(السريان المونوفيزيون (الأرثوذكس)
من كتاب ” السريان في العصور الوسطى الكاتبة نينا بيغلوسفكايا وترجمة الدكتور أحمد الجراد
تطورت العقيدة النسطورية بفضل تفاسير ثيودوروس المصيصي ، هذه التفاسير التي نقلها هيبا الرهاوي وتمسك بأحكامها فتبلورت وأصبحت واضحة المعالم على الأخص في مدينة إنطاكية . ولكن هنا (في إنطاكية) ظهرت مقاومة الفكر-العقائدي النسطوري ممثلة بتعاليم المونوفيزيين وآرائهم . كان يمثل المذهب المونوفيزي (الطبيعة الواحدة) يوليانس (يوليان) الهاليكارناسي و سويريوس الانطاكي الذي جلس على كرسي أسقفية إنطاكية بدءاً من عام 512 م فوجدت أفكاره أصداءها الواسعة في أرجاء المشرق حتى أن تفاسيره ترجمت بصورة مبكرة نسبياً من اليونانية إلى السريانية فصارت أساساً نهضت عليه الحركة المونوفيزية التي لم تسلم من الملاحقات العنيفة في بعض الأوقات . ولقد وجدت خطبه الكاتدرائية المائة والخمس والعشرين باللغة السريانية في مخطوطة تعود إلى عام 868 م وهو عبارة عن نص مترجم من اليونانية في عام 701 م . وفي مخطوطات لينغراد توجد بعض المقتطفات المستنسخة في القرنين العاشر والحادي عشر تتضمن نتفا من خطب سويريوس الانطاكي.
وتعد الخطب الكاتدرائية أي ” خطب المنابر ” التي ألقاها سويريوس طيلة بطريركيته الفعلية أهم أعماله النثرية العقائدية وهي تتكون من عظات لأهم أعياد السنة وعظات في القديسين وخطب تفسيرية تتطرق إلى النصوص الكتابية التي تقرأ في الآحاد . أما رسائله فهي كثيرة جدا حتى أنه يقال أنها تناهز 400 رسالة وقد نقل بعض أتباعه عشرات منها إلى السريانية . وله إضافة لما ذكرنا بعض الصلوات المرتلة (الليتوجيات) التي تتلى في بعض المناسبات والطقوس.
وكان أكثر أتباعه حيوية وتشدداً السرياني (السوري) فيلوكسينس الذي حصل على تعليمه في مدرسة الفرس في الرها وعين سنة 485 م أسقفا لهيرابوليس (منبج السورية) ولهذا اشتهر باسم فيلوكسينس المنبجي .
وقد تصدى فيلوكسينس المسمى أيضا اخسنايا (وهي الترجمة السريانية لاسم الغريب أو محب الغربة الذي أطلق عليه) للنفوذ النسطوري الذي كان قوياً في مركز مطرانيته (منبج) وقاوم بقوة المقررات النسطورية التي أراد برصوما النصيبيني أن يفرضها بمساعدة السلطة الفارسية ونتيجة لموقفه المؤيد بحرارة لآراء سويريوس اصطدم بفلابيانس بطريرك إنطاكية ومساندة مقدونيوس بطريرك القسطنطينية . وفي سنة 512 م حضر فيلوكسينس مجمع صيدا بصفة رئيس له فأزفّت اللحظة المناسبة لتعيين سويريوس أسقفاً لإنطاكية وهو بمثابة انتصار حاسم للتيار المونوفيزي في هذه المدينة وظلت الظروف مواتية للتحرك المونوفيزي إلى وفاة الإمبراطور أنسطاس سنة 518 م وخلفه في الحكم يوستينس وهو خلقيدوني المذهب فعمل فور تسلمه مهام الإمبراطورية على تحطيم كل رأي مخالف لمذهبه أو معارض لقراراته وهكذا تدهورت أوضاع فيلوكسينس فأجبر على التخلي عن كرسي المطرانية ثم نفي في صيف عام 519 م مع صديقه سويريوس إلى غنغرة في بفلاغونية بادئ الأمر ثم إلى فيليبوليس في تراقية . وبعد آلام قاسية عانى منها معنوياً وجسدياً مات فيلوكسينس أسقف منبج في سنة 523 م.
ترك فيلوكسينس المنبجي كمية كبيرة من الكتابات وهذا ليس بمستغرب منه وهو رجل الجهاد والكفاح والأديب النابه والكاتب المخلص لمبادئه وقد كانت كل مؤلفاته مكرسة للدفاع عن عقيدته المونوفيزية ومهاجمة النسطورية سواء من خلال شروحه للأناجيل أو من خلال كتاباته الجدلية – العقائدية المباشرة – وله رسائل كثيرة يفند فيها الآراء النسطورية وإقرارات إيمان يغلب عليها المذهب الأرثوذكسي وعدا ذلك فقد كتب المنبجي رسائل إلى أديرة مختلفة ورسائل إرشادية تحمل النصائح الخبيرة بأغوار النفس البشرية وجّهها إلى بعض الرهبان أو إلى أشخاص أعلنوا مسيحيتهم مجدداً أو إلى بعض المبتدئين في درجات المراتب الكنسية والرهبنة.
ومن الشخصيات السريانية المونوفيزية اللامعة نذكر سمعان أسقف بيت أرشم الذي اشتهر كخطيب وعظي فصيح وكمجادل لا يجاري وقضى حياته في الجدالات والدفاع عن مذهب الطبيعة الواحدة حتى مدّ نشاطه إلى البيئة العربية المسيحية وهو أمر طبيعي لأن السريان عملوا بوعي وواقعية على نشر المسيحية بين العرب ونجحوا في بعض القبائل العربية (بني تغلب – المترجم) . وعلى التربة العربية تصادمت مصالح النساطرة والمونوفيزيين حتى أن المجادلات بين هذين المذهبين وصلت إلى اليمن حيث وجد المونوفيزيون سنداً قوياً لهم في الأوساط المسيحية هناك.
وتتحدث المصادر عن ممثلي هذا الاتجاه المسيحي الذين بشروا بعقيدتهم في جنوب الجزيرة العربية وعلى ” طريق التوابل ” (طريق الهند وجنوب شرقي آسيا).
ومن المعروف كيف أن ملك الحميريين ذو نواس اضطهد المسيحيين وفتك بهم واحرقهم في نجران سنة 523 م فاستشهد منهم كثيرون وفي مقدمتهم الحارث بن كعب فما كان من سمعان الأرشمي إلا أن كتب رسالة في سنة 524 م من الحيرة عاصمة المنذر يحرض فيها الأساقفة على السعي لدى الإمبراطور ليضع حداً للمجازر التي دبرها اليهود ضد النصارى في اليمن وتعتبر هذه الرسالة بحق أحد أفضل المصادر في تاريخ المسيحية لدى الحميريين إضافة إلى أنها تقدم تفاصيل كثيرة ومعلومات جانبية من شأنها أن تكون مفيدة لرسم ملامح توضح البنية الاجتماعية – الاقتصادية لبلاد حمير.
ويذكر أن سمعان الارشمي دخل في مناظرة مع الجاثليق باباي (الجاثليق ما بين عامي 497 و 503 م) وخرج الارشمي منتصرا منها وقد تمكن أيضا أن ينصر ثلاثة كهنة زرادشتيين تعرضوا للقتل بسبب ذلك في سنة 509 م أما هو فقد وافته المنية في القسطنطينية سنة 584 م.
ونود أن نشير مجددا إلى أن المونوفيزيين السوريين أصبحوا يسمون اليعاقبة نسبة إلى يعقوب البرادعي (المتوفى سنة 578 م) الذي يعتبر المؤسس الحقيقي لمذهب الطبيعة الواحدة في سورية وكان شخصاً مجتهداً بدأ حياته بالرهبنة فدخل دير ” فسيلتا ” القريب من قريته وقضى فيه مدة في الصوم والصلاة وإماتة الشهوات الجسدية حتى أن لقب البرادعي أطلق عليه لأنه كان يلبس لباسا خشنا شبيها بالذي يستخدمونه في برادع الدواب كان هدفه الوعظي الرئيسي يتمثل في تقوية العقيدة والحفاظ على التقاليد والتراث الجيد والأصيل عند الهيئات الروحية القائمة على شؤون المونوفيزيين كان ليعقوب البرادعي أسلوبه المميز في تسطير الرسائل حتى أصبح يطلق على هذا النوع اسم ” الأسلوب اليعقوبي ” ويعتمد على الكتابة باللغة اليونانية أساساً.
وعموماً فقد كان المونوفيزيون ميالين إلى الأعمال العلمية حيث تطورت لديهم فروع الرياضيات والفلسفة وعلم الفلك وقد سمحت لهم معرفتهم الجيدة باللغة اليونانية بإقامة أوثق الصلات مع الأوساط العلمية اليونانية والتعمق في العلوم والآداب اليونانية عموماً التي ظهرت تأثيراتها القوية لدى السريان – المونوفيزيين بصفة خاصة.
والأمر الآخر الذي هيأ الفرصة المواتية للمونوفيزيين لتوطيد مواقعهم وتثبيت أقدامهم تجلى في الصراع الداخلي ضمن النساطرة أنفسهم كما يتضح ذلك من محاضر مجامعهم المحلية.
وقد وجد المونوفيزيون سنداً لهم في شخص كاتب شـهير، هو يعقوب السروجي (الملفان) (451 – 521 م) الذي أورث عددا كبيرا من الخطب والمواعظ والرسائل الموجهة إلى مختلف الشخصيات والمراتب ومجموعة ضخمة من القصائد والأشعار والتراتيل المكرسة لبعض الأعياد والأحداث الهامة وعموماً فقد كان تراثه الأدبي ضخماً للغاية وقد اشتهر يعقوب السروجي أكثر ما اشتهر بكتاباته المنظومة وأشعاره التي سبكها بإحكام نادر المثيل أما المواضيع التي تناولها السروجي فهي متنوعة حيث تتطرق إلى أهم أحداث العهدين القديم والجديد وحياة الآباء الأقدمين وقضايا الإيمان والفضائل واشتهرت هذه التآليف حتى أصبحت أساساً أدبياً للتعاليم المونوفيزية لدى السريان ودخلت في عداد الليتوجيات الكنسية ما كتبه السروجي في القداس والعماد وأهم أعياد السنة.
ونعود مجدداً للتنويه بأن نشاط يعقوب البرادعي (الذي تحدثنا عنه قبل قليل) كان موجهاً للمحافظة على التقاليد والآراء التي ورثها المونوفيزيون عن سويريوس الانطاكي ففي عام 527 – 528 م دافع البرادعي بقوة في القسطنطينية عن مذهب المونوفيزيين وحصل على دعم الإمبراطورة تيودورة التي جذبها نحو مذهبه أما في عام 542 – 543 م فقد تمكن بدعم من الملك الغساني (الحارث) أن يرسم عدداً من الأساقفة المونوفيزيين في المناطق الواقعة على الحدود الشرقية للإمبراطورية البيزنطية.
ومن ممثلي المونوفيزية نذكر مار أحودامه الذي مات مقتولا (بأمر من كسرى الأول) سنة 575 م . وتتحدث قصة حياته عن ثقافته الجيدة ونجاحه في مهمته التبشيرية في بلاد ما بين النهرين حيث تمكن في هذه المنطقة من هدي عدد كبير من العرب وغيرهم من الوثنيين إلى الديانة النصرانية حتى ان أحودامه هدى إلى النصرانية أميراً فارسياً من أبناء الملك كسرى الأول أنوشروان فترك هذا الشاب قصر والده ” لكي يهجر وثنية الآباء ويصبح مسيحيا ” حيث تشاء الظروف أن يلتقي هذا الشاب بأحودامه الذي عمّده وأدخله في المسيحية وعندما عرف كسرى ذلك ألقى القبض على أحودامه وزجّه في السجن حيث ظلّ يقاسي العذاب إلى أن قضى نخبه بعد عامين من الجوع والآلام ومختلف أشكال الحرمان والمعاناة.
ونود أن نشير في مجال الحديث عن نشاط المونوفيزيين السريان أن التنافس الذي اشتعل بينهم وبين النساطرة أدى بهم إلى الاهتمام بفتح المدارس والأديرة لكنهم تمكنوا من ترسيخ مواقعهم وتثبيت أقدامهم من خلال الدعم الكبير الذي حصلوا عليه من كبير أطباء الملك كسرى الثاني – جبرائيل السنجاري ، الذي عالج الملكة شيرين زوجة الملك المحبوبة فعظمت حظوته لديها وقد توصل جبرائيل عن طريقها إلى حمل الملك على منع النساطرة انتخاب جاثليق لهم لمدة عشرين سنة وقد أصدر الجاثليق سبريشوع أمرا بحرمان جبرائيل وطرده بسبب آرائه الهرطقية وبسبب ” تركه لزوجته الشرعية (المسيحية) وتزوجه امرأتين مجوسيتين “.
وعندما وقع الجاثليق سبريشوع فريسة مرض ثقيل طلب إليه الملك الفارسي أن ” يحل جبرائيل من الحرم ” لكن الجاثليق لم يوافق على ذلك وبعد موت هذا الجاثليق (سنة 604 م) احتدم النقاش والجدال حول من سيخلفه إلى أن عين الأساقفة غريغوريوس الذي وافته المنية سنة 609 م . ولدى موته منع الملك كسرى أن يقيم الأساقفة خلفاً له ، وهكذا بقي كرسي رئيس الكنيسة الفارسية شاغراً مدة طويلة كما سبق القول.
وتؤكد المصادر النسطورية انه شارك في المناظرة الشفوية المفتوحة في البلاط الفارسي ممثلو النسطورية والمونوفيزية بزعامة جبرائيل وكان النصر حليف النساطرة ومع ذلك استمر المونوفيزيون باستغلال نفوذهم في البلاط الذي كانت ركيزته الأساسية جبرائيل السنجاري حيث انه تمكن إضافة إلى إقناع الملك بمنع النساطرة من انتخاب جاثليق لهم مدة طويلة من دفعه إلى إصدار أمر بقتل الشهيد كيوركيس (من إيزلا) الذي تحول إلى المسيحية تاركا ” دين المجوس “. ويتضمن المصدر نفسه شكايات من المونوفيزيين الذين طردوا خصومهم (النساطرة) من عدة أديرة وشغلوها بأنفسهم ولا بد من الإشارة إلى أنه برز من الوسط المونوفيزي عدد من المؤرخين الروّاد الذين غذوا هذا العلم (التأريخ) بمعلوماتهم الإخبارية الهامة التي تفتقر إليها مصادر أخرى وهكذا اضطرتهم أحداث القرنين الخامس والسادس (للميلاد) إلى كتابة مجموعة من السير الشخصية وتبين الوقائع المدونة فيها مدى فعّالية الحياة العقلية في تلك الآونة وحجم الصعوبات التي جابهت أولئك الذين عملوا على نشر الأفكار والآراء الجديدة ويرتدي أهمية كبيرة كتاب ” تاريخ الحوادث ” الذي سطره يشوع العمودي والذي يطلق عليه “تاريخ يشوع العمودي” أو ” أخبار يشوع العمودي “.
حيث كان العمودي مونوفيزيا عاش في عهد الإمبراطور الروماني انسطاس الأول فدوّن أخبار الدمار والمصائب التي تعرضت لها مدينة الرها في زمن المعارك الطاحنة التي جرت بين الإمبراطور الروماني المذكور وبين قباذ الملك الفارسي.
ومن المؤلفات التاريخية المفيدة والممتعة نشير إلى أعمال المؤرخ الشهير يوحنا الافسسي أو الآسيوي ومن قراءة سيرة حياته الحافلة بالأحداث والنشاطات نطلع على أخبار مجموعة ضخمة من الشخصيات الدينية والزمنية في عصره وتبلور لدينا انطباع مؤثر حول دينامية هذا المؤرخ حتى ليتهيأ لنا وكأنه قضى عمره متجولاً متنقلاً من مدينة إلى أخرى ومن مقاطعة إلى أخرى .
ونتيجة لحيويته الفائقة وهمّته العالية كلف أكثر من مرة بمهام جسيمة مثل إرجاع الوثنيين إلى النصرانية في آسيا الصغرى كما رسم مطرانا على مدينة أفسس الشهيرة (سنة 558 م) وبعد موت البطريرك تيودوسيوس الإسكندري في القسطنطينية اعتبر يوحنا المرشد الأعلى لأبناء مذهب الطبيعة الواحدة في العاصمة وأصبحت السنوات الأخيرة من حياة يوحنا ملأى بالمحن والاضطرابات بسبب تعرض أبناء مذهبه للاضطهادات على يد الإمبراطور يوستينس الثاني فروى قصتها في كتابه الشهير – ” التاريخ الكنسي ” الذي وضعه في النصف الثاني من القرن السادس للميلاد وهو وثيقة ذات أهمية تاريخية كبرى حيث يضم وقائع ومعطيات كثيرة مع معلومات غاية في التفصيل والثراء وفي الوقت نفسه يتميز هذا العمل الهام بأسلوبه المبتكر وحيويته وسرعة إيقاعاته التي تعكس طبع مؤلفه المشحون عاطفة وتدفقاً انفعالياً وحرارة في الحوار وبعد هذا الكتاب أقدم تاريخ كنسي وصلنا من السريان المونوفيزيين (المنوفستيين) . ويضاف إلى هذا العمل الشهير ما كتبه يوحنا في ” سير القديسيين الشرقيين ” وهو كتاب يساوي في أهميته وأسلوبه المتميز كتاب ” التاريخ الكنسي ” ويضم السير الشخصية لعشرات الأتقياء والأساقفة والرهبان من المذهب المونوفيزي وأغلبهم من الذين عرفهم المؤلف شخصيا ويشكل هذا الكتاب مصدراً تاريخياً غنياً. وقد أشار بعض الدارسين والمؤرخين إلى مبالغة المؤلف في بعض الأحداث وإغراقه في التفاصيل ولكن مع ذلك لا يمكن تجاهل سعة اطلاعه وتعمقه في مسائل السياسة الشرقية للإمبراطورية الرومانية وينتمي إلى مجموعة المصادر التاريخية المونوفيزية التاريخ الكنسي المنحول المنسوب إلى زكريا المدللي الذي وضعه في القرن السادس للميلاد شخص مجهول يرجح أنه راهب أرثوذكسي من آمد وفي هذا الكتاب أيضا مجموعة من الوثائق والأخبار ذات أهمية كبيرة في تاريخ الشرق الأدنى مثل المعلومات التي تتحدث عن بطرس الملقب بالقصار وعن سويريوس قبل انتخابه أسقفا لإنطاكية وغيرهم وتوجد باللغة السريانية أيضا ” أحاديث ” وحكايات يوحنا روفس عن حياة مجموعة كبيرة من الاكليروس (القساوسة والشمامسة والأساقفة) والرهبان في نهاية القرن الرابع وبداية القرن الخامس للميلاد.
وإضافة إلى المؤلفات التاريخية التي صنفها المونوفيزيون استناداً إلى وثائق ومصادر خطية أو شفوية صحيحة ترجم قسم منها عن اليونانية مباشرة فانه لا بد من التذكير بأعمالهم المتميزة في حقل الترجمة وضبط النص الإنجيلي وقد اشتغل في مجال ترجمة العهد الجديد وتصحيح ترجمة غيره توما الحرقلي الذي حذق السريانية واليونانية فباشر أول الأمر بتصحيح ترجمة العهد الجديد السريانية لفيلوكسينس المنبجي وكان أسلوبه في ضبط الترجمة يقوم على مقارنة النصيين اليوناني والسرياني.
فاخرج ترجمته التي أجمع المتخصصون على جودتها ودقتها واشتهرت بالحرقلية وكانت في متناول يده ثلاث مخطوطات يونانية للأناجيل ومخطوطتان لأعمال الرسل.
ويجدر بالذكر أن توما الحرقلي أقام في دير اناتون القريب من الإسكندرية وعكف سنة 615 – 616 م على مراجعة الترجمة الفيلوكسينية للعهد الجديد كما مر معنا أعلاه . رسم توما الحرقلي أسقفاً لمدينة منبج ولكن بسبب اعتناقه للمذهب المونوفيزي (مذهب الطبيعة الواحدة) اضطهده القيصر موريقي (موريقيوس) قبل عام 602 م وتم طرده فهاجر إلى مصر متنقلا بين أديرتها المختلفة وتنسب إلى توما الحرقلي بعض الليتوجيات التي تتلى في صبيحة الأعياد مطلعها ” أيها الأزلي السرمدي واللطيف ” . وربما يكون قد حاكى في أسلوبه المزجي هذا (القائم على مزج الأناجيل في إنجيل واحد – المترجم) ططيانس الذي نسب إليه الدياطسرون وقد درجت هذه الطريقة التوفيقية التناغمية في الكنيسة الأرثوذكسية التي عرفت اثنتي عشر قراءة إنجيلية.
اشتهرت الأغاني الدينية والتراتيل المختلفة في الكنيسة السريانية وبدأت بالانتشار منذ لحظة تأسيس هذه الكنيسة وقد لعب دورا عظيما في هذا الميدان الملفان أفرام السرياني الذي تحدثنا في موضع آخر بصورة مفصلة عن إبداعاته في الأناشيد والأغاني الدينية والألحان والموسيقى وتنظيم جوقات الإنشاد الكنسية للفتيات.
وقد شاعت في الكنيسة السريانية للمونوفيزيين (الأرثوذكس) ما يطلق عليه المعانيث وهي أغاني ترتيلية وأناشيد منثورة تجري على الألحان الثمانية ولهذا يقال لها باليونانية ” أكطويخس ” (ذات الألحان الثمانية). وعموماً هي مجموعة أناشيد ومحاورات تفوق بها سويريوس وبلغ الذروة في الإبداع والفخامة والنجاح حتى انه وضع أناشيد للعام بأكمله تستهل عادة بآية من الكتاب المقدس ثم تسير بإنشاء طلي وأسلوب بديع هدفه تقوية الورع وتثبيت قلوب الناس بمحبة الرب وضعها سويريوس أولا باليونانية ثم نقلت عنها إلى السريانية ويمكن أن يكون مترجمها هو الأسقف بولس الرهاوي الذي اشتغل بالترجمة في عامي 525 م و 526 م عندما كان منفيا في إحدى المناطق النائية ويعتقد بومشترك أن مترجم الألحان الإنشادية (المعانيث) العائدة لسويريوس الانطاكي هو بولس آخر (غير بولس مطران الرها) رئيس دير قنسرين على الفرات ويقال أنه اشتغل بهذه الترجمات في جزيرة قبرص (قبرس) سنة 642 م ، وفي كل الأحوال فقد انتشرت معانيث (أغاني وألحان) سويريوس في الشكل الذي عرضه يعقوب الرهاوي كما يتبين ذلك من خلال محفوظات خزانة المتحف البريطاني المرقمة – 134 – 17 – ADD .
وبالنسبة للإبداع الشعري لدى يعقوب السروجي الذي جرى الحديث عنه في مكان آخر هنا يربطه عدد من الباحثين باسم شخص يدعى شمعون الفخاري حيث بحث عنه يعقوب السروجي إلى أن التقاه في قريته الصغيرة ” كيشير ” القريبة من دير مار باسوس في كورة إنطاكية وكانت مهنة شمعون هذا صناعة الخزف (الفخار) وكان يقوم في الوقت ذاته بمهمة شماس القرية ألف شمعون الفخاري (نسبة إلى مهنته) ألحانا وأغاني على البديهة كان يرددها أثناء قيامه بصنع أدواته الفخارية أطلق على الألحان البسيطة اسم ” سوغيثا الخاريات ” . وهناك رواية أخرى تقول إن يعقوب السروجي كان صديقا لهذا الشماس (الحرفي) فأعجب بهذا النوع من الألحان عندما جاء لزيارته سنة 510 وهو في معمله وحثه على متابعة النظم وتزود بنسخ من هذه الألحان الرائعة الإيقاع والمهم في الأمر أن يعقوب السروجي الذي نشر ألحان وحواريات شمعون الفخاري (السوغيثا) واخذ تلك الألحان الجميلة عن الشاعر الريفي المتواضع استطاع أن ينشرها ويثبتها حتى أصبحت بعض هذه الألحان مادة في الكتب الليتورجية والفرض الكنسي لدى اليعاقبة.
ويدل التنوع الكبير في ” الانتيفونات ” وهي أبيات يتلوها الكهنة ويرددها الناس بعدهم بشكل لازمة والتي اشتهر بها السريان على تذوقهم وحبهم للموسيقى والغناء وفي الوقت ذاته فإن هذه الخاصية تنطوي على أهمية تاريخية كبيرة باعتبار أنها توضح أحد العوامل الأساسية للانتشار الواسع الذي تمتعت به الثقافة السريانية ففي هذه البنية الثقافية الغنية وجدت عناصر لها تأثيرها الفعال على عواطف الناس وانفعالاتهم ونفوسهم.
وقد كان مستوى تطور السريان في هذا الميدان عالياً لدرجة أن تأثيرهم الثقافي على المحيط بلغ حداً عالياً من الثبات والرسوخ في مختلف جوانب البنية الثقافية – الفكرية وظلت بصماته قوية مدة طويلة من الزمن.
تنامت حركة المونوفيزيين (أتباع مذهب الطبيعة الواحدة) ضمن الصراع الفكري والمتشعب ، والذي كان يهدأ بين فترة وأخرى نتيجة نفي أو موت هذه الشخصية أو تلك من دعاة هذا المذهب كما لا بد من الإشارة في هذا السياق إلى التبعية النسبية لهذا الجناح السرياني تجاه المؤثرات الإغريقية – البيزنطية التي تجلت سواء في حقل الفلسفة والعقيدة أو في تطور صلوات القداس المختلفة (الليتورجية).
قدم المونوفيزيون (السريان الأرثوذكس) للعصر الوسيط مختصين مشاهير في مختلف الفروع المعرفية فكان منهم الفلاسفة والفلكيون والطبيعيون والأطباء وعلى النقيض من النساطرة فقد عمل السريان الأرثوذكس (المونوفيزيون) على تطوير بعض التعاليم والآراء المتحدرة من العلوم اليونانية القديمة أو التي اشتهر بها بعض علماء الإغريق وفي طليعتهم أرسطو (أرسطوطاليس) وغيره من الفلاسفة والعلماء الذين ألفوا في حركة الأفلاك والكواكب ودورات القمر التي اهتم بها بصورة خاصة ساويرا سابوخت.
وفي ميدان التاريخ أيضا واصل السريان الأرثوذكس (المونوفيزيون) جهودهم وأبحاثهم على مدى مئات السنين ورغم الظروف الصعبة والملاحقات والمضايقات التي تعرضوا لها من طرف القبائل الهمجية أو من جهة الغارات الخاطفة التي شنت على مراكزهم من الأطراف والجبال وبعد ذلك من قبل السلطات الحكومية المختلفة فإن السريان الأرثوذكس لم يتراجعوا تقريبا عن تقاليد العلمية والثقافية فاستمروا في تدوين الحوادث اليومية والأخبارية وتأليف كتب التاريخ الكبرى.
وبلغت قيمة ما كتبوه من العظمة والأهمية في ذلك الميدان حداً يجعلنا نؤكد أنه كان من اللازم ومن الضروري جدا أن تكتب دراسات موضوعية متكاملة عن التاريخ الاقتصادي والاجتماعي السرياني الذي بدأ بملاحظات يومية كتبت في القرن الثالث للميلاد حول الفيضانات التي تعرضت لها الرها ومروراً بأخبار الكوارث والجوائح التي وقعت ببلاد ما بين النهرين في القرن الخامس للميلاد ووصولا إلى الكتاب التاريخي المؤلف من عدة مجلدات الذي كتبه ميخائيل السرياني (القرن الثاني عشر للميلاد) وانتهاء بما صنفه الملفان الكبير والمؤرخ السرياني الأشهر (في القرن الثالث عشر للميلاد) أبو الفرج غريغوريوس ابن العبري مفريان المشرق الذي كان بحق موسوعة السريان الحية في القرون الوسطى حيث ألف في الفلسفة واللاهوت الأدبي وعلم الأخلاق واللاهوت النسكي وفي التشريع والنحو والشعر وأخيرا في التاريخ العلمي الشامل منذ الخليقة حتى عهده أي إلى سنة 1285 م.
وقد اشتهر هذا الكتاب الهام جدا بعنوان ” التاريخ السرياني” (تاريخ الزمان) والذي أوجزه ابن العبري ذاته ونقله إلى العربية بعنوان ” تاريخ مختصر الدول “.