ما أتلوه عليك من كلام الله جلّ جلاله الذي أنزله على خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم نبينا محمد (ص). ولم أيئس من ذلك، بل رجوتُه لك من الله الذي يهدي من يشاء، وسألتُه أن يجعلني سبباً في ذلك، ووجدت الله يقول في محكم كتابه “إنّ الدين عند الله الإِسلام” (آل عمران 47). ويقول الله أيضاً مؤكداً بقوله الأول: “ومن يبتغِ غيرَ الإسلامِ ديناً فلن يُقْبلَ منه، وهو في الآخرةِ من الخاسرين” (آل عمران 79). ثم أكد ذلك، تبارك وتعالى، أمراً قاطعاً إذ يقول : “يا أيها الذين آمنوا اتَّقوا الله حقّ تُقاته ولا تموتنَّ إلاّ وأنتم مسلمون” (آل عمران 97).
وأنت الرجل، عافاك الله، من جُهل الكفر وفُتح قلبك لنور الإيمان، تعلم أني رجل أتت عليَّ سنون كثيرة وقد تبحَّرْتُ في عامّة الأديان وامتحنتها، وقرأت كثيراً من كتب أهلها وخاصة كتبكم معشر النصارى، فإني عنيت بقراءة الكتب العتيقة والحديثة، التي أنزلها الله على موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام. فأمّا الكتب العتيقة التي هي التوراة، وكتاب يشوع بن نون، وسفر القضاة، وسفر صموئيل النبي، وسفر الملوك، وزبور داود النبي، وحكمة سليمان بن داود، وكتاب أيوب الصدّيق، وكتاب إشعياء النبي، وكتاب الإثني عشر نبياً، وكتـاب إرميا النبي، وكتاب حزقيال النبي، وكتاب دانيال النبي فهذه هي الكتب العتيقة
فأمّا الكتب الحديثة فأولها الإنجيل وهو أربعة أجزاء، الأول منها بشارة متَّى العشَّار، والثاني بشارة مرقس ابن أخت سمعان المعروف بالصفا، والثالث بشارة لوقا الطبيب، والرابع بشارة يوحنا بن زبدي. فهذه أربعة أجزاء، منها بشارة رجلين من الحواريين (التلاميذ) الإثني عشر الذين كانوا ملازمين المسيح، صلوات الله عليه، هما متى ويوحنا، وبشارة رجلين من الحواريين السبعين الذين كانوا للمسيح، وبعثهم إلى الأمم دُعاةً له وهما مرقس ولوقا. ثم كتاب قصص الحواريين وأحاديثهم وأخبارهم من بعد ارتفاع المسيح إلى السماء الذي كتبه لوقا، ورسائل بولس الأربع عشرة. فهذه كلها قد قرأتُها ودرستُها وناظرتُ فيها تيموثاوس الجاثليق، الذي له فيكم فضل الرئاسة والعلم والعقل. وناظرتُ فيها من أهل فِرَقكم هذه الثلاث التي هي ظاهرة، أعني الملكية القابلين مركيانوس الملك على عهد الشقاق الواقع بين نسطوريوس وكيرلس، وهم الروم. واليعقوبية، وهم أكفر القوم وأخبثهم قولاً، وأشرَّهم إعتقاداً، وأبعدهم من الحق، القائلون بمقالة كيرلس الإسكندري ويعقوب البردعاني وساويرس صاحب كرسي أنطاكية. والنسطورية أصحابك، وهم لعمري، أقرب وأشبه بأقاويل المنصفين من أهل الكلام والنظر وأكثرهم ميلاً إلى قولنا معشر المسلمين، وهم الذين حمدَ نبينا (صلى اللـه عليه وسلّم) أمرهم ومدحهم وأعطاهم العهود والمواثيق، وجعل لهم من الذمَّة في عنقه وأعناق أصحابه ما جعل وكتب لهم في ذلك الكتب وسجل لهم السجلات، وأكَّد أمرهم عندما صاروا إليه حين أُفضي الأمر إليه واستوثق له، فأتوه بحرمته وذكَّروه بمعونتهم إياه على إعلان أمره وإظهار دعوته. وذلك أنّ الرهبان كانوا يبشرونه ويخبرونه قبل نزول الوحي عليه بما مكن اللـه له وصار إليه. فلذلك كان يكثرُ توادّه لهم وإطالة محادثتهم، ويُرى كثيراً عندهم مخاطباً لهم في تردّده إلى الشام وغيرها. وكان الرهبان وأصحاب الأديرة يكرّمونه ويجلّونه طوعاً ويخبرون أصحابهم بما يريد اللـه أن يرفع من أمره ويعلن من ذكره، وكانت النصارى تميل إليه وتخبره بمكيدة اليهود ومشركي قريش وما يبتغونه له من الشرّ، مع مودتهم له وإجلالهم إياه وأصحابه. فعند ذلك نزل الوحي على نبينا عليه السلام، وشهد الله لهم في القرآن قائلاً: “ولتجدنَّ أشدَّ الناس عداوةً للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا (يعني مشركي قريش). ولتجدنَّ أقربهم مودَّة للذين آمنوا الذين قالوا إنَّا نصارى، ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون” (مائدة 85). وعرف النبي عليه السلام، بما أُنزل عليه من الوحي، صحة ضمائرهم ونيّاتهم، وأنهم أصحاب المسيح حقاً السائرون بسيرته الآخذون بسننه، إذ كانوا لا يقبلون القتال ولا يستحلون المال ولا يغشّون أحداً ولا يريدون بالناس سوءاً ولا مكروهاً، وأنهم طالبو السلامة ولا يصرّون على حسدٍ ولا على عداوة، بل يعتقدون الفضل على الناس جميعاً. فأعطاهم نبينا لذلك ما أعطاهم من العهود والمواثيق، وجعل لهم من الذمّة في رقبته ورقاب أصحابه، ووصَّى بهم تلك الوصية عندما أطلعه اللـه على ما أطلعه عليه من أمرهم وبراءة ساحتهم. فنحن مقرُّون بذلك غير جاحدين ولا منكرين، وناظرون لهذا الفعل، وآخذون بهذه السُنّة، وقابلون لهذه الوصيّة، وموجبون هذا الحق على أنفسنا.
ولقيتُ جماعةً من الرهبان المعروفين بشدة الزُهد وكثرة العلم، ودخلتُ عمارات وديارات وبيعاً كثيرة، وحضرتُ صلواتهم تلك الطوال السبع التي يسمّونها صلوات الأوقات، وهي صلاة الليل، وصلاة الغداة، وصلاة الثالثة التي هي صلوة السَحَر، وصلوة نصف النهار أعني صلوة الظهر، وصلوة التاسعة التي هي قريبة من وقت العصر، وصلوة الغروب والعشاء، وصلاة الشفع وهي صلوة العشاء المفروضة، وصلاة النوم التي يصلّونها قبل أخذهم مضاجعهم. ورأيت ذلك الاجتهاد العجيب، والركوع والسجود بإلصاق الخدود بالأرض وضرب الجبهة، والتكتُّف إلى انقضاء صلواتهم، خاصَّةً في ليالي الآحاد وليالي الجمع وليالي الأعياد التي يسهرون فيها منتصبي الأرجل بالتسبيح والتقديس والتهليل الليل كلَّه، ويكثرون في صلواتهم ذكر الآب والابن والروح القدس، وأيام الاعتكاف التي يسمونها “أيام البواعيث”(صلوات الاستمطار)، وقيامهم فيها حفاةً على المسوح والرماد باكين بكاءً كثيراً متواتراً بإنهمال دموع من الأعين والجفون منتحبين بسحقٍ عجيب. ورأيت عملهم القربان، كيف يحفظونه بالنظافة في خَبزهم إياه ودعائهم عند عمله الدعاء الطويل مع التضرع الشديد عند إصعاده على المذبح في البيت المعروف ببيت المقدس مع تلك الكؤوس المملوءة خمراً. ورأيت أيضاً ما يتدبر به الرهبان في قلاليهم أيام صياماتهم الستَّة، أعني الأربعة الكبار والاثنين الصغيرين، وغير ذلك. فهذا كلَّه كنتُ له حاضراً ولأهله مشاهداً وبه عارفاً عالماً.
ورأيت أيضاً مطارنة وأساقفة مذكورين بحُسن المعرفة وكثرة العلم، مشهورين بشدة الإغراق في الديانة النصرانية، مظهرين غاية الزهد في الدنيا. فناظرتُهم مناظرةً نصفة طالباً للحق، مُسقِطاً بيني وبينهم اللجاج والمكابرة بالسلطة والصلف والبذخ بالحسب، وأوْسعتُهم أمناً أن يقوموا بحجَّتهم ويتكلموا بجميع ما يريدونه، غير مؤاخذٍ لهم بذلك ولا متعنّت عليهم في شـيء كمناظرة الرعاع والجهال والسقاط والعوام والسفهاء من أهل ديانتنا، الذين لا أصل لهم ينتهون إليه ولا عقل فيهم يعولون عليه، ولا دين ولا أخلاق تحجبهم عن سوء الأدب، وإنما كلامهم العنَت والمكابرة والمغالبة بسلطان الدولة بغير علم ولا حجة. وكانوا إذا أنا ناظرتُهم وسألتُهم مسألة بحث فاحصاً عن قولهم، وكانوا لشدَّة ورعهم ودعتهم واعتقادهم يصدقونني عن أمرهم ولا يكذبونني في شيء مما كنت أسائلهم عنه وأجادلهم فيه. وكنت قد عرفت من بواطنهم مثل الذي قد عرفته من ظاهرهم، فكتبت إليك، أصلحك الله، بهذا الشرح بعد الاستقصاء والبحث الشديد، والإمتحان له على طول الأيام، لئلا يظن بي أني أتجنى الأمور، وليعلم من وقع في يده كتابي هذا أني عارف بجميع أحوال النصارى حق المعرفة.
فأنا الآن أدعوك بهذه المعرفة كلها مِنّي بدينك الذي أنت عليه، وبطول المحبة، إلى هذا الدين الذي ارتضاه اللـه لي وارتضيته لنفسي، ضامناً لك به الجنَّة ضماناً صحيحاً والأمن من النار، وهو أن تعبد الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلدْ ولم يولدْ ولم يتخذ صاحبةً ولا ولداً ولم يكن له كفؤاً أحد، وهي الصفة التي وصف نفسه جل وعز بها، إذ ليس أحدٌ من خَلْقه أعلم به من نفسه. فدعوتك إلى عبادة هذا الإله الواحد الذي هذه صفته، ولم أزد في كتابي هذا على ما وصف به نفسه. فهذه ملّة أبيك وأبينا إبراهيم، صلوات الله عليه، فإنه كان حنيفاً مسلماً. ثم أدعوك، حفظك الله، إلى الشهادة والإقرار بنبوة سيدي وسيد ولد آدم وصفي رب العالمين وخاتم الأنبياء محمد بن عبد اللـه الهاشمي القريشي العربي الأبطحي التهامي، صاحب القضيب والناقة والحوض والشفاعة، حبيب رب العزة ومكلّم جبرائيل الروح الأمين الذي أرسله الله بشيراً ونذيراً إلى الناس كافة “بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون” (توبة 33). فدعا الناس كلهم أجمعين بالرحمة والرأفة وطيب القول وحسن الخلق واللين، فاستجاب هذا الخلق كلهم إلى طاعة دعوته والشهادة له أنه رسول الله رب العالمين إلى من يريد انتصاحاً، وأقرَّ الأنام كلهم طائعين مذعنين لما عرفوا من الحقّ والصدق من قوله وصحة أمره وما جاء به من البرهان الصريح والدليل الواضح، وهو هذا الكتاب المنزل عليه من عند اللـه، الذي لا يقدر أحد من الإنس والجن أن يأتي بمثله، وكفى به دليلاً على دعوته، وأنه دعـا إلى عبادة إلهٍ واحد فرد صمد، فدخلوا في دينه وصاروا تحت يده غير مُكرَهين ولا مُجبَرين، بل خاضعين معترفين مستنيرين بنور هدايته متطاولين باسمه على غيرهم ممَّن جحدَ نبوته وأنكر رسالته، فمكّن اللـه لهم في البلاد وأذلّ لهم رقاب الأمم من العباد، إلاّ من قال بقولهم ودان بدينهم وشهد على شهادتهم، فحقن بذلك دمه وماله وحرمته أن يؤدي الجزية عن يدٍ وهو صاغر. وهذه الشهادة هي الشهادة التي شهد اللـه بها قبل أن يخلق الخلائق، إذ كان على العرش مكتوباً “لا إله إلا اللـه. محمد رسول اللـه”.
وأدعوك إلى الصلوات الخمس التي مَنْ صلاّها لم يخبْ ولم يخسرْ بل يربح ويكون في الدنيا والآخرة من الفائزين، وهي الفرض فيها فرضان: فرض من اللـه وفرض من رسوله مثل الوتر، وهي ثلاث ركعات بعد العشـاء الأخيرة، وركعتان في الفجر، وركعتان بعد الظهر، وركعتان بعد المغرب. فمن ترك شيئاً من هذه فليس بجائزٍ له. ويجب على من تركها أياماً الأدب ويُستتاب منه. فأما الفرض فهو سبع عشرة ركعة في اليوم والليل: ركعتا الفجر، وأربع ركعات الظهر، وأربع ركعات العصر، وثلاث ركعات المغرب وهي العشاء الأولى، وأربع ركعات العشاء الآخرة وهي العتمة. وقد نهى رسول الله أن يُقال العتمة، وقال هي عتمة عتمة الليل، وإنما سُميت عتمة لتأخّرها في العشاء وإبطائها.
وأدعوك إلى صوم شهر رمضان الذي فرضه الديَّان ونزل فيه الفرقان، شهر يشهد فيه الله أن فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، تصوم فيه نهارك كله عن جميع المطاعم والمشارب والمناكح إلى أن يسقط قرص الشمس ويدخل حدَّ الليل، ثم تأكل وتشرب وتنكح في ليلك كله حتى يتبين لك الخيط الأسود من الخيط الأبيض حلالاً مطلقاً هنيئاً طيباً من الله. فإن أنت لحقت ليلة القدر بإخلاص نيِّتك كنت قد فُزْت في دنياك وآخرتك. قال اللـه تعالى: “يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيامُ كما كُتب على الذين من قبلكم لعلّكم تتقون، أياماً معدودات ، فمن كان منكم مريضاً أو على سفرٍ فعدَّةٌ من أيام أُخر، وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعام مسكينٍ، فمن تطوّع خيراً فهو خيرٌ له، وأن تصوموا خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون. شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّناتٍ من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصُمه، ومن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدَّةٌ من أيام أخر. يريد الله بكم اليسر لا يريد بكم العسر، ولتكملوا العدَّة، ولتكبِّروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون. وإذا سألك عبادي عني فإني قريبٌ أجيب دعوة الداع إذا دعانِ، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يَرْشدون. أُحِل لكم ليلة الصيام الرَّفثُ إلى نسائكم. هنّ لباسٌ لكم وانتم لباسٌ لهنّ. علم الله أنكم تَخْتَانُون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم، فالآن باشروهنّ وابتغوا ما كتب الله لكم، وكلوا واشربوا حتى يتبيَّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ثم أَتمّموا الصيام إلى الليل. ولا تباشروهنَّ وأنتم عاكفون في المساجد. تلك حدودُ الله فلا تقربوها” (بقرة 179-183). وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقدم الفطور ويؤخر السحور.
ثم أدعوك إلى الحج إلى بيت الله الحرام الذي بمكة، والنظر إلى حرم رسول الله وإلى آثاره ومواضعه المباركة، ورمي الحجار، والتلبية والإحرام، وتقبيل الركن والمقام، ومشاهدة تلك المواضع وتلك المشاعر العجيبة.
ثم أدعوك إلى الجهاد في سبيل الله بغزو المنافقين، وقتال الكفرة والمشركين ضرباً بالسيف وسبياً وسلباً حتى يدخلوا في دين اللـه ويشهدوا أنَّ اللـه لا إله إلاّ هو، وأن محمداً عبده ورسوله، أو يؤدّوا الجزيَّة عن يدٍ وهم صاغرون. وأدعوك إلى الإقرار بأن الله يبعث من القبور، وأنّه ديّانهم بالعدل، فيكافي الحسنى بالحسنى، ويجزي المسيء بإساءته، وأنه يُدخل أولياءه وأهل طاعته، الذين أقرّوا بوحدانيته وشهدوا بأن محمداً عبده ورسوله وآمنوا بما نزل عليه من القرآن، الجنة التي أعدَّ لهم فيها الطيبات “يُحَلَّون فيها من أساورَ من ذهبٍ ولؤلؤاً، ولباسُهم فيها حرير” (الحج 23). “وقالوا الحمد للـه الذي أَذْهب عنَّا الحزن، إن ربَّنا لغفور شكور، الذي أحلَّنا دار المُقامة من فضله لا يمسّنا فيها نَصَب ولا يمسنا فيها لُغُوب” (ملائكة 32). “أولئك لهم رزقٌ معلوم، فواكه وهم مُكْرَمون في جنَّات النعيم، على سرُرٍ متقابلين، يُطاف عليهم بكأسٍ من مَعين، بيضاءَ لذةٍ للشاربين، لا فيها غَوْلٌ ولا هم عنها يُنْزفون. وعندهم قاصرات الطرفِ عينٌ كأنهنَّ بَيْضٌ مكنون” (صافات 40–47). “إنَّ الذين اتَّقوا ربَّهُمْ لهم غُرَفٌ من فوقها غُرَفٌ مَبْنيَّةٌ تجري من تحتها الأنهار، وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ الله الميعاد” (زمر 21). “يا عبادي لا خوفٌ عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون، الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين. أدخُلوا الجنَّةَ أنتم وأزواجُكم تُحْبَرون، يطاف عليهم بِصِحَافٍ من ذَهَبٍ وأكْوابٍ، وفيها ما تشتهيهِ الأنْفُسُ وتَلَذُّ الأعينُ وأنتم فيها خالدون” (زخرف 68–71). “إنَّ المتَّقين في مقامٍ أمين في جناتٍ وعيون. يَلبَسون من سُنْدُسٍ وإستَبْرق متقابلين كذلك وزوَّجناهم بحورٍ عِينٍ، يَدْعون فيها بكل فاكهة آمنين، لا يذوقون فيها الموتَ إلاَّ الموتة الأولى ووقاهم عذابَ الجحيم، فضلاً من ربك ذلك هو الفوز العظيم” (دخان 51 – 57). وقال عزَّ وجل: “مَثَلُ الجنَّة التي وُعِدَ المتَّقون فيها أنهار من ماءٍ غير آسِنٍ وأنهار من لبنٍ لم يتغيَّر طَعْمُه، وأنهارٌ من خمرٍ لذةٍ للشاربين، وأنهار من عسلٍ مصـفَّى، ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرةٌ من ربِّهم كَمَنْ هو خالدٌ في النار، وسُقُوا ماءً حميماً فَقَطَّعَ أمعاءَهُمْ” (محمد 16-17). وقال عزَّ وجل: “وإنَّ للمتّقين لحُسْنَ مآب، جناتِ عدنٍ مفتَّحَةٌ لهم الأبواب، متكئين فيها يدعون فيها بفاكهةٍ كثيرةٍ وشَرابٍ، وعندهم قاصراتُ الطَّرفِ أترابٌ، هذا ما تُوعَدونَ ليوم الحساب. إنَّ هذا لرزقنا ماله من نفاد” (ص 49 – 54) وقال عزَّ وجل في وصف الجنة: “ولِمَنْ خاف مقامَ ربِّه جنَّتَانِ، فبأيّ آلاءِ ربكما تكذّبان. ذواتا أَفْنَان، فبأيّ آلاءِ ربكما تكذّبان. فيهما عينان تجريان، فبأيّ آلاءِ ربكما تكذّبان. فيهما من كل فاكهة زوجان، فبأيّ آلاءِ ربكما تكذّبان. متكئين على فُرُش بطائنها من إستَبْرق وجَنَى الجنتين دان، فبأيّ آلاءِ ربكما تكذّبان. فيهن قاصراتُ الطَّرْفِ لم يطمِثْهُنَّ إنسٌ قبلهم ولا جانّ، فبأيّ آلاءِ ربكما تكذّبان. كأنهنَّ الياقوت والمرجان، فبأيّ آلاء ربكما تكذّبان. هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان، فبأيّ آلاء ربكما تكذّبان. ومن دونهما جنّتان، فبأيّ آلاء ربكما تكذّبان. مُدْهَامِّتان، فبأيّ آلاءِ ربكما تكذبان. فيهما عينان نضَّاختان، فبأيّ آلاءِ ربكما تكذّبان. فيهما فاكهةٌ ونخلٌ ورمَّانٌ، فبأيّ آلاءِ ربكما تكذّبان. فيهن خَيراتٌ حِسانٌ، فبأيّ آلاء ربكما تكذبان. حورٌ مقصوراتٌ في الخيام، فبأيّ آلاءِ ربكما تكذّبان.لم يَطْمِثْهُنَّ إنسٌ قبلهم ولا جانٌّ، فبأيّ آلاءِ ربكما تكذّبان. متّكئين على رفْرَفٍ خُضْرٍ وعَبْقرِيّ حِسانٍ، فبأيّ آلاءِ ربكما تكذّبان. تبارك اسمُ ربّكَ ذي الجلال والإِكرام” (الرحمن 49-75) وقال عز وجل: “وسِيق الذين اتّقوا ربّهم إلى الجنة زُمَراً حتى إذا جاءوها وفُتِحَتْ أبْوَابُها وقال لهم: خَزَنَتُها سلام عليكم، طِبْتم فادْخلوها خالدين” (الزمر 73) وقال عز وجل: “وَلَقَّاهم نَضْرةً وسروراً، وجزاهم بما صَبروا جنةً وحريراً، متّكئِين فيها على الأرائِك لا يَروْن فيها شمساً ولا زمهريراً، ودانيةً عليهم ظلالـُها وذُلّلت قُطوفُها تذليلاً، ويُطاف عليهم بآنيةٍ من فضةٍ وأكوابٍ كانت قواريرَ قواريرَ منْ فِضةٍ قدَّروها تقديراً. ويُسْقونَ فيها كأساً كان مِزَاجها زنجبيلاً، عيناً فيها تُسمَّى سلسبيلاً” (الإنسان 11–18) وقال عزَّ وجل: “إنَّ للمتّقين مفازاً، حدائقَ وأعناباً، وكواعِبَ أتراباً وكأساً دِهاقاً، لا يسمعون فيها لغواً ولا كِذَّاباً، جزاءً من ربك عطاءً حساباً” (النبأ 31 – 36) وقال تبارك وتعالى: “إنَّ المتَّقين في جناتٍ ونعيم، فاكهين بما آتاهم ربُّهم ووقاهم ربٌّهم عذابَ الجحيم، كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون، متَّكئين على سرُر مصْفوفة وزوَّجناهم بحُورٍ عِينٍ، والذين آمنوا واتَّبَعَتْهم ذُرَّيَّتهُم بإيمانٍ ألحقْنا بهم ذرَّيَتُهم، وما آلتْنَاهُمْء من عَمَلهم من شيء، كل امرءٍ بما كَسَبَ رهين. وأمدَدْناهم بفاكهةٍ ولحم مما يشتهون. يتنازعون فيها كأسـاً لا لَغْوٌ فيها ولا تأْثِيمْ، ويطوف عليهم غِلْمَانٌ لهم كأنهم لؤلؤٌ مَكْنون، وأقْبَلَ بعضهُمُ على بعضٍ يتساءلون ، قالوا انَّا كنا قبْلُ في أهْلنا مشفقين، فَمَنَّ الله علينا ووقانا عذاب السَّمُومِ، إنَّا كنّا من قبلُ ندعوه إنه هو البَرُّ الرحيم” (الطور 17 – 28) وقال تبارك وتعالى: “والسَّابقون السَّابقون، أولئِك المقـرَّبون، في جنات النعيم، ثُلَّةٌ من الأولين، وقليل من الآخرين، على سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ، متكِئين عليها متقابلين، يطوف عليهم وِلْدَانٌ مُخلَّدون، بأكوابٍ وأباريقَ وكأسٍ من مَعِين، لا يُصَدَّعونَ عنها ولا يُنْزَفونْ، وفاكِهةٍ ممَّا يتخيَّرون، ولحم طيرٍ مما يَشتهونَ، وحُورٌ عِينُ كأمثالِ اللؤلؤِ المكنونِ، جزاءً بما كانوا يعملون، لا يسمعون فيها لَغواً ولا تأثيماً، إلا قِيلاً سلاماً سلاماً. وأصحابُ اليمين، ما أصْحابُ اليمينِ، في سِدْرٍ مخضودٍ، وظلٍ ممدود، وماءٍ مسكوب، وفاكهةٍ كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وفُرُشٍ مرفوعة، إنَّا أنشأناهنَّ إنشاءً فجعلناهنَّ أبكاراً عُرُباً أتراباً لأصحاب اليمين، ثُلَّةٌ من الأولين وثُلَّة من الآخِرين” (الواقعة 10 – 39).
فهذه، أبقاك الله، صفة الجنة التي أعدَّها الله للمؤمنين به وبرسـوله، وأعد لهم فيها الطيّبات من الطعام والشراب وأنواع الفواكه والرياحين، ونكاح الحور العِين اللاءِ هنَّ كأمثال اللؤلؤ المكنون بلا نهاية ولا انقطاع. يأخذون كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، ولهم فيها الكرامة والحياة والجلوس على الأسِرَّة، متكئين على الأرائك، عليهم ثياب الحرير الليِّن مسـتورين بالأسرة المكلَّلة باللؤلؤ، تُعرف في وجوههم نضرةُ النعيم. يدور عليهم الوِلدان والوصائف والوُصَفاءُ الذين هم في جنسهم كاللؤلؤ المكنون، يسقون من كأسات فيها الرحيق المختوم الذي ختامه مسك ومزاجه من تسنيم عيناً يشرب منها المقرَّبون، يُحيَّون بها بأحسن التحية وأطيبها، ويقولون لهم: كلوا واشربوا وتنعَّموا، هنيئاً لكم بما كنتم تعملون، لا يسمعون فيها لغواً ولا يمسهم جوع ولا لغوب، فهم في هذا النعيم آمنون واثقون خالدون أبداً. وأما الكفار الذين أشركوا باللـه واتخذوا معه الأنداد ولم يؤمنوا برُسُله وكَذَّبُوا بآياته وحَرَّمُوا حدوده وحاربوه، فهم أهل النار يلقونها كفاحاً في جهنم لا بثين في نار لا تُطفأ وزمهرير لا يوصف وهم فيها خالدون، كلما احترقت جلودهم جُددت لهم جلود أخرى، مقامُهم في الجحيم وشرابهم المُهْلُ، وطعامهم من شجرة الزقزم، رفقاءُ لإِبليس وجنود له وبئس المصير.
وقال عزَّ وجل: “الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيَّين بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقِسْطِ من الناس، فبشِّرْهُم بعذابٍ أليم. أولئِك الذين حَبِطَتْ أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين” (آل عمران 20، 21). وقال تبارك وتعالى: “الذين يكفرون بالله ورسُله.. ويقولون نؤمنُ ببعضٍ ونكفر ببعض، ويريدون أن يتَّخذوا بين ذلك سبيلاً، أولئك هم الكافرون حقَّاً، وأعْتَدْنا للكافرين عذاباً مهيناً” (النساء 149-150). وقال تبارك وتعالى: “والذين كفروا لهم نارُ جَهنّم لا يُقْضَى عليهم فيموتوا ، ولا يُخَفَّفُ عنهم من عذابها، كذلك نجْزِي كُلَّ كَفورٍ” (الملائكة 33). وقال أيضاً .. “شجرة الزُقّوم إنَّا جعلناها فِتْنَةً للظالمين، إنها شجرةٌ تخْرج في أصل الجحيم، طَلْعها كأنه رؤوس الشياطين، فإنهم لآكِلون منها فمالِئون منها البطون، ثم إنَّ لهم عليها لَشَوْباً من حميم، ثم انَّ مَرجَعهم لإِلى الجحيم” (صافات 60 – 66). ثم “فويلٌ للذين كفروا من النار…. وإنَّ للطاغين لشرُّ مآبٍ، جَهنَّمَ يَصلونها فبِئْسَ المهاد هذا فليذُوقُوهُ حميمٌ وغَسَّاقٌ” (ص 26 و 55 – 56) وقال: “لهم من فوقهم ظُلَلٌ من النار، ومن تحتهم ظُلَلٌ” (الزمر 18) وقال: “ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على اللـه وجوهُهُم مُسْوَدَّةٌ أليس في جهنَّمَ مَثْوىً للمتكَبرين والذين كفروا بآيات اللـه، أولئِك هم الخاسرون” (الزمور 61 و 63) وقال: “وسيق الذين كفروا إلى جهنَّمَ زُمَراً، حتى إذا جاءوها فُتِحَتْ أبوابها وقال لهم: “خَزَنَتُها ألم يأتكم رُسُلٌ منكم يَتْلون عليكم آيات ربكم ويُنْذِرونكم لِقاءَ يَوْمِكم هذا، قالوا: بَلَى، ولكن حَقَّتْ كلمةُ العذاب على الكافرين. قيل ادخلوا أبوابَ جَهنَّم خالدين فيها، فبِئْسَ مَثْوى المتكبرين” (الزمر 71 و 72) “وقال الذين في النار لخَزنَة جَهنم ادْعوا ربّكم يخفف عنّا يوماً من العَذاب، قالوا أَوَلَمْ تكُ تأتيكم رسُلُكُم بالبيّنات، قالوا بَلَى، قالوا فادْعُوا وما دُعَاءُ الكافرين إلاّ في ضلال” (المؤمن 52-53). وقال: “ألم تَرَ إلى الذين يُجادلون في آيات الله أنَّى يُصْرَفونَ، الذين كذَّبوا بالكتاب وبما أرْسَلنا به رُسُلَنا، فسوف يعلمونَ، إذ الأغلالُ في أعناقهم والسلاسلُ يُسْحَبونَ في الحميم ثمَّ في النار يُسْجَرون” (المؤمن 71-73). وقال: “الكافرون لهم عذاب شديد.. وترى الظالمينَ لمَّا رأَوُا العذابَ يقولون: هَلْ إلى مَرَدٍ من سبيل؟ وتراهم يُعْرَضونَ عليها خاشعين من الذل ينظرون من طَرْفٍ خَفِيّ” (شورى 43 ، 45). وقال تبارك وتعالى: “إنَّ المجرمين في عذاب جَهنم خالدون، لا يُفتَّرُ عنهم وهو فيه مُبْلِسُون، وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين، ونادوا يا مالكُ، ليقْضِ علينا ربُّك، قال إنكم ماكثون” (زخرف 74 – 77). وقال: “إنَّ شجرةَ الزقّوم طعامُ الأثيم، كالمُهْل يَغْلي في البُطون كَغَلْيِ الحَميم، خذوه فاعْتِلُوُه إلى سَوَاءِ الجحيم، ثم صُبُّوا فوق رأسِهِ من عذاب الحميم. ذُقْ إنك أنت العزيزُ الكريم. إنَّ هذا ما كنتم به تَمْتَرون” (دخان 43 – 50). وقال عزَّ وجل: “كمَنْ هو خالدٌ في النارِ وسُقُوا ماءً حميماً فَقَطَّعَ أمعاءَهم… ذلك بأنهُم قالوا للذين كرهوا ما نزَّل الله سَنُطيعُكُم في بعض الأمر، والله يعلم أسْرارهم، فكيف إذا توفَّتْهُمُ الملائكة يضربون وجوهَهُم وأدبارَهُم، ذلك بأنهم اتَّبعوا ما أسخط الله، وكرهوا رضْوانه فأحبط أعمالهم، أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضْغانهم” (محمد 17- 25). وقال: “ويلٌ يومَئذٍ للمكذّبين. ألم نجعل الأرض كِفاتاً، وأمواتاً، وجعلنا فيها رواسيَ شامخاتٍ وأسقيناكم ماءً فراتاً. ويلٌ يومئذٍ للمكذّبين، انطلِقوا إلى ما كنتم به تكذّبون. انطلقوا إلى ظلٍ ذي ثلث شُعَبٍ، لا ظليلٍ ولا يُغْني من اللهب، إنها تُرمى بشُرَرٍ كالقَصْر، كأنه جمالةٌ صُفْرٌ. ويلٌ يومئذٍ للمكذّبين، هذا يومٌ لا يَنْطقُون ولا يُؤْذَن لهم فيعتذرون. ويلٌ يومئذٍ للمكذّبين، هذا يوم الفَصْل جمعناكم والأولين” (مرسلات 24 – 37).
فهل سمِعْتَ عافاك الله يا هذا بوصفٍ أحسن وأعجب من هذا، من ترغيب وترهيب، وترشيف وتهويل، وتحريض ووعد ووعيد لكل جبَّار عنيد ولكل مصدِّق ومكذِّب ولكل مؤمن وكافر ولكل مقرٍّ وجاحد؟ فلو لم ترغب إلاَّ في ذلك الوصف لكان ذلك فيه الغنم والفوز العظيم، ولو لم ترهب إلاَّ من ذكر النار وأهوال جهنم لكان في تركك ذلك الخطب الجليل، وعليك فيه الخسران المبين. قال الله تبارك وتعالى : “ذَكِّرْ فإنَّ الذِكْرى تنفعُ المؤمنين”. فأمَّا نحن فقد ذكَّرناك، فإن أنت آمنتَ وقبلتَ ما يُتْلا عليك من كتاب الله المنزل، انتفعتَ بما ذكَّرناك وكتبنا به إليك. وإن أبيتَ إلاّ المقام على كفرك وضلالك وعنادك للحق، كنا نحن قد أُجرنا إذ عملنا بما أُمرنا به، وكان الحق المنتصف منك إن شاء الله.
فهذه، أنار الله قلبك، هيئة ديننا القِيّم وهذه شرائعه وسُننُه، فإذا أنت دخلتَ فيه وأقررتَ به وشهدتَ على شهادته وأحببتَ الدخول في ما دعوناك إليه من شرائعنا النيرة وسُنَنِنا الحسنة، كنتَ مثلنا وكنا مثلك، فحسْبك بنا شرفاً في الدنيا والآخِرة، وان نبينا عليه السلام يقول يوم القيامة: كل أحد مشغول بنفسه من مَلَك مقرَّب ونبي مرسل سواه، وهو يقول: أهل بيتي أمتي أمتي، فيُجاب أولاً في أهل بيته ثم في أمته. ويقول الرحمن للملائكة : إني استحيي أن أردّ شفاعة صفيي وحبيبي محمد. ثم تكون ممن يجب لك ما يجب، وتصلي إلى قبلتنا التي ارتضاها الله لنا، وتقيم الصلوات الخمس بعد إسباغ الوضوءِ إذا كنتَ صحيحاً وقائماً على رجليك. وإذا كنتَ مريضاً أو ضعيفاً فجالس. فإن كنت على سفرٍ فنصف ما تصليه وأنت بالحضر.
قال الله عزَّ وجل: “أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة”. وأمَّا الزكاة فهي ربع العُشر إذا أتى على المال وهو في ملك صاحبه حولٌ كامل، فتصرف ذلك على المساكين من ملَّتك والفقراءِ من أهل بيتك.
وتنكح من النساءِ ما أحببت، لا جناح عليك في ذلك ولا لوم ولا إثم ولا عيب، إذا أنت تزوَّجتها بوَليٍّ وشاهدين وآتيتها من المهر ما طابت به نفسك ونفسها مما تيسَّر. ولك أن تجمع بين أربع نساءٍ، وتطلِّق مَنْ شئت إذا كرهتَها أو مللتَها أو شبعتَ منها. ولك أن تراجع بعد الاستحلال من أحببتَ منهن أيتهن تبعتها نفسُك. قال الله تعالى عز وجل: “فإن طلَّقها فلا تحلُّ له من بعد حتى تنكحَ زوجاً غيره، فإن طلَّقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا” (البقرة 230). وتتمتع من الإِماء بما ملكت يداك. وتختتن لتقيم سُنَّة إبراهيم أبينا خليل الرحمن وسُنَّة إسماعيل أبينا وأبيك صلوات الله عليهما، وتغتسل من الجنابة
ثم إن قدرتَ تصوم شهر رمضان. إلاَّ إن أفطرت من علة أو مرض أو سفر بعد أن تنوي قضاءَ ذلك “فإن اللـه يريد لعباده اليُسر ولا يريد لهم العسر”. وإن حنِثْتَ في قَسَمِك عملتَ بما أمر الله به في ذلك، إذ يقول تبارك وتعالى: “لا يؤاخذكم الله باللَّغْوِ في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما كسِبَتْ قلوبكم، والله غفور حليم” (بقرة 225). وكفارة الحنَث عندنا معاشر المسلمين قوله تعالى “إطعام عشرة مساكين من أوْسَط ما تُطعِمون أهليكم، أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة. فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم. واحفظوا أيمانكم.كذلك يبيِّن لكم الله آياته لعلكم تشكرون”. (مائدة 91-92).
والحجّ واجبٌ عليك لأنه جلَّ جلاله يقول: “ولله على الناس حجَّ البيت من استطاع إليه سبيلاً” (آل عمران 91). وذلك إذا لم يكن عليك دَيْن وكانت لك راحلة وكان عندك ثمن الزاد.
والغزو في سبيل الله، فمعهُ الغنيمة في الدنيا عاجلاً، والأجر العظيم في الآخرةِ آجلاً. فقد سهل اللـه، وله الحمد، على المؤمنين، وإن شاء الله ليحب أن يؤخذ بعزائمه وتشديداته. ولو لم يكن في دين الإسلام شيء إلاّ الطمأنينة والأمن وتسليم القلب لله والراحة والثقة بما ضمن الله لنا عن نفسه أنه هو يثيبنا على ذلك في الآخرة الأجر العظيم ويدخلنا جنات النعيم فنكون فيها خالدين، وينصرنا فيها على القوم الظالمين، لكان في دون هذا لنا الفوز العظيم.
فقد تلوتُ عليك من قول الله فيما سلف من كتابي هذا ما في أقله كفاية، فَدَعْ ما أنت عليه من الكفر والضلال والشقاوة والبـلاء، وقولك بذلك التخليط الذي تعرفه ولا تنكره، وهو قولكم بالآب والابن والروح القدس، وعبادة الصليب التي تضرُّ ولا تنفع، فإني أرتابك عنه وأجلُّ فيه علمك وشرف حسبك عن خساسته، فإني وجدتُ الله تبارك وتعالى يقول: “إن الله لا يغفر أن يُشْرَك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء” (نساء 51). وقال: “لقد كفر الذين قالوا إنَّ الله هو المسيح ابن مريم. وقال المسيح يا بني إسرائيل، اعبدوا الله ربّي وربكم، إنه من يُشْرِكْ باللـه فقد حَرَّمَ اللـه عليه الجنة ومأواه النار، وما للظالمين من أنصار.
لقد كفر الذين قالوا إنَّ الله ثالث ثلاثة، وما مِنْ إلهٍ إلاَّ إلهٌ واحد، وإن لم ينتهوا عما يقولون لَيَمَسَّنَّ الذين كفروا منهم عذابٌ أليم. أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه واللـه غفور رحيم. ما المسيح ابن مريم إلاَّ رسولٌ قد خلَتْ من قبله الرسل، وأُمَّهُ صديقةٌ كانا يأكلان الطعام. انظر كيف نُبَيّنُ لهم الآيات ثم انظر أنَّى يُوفكون” (مائدة 76 – 79).
فدع ما أنت فيه من تلك الضلالة وتلك الحمية الشديدة الطويلة المتعبة، وجهد ذلك الصوم الصعب والشقاء الدائم، والبلاء الطويل، الذي أنت منغمس فيه، الذي لا ينفع ولا يجدي عليك نفعاً إلاَّ إتعابك بدنك وتعذيبك نفسك، وأقْبِل داخلاً في هذا الدين القيِّم السهل المنهج الصحيح الاعتقاد الحسن الشرائع الواسع السبيل، الذي ارتضاه الله لأوليائه من عباده، ودعا جميع خلقه إليه من بين الأديان كلها تفضُّلاً منه عليهم به، وإحساناً إليهم بهدايته إياهم، ليُتمَّ بذلك نعماه عندهم. فقد نصحت لك يا هذا وأدَّيْتُ إليك حق المودَّة وخالص المحبة، إذ أحببتُ أن أخلطك بنفسي، وأن أكون أنا وأنت على رأي واحد وديانة واحدة. فإني وجدّت ربي يقول: “إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها، أولئك هم شرُّ البَرية. إنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خَير البَرية، جزاؤهم عند ربهم جنَّاتُ عدنٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً، رضي الله عنهم ورضُوا عنه، ذلك لِمَنْ خشي ربَّهُ” (بينة 6– 7). وقال الله، في محكم كتابه، في موضع آخر: “كنتم خير أُمَّةٍ أُخرجَتْ للناس تأمرون بالمعروف” (آل عمران 103).
وأشفقتُ عليك أن تكون من أهل النار الذين هم شر البرية، ورجوتُ أن تكون بتوفيق اللـه إياك من المؤمنين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه وهم خير البرية، ورجوتُ أن تكون من هذه الأمة التي هي خير أمة أُخْرِجَتْ للناس. فإن أبيتَ إلاَّ جهلاً وتمادياً في كفرك وطغيانك الذي أنتَ فيه، وردَدْتَّ علينا قولنا ولم تقبل ما بذلناه لك من نصيحتنا، حيث لم نُردْ منك على ذلك جزاءً ولا شكراً، فاكتب بما عندك من أمر دينك، والذي صحَّ في يدك منه وما قامت به الحجة عندك، آمناً مطمئِناً غير مُقَصِّر في حجتك ولا مُكاتم لما تعتقده. ولا فَرِق ولا وجِل، فليس عندي إلاَّ الاستماع للحُجَّة منك، والصبر والإِذعان والإِقرار بما يلزمني منه طائعاً غير منكر ولا جاحد ولا هائب، حتى نقيس ما تأتينا به وتتلوه علينا ونجمعه إلى ما في أيدينا، ثم نخيّرك بعد ذلك على أن تشرح لنا عليه، وتدع الاعتلال علينا بقولك إن الفزع حجبك وقطعك عن بلوغ الحجَّة، واحتجتَ أن تقبض لسانك ولا تبسطه لنا ببيان الحجة، فقد أطلقناك وحجتك لئلا تنسبنا إلى الكبرياء وتدَّعي علينا الجور والحيف، فإنَّ ذلك غير شبيهٍ بنا، فاحتجَّ عافاك الله بما شئت، وقل كيف شئت، وتكلم بما أحببت وانبسط في كل ما تظن أنه يُؤدّيك إلى وثيق حجَّتك، فإنَّك في أوسع الأمان، ولنا عليك إذ قد أطلقناك هذا الإطلاق وبسطنا لسانك هذا البَسْط، أن تجعل بيننا وبينك حكماً عادلاً لا يجور في حكمه وقضائه، ولا يميل إلى غير الحقّ إذا ما تجنَّب دولة الهواءِ، وهو العقل الذي يأخذ به اللَّـه عزَّ وجلَّ ويعطي. فإننا قد أنصفناك في القول، وأوسعناك في الأمان، ونحن راضون بما حكم به العقل لنا وعلينا، إذ كان لا إكراه في الدين. وما دعوناك إلاَّ طوعاً وترغيباً في ما عندنا، وعرَّفناكَ شناعةَ ما أنت عليه. والسلام عليك ورحمة اللـه وبركاته.
المؤسسة الامريكية للدراسات السريانية