السريان في طور عابدين ( تركيا) / الدكتور جان جوزيف ترجمة حنا عيسى توما

Posted by on Jul 13, 2021 in Library, دراسات سريانية | Comments Off on السريان في طور عابدين ( تركيا) / الدكتور جان جوزيف ترجمة حنا عيسى توما


 كانت الأوضاع الداخلية في الامبراطورية العثمانية نهاية الحرب العالمية الاولى ( سنة ١٩١٨ ) مضطربة جداً . فقد كانت أسعار المواد الغذائية ومعظم السلع الاستهلاكية باهظة جداً . ففي استنبول ، على سبيل المثال ، كان السكر  كغيره من المواد الكمالية  يباع بالمفرق  بـ ٣٠٠  قرش بدلاً من ٢٥  قرش  . ” كل يفكر بنفسه ” ; فقد صرحت مجلة التايمز اللندنية ” أن أخطر مشكلة واجهتها البلاد نجمت عن مئات الألوف من قطاع الطرق بعضهم منظمين سياسياً والبعض الآخر من العصابات الغير منظمة ومن اللصوص والهاربين من الخدمة الإلزامية  “ 

 كانت استنبول مدينة محتلة والسلطان فيها مقيّد الصلاحيات  والمفاوضات التي أجرتها حكومته ووقعت عليها في معاهدة سيفر كرّست حق القوى الغربية في التدخل في القضايا الداخلية لتركيا ومقاطعاتها السابقة . ولكن الغرب استخدم الكثير من الأقليات في الإمبراطورية كذريعة للتدخل السياسي . ففي نهاية الحرب العالمية الأولى استخدم الأرمن والأكراد والموارنة واليهود والآشوريين ، تماماً كما استغل العرب في بدايتها

 أن فكرة ارمينا مستقلة ، وخطة حكم ذاتي للأكراد في المناطق التي هم الأغلبية فيها – تؤدي فيما بعد إلى الاستقلال إذا شاء الأكراد ، وقيام وطن قومي لليهود في فلسطين ، وسيطرة الموارنة على لبنان الكبير ، وامتيازات خاصة للآشوريين في شمال العراق أدت إلى بعث الآمال القومية عند الأقليات والمطالبة فيها ، الأمر الذي أدى إلى توتر في العلاقات بين الأقلية والأكثرية ، وإلى عداء ما زال الشرق الأوسط يعاني منه 

ومع انهيار روسيا القيصرية وجد الأرمن أنفسهم في شرقي الأناضول في ظل ظروف خطرة وبدأ المبعدون منهم بالعودة إلى بيوتهم مباشرة بعد أن وقعّت تركيا معاهدة الهدنة .  وفي أيار سنة ١٩١٨ انتهز القوميون الأرمن قيام الثورة الروسية من جهة وانتصار جيوش الحلفاء من جهة أخرى فأعلنوا  قيام الجمهورية الأرمنية في القوقاز . وأدى استسلام الإمبراطورية العثمانية لقوات الحلفاء بعد خمسة اشهر إلى انسحاب جيوشها من ترانسكاسيا ومن شمال شرقي إيران خلال ١٩١٩ مما أدى إلى تقلّص الأخطار التي كانت تواجه الجمهورية الأرمنية الفتية . وبمساعدة القوات الملكية البريطانية بسطت الجمهورية الأرمنية سيطرتها الكاملة على جميع ولاية كارس  التي عاد اليها أكثر من ٥٠،٠٠٠ لاجئ أرمني كانوا قد تركوا هذه الولاية عندما تخلى الروس عنها ضمن أوامر مشددة لا تسمح لهم بدخول أرمينيا التركية .  ولكن مقاومة الإغراء بالتقدم نحو أرمينيا التركية كانت صعبة ، فباشر الأرمن حالاً بتوسيع نطاق حدود الجمهورية لتشمل  الأناضول غرباً مندفعين بحلم العودة من جديد إلى فلاحة تراب فان  وبدليس وارضروم و ديار بكر- وما وراءها من أراض، والذي شجعهم أكثر من ذلك هو اعتراف معاهدة سيفر رسمياً باستقلال الأرمن في تركيا الشرقية

 في الوقت الذي كان الأرمن يحاولون السيطرة على تركيا الشرقية نزلت القوات اليونانية تحت حماية الحلفاء مدينة ازمير وتابعت لتضم غربي الأناضول  متخيلة أنها ستعيد بناء الإمبراطورية البيزنطية في حدودها القديمة  بحيث تكون القسطنطينية عاصمتها و آيا صوفيا كاتدرائيتها

وفي صيف سنة ١٩٢٠ وصلت القوات الفرنسية جنوب غرب تركيا وتطوع الأرمن اليافعين في خدمة الجيش الفـرنسي تحت إمرة قادة فرنسيين ، وصرحت البعثات الأرمنية أن الطوائف المسيحية في النصف الغربي من تركيا قد أعلنت عن قيام  ” دولة كيليكيا المسيحية المستقلة “

وعندما شعر الأتراك بالهزيمة والإهانة قاموا بردة فعل معاكسة ، فبعد إنتهاء الحرب  أدت عودة الأرمن إلى الأراضي التركية إلى نشوء حركة تركية تبغي منعهم من الاستيطان وحراثة حقولهم ، وقالت التايمز أن الأتراك أرسلوا عصابات على نمط قطاع الطرق من قبل وجهاء محليين للقيام بذلك  وأدى ذلك إلى قيام حرب بكل ” ما يلازم الحرب من بشاعة “.  وعندما احتلت ازمير  قامت هذه الحركة في نشر أخبار ذبح المسلمين بواسطة اليونان  وكيف تعرضت قرى المسلمين الأتراك العزل من السلاح للنهب والسلب  وكيف أُجبر سكانها على الجوع

 بدأ مصطفى كمال في ربيع سنة ١٩١٩ يجمع القوات الوطنية لينقذ تـركيا ذاتها من التمزق  وليس ضروري الانشغال بتفاصيل السنوات القليلة التالية إلا فيما يتعلق بالنصف الثاني من سنة ١٩٢٠ عندما أزيل خطر اليونان  واستطاعت القوات التركية السيطرة على القسم الأكبر من الرقعة التي طالبت بها الجمهورية الأرمنية  بما في ذلك كارس وارداهان . و على جبهة كيليكيا نقلت الإرسالية الأميركية أخبار الحرائق وإراقة الدماء . وفي مرعش أجبرت القوات الفرنسية التي ساعدها الأرمن  بعد ثلاثة أسابيع من القتال  على الانسحاب . ووقعت القوات الأرمنية في أيدي الأتراك الذين ” كانوا آنذاك مشحونين بالكره الشديد نحوهم ” . وفي بداية سنة ١٩٢٢وقعّت القوات الفرنسية معاهدة هدنة مع الأتراك حيث أعلنت فيها انسحاب الفرنسيين من كيليكيا مقابل اعتراف حكومة مصطفى كمال بالحكم الفرنسي في سوريا .  أما الأرمن ، كمواطنين أتراك ، فلقد كان عليهم أن يسلّموا أنفسهم للسلطة التركية ويقبلوا بالضمانات التركية لحمايتهم . اما الذين فضّلوا مغادرة الأناضول إلى سوريا المحتلة فقد سمحت لهم فرنسا بذلك .  لقد كتب الدكتور جان ميريل – رئيس كلية تركيا المركزية في عينتاب – يقول ” أما خيبة الأرمن فقد فاقت تلك التي عانوها أثناء قوافل المذابح والسوقيّات ، لأنها أضافت إلى مرارة الحدث  إدراكهم الخيانة التي تعرضوا لها “

في سنة ١٩٢٢منح الأتراك ” ترخيص إلى كل المسيحيين ” بمغادرة تركيا ، فشكّل المسيحيون مرة أخرى أسراباً من اللاجئين ترتجف من الخوف والذعر، واصبح السريان والكلدان  بالإضافة إلى الأرمن ، ضحايا الانتقام التركي  . لقد هاجرت سنة ١٩٢١ و ١٩٢٢ أعداد كبيرة من الجاليتين ، الغير أرمن ، فوضعت بذلك نهاية لوجودها الذي دام قرونا طويلة في أضنة وأورفا خاصة . كانت الأكثرية الساحقة منهم ضحايا عاجزة أمام القوى التي ولدّتها الأحداث  والذين كانوا أبرياء من كل الطموحات السياسية . ولكن ، كغيرهم من الأقليات ، بعد شعورهم بالحريات الجديدة المعلن عنها في تصريحات الرئيس الأمريكي ، طالب السريان الأرثوذكس حضور مؤتمر السلام في باريس ، وانضم بعض قادتهم ، خاصة الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة الأمريكية ، إلى ممثلي ” المنظمة الوطنية للآشوريين في أميركا ” وما لها من مطالب طموحة . وانضم إلى الوفد في باريس بطريرك السريان الأرثوذكس ، اغناطيوس أفرام الأول برصوم ، الذي كان آنذاك مطران سوريا ، حيث خاب ظنه مما شاهد هناك . وفي إحدى جلسات مؤتمر السلام بدأ البطريرك يدافع عن حقوق العرب بدلاً من الدفاع عن قضية شعبه . صفقت له الوفود العربية وسُمي من حينها ” مطران العرب ” و” قس الزمان “

ظلت ، خارج كيليكيا ، أعداد ضخمة من الكلدان والسريان الأرثوذكس والسريان الكاثوليك في قراها ومدنها بعد ترحيل الأرمن ، ومع انهم وقفوا إلى جانب الأتراك حين وقعّت معاهدة الهدنة ، إلا انهم كانوا غالباً موضع انتقام الأتراك  فلقد تعرضوا للمذابح والترحيل ثانية في ثورة الأكراد عام ١٩٢٥ رغم أن ذلك جاء بعد فترة طويلة من تسوية الأتراك لخلافاتهم مع المواطنين الغير مسلمين

كان الدافع للإنتفاضة الكردية ، كما لاحظ كاتب كردي ، هو السعي إلى إيجاد دولة كردية مستقلة  وضمان الحقوق الوطنية للشعب الكردي  .  كان شعار الثورة الرئيسي ” تحقيق استقلال كردستان تحت الوصاية التركية وإعادة السلطنة ثانية ” . ولكن الوطنيون الأتراك صمّموا على سحق الإنتفاضة  فإن ” لم يتلقن الأكراد درساً ” في فترة مبكرة جدا فسوف تكون الولايات الشرقية دائماً مصدر خطر كبير  ممّا سيرغم الجمهورية الفتية على إبقاء جيوشها هناك وتحمل تكاليفه .  ولقد اقتنع الجمهوريون الأتراك بأن الأكراد تلقوا دعماً من الحكومة الإنكليزية في العراق  حيث كانت الإدارة البريطانية المنتدبة تميل إلى جانبهم  والأكثر من هذا  لقد وجدت حكومة أنقرة في الأكراد عدو أيديولوجي  إذ يمثلون ثورة مضادة  أي تركيا القديمة تقاتل تركيا الجديدة . وعندما احتل الأكراد ، لفترة قصيرة  ، ديار بكر وخربوط  نصبوا محمد سليم الابن الأكبر للسلطان عبدالحميد  الثاني ” ملكاً على كردستان ”  وطالب المتمردون بإعادة القوانين الدينية والمؤسسات  التي كانت حكومة أنقرة ” الملحدة ” قد ألغتها  كما دعوا الأتراك المسلمين لينضموا إليهم  في حربهم المقدسة  ( الجهاد ) ضد الجمهورية الجديدة

ولم تمض فترة طويلة حتى انهالت قبضة حكومة أنقرة الثقيلة على الانتفاضة الكردية وقوضتها وألقت القبض على قادتها ، وفي نيسان ١٩٢٥سيق الثوار إلى الجبال  وعندها قال عصمت باشا أمام الهيئة الوطنية العليا  ” بأن الجبال ستصبح مقبرتهم ” . وحكمت المحكمة العسكرية التركية التي انعقدت في ديار بكر بالموت ضد الشيخ سعيد و ٤٧ من القادة الأكراد ونفذت الحكم في آب من عام ١٩٢٥ . لقد كتب غاسيملو يقول ” دمرت ٢٠٦ قرى  ، واحترق ٧٥٨٨ بيتا وقتل ٢٠،٠١٥ شخص ” ، ونقلت تقريبا ألف عائلة كردية من وجهاء الأكراد إلى الأقسام الغربية من الأناضول 

أما السريان الأرثوذكس الذين استثنوا خلال الأعمال الوحشية التي تعرض لها الأرمن  فقد  أصبحوا ضحايا البربرية والوحشية  خلال سحق التمرد الكردي  وتعاون بعض المسيحيين السوريين مع الأكراد وأعطاهم البعض الحماية إما عن خوف أو عن قناعة ، لذلك طوقت الحكومة عدداً من السريان الارثودكس والكلدان ونفتهم من القسم التركي ، الذي ادعت الحكومة الإنكليزية انه للعراق ،  إلى شمال ” خط برسل ”  ونسب بعض الناس الذين قاموا بالتحقيقات الفورية عملية الأبعاد هذه إلى رغبة الحكومة العسكرية التركية في مصادرة المواشي والقمح من القرى المسيحية لتطعم قواتها الجائعة والغاضبة ومن الناحية السياسية  كانت السلطات التركية تخشى أن يكون ولاء المسيحيين للسلطات البريطانية والعراقية عبر الحدود ، فلقد صرّح الجنرال لادونر ، المسؤول من قبل عصبة الأمم ليتحرى عملية الأبعاد ، ” انه اقتنع وبدون شك ” أن الضباط الأتراك قادوا أولاً عملية الاحتلال ثم فتشوا القرى بحثاً عن السلاح  وبعد فترة قصيرة سلبوا أهاليها ونهبوا بيوتهم وعرضوهم إلى أشنع أنواع التعذيب والقتل . كان الترحيل بالجملة . لقد طردوا بطريرك السريان الأرثوذكس مار اغناطيوس الياس الثـالث من دير الزعفران وحولوا الدير إلى ثكنة تركية

لم يغادر كل السكان المسيحيين بيوتهم في الأناضول خلال وبعد الحرب العالمية الأولى فلقد رجع بعض الذين كانوا قد عبروا الحدود إلى سوريا أو العراق إلى قراهم  وخلال النزاع احتفظ سكان طور عابدين بمعاقلهم الجبلية  وكما في الماضي لجأوا إلى كنائسهم وأديرتهم  . وكانت قرى مثل قلث ، مدو ، باسبرين ، آزخ ، وحاح من بين ما يقارب ٦٠ قرية لازال معظم سكانها  من المسيحيين حتى منتصف سنة ١٩٧٠ . ويرجع تاريخ إحدى الكنائس في حاح ” كنيسة العذراء ” ، إلى أيام الرسل  وما زالت الفسيفساء البيزنطية الرائعة فيها لم تمس  وتعتبر هذه الكنيسة أقدم كنيسة في العالم ما زالت قيد الاستعمال  وجاء في وصف جيرترد بيل للزخرفة الدقيقة لزينة هذه الكنيسة بأنها جوهرة طور عابدين

كتب طالب أميركي  ينتمي إلى إحدى الكنائس المسيحية الشرق أوسطية  والذي زار طور عابدين سنة ١٩٧٤ يقول : أن ما يميز كنائس وأديرة المنطقة عن غيرها من الآثار الباقية للمسيحيين القدامى في آسيا الصغرى هو عبارة ” ما زالت قيد الاستعمال ” . وخلال زيارته شاهد الطالب المؤمنين يجتمعون في مختلف الكنائس لصلاة المساء . وفي قرية قلث شاهد هناك كنيسة سريانية بروتستانتية عدد أعضاؤها ٢٠ عائلة من بقايا نشاط البعثة البروتستانتية التي كانت مزدهرة فيما مضى

أما الموقع الرئيسي في منطقة طور عابدين فهو دير الزعفران وكاتدرائيته  أي كنيسة الأربعين شهيد ، كان هذا الدير ولأجيال عديدة المقر الصيفي لبطاركة السريان الارثودكس قرب ماردين ، ومنزل ما يقارب الـ ٦٠ راهباً .  كما كان هناك ١٠ رهبان آخرون يخدمون في أديرة أخرى – كدير مار كبرئيل ودير مار يعقوب – يصرفون معظم وقتهم في صيانتها  ويتعهدوا بعناية الحدائق وأشجار البساتين  بالإضافة إلى التأمل والتعليم واستضافة الضيوف والزوار والفلاحين الذين قطعوا رحلة طويلة لحضور قداس الأحد . وقد تمّ ترميم دير مار كبرئيل في قرية قرطمين وهي على مسافة ٢٠ ميلاً شرق مديات كما أضيف إلى البناء القديم بعض الأبنية الجديدة في السنوات القليلة الماضية .  وكان  يسمى احيانا  ” دير العمر ” وهو الأكثر شهرة والأغنى بين جميع أديرة السريان الارثودكس  وتقول التقاليد أن مطران الدير ، مار كبرئيل ، حصل من الخليفة عمر بن الخطاب على حق الوصاية على كل المسيحيين في طور عابدين حين طردت قوات الخليفة البيزنطيين من تلك المنطقة

لقد تمت صيانة وتوسيع هذه الأبنية الموقرة بواسطة تبرعات سخية من السريان الارثودكس في كل مكان  وخصوصاً من الذين هاجروا إلى أميركا

بالنسبة للسريان الأرثوذكس تعتبر مناطق طور عابدين ومعالمها ، وهي  أكثر من ٧٠ مركز رهبنانية ، ” مقدسة عبر العصور بدماء الشهداء والوساطة العجائبية للروح القدس ” . وتعمل في الوقت الحاضر إثنان من هذه الأديرة كمعاهد لاهوتية  ففي سنة ١٩٧٤ كان في دير الزعفران ودير مار كبرئيل ٥٠ طالباً  يهيأ بعضهم للدخول في سلك الكهنوت .  ولعل أعظم خريجي دير الزعفران كان البطريرك مار اغناطيوس افرام الأول برصوم  سلف المطران الأخير الذي كان خرّيج دير مار متى في شمال العراق .

ما زالت مدينة مديات هي عاصمة طور عابدين الوسطى ومركزاً لمعظم مطارنة  السريان الأرثوذكس في تركيا ، ولمديات أبرشية يقارب عددها الـ ٢٠ الف مواطن يعيشون فيها وفي القرى المجاورة لها  ويقوم بالخدمة فيها ٤٠  قساً . وفي المدينة خمسة كنائس لكل واحدة منها قسّها  وتنقسم المدينة إلى منطقتين تبعد الواحدة عن الأخرى قرابة ٢ كم ، واحدة غالبيتها من المسلمين والأخرى مسيحية

كانت جميع الطوائف المسيحية في النصف الشرقي من الأناضول موجودة في ماردين بعد أحداث ١٩١٤- ١٩١٨ التي سادت ذلك القسم من تركيا . وكان السريان الارثودكس  أهم الفرق المسيحية في المدينة فقد حلّوا محل الأرمن ، وكان لـ ” رعيتهم الكبيرة ” في الريف المجاور ، في الستينات من هذا العصر ،  كنائسها الخاصة وقسانها

يبدو للوهلة الأولى أن الأوضاع قد عادت إلى وضعها الطبيعي الذي كان سائداً قبل الحرب العالمية الأولى . فلقد فتحت إرسالية تركيا الشرقية التابعة للهيئة الأميركية مدارسها في ماردين في أواخر سنة ١٩٢٤ . وصرّح المرسلون الأمريكان خلال القلاقل الكردية  في أواخر العشرينات وبداية الثلاثينات  أن المسؤولين الأتراك في المدينة كانوا ودودين جدا وقدموا مراكز للإرسالية مع  حراسة خاصة

وبالرغم من أن ماردين كانت ما تزال  خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية  مدينة تتكلم اللغة العربية إلا أن جميع سكانها كانوا يتكلمون اللغة التركية أيضاً  كما كان قسم من الخدمات الدينية التي ما زالت في العربية عند  السريان الارثودكس كالقداس وقراءة الأناجيل قد تم نقله خلال الستينات إلى اللغة التركية . حتى ذلك الحين كانت جميع الكتب الخاصة بالطقوس الدينية مكتوبة إمّا باللغة السريانية أو العربية . وكان للمدينة مطراناً مسؤولاً عن جميع السريان الأرثوذكس المسيحيين في تركيا حتى وفاته في أواخر الستينات .وأصبحت ماردين بعد ذلك تابعة لسلطة مطرانية منطقة الجزيرة في سوريا

أما خارج نطاق مناطق طور عابدين وماردين فكانت استنبول وضواحيها مركز تجمع السريان الارثودكس  ففي استنبول بنت الطائفة المؤلفة من حوالي سبعة آلاف نسمة  سنة ١٩٦٣ مجمعاً يضم مدرسة وكنيسة أطلقت عليه اسم ” كنيسة الوالدة مريم للسريان القديم “

وكأي مكان آخر في الشرق الأوسط  حصل السكان المسيحيون في تركيا على بعض الطمأنينة والراحة لاسيما في المدن الكبيرة المتعدّدة الأجناس  ووجدوا فيها فرص اقتصادية افضل بالإضافة إلى أن العلاقات بين الأفراد أصبحت اكثر ودية عما مضى .  ولكن مستقبل الأقليات المسيحية القليلة في تركيا يبدو غامضاً بعكس الوجود المسيحي في العالم العربي فهو أقوى  فالمسيحيون ( الأقباط في مصر ، واليونان الأرثوذكس في سوريا هم سكان تلك الدول الأصليين ) ربطوا مصيرهم مع العرب وتعاطفوا كجماعة مع المطامع الوطنية للمواطنين المسلمين  لذلك تسببت التجربة التركية باغتراب المسيحيين  وأصبح مستقبل طور عابدين غير معروفاً . يقول هورنر  أن لا مستقبل لهم هناك وهذا ما يدفعهم باستمرار للهجرة عن طور عابدين إلى استنبول وسورية ولبنان والبعض إلى أوربا واستراليا وأمريكا