مذاهب الصابئة واعتقاداتهم
بقلم
سيناسي غوندوز
ترجمة
يوسف إبراهيم جبرا
المؤسّسة الأميركية للدراسات السريانية
كان علماء القرون الوسطى يطلقون على وثنيي حرّان في زمانهم اسم”الصابئة” وكانوا يطلقون أيضاً التسمية نفسها على شيعة المعمدانية في أسفل العراق أجداد المانديين الحديثين والذين ما زال جيرانهم يدعونهم بالصُبّة. ولقد استعمل علماء القرون الوسطى بعد الخليفة المأمون اصطلاح الصابئة على جميع الوثنيين وخاصّة على عابدي النجوم, وشاركهم في الرأي العلماء الحديثون، واعتبروا إجمالاً أنّ صابئة حرّان والصبّة المانديين في العراق هم أعضاء الطائفة نفسها ولو أنّ بعض العلماء بيّن الاختلاف بين تقاليدهما.
بموجب ما أعلمتنا إيّاه السيّدة “دْروار” في النصف الأوّل من هذا القرن, كتب أحد الكتّاب العرب مقالاً في جريدة مصريّة عن الصبّة وصفهم فيه أنّهم عبدة نجوم كصابئة حرّان, قالت السيّدة “دْراور”:
“اندلع السخط بين كهنة المانديين, لأنّ هذا كان اتّهام الوثنيين أنفسهم قديماً وهو يعرّضهم للخطر أمام تسامح المسلمين الديني. اتّخذت الإجراءات القانونية ضدّ الكاتب, وأرسل رئيس كهنتهم “الغانزيبرا” إلى بغداد وبين يديه كتابهم “الكنـز الكبير Gamza Raba” ليترجم منه أمام شهود عبارات من كتابهم المقدّس الخاصّة بشجب عبادة الكواكب”.
ولا يزال النقاش محتدماً بين العلماء اليوم في ما إذا كانت هناك أيّة صلة بين الطائفتين. واقترح دانيال تشولسون تعريف الصابئة الذين يأتي ذكرهم في القرآن الكريم بالمانديين الصبّة, وأبرز خصائص الوثنيين الحرّانيين وصرّح بأنّه ليس هناك صلة بين الحرّانيين والمانديين, لأنّ الصابئة عبدوا النجوم والكواكب علانية في حين اعتبر المانديون عبادة الكواكب أمراً مقيتاً.
إذاً، ما هي العناصر البارزة في دين الحرّانيين؟ فهل هناك أيّ شبه بين مميّزات الدين الحرّاني ومميّزات الدين الماندي؟ فإذا كان هناك أيّ شيء من هذا, فهل هناك تماثل ديني بين الحرّانيين والمانديين؟
1 –
تاريخ حرّان من الألف الثاني ق.م. إلى خرابها على يد المغول في القرن الثالث عشر
(1259-1260م)
كانت مدينة حرّان القديمة محطّة على طريق التجارة بين البحر الأبيض المتوسّط وسهول أواسط نهر دجلة. وتذكر حرّان لأوّل مرّة في العصر البابلي. ويعبّر عن اسم المدينة في الكتابات المسمارية بصورة أو رمز “حرّانو”. ومع أنّ هذا الاسم لا يذكر مراراً في النصوص الآشورية, إلاّ أنّه مذكور مراراً في نصوص القرن العاشر ق.م.
أمّا الاسم الآرامي لمدينة حرّان فهو حرّان كما يستعمل في التوراة. وإن كان ثمّة نظريات عديدة (كلاسيكية وحديثة) عن أصل اسم حرّان، اقترحها العلماء, فإنّه مقبول عالمياً أنّ الاسم يأتي من الأكادية (حرّانو): طريق, سفرة, قافلة, محطّة قوافل, عاصمة أعمال, وربّما دُعيت بهذا الاسم بسبب وقوعها على مركز تقاطع الطرق التجارية السورية والآشورية والبابلية.
يسمّي اليونان حرّان Kappav، أمّا الرومان فيسمّونها “كارهي” وكان آباء الكنيسة يسمّونها “المدينة الوثنية” بسبب دين سكّانها الوثنيين, وفي حقيقة الأمر أنّ الدين الوثني بين الحرّانيين استمرّ في محيطهما المسيحي الإسلامي حتّى دمّر المغول حرّان وهيكلها الوثني.
– أ –
حرّان في ما قبل العصر الآشوري
إنَّ أصل حرّان قد ضاع في القِدم. ففي القرون الأولى من الألف الثالث ق.م. وربّما حتّى أقدم من هذا، كان كلّ من مدينتي أور وحرّان مركزاً لعبادة القمر.
كانت حرّان كرسياً للملك الثانوي الصغير “استبداكيم” في زمن “زمريليم” ملك ماري, ففي رسالة من ذلك الوقت (حوالي 1777-1746ق.م) تُذكر معاهدة قامت بها قبيلة بنيامينا، وهي قبيلة عمورية غازية, وعقدتها مع ملوك صغار الشأن لبلدان مجاورة “في هيكل سين في حرّان”.
ويظهر شاماش وسين الحرّانيان في ما بعد بين الإلهة التي تُستحضر أسماؤها في معاهدة بين “شوبيلوليوما” ملك الحثيّين وبين “شاتيوازا” الميتاني.
– ب –
تحت السيادة الآشورية
إنّ صلة حرّان بالآشوريين يأتي ذكرها لأوّل مرّة في حوليات ادادنيراري الأوّل نحو سنة 1310-1280 ق.م. في أنّه فتح “قلعة حَراني” وألحقها كمقاطعة يحكمها التورتان.
كان الآشوريون يفقدون حرّان مراراً كما حدث في أثناء انهيار السُلطة الآشورية بعد حكم تغلات فلاسر الأول. وربّما أدمجت حرّان في الإمبراطورية الآشورية تحت حكم شلمناصر الثالث (859-824 ق.م) وقت احتلال بارسيب, ولم تخرج من أيدي الاشوريين أبداً إلى أمد طويل. وكانت حرّان في ذلك الوقت هامّة جدّاً لدرجة أنّ شلمناصر الثالث رمّم هيكل الإله القمر المحلّي (إي حُل –حُل)، وحتّى إنّه اعترف بسين الحرّاني كأحد آلهته.
واستمرّت حرّان كمدينة هامّة في أثناء حكم تغلات فلاسر الثالث (745-727 ق. م.) والملوك السرجرنيون لأسباب دينية واستراتيجية.
وفي زمن إسارحدون (680-669 ق.م) كانت حرّان مركزاً لعصيان في دعم مدّع للعرش اسمه (ساسي، حَرانو المدينة). وكان كلّ من إسارحدون الذي كان عابداً مخلصاً لسين وخليفته آشوربا نيبال (668-626 ق.م) قد ذهب في أوّل حكمه إلىحرّان كي يتسلّم عمامته الملكية من سين الذي يسكن في حرّان”.
أخذ آشوربانيبال على عاتقه ترميمات واسعة في هيكل إي حل –حل في حرّان. وعلاوة على ذلك فقد نصّب أخـاه الأصغر (آشور – ايتيل- شامي- إرشيتيم- باليتسو) كاهناً لخدمة سين.
وبعد انهيار السُلطة الآشورية وتدمير نينوى, هرب إلىحرّان قائد آشوري يُدعى آشور اوبليط الثاني (611-606 ق.م) و أعلن نفسه ملكاً على آشور, وحاول أن يثبت حقّه في العرش بمساعدة مصر. إنّ سقوط نينوى لم يأتِ على نهاية المملكة الآشورية الاسمية التي، وببساطة، انتقلت إلى حرّان.
– ج –
العصر البابلي الحديث
بموجب تاريخ نابوبولصر في سنة 610 ق.م وفي السنة السادسة عشرة من حكم نابوبولصر, سار جيش من البابليين والسكيثيين إلى حرّان واحتلّوها. وبعد أن ترك وراءه, رجع نابوبولصر إلى بابل وبقي السكيثيون محتلّين المدينة.
وبعد سقوط الآشوريين قسّمت الإمبراطورية, واحتفظ الميديون بآشوري وشمالي ما بين النهرين (تخميناً مع حرّان) في حين احتلّ نبوخذنصر الثاني (604-562 ق.م) جميع سوريا وفلسطين بالإضافة إلى مملكته الموروثة بابل.
– بعد نبوخذنصر حكم نابونائيد الآرامي
تميّزت الفترة من موت نبوخذ الثاني في سنة 562 ق.م. وحتّى 555 ق.م. بتبدّل سريع للحكم ومؤامرات ومشاحنات في العائلة المالكة. ولكن، في سنة 555 اعتلى نابونائيد الآرامي من حرّان (555-538 ق.م) عرش بابل. وشاهد حكمه السلمي ترميمات واسعة وإعادة بناء الهياكل, وكانت والدة نابونائيد كاهنة ونذيرة للإله القمر في حرّان طيلة حياتها الطويلة من زمن آشور بانيبال وحتّى السنة التاسعة من حكم ابنها نابونائيد – أي مائة وأربع سنوات.
وكذلك فقد استطاع نابونائيد في سنة 553-552 ق.م. أن يشرع في العمل الذي حلم أحلاماً به, ورمّم هيكل إي حُل –حُل. ولم يرمّم نابونائيد الهياكل فقط, بل أعاد بناء مدينته الوطنية حرّان, وعاشت والدته التي خدمت الإله بصبر في أيام إلهجران لترى الترميم بأمّ عينها. وكان نابونائيد متعلّقاً جدّاً بالإله سين الذي كان له منذ الأيّام القديمة هيكلاً فخماً في مدينته الوطنية حرّان,حتّى أهمل الإله مردوخ في بابل لمصلحة سين. ولهذا عارضه الكهنة وعلى الأخص عندما أهمل الاحتفال بمهرجان اكيتو، الاحتفال البابلي بعيد رأس السنة. وهذا ما حوّل أذهان الجمهور عنه أيضاً. وكان السبب في عداء الجمهور له ما اضطرّه إلى اللجوء إلى واحة تيماء في الصحراء العربية, في حين بقي ابنه بيل شار- أوسور (باشازار) يحكم بابل.
في القرن الرابع ق. م عندما أخضع الإسكندر الكبير (331-321) ملك مقدونيا ولايات المدن اليونانية, والإمبراطورية الفارسية في آسيا الصغرى ومصر حتّى الهند, غدت حرّان من ممتلكات اليونان ومنذ ذلك الوقت أصبحت حرّان تحت تأثير اليونان العميق. ولو أنّها كانت في هذا الوقت تتكلّم السرّيانية، وكان الشعب في حالات كثيرة من أصل يوناني جزئياً.
– د –
العصر الروماني
إنّنا نعرف القليل عن حرّان في هذه الفترة, ففي سنة 55 ق.م دحر البارثيون جيشاً رومانياً بقيادة القائد الروماني كراسوس. وفي هذا الوقت نعرف أنّ حرّان كانت مدينة حامية محصّنة كان باستطاعة كراسوس أن يلتجئ إليها بعد نكسته الأولى, في حين نجا ضابطه أوكتافيوس أغسطس (قيصر في ما بعد) إلى منطقة جبلية تدعى سيناقا في وجهة غير معلومة من حرّان. وقام كراسوس بآخر وقفة له على تلةّ تحت جبال سيناقا واتّصل بهم عن طريق سلسلة طويلة عالية من الجبال قطعت ذلك السهل.
منذ ذلك الوقت وحتّى العصر الإسلامي كانت حرّان مركزاً للصراع على السُلطة بين الرومان والبارثيين وبعدئذٍ الساسانيين – وكثيراً ما تبادلا السُلطة بينهما.
وفي غضون هذه الفترة استمرّت حرّان في التعلّق بمذهب عبادة الكواكب الوثنية رغماً عن شعبية المسيحية وانتشارها بين جيرانها الرهاويين. أمّا الكتابات السريانية في حرّان في ذلك العهد فإنّها لا تحمل أيّ تأثير مسيحي. كانت حرّان بصورة مستمرّة تفقد القوّة أمام جارتها الدينامية الشابّة الرها التي أصبحت العاصمة الجديدة للإقليم بضمنه حرّان.
إنّ العملة المعدنية الرومانية في مقاطعة حرّان تمتدّ من ماركوس اوريليوس (161-180م) إلى غورديان الثالث (238-243م) عندما قام لوسيوسفيروس بحملته في سنة 164م ليسترجع هذا الإقليم من البارثيين, ولم تكن حرّان من المدن التي كان عليه أن يحاصرها. وكان في هذا الوقت قد تمّت مكافأتها وإعلانها رسمياً بأنّها غدت مستعمرة وصديقة لروما بسبب خدماتها.
في سنة 217م اغتيل الإمبراطور كركلا (211-217م) في أثناء رجوعه إلى قصره من الهيكل في حرّان الذي كان يبعد قليلاً. والإله الذي كان يعبده كان الإله القمر في حرّان. وفي سنة 241م فتح شابور حرّان, ولكن بعد سنة واحدة أرغم الساسانيون على التراجع واسترجع الرومان حرّان مرّة أخرى. وفي زمن شابور الثاني قام الساسانيون بغزوة هائلة على ما بين النهرين (359 م)، ويلمح اميانوس مارسيلينوس في هذه المناسبة إلى حالة أسوار حرّان الضعيفة.
وفي سنة 361 عُيّن أول أسقف لحرّان واسمه بارسلي. وكتبت امرأة حاجّة إفرنجية اسمها ايفريا في القرن الرابع أو الخامس ما يلي:
“لم أجد مسيحياً واحداً في المدينة نفسها ما عدا بضعة من الإكليروس والرهبان القديسين (الذين أيّاً يكن الأمر, كانوا يبقون خارج الأسوار). جميعهم كانوا وثنيين”.
وفي سنة 363م زار الإمبراطور الشابّ جوليان حرّان في طريقه نحو الشرق ليأخذ جيشه إلى إيران والهند. وقدّم جوليان احتراماته, مثل كراكلا قبل قرن ونصف قرن من الزمان, إلى القمر الإله في حرّان.
وسار جيش ساساني في سنة 502-503 م إلى حرّان ليحاربها. وتوصّلت حامية حرّان إلى شروط معهم, لأنّهم كما يقول يشوع العمودي (السرياني) كانوا “خائفين أن يحاربوا”
وفي القرن السادس قام جستنيان (527-565م) بتحصين أسوارحرّان.
– هـ –
العصر الإسلامي وخراب حرّان على يد المغول
في زمن الخليفة الثاني عمر فتح القائد الإسلامي عياض بن غنم كلّ أنحاء ما بين النهرين من دون قتال وبضمنها الرها ونصيبين وحرّان (639م), ونعلم من علماء القروسطيين أنّ حرّان كانت في ذلك الوقت تحت التأثير السياسي الرهاوي. ونسمع أيضاً أنّه عندما فتح المسلمون تلك المنطقة, كان شعب حرّان من النبطيين (ظنّاً أنّهم كانوا وثنيين يتكلّمون السريانية)، والمهاجرين من اليونان. وقام عياض بن غنم باتّفاق سلام مع الحرّانيين, وفرض عليهم نوعاً من الجزية.
كان الحرّانيون قوّة سياسية وعسكرية في قدر السلالة الأموية الحاكمة. وحوّل الخليفة الأموي الثاني (682-720م) مدرسة الطبّ من الإسكندرية إلى حرّان. وفي الفترة الأخيرة من السلالة الأموية جعل الخليفة مروان الثاني (744-750م) حرّان مكان سكناه وحوّل عاصمة الإمبراطورية الأموية من دمشق إلى حرّان.
إنَّ أهمّ حادث في العصر العباسي كان زيارة الخليفة العباسي المأمون لحرّان. ففي سنة 83م مرَّ في حرّان وتوعّد الوثنيين فيها بالموت إن لم يعتنقوا الإسلام أو أيّ دين آخر ذكره الله في القرآن الكريم.
إنّنا نسمع عن علماء شهيرين عديدين من أصل حرّاني, قاموا بدَور هامّ في حقل الثقافة في أثناء العصر العباسي. وأوّل شخص من حرّان أصبح شهيراً كان ثابت بن قرّة (835-900م) الذي وُلد في حرّان. ثمّ وبسبب مشاحنات دينية مع الوثنيين من بني جلدته, هاجر إلى بغداد وأصبح فيها شخصية مرموقة في الفلسفة والطبّ والترجمة من اليونانية والسريانية إلى العربية, ونتيجة لهذا قبله الخليفة العباسي المهتدى بالله (852-902م) في القصر, ولم يغيّر دينه أبداً ومات وثنياً. وبعد ثابت بن قرّه قُبل العديد من العلماء الحرّانيين الوثنيين في قصر الخليفة وكان بينهم ثابت بن سنان بن قرّه الحرّاني (توفّي سنة 975-365هـ). واشتهر في الطبّ والتاريخ في زمن الخلفاء العباسيين الراضي بالله (909-940 م)، والمستكفي (توفّي سنة 949م)، والمتقي لله (توفي سنة968), والمطيع لله (توفّي سنة 974م). وكذلك إبراهيم بن هلال الحرّاني (952-995م) الذي اشتهر في الدوائر الأدبية في زمن الخليفة العباسي المطيع لله وبعده في زمن معزّ الدولة ابن بُوَيْه (915-967م) وأصبح أمين سرّ الدولة.
في هذا الوقت كان هناك مركزان ثقافيان من العلماء الحرّانيين: مدينتهم الوطنية حرّان والعاصمة بغداد. وفي زمن حكم الخليفة المتوكّل (822-861م) فإنّ مدرسة الفلسفة والطبّ التي كانت قد انتقلت من الإسكندرية إلى حرّان, اكتسبت أهمّية, وكسب الحرّانيون في بغداد احترام معاصريهم المسلمين باستقامتهم ومقدرتهم, وحصلوا على الترخيص من أمير المؤمنين نفسه ليمارسوا احتفالاتهم علانية في أماكن عبادتهم في الأراضي المجاورة لحرّان.
وبين سنتي 990-1081م حكمت السلالة النميرية على المقاطعة بين سروح وحرّان والرقّة, يصرّح الجغرافي القروسطي الدمشقي أنّ المصريين، أي الفاطميين, احتلّوا هيكل القمر في حرّان في سنة 1032م/424هـ. ولكن ليست هناك أيّة بيّنة عن عمل فاطمي في هذه المنطقة في هذه الفترة الزمنية, فالحدود الفاطمية مرّت قليلاً شمال دمشق. وقد اضطرّ شبيب سيّد حرّان إلى أن يدفع الجزية للبيزنطيين لوقت قصير. ولم يكن حتّى سنة 1037م/429هـ أن أطاع نداء الحاكم الفاطمي ديزيري الذي كان قد احتلّ حلب, واعترف بحكم الفاطميين.
وفي القرن الثاني عشر كان هذا الجزء من ما بين النهرين بضمنه الرها وحرّان مسرحاً للصراع على السُلطة بين الصليبيين والسلجوقيين – وبعد هذا، الأيوبيين. وحافظ الشعب الحرّاني إجمالاً على تعاضده مع المسلمين, في حين دعم الرهاويون الصليبيين. وفي ذلك الوقت حاول الحكّام الرهاويون المسيحيون بصورة مستمرّة أن يحكموا حرّان.
وكمثال على ذلك في سنة 1104م عندما انضمّ الجيش الصليبـي مع الرهاويين, وصلوا سهول حرّان, منع بلدوين الرهاوي الحرّانيين من إعطاء مفاتيح المدينة للقائد الصليبـي لأنّه فكّر أنّها تخصّه, فقد كانت في مقاطعته.
وفي سنة 1237م أصبح الخوارزميون, الذين كان المغول قد طردوهم من أوطانهم، أسياداً على المدينة ولكن ليس على القلعة, وخيّم المغول حول حرّان. وحصل هؤلاء أوّلاً على التسليم السلمي على المدينة, في حين بقيت القلعة تحت حكم حاكم آخر صامدة إلى أن اخترق أحد أبراجها, ثمّ دمّر المغول آخر الهياكل الوثنية, وتركوا العمارات الرئيسية قاعاً صفصفاً, وهلكت حرّان كمدينة. صمّم المغول بعد حين قصير على أنّ حرّان لم تعد ذات قيمة استراتيجية تبرّر بقاءها أو الدفاع عنها. ويكتب ابن شدّاد الذي ألّف كتابه سنة 280م يقول:
“هجر (المغول) السكّان إلى ماردين ومدن أخرى، ودمّروا مسجد الجمعة، وسدّوا بوابات المدينة بالحجارة وتركوها صَدَفَة فارغة”.
وبعد انتصار المماليك على المغول في سنة 1303م في شمالي ما بين النهرين وحرّان غدا المغول تحت حكم المماليك. وأيّاً يكن فإنّ المدينة لم تُبْنَ ثانية قطّ.
دين الحرّانيين
كان العلماء في القرون الوسطى يسمّون وثني مدينة حرّان القروسطيين : الحرّانية أو الحربانية. ويصرّح البيروني في القرن الحادي عشر أنّ الاسم مشتقّ من مكانهم “حرّان”.
وكانوا يدعون أيضاً “صابئة حرّان” والكلدانيين والنمطيين (الأنباط).
أمّا من ناحية سلالة الحرّانيين فإنّ المصادر السريانية تدّعي أنّهم أنسال آرام بن سام حفيد نوح, ولكنّا نستقي المعلومات عن دين الحرّانيين من ثلاثة مصادر:
أوّلاً، من كتابات الحرّانيين. ثانياً، من المواد الأثرية القديمة. ثالثاً، من بعض كتّاب القرون الوسطى الذين كانوا يهتمّون بهذا الشعب.
أوّلاً- إنّ الكتب التي بقيت من الحرّانيين محصورة جدّاً, وأهمّها كتاب “بابا الحرّاني” أو “نبوّة بابا الحرّاني”. وإنّنا نمتلك كتابتين متناثرتين كبيرتين نوعاً ما من كتابات بابا الشهير. إحداهما سريانية. ونجدها في عمل ديونيسيوس بارصليبي السرياني في مقالته “ضدّ المسلمين” وهي من القرن الثاني عشر. ونشر هذا النصّ أوّل مرّة, بترجمة لاتينية, إغناطيوس أفرام الثالث رحماني السرياني في كتابه “دراسات سريانية -Syriaca Studia”. أمّا الكتابة الثانية العربية فوجدت في مجلّـد عن جغرافية “بغية الطلب في تـاريخ حلب” لابن النديم – Eben al-NAdim (1193.2-1262م) وهي أطول من السريانية وقام بترجمة الاثنتين إلى الإنجليزية روزنثالF.rosenthal.
يعطي بابا في كتابه معلومات عن الدين الحرّاني ويخبرنا عن أحداث مستقبلية.
المصدر الآخر هو كتاب “الأسرار المقدّسة الخمسة”, التي تخصّ الحرّانيين, وتحتوي على طقس التدشين وبعض المعلومات السحرية. ويصرّح ابن النديم الذي يقتبس من نسخة مشوّهة من هذا الكتاب:
“في حوزتي مقطع نقله أحد المترجمين عن كتبهم – الصابئة الحرّانيين” والذي يتضمّن خمسة من أسرارهم المقدّسة. ما عدا صفحة واحدة سقطت من وصف القسم الأوّل من السرّ المقدّس الخامس “.
ولكنّ ابن النديم لا يعطينا معلومات عن كاتب هذا الكتاب ولا تاريخه. والكتاب الأخير الذي بإمكاننا أن نصله بالحرّانيين هو كتاب “الفلاحات النبطيّة” أي “الزراعة النبطية” وقام بترجمته إلى العربية، تخميناً، من أصل آرامي ابن الوحشية. وهو بحث في السحر يُدعى “غاية الحكيم Picatrix نحو سنة 440 هـ (1048) عُزي إلى أبي القاسم مسلمة ابن أحمد المجريطي “المجريطي الزائف” Pseudo Majriti. ويحتوي على ما هو, ظاهرياً, خلاصة مطوّلة من هذا الكتاب. فـ”الزراعة النبطية” يحتوي على معلومات عن مذهب الكواكب السبعة وطقوس عن التدشين والتضحية البشرية وبعض ممارسات سحرية.
إنّ مصادرنا القروسطية تذكر بعض الكتب الأخرى للحرّانيين, ولكنّها لم تصلنا لسوء الحظّ. ومن بينهم ابن النديم الذي يقول عن كتاب عنوانه “الحاطفي” عن العزائم والسحر والأحجية التي كان يقوم بها الحرّانيون. وبموجب الفهرست هناك كتاب سرياني آخر للحرّانيين, يحتوي على حكايّة معتقداتهم وصلواتهم. وترجم إلى العربية بأمر من هارون بن إبراهيم قاضي حرّان. ويشير ابن النديم أيضاً إلى أنّ هذا الكتاب كان منتشراً بصورة واسعة بين أيدي الشعب.
ثانياً- لدينا نوعان من المواد الأثرية القديمة من مقاطعة حرّان, لوحات مسمارية وكتابات سريانية منقوشة وخرائب هياكل وقبور.
ففي سنة 1906 م اكتشف بوغنون H.Pognon بعض كتابات مسمارية من زمن نابونائيد (555-538ق.م) ملك بابل, في حرّان القديمة، وبعد هذا اكتشف رايس DS.Rice في سنة 1956 ثلاث مسلاّت تحمل كتابات في حرّان حين كان منشغلاً في فحص هندسة المسجد الكبير المدمّر في ذلك المكان. وهذه المكتشفات أيضاً هي من زمن نابونائيد, وكلّ هذه الكتابات تحتوي على معلومات عن دين الشعب الحرّاني في ذلك الوقت. وخاصّة مذهب سين الإله القمر, وإي حُل حُل هيكل سين. وفي سنة 1951 اكتشف رايس كتابتين أخريين بالسرّيانية في حرّان. أرجع ج.ب. سيغال تاريخ إحداهما إلى القرن الثاني الميلادي, في حين أنّه أرجع تاريخ الكتابة الثالثة إلى القرن الرابع أو الخامس الميلادي (مع بعض التردّد).
ولدينا أيضاً بعض النصب التذكارية وعدّة كتابات سريانية حولها, بعضها يحمل تاريخ 476 (4-165م) في خربة سوماتار الكائنة على جبال التكتك شمال شرقي حرّان. وهذه الكتابات تعطينا المعلومات عن دين تلك المنطقة في ذلك الوقت.
هناك في حرّان وما جاورها أطلال عدّة بنايات, بعضها يبدو أنّه من الممكن أن تكون له علاقة بهياكل الحرّانيين. وهناك في حرّان بيت للصلاة أو مكان عبادة وقصر على تلّة أساساته يقرنها الكتّاب العرب القروسطيون بإبراهيم. وهناك أيضاً في أصاغي ياريمكا بناية حجرية ضخمة جدّاً, تحت سطحها تماماً, مسلّة عليها كتابة مسمارية منقوشة. علاوة على ذلك, إلى شمالي حرّان، هناك بعض أطلال عمارات في سلطانتيب وفي خربة سوماتار.
ثالثاً- وأخيراً لدينا دراسات العلماء العرب كالمسعودي وابن النديم والبيروني والشهرستاني عن دين الحرّانيين. ومصادرنا السريانية الرئيسة هم دينسيوس التلمحري الذي ألّف كتابه نحو سنة 840 م، وابن العبري. أمّا مصدرنا اليهودي فهو مايمونيدس.
اللاهوت الحرّاني
لدينا القليل عن دين الحرّانيين قبل القرون الوسطى. وكلّ ما نعرفه من ذلك الوقت بعض المعلومات عن بانثيون الإلهة, وهياكلهم وبعض طقوسهم. ولكن من زمن القرون الوسطى لدينا معلومات وافرة من مصادرنا العربية, وسنتفحّص اللاهوت الحرّاني من خلال ثلاث فئات:
1- من الزمن الآشوري البابلي حتّى العصر المسيحي.
2- من بداية المسيحية وحتّى العصر الإسلامي.
3- في العصر الإسلامي.
1- في الأزمان الآشورية البابلية, كان سين, الإله القمر بين آلهة حرّان على قمّة البانثيون, كان الإله الأعظم لحرّان منذ القرون الأولى للألف الثالث ق. م على الأقلّ.
وكان ولدا سين هما ابنته عشتاروت, وابنه شاماش, ويذكران معه في إحدى كتابات حرّان. ويبدو أنّه كان هناك ثالوث من الإلهة. وقد يعود هذا, ربّما, إلى عادة ذكر الإلهة ثلاثية, وكان عشتاروت وشاماش يعبدان في حرّان ذلك الوقت, وكذلك أيضاً فإنّ شعارات الشمس (قرص في داخله نموذج من أربعة رؤوس وأشعة منتشرة بينها). و عشتاروت – الزهرة (نجمة من سبعة رؤوس في دائرة) يظهران على مسلّة منحوتة من حرّان.
تحت سُلطة الإله القمر سين الفائقة نسمع من الكتابات المنقوشة عن ثلاثة آلهة أخرى، نينغال، زوجة سين، ونوسكو، الإله النار، وسادارنونا، زوجة نوسكو. ففي كتابات حرّان المنقوشة العائدة لنابونائيد تذكر هذه الآلهة مراراً مع الإله القمر سين. ويتكلّم نابونائيد عن إرجاع هؤلاء الآلهة الثلاثة إلى حرّان ليسكنوا في هيكل سين إي حُل حُل.
وكذلك فإنّنا نجد عدداً من الإلهة الصغيرة تعبد في حرّان. وأسماء هذه الإلهة كثيراً ما تظهر في الأسماء العادية، وهؤلاء هم نابو إله الكتابة والحكمة والقدر البشري, وأدادي إله المطر والبرق والرعد، وتر، وسر، وآلاي.
وأخيراً، يطرح سميث S.Smith أنّ الآلهة أشور وإبا ومردوخ كانوا يعبدون في حرّان في عصر الآشوريين، ولو أنّ بعض علماء الآشوريات لا يوافقونه في ذلك.
2-من بداية العصر المسيحي وحتّى العصر الإسلامي تعلّق الحرّانيون بعناد بمذهبهم المحلّي في عبادة القمر سين والكواكب الأخرى بالرغم من محيطه المسيحي. ففي القرن الثاني والثالث يتكلّم برديصان (السرياني) (154-222م)، وهو مسيحي هرطوقي من الرها، عن مذهب الكواكب السبعة، وهو مذهب البابليين والكلدانيين، وعن كتبهم، ويطرح ما للنجوم من تأثير في مجموعتها على طالع البشر
. وكذلك “عقيدة أداي” التي ألّفت حوالي سنة 400م تخبرنا عن مذهب الكواكب الحرّاني. وتذكر الشمس والقمر اللذين كان يعبدهما الشعب في حرّان، ومذهب النجوم والكواكب، وخاصّة النجم المضيء أي الزهرة، نجم الصباح والمساء. ويأتي ذكر القمر الإله سين في “العظة الدينية عن سقوط الأصنام” التي ألقاها يعقوب السروجي (حوالي 451-521م) ويذكر فيها سين كأحد آلهة حرّان. ومن الظاهر أنّ سين في الموعظة والقمر الإله في “عقيدة أداي” هما, كما علّق العالم دريجفرز، الإله نفسه الذي كان يعبد في حرّان. ولكنّ يعقوب السروجي يعرف اسم القمر الذي يعبده الحرّانيون، يذكر في “عقيدة أداي” وهذا المذهب هو مذهب باث نيكال “ابنة نيكال”. ونيكال اسم آرامي ليننغال، زوجة الإله سين. ولهذا فإنّ باث نيكال من الواضح، هي تسمية محلّية لعشتاروت الزهرة لأنّ عشتاروت هي ابنة القمر الإله سين والإلهة نينغال. ويشير يعقوب السروجي وهو قدّيس سرياني أيضاً إلى مذهب عشتاروت – الزهرة في حرّان، ويعطينا اسم الإلهة. ويشير برديصان و”عقيدة أداي” أيضاً إلى مذهب ترعاثا ولكنّهما لا يذكرانه بخصوص علاقته بوثنيي حرّان. الأول يشير إلى مذهب ترعاثا في الرها في حين أنّ الآخر يذكر ترعاثا كإلهة منبج. وترعاثا هي تهجئة مختلفة للإلهة السورية الشهيرة اتارغاتيس, التي هي بدَورها شكل محلّي للإلهة السامية عشتاروت، ويقول دريجفرز Drijvers إنّ اسمها، في حقيقة الأمر, مؤلّف من “استارت وانات” وكان مكان عبادة اتارغاتمس المقدّس في منبج – هيرابولس، كما يذكر في “عقيدة أداي”.
في ذلك الوقت كان يوجد معبود آخر في حرّان بموجب “عظة” يعقوب السروجي, وهو بعل شامين. وهذا الإله يذكره أيضاً (مار) أفرام السرّياني (306-373م)، وهذا اللقب “بعل شامين” سيّد السماء يستعمل في كتابات الشرق الأدنى القديم منقوشاً كاسم إلهي وعادة يعني الإله الأعظم في أيّ بانثيون محلّي.
وعلاوة على هذا كان يعقوب السروجي يذكر ثلاثة مذاهب أخرى في حرّان في هذا الوقت : بارنمري, و”سيدي مع كلابه” وغدلات.
قد يكون بارنمري تسمية محلّية لإله معين. (ن.م.ر) في اللغة الأكادية يعني “يلمع, يشع”. وبارنمري قد يكون لها معنى “ابن المشع” أو “ابن الإشعاع” وهكذا بارنمري، كما صرّح دريجفرز, ربّما هي تسمية محلّية لإله النار نوسكو.
في تعريف هويّة الإله اللغز “ربّي مع كلابه” يصرّح ج.ب. سيغال أنّ هذا الإله هو، ربّما كوكبة الصيّاد الجبّار – الجوزاء the hunter Orionالتي تقع في أعقابه كوكبة الكلب الأكبر وكوكبة الكلب الأصغر, وكاحتمال ثانٍ قد يكون هذا الإله مطابق لـ “ربّ الحظّ الجيّد” الذي كان يؤمن به الحرّانيون في القرون الوسطى والذين تذكر كلابهم في أحد طقوس صلوات الحرّانيين، وهنا “ربّ الحظّ الجيّد” من الواضح هو غاد Gad إله الحظّ السامي. ولكن توجد صعوبة في هذا التعريف لأنّ يعقوب السروجي أيضاً يذكر جَدلات (جاد واللات) كإله هذا الشعب. والتوضيح الأكثر احتمالاً هو أنّ “ربّي مع كلابه” قد تكون التسمية المحلّية لنرغال التي تمثّل مع ثلاثة كلاب في الفنّ الديني في (مدينة) الحَضَر.
وأخيراً، من الواضح أنّ جَدلات هو تركيب من جَاد، إله الحظّ، وألات الربّة العربية التي كان يتعبّدها بصورة واسعة شعب الصحراء في سوريا وما بين النهرين.
3- من القرن العاشر الميلادي وحتّى الآن لدينا معلومات وافرة عن دين الوثنيين الحرّانيين في فترة القرون الوسطى. وكانت في ذلك الوقت مجادلات عديدة وانقسامات في الرأي في ما يتعلّق بالمواضيع اللاهوتية, وخصوصاً عن الخالق والكون بين الحرّانيين. فثابت بن قرّة مثلاً اختلف مع الحرّانيين الآخرين الوثنيين على بعض المواضيع اللاهوتية ثمّ ترك المدينة. وأيّاً يكن فإنّنا نعرف القليل عن الاختلافات بين هذه الشيع.
إنّ العلماء المسلمين في القرون الوسطى يتكلّمون عن شيع مختلفة من الصابئة الحرّانيين فعبد القادر البغدادي (توفّي 429هـ/1037م) يخبرنا عن شيعتين مختلفتين، ويصرّح أنّ إحداهما هي جماعة من اليونان يعتقدون أنّ الكون ليس أبدياً وأنّ هناك صانع لا يشبه أيّ شيء آخر, وهو حيّ وأبدي, يتكلّم ويرى, وهو منظّم الكون. وبموجب ما يقوله البغدادي هناك جماعة أخرى تقبل أساسياً هذه النقاط, ولكن لا تستطيع القول إنّ الصانع أبدي, إنّه عارف وقدير على صنع كلّ شيء, ولكنّنا نقول إنّه ليس بميت وليس بجاهل، وليس بعاجز. وكما هو واضح إنّ الاختلاف الوحيد بينهما هو وصف الخالق. فالمجموعة الثانية تصف الخالق (الصانع) بأنّه خالٍ من أيّ شيء رديء ويستعملون في وصفهم طريقة التعبير السلبي.
يخبرنا الشهرستاني عن فرقة أخرى, وبعده يفعل الدمشقي الشيء نفسه, وكلاهما فصلاهما إلى مجموعتين: عُبّاد الكواكب وعُبّاد الأصنام. ويدعو الشهرستاني عبّاد النجوم “أصحاب الهياكل” وعبّاد الأصنام “أصحاب الأشخاص”. الجماعة الأولى تعتقد أنّ الأولياء والأرواح السماوية هم وسطاء الكائنات المقدّسة ولذلك يجب احترامها مباشرة. من ناحية أخرى تقول الجماعة الثانية إنّ الأصنام يجب أن تعبد طالما هي الممثّلة للأرواح الكوكبية والكائنات السماوية. إنّ ما نفهمه من الفرق بين الجماعتين هو أنّ عبّاد النجوم يفضّلون أن يعبدوا الأولياء والكواكب مباشرة ويقاومون الاعتقاد بأنّ الأصنام هي وسيطة الكائنات المقدّسة.
ويخبرنا ابن النديم أيضاً عن الشيع الحرّانية الهرطوقية. إحداها تدعى “الرفوسيون” وبموجب ما نقرأ في الفهرست إنّ أعضاء هذه الشيعة من النساء لا يلبسنَ الذهب أبداً ولا يتحلَّين به تحت أيّ ظرف. وكذلك فإنّهنّ لا يلبسنَ أحذيةحمراء. وفي مهرجانهنّ السنوي يضحّينَ بالخنازير لآلهتهنّ ويأكلنَ لحمها. وتوجد شيعة أخرى هرطوقية أيضاً يحلّق أعضاؤها، الرجال منهم والنساء رؤوسهم بموسى الحلاقة.
بموجب مصادرنا القروسطية، وما خلا مذهبهم الكوكبي المركزي, والذي سنتفحّصه في ما بعد، اعتقد الحرّانيون القروسطيون إجمالاً أنّ هناك خالق مقدّس للعالم بعيد عن كلّ مخلوق، وفي عقيدتهم أنّه العلّة الأولى (الخالق الفائق السامي) للعالم. وهو أبدي ووحدة وليس متعدّداً. وفي اعتقادهم هذا نفهم أنّهم، كماصرح البيروني، أقرّوا بشكل من أشكال الإيمان بالإله الواحد. وهذا لا نستطيع أن نراه بين اعتقاداتهم قبل عصور القرون الوسطى.
إنّهم يعزون حكم العالم إلى الكرة السماوية وأجرامها التي يعتبرونها حيّة وتتكلّم وتسمع وترى الكائنات، لأنّه بموجب عقيدتهم إنّ هذا الخالق المقدّس يتولّى الجانب الرئيسي فقط, ويترك الأمور الأقل أهمّية إلى الوسطاء الذين يعينهم هو نفسه لكي يشرفوا على تسيير العالم. فالأجرام السماوية أو الكواكب السبعة وعلامات البروج الاثني عشر تعمل وسيطة بين البشر والإله السامي. والكواكب لها تأثير عظيم على الكائنات البشرية. وهي التي تسبّب الحبّ والكراهية والمعرفة والشفاء لأنّ لها مزايا جيّدة ورديئة.
واعتقد الوثنيون الحرّانيون في عناصر أوّلية معيّنة انبثقت من العلّة الأولى, الإله السامي. وهذه هي: “العقل” و”الروح” و”السياسة” (نظام الكون ), و”الصورة” و”الشكل” و”الضرورة”.
هناك شبه واضح بين هذه العقيدة الحرّانية وفلسفة اليونان القديمة، لذلك فسّر علماء القرون الوسطى أهمّية هذه العقائد المجازية باصطلاحات وأعمال أرسطو الفلسفية. والبيروني أيضاً لفت أنظارنا إلى العلاقة بين هؤلاء الوثنيين واليونان الأقدمين, وصرّح بأنّهم كانوا بقايا أتباع دين الغرب القديم، انفصلوا عنه منذ أن تبنّى اليونان المسيحية.
في اعتقادات الصابئة الحرّانيين إنّ هذه العناصر الإلهية سامية جدّاً ليتّصل بها الإنسان لدرجة أنَّ بعض الوسطاءضروريون، وعندما تأتي روح الإنسان إلى الارض, تجدلها جسراً بشرياً لتسكنه. وبالطريقة نفسها، عندما تأتي إحدى هذه الأرواح السماوية إلى الأرض تسعى إلى هيكل لتجد فيه مسكناً. ولهذا، ابتنى الحرّانيون مساكن أرضية لتعطي كلّ هذه الأرواح الإلهية مكاناً ترتاح فيه في أثناء إقامتها على الأرض بحيث كان يعتبر تجرّؤاً من قِبل العابد أن يصلّي مباشرة للإله السامي. الصلاة كانت توجّه إلى الآلهة الصغيرة فقط.
إنّ مصادرنا من القرون الوسطى تصف الهياكل. بعضهم وخصوصاً الدمشقي، يعطي التفاصيل. فهيكل العلّة الأولى كان نصف كروي بثمانٍ وأربعين نافذة قرب السقف وبعضها الآخر أخفض على الجانبين الشرقي والغربي التي من خلالها بإمكان الأجرام السماوية أن تلقي نُورها، ففي هذا الهيكل كانوا يصلّون في أيام أعياد معيّنة. أمّا هياكل العناصر الأوّلية الأخرى فقد كانت على شكل دائري, وفي هيكل الروح كان تمثال إنسان بأيادٍ وأرجل عديدة, ربّما لتمثّل نشاط الخليقة.
كان الوثنيون الحرّانيون مترسّخين جدّاً في مذهبهم الكوكبي القديم. وفي حقيقة الأمر, كانوا شهيرين جدّاً في هذا المذهب. واعتقدوا إجمالاً أنّ الكواكب السبعة, والقمر والشمس، وزحل, والمريخ, والمشتري, وعطارد, والزهرة، هي الخالقة والحاكمة ومنظّمة الكون. واعتقدوا أيضاً أنّ الكواكب السبعة كانت تمنح الحظّ الحسن والرديء وتمنح البركات. وفي اعتقادهم أنّ هذه الأجرام السبعة هي ذكر وأنثى ولها عواطف الواحد منها تجاه الآخر, وتمتلك أيضاً حظّاً حسناً ورديئاً.
إنّ أعلى إله من بين الكواكب السبعة أو الكائن السامي هو القمر الذي يبدو أنّه كـان يعبد كإله ذكر اسمه سين كمـا في مذهب القمر الأقدم. وسنناقش مذهب القمر في حرّان في ما بعد.
إنّ الإله الكوكبي الثاني للحرّانيين هو الشمس. ويصرّح ما يمونيدس أنّ الشمس التي، في اعتقادهم, تحكم العالم العلوي والسفلي، كانت أحد إلهين عظيمين، الإله الآخر هو القمر. فهذا الإله يُدعى أيضاً “الربّ العظيم” و”ربّ الخير” و”هليوس”. ولو أنّ اصطلاح الشمس العربية هو أنثوي، من المحتمل في حرّان كان الإله الشمس يفترض أنّه ذكر, لأنّ أسماءه الأخرى التي ذكرناها، أي “الربّ العظيم” و”ربّ الخير” تظهر بوضوح أنّه كان إلهاً ذكراً. وهذا الإله, تخمينـاً, هو الإله الآشوري البابلي شاماش الذي كان يعبد في حرّان أيضـاً في العصر الآشوري البابلي.
الكوكب الثالث هو الزهرة التي كانت تُدعى بَلْثي أو بَلتا أو بلتي، وهذا الاسم هو ربّما نسخة محلّية من اسم بيليت “سيّدة”. فالإلهة البابلية الأمّ نينليل, زوجة إنليل التي هي الإلهة الثانية في ثالوث البانثيون البابلي الأعلى، تُدعى “بيليت ماتاتي” سيّدة الأراضي، وبيليت إيلي “سيّدة الإلهة” وشُبّهت هذه الإلهة الأمّ بعشتاروت في ما بعد.
وتُدعى الزهرة أيضاً “الشحمية” و”الإلهة المتوهّجة أو المشعّة” من قِبل الحرّانيين في القرون المتوسّطة.
يوجد اسمان لإلهين حرّانيين آخرين اللذين، من المحتمل، أنّهما يشيران، إلى مذهب الزهرة. أحد الاسمين هو عزوز الذي يبدو واضحاً أنّه اسم محلّي للزهرة التي كان يعبدها العرب تحت اسم “عُزى” والاسم الثاني هو “ترّاثا” الذي هو، تخميناً، شكل محلّي لاسم ترعاثا أو اتارغاتس أي عشتاروت – الزهرة.
بموجب ما يقوله الدمشقي عن الهياكل الحرّانية, يصف الحرّانيون عشتاروت بزوجة الشمس والقمر. ومن الواضح أنّها كانت تعبد كإلهة خصاب من قِبل الوثنيين الحرّانيين في ذلك الوقت. وكان لهم بعض طقوس التقدمات لهذه الإلهة بحيث كانوا يقدّمون لها عدّة أنواع من الثمار ذات الرائحة الطيّبة، جافّة أو طازجة، بضمنها المزروعات المائية.
وأخيراً، فإنّ البيروني يذكر أسماء أصنام مذهب الزهرة الحرّاني. أوّلها ترسا، وتشابهه باسم تتعاثا (اتارغاتس) ملحوظ. والأخرى هي بْليّان ودلغاتان. والأخير هو اسم ثنائي اديلبات، الاسم الأكادي الفلكي لكوكب الزهرة. ومن الواضح أنّ الاسم الثنائي يرجع إلى حقيقة أنّ الزهرة هي نجم الصباح والماء.
كان كوكب المريخ يُعبد تحت اسم “العريس” فهذا الإله الكوكبي يُدعى أيضاً من قِبل حرّانيي القرون الوسطى “الربّ الأعمى”. ويصرّح المجريطي أنّه كان يُدعى “ماراسميا” الذي يعني في العربية “الإله الضرير”. وهكذا يوصف أيضاً في كتاب الفهرست “الإله الأعمى” وفي فقرة أخرى “الربّ الأعمى” ويذكر أيضاً “ربّ العميان”. ولو أنَّه يُفْصَل في النصّ عن الآلهة السبعة أي الكواكب السبعة. ربّ العميان يُراد به, تخميناً، كوكب المريخ، الربّ الأعمى.
ويذكر بابا الحرّاني أيضاً وهو أحد أنبياء الحرّانيين، الربّ الأعمى، ويشير إلى أنّه هو الذي أمره بأن يكتب نبوءاته المعروفة إلى الشعب.
ويوصف كوكب المريخ أو الربّ الأعمى كروح حاقدة، والإشارة إلى العمى توضح حقيقة وهي أنّ المريخ عندما يغضب غضباً شديداً يُكيل ضربات من دون أن يرى ما هو فاعل، ويسبّب الحروب ومصائب أخرى.
وكوكب آخر، زحل، كان يُدعى من قِبل حرّانيي في القرون الوسطى قيرقيس (كرونس). وبموجب سجلاّت البيروني كانوا يدعونه أيضاً “العجوز المحترم”. فالأصنام على الشكل البشري في هيكله يمكن أن تكون لها صلة بهذا اللقب. وزحل كان إلهاً حقوداً.
أمّا كوكب المشتري فقد كان يُعبد تحت اسم بعل أو بيل. هذا الإله كان يُدعى أيضاً “شيخ الوقار”. والاسم بعل أو بيل بالإمكان أن نصله إمّا بإله تدمر السامي، بيل أو ببعل شامين الذي كان يعبده الشعب الحرّاني قديماً.
وأخيراً كوكب عطارد الذي كان يُبجّل تحت اسم نابق. ويسجّل البيروني عيد هرميس –عطارد للحرّانيين. فهنا كوكب عطارد يُعرف بهرميس الذي يقع بين آلهة وأنبياء الحرّانيين. ومن الواضح أنّ اسم نابق هو اسم محلّي للإله البابلي نابو الذي كان مذهبه منتشراً في مقاطعة حرّان في أثناء العصر الآشوري البابلي.
كان مذهب نايد – هرميس منتشراً في سوريا أيضاً. وكان هذا الإله يوصف كإله الحكمة، وإله الكتبة, وهو يقود الروح وهي تجوب في عوالم الكواكب.
ولقد قسّم وثنيو حرّان أيام الأسبوع بين هذه الإلهة الكوكبية. يوم الأحد للشمس، ويوم الاثنين للقمر، ويوم الثلاثاء للمريخ، ويوم الأربعاء لعطارد, ويوم الخميس للمشتري، ويوم الجمعة للزهرة، ويوم السبت لزحل.
وفي اعتقادهم أنّ لكلّ كوكب تأثيره على صنف معيّن من الناس. فزحل له تأثير على الأشخاص ذوي السُلطة، والمشتري على الحكماء والفلاسفة، والمريخ على الأشخاص العنيفين، والشمس على الأناس البارزين، والزهرة على النساء والأولاد والفنّانين، وعطارد على الأناس المتعلّمين والعلماء، والقمر علىالمزارعين والمتشرّدين.
ولقد وزّع وثنيو حرّان أيضاً المعادن والألوان والمناخات المختلفة بين الكواكب. فكان لكلّ كوكب لونه ومعدنه الخاصّ به. فاللون الأسود والرصاص كان خاصّاً بزحل، واللون الأخضر ومعدن التنك بالمشتري، واللون الأحمر والحديد بالمريخ، واللون الأصفر والذهب بالشمس، واللون الأحمر والنحاس بالزهرة، وربّما الأزرق الداكن والفخار Baked pot بعطارد، والفضّة بالقمر.
إنّ هذا التقليد يتّصل اتّصالاً وثيقاً بالدين البابلي. وقد لوحظ من أطلال ايزيدا، هيكل نابو في بارسييا، في منتصف القرن التاسع عشر، أنّ الطبقات السبع الواحدة منها فوق الأخرى كانت لا تزال محتفظة بألوانها، ابتداءً من الأرض إلى الأعلى كانت مرتّبة هكذا، وكلّ منها يمثّل كوكباً:
- الأسود زحل.
- البنّي – الأحمر المشتري.
- الوردي – الأحمر المريخ.
- الذهبي الشمس.
- الأبيض– الذهبي الزهرة.
- الأزرق القاتم عطارد.
- الفضّي القمر.
وكان لكلّ كوكب مناخه أيضاً ومزاجه الخاصّ به. فزحل جافّ وبارد وحقود، ويسبّب كوارث عديدة. المشتري بارد ومحبّ للخير، ولذلك فهو يسبّب الخصاب والكثرة. المريخ حارّ وجافّ ويسبّب الحروب وسفك الدماء والقتل والخراب. وكذلك الشمس فإنّها حارّة وجافّة، ولكنّها خلافاً للمريخ لها طبيعة ثنائية: خيّرة ورديئة, ولذلك فهي (أو هو) حقودة وشريرة, وخيّرة وطيّبة. الزهرة باردة غير مبالية. وهي الكوكب الرئيسي الخيّر الشهم، وتسبّب الخصاب والسعادة والنصر. وعطارد أيضاً كوكب محبّ للخير ويسبّب المعرفة والعلم. وأخيراً القمر فهو بارد وله خلق محبّ للخير، ولذلك فهو يسبّب الغزارة في الذكاء والسعادة والنجاح.
وبموجب اعتقاد الحرّانيين فإنّ لكلّ كوكب سكناه الأرضي، أي الهيكل الذي يمتلكه هذا الإله، فعلاقة الإله بهيكله تشبه علاقة الروح بالجسد، وبهذا تكون الكواكب أسياد الهياكل، لذا، ابتنى الحرّانيون هيكلاً لكلّ واحد من الكواكب. وكان لكلّ هيكل شكله الخاصّ. ونصب الحرّانيون التماثيل أيضاً في الهياكل، وظنّوا أنّ قوى الكواكب تطفح على هذه التماثيل. ونتيجة لهذا فإنّ هذه التماثيل تفهم وتتكلّم وتفوه بنبوءات للشعب وتعلّمه ما هو نافع له.
تعطينا مصادرنا العربية وصفاً كاملاً لهذه التماثيل ولو أنّ هناك بعض الاختلاف بينها. إنّ جميع هذه المصادر تكاد تتّبع النظام نفسه، ما عدا اختلاف واحد. عندما يصفون هياكل الكواكب، يأتي هيكل زحل في البداية، المشتري الثاني، المريخ الثالث، الشمس الرابعة، وبموجب المسعودي والشهرستاني يأتي عطارد الخامس، والزهرة السادسة. أمّا الدمشقي فيسجّل هيكل الزهرة الخامس، وعطارد السادس، وآخرها هو القمر. وكتاب Picatrix للمجريطي الزائف يتّبع ترتيب كتاب الدمشقي نفسه عندما يصف ميزات الكواكب. إنّنا سنتّبع ترتيب الدمشقي لأنّ معلوماته مطوّلة عن الهياكل الحرّانية.
كان هيكل زحل سداسياً مبنيّاً من حجر أسود, وفي داخله انتصبت أربعة تماثيل سود تمثّل زحل: زحل يحمل فأساً في اليد ورجل آخر يمسك برشاء ظبية، وآخر يناقش أسرار العلوم القديمة, وأخيراً هناك تمثال ملك جالس على فيل محاط بقطيع من الغنم, وكذلك فقد كان هناك في وسط الهيكل صنم معمول من رصاص أسود أو حجر أسود جالس على عرش على قمّة تسع درجات. وكان المتعبّدون يذهبون إلى هذا الهيكل في يوم السبت وهم لابسون بدلات سود ويحملون أغصان الزيتون, كقربان محروق.
كان هيكل المشتري مثلّثاً ولونه أخضر, وفي داخل الهيكل انتصب تمثال من التنك، وكان المتعبّدون وهم يحملون أغصان السرو, يجتمعون في يوم الخميس لكي يبجّلوه، وربّما كانوا يحتفلون بالتقدمات في هذا الهيكل. وكان يُؤتى بامرأة مع طفلها الرضيع إلى هذا الصنم, ثمّ يغزّون الطفل بإبرة حتّى الموت.
كان هيكل المريخ في رأي المسعودي والشهرستاني, مستطيل الشكل، ولكنّ الدمشقي يقول إنّه كان مربّعاً ولونه أحمر. وكان في وسط الهيكل صنم من الحديد جالس على عرش على قمّة سبع درجات، وكان ممسكاً بسيف بإحدى يديه في حين كان ممسكاً في الأخرى برأس من فروته. وكان السيف والرأس ملطّخين بالدم. وكان المتعبّدون في يوم الثلاثاء يذهبون وهم لابسون بدلات حمر ويحملون السيوف والخناجر إلى هذا الهيكل ليقوموا باحتفال خاصّ, ويصرّح الدمشقي أيضاً أنّهم يفترضون أنّ هذا المعبد كان قد بُني قبل هيكل سليمان. وكان في داخله صنم اسمه تمّوز.
وكان هيكل الشمس مربّعاً ولونه أصفر. وكان في داخل الهيكل عرش على قمّة ستّ درجات وعليه صنم من الذهب ومحلّى بتاج وجواهر, وعلى كلّ درجة من درجات العرش كانت هناك تماثيل مختلفة لملوك ماتوا. وكان الشعب يحتفل في يوم الأحد للشمس.
ويصرّح البيروني أيضاً، “كانت لهم هياكل وتماثيل تنادي باسم الشمس. مثلاً كان هيكل بعلبك مقدّساً لأصنام الشمس”.
في ما يخصّ هيكل الزهرة يصرّح المسعودي والشهرستاني بأنّه كان مثلّثاً في داخل شكل مستطيل. ولكنّ الدمشقي يقول إنّه على شكل مثلّث مستطيل, ومصبوغ بالأزرق. وكان في وسط الهيكل صنم من النحاس لونه أحمر, جالس على العرش على قمّة خمس درجات، وكانت حول الصنم تماثيل أخرى تمثّل سورة الغضب واللذّة. وكان المتعبّدون يلبسون الثياب البيض ويحملون آلات موسيقية مختلفة. وفي يوم الجمعة يذهبون إلى هذا الهيكل ويقدّمون الخشوع إلى صنم الزهرة باحتفال مهيب.
أمّا في ما يخصّ شكل هيكل عطارد فلدينا ثلاثة آراء مختلفة: يصرّح المسعودي أنّه كان مثلّثاً داخل شكل مستطيل. ويقول الشهرستاني إنّ شكله كان مثلّثاً داخل شكل مربّع. ويصرّح الدمشقي أنّه كان مربّعاً من الخارج ولكن سداسياً من الداخل. وكان هناك في داخل الهيكل عرش فوق أربع درجات وصنم مصنوع من الفخار Bakeal Potوكان يومه المقدّس الأربعاء, يقدّم فيه المتعبّدون الخشوع للإله. ومرّة واحدة في السنة على الأقل كان يضحّون بشابّ ويقسمون جسده إلى قسمين، ثمّ يحرقونهما.
وأخيراً هيكل القمر.كان مثمّناً في رأي المسعودي والشهرستاني وسداسياً في رأي الدمشقي. وكان معبده مزيّناً بالكتابات الذهبية والفضّية المنقوشة. وفي داخل الهيكل كان هناك صنم مصنوع من الفضة جالس على عرش فوق ثلاث درجات.
والدمشقي أيضاً يتكلّم عن هيكل القمر يُدعى “المدرج” في حرّان، بقي قائماً حتّى دمره المغول. ويشير أيضاً إلى أنّه كانت هناك كتابات منقوشة بالبهلوية على بابه. وعلاوة على هذا فإنّه يصرّح في فصل آخر من كتابه أنّ من بين هياكلهم هناك هيكل للقمر اسمه “المدوّر” بقي قائماً حتّى احتلّه المصريون، أي الفاطميون، ولم يكن هناك مثيل له. سنناقش هويّة هياكل القمر في حرّان في ما بعد.
عدا عن هذه الهياكل تعطينا مصادرنا معلومات إضافية عن العمارات المقدّسة في حرّان.
بموجب ما يقوله المسعودي إنّ إحدى هذه العمارات هي هيكل يُدعى “المغليطية” عند باب الركعة في حرّان. ويعلّق المسعودي قائلاً إنّ هذا هو الهيكل الحرّاني الوحيد الذي بقي حتّى زمانه (القرن العاشر الميلادي) ويُدعى هيكل “عازار” والد إبراهيم (الخليل). وعلاوة على هذا يقصّ علينا عن ابن عيشون القاضي الحرّاني أنّه كان هناك أربعة أروقة تحت الأرض لأصنام مختلفة تمثّل الأجرام السماوية، أي الكواكب والأولياء.
(وعمارة) أخرى هي “بيت البغداريين” وهو بيت مقدّس للبغداريين والذي يأتي ذكره عدّة مرّات في “كتاب الأسرار المقدّسة الخمسة” العائد للحرّانيين. ويأتي ذكره “البغداريون” مرّة واحدة. ولكن لا بدّ أنّ هذا خطأ لأنّ الحرّانيين لم يكن لهم أيّة صلة ببغداد في الزمن الذي تشكّلت فيه طقوسهم ومذهبهم.
أشار مرّة ج.ب. سيغال إلى إمكانية الصلة ما بين البغداريين وبودار bwdr في إحدى الكتابات السريـانية المنقوشة في سوماتار هارابيسي (خربة سوماتـار).والكتابة مؤرّخة 476 (4-165م) وتقول: “نرجو أن يكون بودار bwdr بعد تريداتيس الحاكم”. واقترح سيغال أيضاً أنّ الكلمة ربّما تعني “العذارين” معدرنا أي “المساعدين” إشارة إلى بعض الآلهة.
وإذا كان تفسير كلمة البغداريين صعباً ولكنّه من الأكيد والواضح أنّ هذا المكان المقدّس الذي يُدعى أيضاً ببيت المنتصرين كان قاعة التكريس لأنّه بموجب “كتاب الأسرار المقدّسة الخمسة” كانت طقوس التكريس تُمارس في هذا المكان المقدّس.
من الممكن أنّ “المغليطية” و”بيت البغداريين” هما الهيكل نفسه، لأنّ “المغليطية” أيضاً كان مكاناً تُقام فيه طقوس التكريس. ويصرّح المسعودي أنّ “الحرّانيين” كانوا يأتون بأولادهم إلى الأروقة التي تحت الأرض ويسمعون الأصنام، حيث يتكلّم الكهنة خلال الأنّابيب وتجعل الأصنام تتكلّم.
وهيكل حرّاني آخر هو عزّوز الذي يذكره بابا الحرّاني. فقد ذكر هذا الهيكل كمكان يذبح فيه الشعب الأضاحي ويأتون بالتقدمات. ومن الممكن جدّاً أنّ هذا كان هيكل الزهرة, لأنّ عزّوز كان اسماً محلّيّاً لكوكب الزهرة، ويأتي ذكره في الفهرست كإله للحرّانيين.
وتفيد مصادرنا العربية أيضاً أنّ هناك صلة بين بعض العمارات القديمة خارج حرّان والحرّانيين. فالبيروني مثلاً يذكر أنّ إحدى نصبهم التذكارية هي القبّة فوق المحراب بجانب المعصورة في الجامع الكبير في دمشق.
وعلاوة على هذا فإنّ البيروني وأبا الفدا وابن حزم يصرّحون أنّ الصابئة الحرّانية يوقّرون الكعبة، البناية المقدّسة في مكّة.
وأخيراً فإنّ أبا الفدا يدّعي أنّهم يبجّلون أهرامات مصر لأنّهم يفترضون أنّ هذه الأهرامات هي مدافن شيت وادريس وابنه صابي.
وإلى جانب العناصر الإلهية والكواكب السبعة تشير مصادرنا إلى أنّ الحرّانيين يؤمنون ويبجّلون علامات البروج الاثني عشر لأنّها كانت مقدّسة تحكم العالم وتنظّمه. وعلاوة على هذا فإنّ للحرّانيين عدداً من الآلهة الصغيرة تنتمي إلى البانثيون عندهم, وبعضها يمثّل، كما سنرى، الآلهة الكوكبية السبعة في حين أنّ الأخرى هي أسماء محلّية بصورة رئيسية لآلهة ساميّة مختلفة.
من بين هذه الآلهة شامال الذي يذكره كتاب الفهرست عدّة مرات, ويبدو أنّه أكثرها أهمّية. ويعطينا الفهرست وصفاً كاملاً لهذا الإله والذي يذكر مراراً مع الكواكب الإلهية السبعة, وهو أعظم إله يسيطر على الشياطين والجنّ ويبعثرها، ويعطي الحظّ الحسن. وهكذا فهو ربّ الجنّ والشياطين وهو يقرن بصورة وثيقة بالسحر والغموض.
أمّا تفسير اسمه وإلى مَن يشير فلا يزال النقاش حوله موضوعاً مثيراً حتّى الآن على الرغم من الوصف الواضح لطبيعته في الفهرست ويصرّح دودج B.Dodge الذي ترجم اسمه دوماً – الشمال – أنّ هذا الإله, ربّما كان الإله السامي القديم سافون نفسه الذي يستمدّ اسمه من الشمال، ويبدي ملاحظته أيضاً أنّه من الممكن أنّ الشعب الحرّاني عرف الشمال بأنّه العلّة الأولى الذي انبثق منه وجود العالم. ومن ناحية أخرى فقد ادّعى ج.ب. سيغال مرّة أنّ شامال الحرّاني قد يكون هو مارإلاها نفسه في سوماتار. أخيراً فقد اقترح تشولسون Chwolsohn العالم الروسي، الذي يحتفظ دوماً بالكلمة الأصلية (شامال) عند ترجمته بعض الفقرات من الفهرست قائلاً إنّه قد يكون أحد الآلهة القديمة التي تنتمي إلى مذهب الزراعة في ما بين النهرين القديم.
قد تكون هناك صلة بين شامال الحرّاني وسامايل في التقليد اليهودي مادام أنّ الاثنين لهما ميزات شيطانية. ففي المصادر اليهودية في مختلف العصور يبدو سامايل (1) شيطان, (2) ملاك الموت, (3) الملاك المسؤول عن المريخ, (4) اسماً للعفاريت.
ويذكر شامال في الفهرست أيضاً مرّتين وكأنّه شكل محلّي للإله الشمس. مرجع واحد يقول: إنّ عيد شامال يحتفل به في الخامس عشر من نيسان بتقديم القرابين، وعبادة الشمس وذبح الأضاحي، والقرابين المحروقة، والأكل والشرب. هذا الاحتفال نفسه يظهر في الأوّل من أيّار. والمرجع الثاني يقترح أنّه في غضون شهر شباط الذي سبعة أيّام منه تبتدئ في اليوم التاسع هي للصوم للشمس، الربّ العظيم، ربّ الرفاه، ويصلّون لشامال فقط، ولهذا بإمكاننا أن نفكّر أنّ شامال هو اسم محلّي للإله الشمس؟ يبدو لنا أنّ تعريف شامال بالإله الشمس صعب, لأنّ شامال، كما رأينا, يُذكر عدّة مرّات كإله منفصل عن الآلهة الكوكبية السبعة التي الإله الشمس هو أحدها بالتأكيد.
وما عدا الفهرست هناك بعض المصادر الأخرى تخبرنا عن مذهب الجنّ والشياطين عند الحرّانيين ولكنّها لا تذكر شامال. ويأتي ذكر شامال فقط في حكاية أبو سعيد وهب بن إبراهيم التي يقصّها في الفهرست ابن النديم. والبيروني الذي ينقل ما قاله محمّد بن العزيز الهاشمي ويخبرنا عن العفاريت في مذهب الحرّانيين ويذكر سالوغا كأمير الشياطين.
وسالوغا. تخميناً, هو مطابق لشامال لسببين:
(1) كلاهما سالوغا وشامال زعيمان للعفاريت.
(2) يذكر البيروني عيد السالوغا في اليوم الثاني من أيّار الذي هو أوّل أعياد الشهر.ويذكر ابن النديم مهرجان تقديم القرابين لشامال في الأوّل من الشهر نفسه. ولو أنّه هناك تشويش على التاريخ، كلاهما يشير إلى العيد نفسه الذي يحتفل به زعيم العفاريت.
فأيّ منهما, شامال أم سالوغا, هو الاسم الحقيقي الأصلي لزعيم الجنّ والشياطين. إنّ هذا لا يزال لغزاً، ولكنّه ظاهر أنّ هذا المذهب كان هامّاً في الدين الحرّاني حتّى إنّنا نجد عدداً من طقوس الاحتفالات والتضحية لهذا الإله.
بموجب الحكاية في الفهرست هناك إله حرّاني آخر هو الإله طاووس
الذي تبكي عليه نساء حرّان في أثناء العيد في تمّوز. والبيروني أيضـاً يذكر هذا الإله نفسه باسم تمّوز، ويذكره مايمونيدس تمّوز.
من الواضح أنّ هذا الإله يشبه الإله السومري الأكادي تمّوز أو دموزي الشهير، وهو إله النبات الذي كان موته السنوي وقيامته يحتفل بهما في الشرق الأدنى القديم برمّته. وإحدى الميزات البارزة في هذا المذهب هو البكاء على موت تمّوز الشابّ قبل أوانه.
ويذكر الفهرست أيضاً زوجاً توأماً: (فسفور) الذي يوصف بـ (الصالح الكامل) و(كاستور) الشيخ المنتخب. هذان الإلهان أي فسفور حامل النُور, وكاستور أحد التوأمين ديسكوري
Dioscuri هما كما صرّح ليوي H.Lewyالمعروفان جيّداً في الميثولوجيا الأكادية باسم “بالجي الشعلة”، ونوسكو، وهما يمثّلان الكوكب عطارد كنجم الصباح والمساء على التوالي.
وإله آخر هو هامان الذي يوصف كـ”زعيم ووالد الآلهة”. وفي منطقة صور كان الإله بعل شامين يعبد كـ “إله همون” وهذا، من المحتمل، يعني به الإله همون الذي كان يعبد في تدمر.
أمّا الإله تمريا الذي يظهر في الفهرست فهو من الواضح بارنمري نفسه الذي يذكره يعقوب السروجي.
إنّ أسماء الآلهة التي تنتمي إلى البانثيون الحرّاني كانت تتغيّر من وقت إلى آخر وتتوقّف على تأثير الحضارات المختلفة. وخصوصاً هناك ثلاثة تأثيرات يبدو أنّها أثّرت في اللاهوت الحرّاني, وأهمّها التأثير الآشوري البابلي الذي يظهر بنوع خاصّ في مذهبهم الكوكبي ومعتقداتهم التي تقرن بالسحر والغموض. فالعديد من الآلهة، كسين ونينغال وتمّوز هي نفسها كالتي في البانثيون الآشوري البابلي. وعلاوة على ذلك مذهبها، كمذاهب الزراعة والنبات التي تصل صلة وثيقة بشبيهاتها الآشورية البابلية.
إنّ التأثير الثاني الذي لا بدّ أنّه دخل المنطقة بعد فتوحات الإسكندر الكبير هي اليونانية. إنّ هذا التأثير الذي يظهر بصورة خاصّة في أسماء الآلهة الكوكبية, مثل ايلبوس ولاريس وقرقيس، وكذلك اعتقادهم في ما يخصّ الكون. والعناصر الإلهية لها صلة وثيقة في فلسفة اليونان القديمة.
وأخيراً نجد تأثير ومذاهب الاعتقاد في إله واحد التي تظهر في معتقدهم في الخالق المقدّس. وهذا الاعتقاد قد يكون يهودياً أو مسيحياً أو إسلامياً. وكما صرّح مارغوليت D.S.Margolioch يبدو أنّ التأثير الإسلامي أكثر احتمالاً، لأنّ هذا الاعتقاد يظهر فقط في القرون الوسطى، وعاش الوثنيون الحرّانيون تحت حكم المسلمين منذ القرن السابع الميلادي.
أنبياء ووسطاء
اعتقد الوثنيون الحرّانيون في القرون الوسطى في أنبياء معيّنين وسطاء بين البشر والكائنات المقدّسة, ولو أنّنا لا نرى هذا الاعتقاد قبل هذه الفترة. وبموجب عقيدتهم في الأنبياء.
إنّ الرجل الذي يعلن (وجود) الله (النبيّ) هو ذلك الخالي من الشرّ في نفسه, والخالي من التشوّهات في جسده، وهو كامل في كلّ شيء يستحقّ الثناء. ولا يقصّر في الإجابة على كلّ سؤال بالصواب, ويخبرنا في التصوّرات, ويستجاب على صلواته من أجل المطر. ويقي الحيوانات والنباتات من الحشرات، وهو الذي تحسّن عقيدته العالم وتزيد سكّانه.
إنّ من بين أهمّ أنبيائهم النبيّ هرميس, ويسمّيه الدمشقي (الهرامسة) والبغدادي يسمّيه (هرماس المنجّم) والبيروني يسمّيه (هرماس المصري). ومصادرنا القروسطية إجمالاً تعرفه بإدريس أحد الأنبياء الذين يذكرهم القرآن. وبعضهم يشير إلى إدريس على أنّه أخنوخ الذي يشير إليه البيروني قائلاً إنّه يذكر كـ (اينوخ) في التوراة العبرية.
ويدّعي الحرّانيون أنّ هرميس هو أحد معلّميهم الاثنين. أمّا الثاني فهو اغاثوديمون الذي علّمهم الطريق الصحيح, وأعطاهم الشريعة والقضاء وأثنى عليهم. ويعتقدون أيضاً أنّ هرميس واغاثوديمون هما معلّماهم, وإلهاهم، وهما وسيطان لدى الكائنات المقدّسة وشفيعان لهم لدى الله الذي هو سيّد الأسياد وإله الآلهة. إنّنا سنناقش تعريف هرميس في ما بعد, وكذلك التقاليد الحرّانية عن هرميس.
نبيّ آخر هامّ وهو اغاثوديمون, ويلفظ العلماء القرون الوسطى هذا الاسم كلّ على طريقته، ويصرّحون عادة بتعريفه بالنبيّ شيث ابن أدم.
وكهرميس فإنّهم يربطون اغاثوديمون بمصر لأنّ الحرّانيين اعتقدوا أنّ واحداً من الأهرامات الكبيرة الثلاثة في مصر هو قبره حيث إنّهم, بموجب قصّة الدمشقي, يحجّون إليه ويذبحون ديكاً. واغاثوديمون هو من الواضح اغاثوس ديمون في الميثولوجيا اليونانية. وفي نظر الكتّاب المتخصّصين بهرميس اغاثوس ديمون هو ليس إنساناً، بل إله- تجسيد للعقل الإلهي- يعطي هرميس الإنسان التعليمات.
ففي التقليد الحرّاني إنّ اغاثوديمون، كالأنبياء الآخرين, هو فيلسوف ونبيّ وفي ما يخصّ فلسفته، يصرّح الشهرستاني، الذي تخميناً ينقل هذا من كتب الحرّانيين، إنّه بموجب فلسفة اغاثوديمون كانوا في البداية خمسة: الله والحكمة والإحساس والمكان والفراغ. وتجب الملاحظة أنّ هناك علاقة بين الثلاثة الأوّلين أي الله والحكمة والإحساس، والعناصر الإلهية الثلاثة الأولى في عقيدة الحرّانيين.
نبيّ آخر من أنبياء الحرّانيين هو أراني، كما يذكره الفهرست، في حين يأتي ذكره في رواية المسعودي أراني الأوّل وأراني الثاني, وفي رواية ابن حزم, أراني الكبير وأراني الصغير.
هناك احتمالات مختلفة في تعريف أراني, فتشولسون ظنّ أنّ أراني هو تشويه لاورفيوس. ويصرّح سكوت Scott أنّ أراني اسم أوجده الحرّانيون كمؤسّس مدينتهم الرمزي، أي حرّان. ويصرّح أيضاً أنّ هذا قد يكون ناجماً عن تعريف مؤسّس الخيالي بحاران شقيق إبراهيم (الخليل) ويعلّق قائلاً إنّ الحرّانيين الذين يستعملون اللغة اليونانية كتبوا ارانيوس، ونقله الكتّاب العرب أراني إلى اللغة العربية, ولكن من ناحية أخرى فإنّه يبرز صعوبة هذه النظرية بغياب الحرف الحلقي (ح) الذي يبتدأ به اسم المدينة.
ومن ناحية اخرى يقترح دودج B.Dodge أنّه قد تكون للاسم علاقة بهرون الرجل الحكيم القديم. في رأينا إنّ أراني قد يكون ترجمة عربية لاورانوس في الميثولوجيا اليونانية:
(1) إنّ اورانوس أكثر قرباً لأراني من ناحية اللفظ.
(2) إنّه من المميزات الأكثر أهمّية في الأنبياء الحرّانيين علاقتهم بالميثولوجيا اليونانية وفلسفتهم القديمة. واورانوس هامّ في الميثولوجيا اليونانية, ولد وزوج غيّا الأرض.
نبيّ آخر هو بابا. والبيروني يذكره كأحد أنبياء الحرّانيين. يلفظ الاسم بابا في فصل آخر من كتابه. وكلّ من ديونيسيوس بار صليبي وابن النديم الذي اقتبس من كتاب بابا يعطينا المعلومات عن هذا. فالأوّل يذكره كـ “إله حرّان” في بداية اقتباسه ولكنّه يصرّح في ما بعد أنّ الحرّانيين يدعونه نبياً ويعتبرونه فوق جميع الفلاسفة الآخرين ويلتجئون إليه. ومن ناحية أخرى فإنّ ابن النديم يذكره “الصابئي من حرّان” ويصرّح أنّ بابا قال إنّه أصدر بياناته سنوات قبل الهجرة
(القرن الثالث الميلادي).
بموجب ابن النديم لا بدّ أنّ بابا كان قد عاش في القرن الثالث الميلادي، ولكنّ ديونيسيوس بار صليبي يفترض تاريخاً قبل المسيحية لبابا. وكتاب بابا الحرّاني يشير إلى أنّ بابا حرّاني أصيل. ولكن من الصعوبة القول في ما إذا كان نبياً حرّانياً مواطناً، أو شخصاً ميثولوجياً من أصل يوناني كهرميس واغاثوديمون.
ومن ناحية أخرى فإنّ اسم بابا هو اسم محبوب ويظهر مثلاً في دورا بوريوس في كتابات سامية منقوشة. وقد تكون أو لا تكون علاقة ببضعة أسماء آرامية (سريانية ويهودية) تلفظ ببي bby . ويظهر بابا كإله مصري وإلهة سومرية، وإلهة سورية باسم بابيّا أو بما يشابهه، معروف أيضاً.
وابن النديم والشهرستاني يذكران سولون أيضاً بين أنبياء الحرّانيين ويصرّحان بأنّه كان الجدّ الأعلى لأفلاطون من طرف والدته. وكذلك البيروني فإنّه يذكره مرّتين كأحد أنبيائهم, ويصفه مرّة بأنّه كان جدّ أفلاطون من ناحية والدته. وابن حزم أيضاً يذكره ولكنّه يشير إلى أنّ الصابئة (الحرّانيين) يختلفوا بخصوص نبوّته. من الواضح أنّ وصف البيروني يُظهر أنّه صنو سولون تماماً. ولكن كلمة “ساوار” التي تستعمل كاسم لسولون غريبة جدّاً، ومن الصعب أن نصرّح بذلك.
وكذلك فإنّ البغدادي يذكر أفلاطون أيضاً بين أنبياء الحرّانيين ويصرّح علاوة على هذا بأنّهم يدّعون النبوّة لعدد من الفلاسفة. ويصرّح المسعودي إلى جانب هذا بأنّه رأى بعض كلمات أفلاطون مكتوبة بالسريانية على بوابة حرّان وهذه تدعم رواية البغدادي.
نبيّ آخر للحرّانيين اسمه واليس، ويذكره البغدادي والبيروني ويظهر اسمه أيضاً كـ “الوس” في نسخة أخرى من تاريخ الزمان Chrondogy للبيروني. ويصرّح روزنثال أنّه اليوس نفسه معلم الحرّانيين الزرادشتي بموجب فقرة في تاريخ الزمان للبيروني الذي نشره تقي زاده.
وفي قائمة البيروني فيثاغورس الفيلسوف اليوناني من ساموس في القرن السادس ق.م. يذكر أيضاً بين الحرّانيين.
ويذكر ابن حزم نبياً آخر يُدعى بوداساف، من الواضح أنّ هذا الاسم قروسطي يشير إلى بوذا. ويذكر ابن حزم أيضاً “اسقلانيوس مالك الهيكل” الموصوف بين الأنبياء الحرّانيين وسقلانيوس هو لفظ الاسكلابيوس- البطل اليوناني وإله الشفاء.
ويأتي ذكر ايلون في رواية ابن حزم كنبيّ, ويعرفه ابن حزم بالنبيّ نوح. لا يمكن أن يكون هذا صحيحاً مادام أنّ الحرّانيين معادون لنوح.
فإلى جانب هذه الشخصيات الميثولوجية والفلاسفة القدماء، من بين الأنبياء الذين يذكرون في التوراة والقرآن يعتقد الحرّانيون بآدم فقط. فهم يعتقدون أنّ آدم شخص ولد من ذكر وأنثى كبقيّة أفراد البشر, ولكنّهم يمجّدونه ويقولون عنه أنّه كان نبياً, ورسول القمر الذي دعا البشر إلى عبادته. وإنّ هناك كتابات كتبها هو نفسه عن حراثة التربة – وعن آدم يقصّون حكاية ميثولوجية عن سفرته من الهند إلى بابل.
من ناحية أخرى هم عدائيون لإبراهيم ونوح وشيت. وبموجب رواية ابن سنقيلا والتي اقتبسها البيروني يدّعون:
” أنّ إبراهيم ترك طائفتهم لأنّ البرص ظهر على غرلته, وكلّ إنسان عانى من هذا المرض كان يعتبر نجساً ويعزل عن المجتمع. ولذلك قطع غرلته أي ختن نفسه. ثمّ، وهو في هذه الحالة دخل أحد هياكلهم لعبادة الأصنام وسمع صوتاً يكلّمه قائلاً: إبراهيم, أنت ذهبت عنّا بخطيئة واحدة ورجعت إلينا بخطيئتين ابتعد عنّا ولا ترجع إلينا مرّة أخرى. وامتلك إبراهيم الغضب لهذا، وكسر الأصنام إلى شظايا وترك طائفتهم “.
وبعد هذا ندم إبراهيم على ما فعل، و أراد أن يضحّي ابنه إلى الكوكب زحل.
واعتقدوا أنّ نوح الذي كان يحرث التربة، لم يعبد صنماً أبداً. وأنّه ضُرب وأودع السجن بسبب عبادته لله. واعتقدوا أنّ شيثاً أيضاً اعترض على رأي والده آدم بخصوص عبادة القمر. ولا يقبلون بتنبّؤات يعقوب وإسحاق وإسماعيل وصالح وهود وشعيب ومحمّد بن عبد الله (نبيّ المسلمين).
واعتقد الحرّانيون، علاوة على هذا، أنّ الأصنام وأشجاراً معيّنة يدعوها مايمونيدس اشيروت, كانت وسيطة بين الكائنات المقدّسة والأنبياء. واعتقدوا أنّ الأصنام والأشجار أعطت وحياً نبوياً للأنبياء, وأنّها تتكلّم معهم في أثناء وحيهم وتعلّمهم بما هو مفيد لهم وبما هو مضرّ. واعتقدوا أيضاً أنّه في ظروف معيّنة يتّصل الجنّ بالشعب، ويأتون إليهم في الأحلام، ويعلّمونهم أشياء سرّية مفيدة لهم.
كما رأينا إنّ أهمّ ميزة بارزة عند أنبياء الحرّانيين هي صلتهم بالفلسفة والميثولوجية اليونانية القديمة. إنّه من الصعب معرفة متى دخل الإيمان بهؤلاء الأنبياء في نظام عقيدتهم. ولكن لا بدّ أنّ هذا حدث بعد الإسكندر الكبير لأنّ الحضارة اليونانية أثّرت في المنطقة بعد فتوحاته فقط. وإجمالاً، فإنّ العلماء القرسطيين عرّفوا بعض أنبياء الحرّانيين كـ اغاثوديمون وهرميس بالأنبياء الذين يأتي ذكرهم في القرآن كشيث وادريس، ولو أنّ معظم هذه التعريفات هي ضدّ اعتقادات الحرّانيين الخاصّة. والسبب في هذه التعريفات من المحتمل أن يكون في هؤلاء العلماء فكّروا في أصل عقيدة الإله الواحد لهؤلاء الوثنيين.
طقوس الحرّانيين
إنّ مصادرنا القروسطية تعطينا معلومات وافرة عن طقوس الحرّانيين واحتفالاتهم. وإنّ هدفهم الرئيسي في ممارسة هذه الطقوس هو كي يكونوا قريبين من الكائنات المقدّسة. وفي هذا القسم سنناقش صلواتهم وصومهم وأضاحيهم وطقوسهم التكريسية, وأعيادهم الدينية.
(1)
الصلوات
يشير العلماء في القرون الوسطى إجمالاً إلى أنّ للحرّانيين ثلاث صلوات فرضية يصلّونها كلّ يوم. ومصادرنا الرئيسية كالبيروني وأحمد بن الطيّب السرخسي والبغدادي والشهرستاني إذ لديهم هذه الفكرة. وبموجب رواية السرخسي:
“إنّ أوّل صلاة من هذه الصلوات هي التي تقام نصف ساعة أو أقلّ قبل شروق الشمس، وتنتهي بشروقها، وتتألّف من ثماني انحناءات (الجسد). وثلاث سجدات بذلّ في أثناء كلّ انحناءة. وينهون الصلاة الثانية في وقت (بدء) هبوط الشمس (ظهراً) وتتألّف من خمس انحناءات مع ثلاث سجدات ذلّ في أثناء كلّ انحناءة، والثالثة هي كالثانية، وتنتهي عند غروب الشمس. وهذه المرّات الثلاث هي ضرورية بسبب اتجّاهات النقاط الثلاث الثابتة، والتي هي النقطة الثابتة للشرق، النقطة الثابتة للسّمْت، والنقطة الثابتة للغرب. ولا أحد منهم يذكر أنّ من بين القوانين الطقسية توجد صلاة لوقت النقطة الثابتة للأرض “.
وإلى جانب هذه القوانين لديهم صلوات طوعية، وليست إجبارية، ثلاث مرّات في اليوم، الأولى في الساعة الثانية من اليوم، والثانية في التاسعة من اليوم، والثالثة في الساعة الثالثة من الليل.
ويخبرنا أبو الفدا عن صلواتهم للأموات، ويشير إلى أنّ هذه الصلاة لا سجودَ فيها.
وبموجب ما تشير إليه مصادرنا القروسطية جميع الصلوات يتقدّمها تطهير وغسل. أمّا في ما يخصّ وجهة الصلاة، أي القبلة، هناك رأيان مختلفان. فابن النديم يصرّح في اقتباس من أحمد بن السرخسي: “إنّهم يتّخذون وجهة واحدة للصلاة وهي القطب الشمالي”، ويشير ابن العبري أيضاً إلى أنّ وجهتهم للصلاة هي القطب الشمالي.
ومن ناحية أخرى يصرّح المسعودي والبيروني وابن حزم بأنّ وجهتهم في الصلاة هي إلى الجنوب. والمسعودي الذي هو أحد أقدم مصادرنا عن الحرّانيين في القرون الوسطى يصرّح: “إنّ بقايا الصابئة المصريين هم في هذا الوقت (القرن العاشر الميلادي) الصابئة من حرّان ووجهتهم في الصلاة نحو التيمن التي هي القبلة، واستدبارهم إلى الشمال”.
وبصرف النظر عن العبارة “ظهرهم إلى الشمال” في النصّ، قد يفسّر التيمن أنّه يشير إلى القبلة إلى الجنوب, إنّه قد يكون اسماً عامّاً يشير إلى جهة الجنوب.
والبيروني الذي يقارن الحرّانيين بصابئة المستنقعات (الذين يدعوهم بالصابئة الحقيقيين). يصرّح أيضاً:
“الحرّانيون يتّجهون في صلواتهم نحو القطب الجنوبي, أمّا الصابئة فنحو القطب الشمالي”. ويقول ابن حزم إنّهم يتّجهون في الصلاة نحو الكعبة (في مكة).
بخصوص هاتين النظريتين فالتي تذكر الجنوب بأنّه القبلة يبدو أنّها الصحيحة. أوّلاً هناك صعوبة في نسخة الفهرست في رواية السرخسي حيث يذكر الشمال هو القبلة للحرّانيين. بموجب هذا الاقتباس الذي اقتبسه المقدسي أيضاً يصرّح السرخسي: “إنّهم يثبتون وجهة لصلاتهم (القبلة) باتّخاذهم للقطب الشمالي في نقرة القفا”. السرخسي لا يقول “يتوجّهون إلى الشمال في الصلاة”. ونقرة القفا هي عبارة غامضة وتعني ببساطة “قفا الرأس”.
وهناك أيضاً العبارة النقرة في القفا التي تعني بموجب لسان العرب: “شقّ النتوء وراء الأذن”. فالمعنى غامض. ولكنّ وصفاً مشابهاً، كما رأينا، يذكر في رواية المسعودي الذي يصرّح: “إنّ وجهتهم في الصلاة هي نحو التيمن التي هي القبلة وظهرهم نحو الشمال”.
والكعبة أيضاً، وجهة المسلمين في الصلاة كانت، كما ذكرنا سابقاً، بين العمارات المقدّسة التي كان يبجّلها الحرّانيون. وبموجب ما يقوله ابن حزم, كانوا يتّجهون إليها عند الصلاة.
وأخيراً في النسخة العربية من “كتاب بابا الحرّاني” يستعمل اصطلاح القبلة بمعنى “الجنوب” ولو أنّنا لا نعرف أيّ كلمة تستعمل في اللغة الآرامية الأصلية لهذا الكتاب. قد يكون الاصطلاح متّصلاً باتّجاههم في الصلاة إلى الجنوب.
ونتيجة لهذا فإنّ جميع هذه النقاط توحي بأنّ الجنوب هو الوجهة التي كان الحرّانيون يتّجهون إليها في صلاتهم.
(2)
الأصوام
إنّ مصادرنا الرئيسة حول صيام الحرّانيين هو البيروني الذي يقتبس روايته عن محمّد بن عبد العزيز الهاشمي، وابن النديم الذي يقتبس من السرخسي، وأبو سعيد وهب بن إبراهيم. إنّ رواية الهاشمي هي أكثر تفصيلاً من الآخرين. وبموجب هؤلاء الكتّاب كان للحرّانيين عدداً من الأصوام منتشرة في أشهر السنة بعضها كان إلزامياً للكهنة فقط. إنّنا سنتبع نظام رواية الهاشمي:
بموجب رواية الهاشمي يبتدئ أوّل صومهم في السنة في 21 كانون الأول. ويكسر الصوم بعد يوم اقتران البروج (من المحتمل في بداية الشهر التالي, كانون الثاني). هذا الصوم من تسعة أيّام هو بين أهمّ الأصوام الثلاثة للحرّانيين في قائمة السرخسي. ومن ناحية أخرى يصرّح السرخسي بأنّ هذا يبتدئ في التاسع من الشهر، وفي غضون هذا الصوم لا يأكلون اللحم. وعندما يكسرون صيامهم يمارسون منح الصدقات وأعمال الإحسان. وعلاوة على هذا يخبرنا أبو سعيد وهب بن إبراهيم عن صيام تسعة أيّام تبتدئ في 21 كانون الثاني، ويصرّح: “هذا هو لربّ الحظّ الجيّد (جاد Gad)”. وهذا الصوم قد يكون الصوم نفسه في كانون الأوّل الذي ذكره الهاشمي والسرخسي. وأبو سعيد وهب أيضاً يقدّم ملاحظة أنّه في أثناء هذا الصوم يكسرون كلّ ليلة خبزاً طرياً يخلطون فيه شعيراً وتبناً وبخوراً ونبات الآس العطري الطازج، ويرشّون عليه الزيت ثمّ يخلطونه ويوزّعونه على بيوتهم.
وفي كانون الثاني لديهم سبعة أيّام صيام. وهذا يظهر في قائمة الهاشمي فقط. وهذا الصوم يبتدئ في اليوم الثامن من هذا الشهر، ويكسر في الخامس عشر منه.
هناك سبعة أيّام أخرى من الصيام في شهر شباط. ويذكر السرخسي أنّ هذا الصيام بين أهمّ الأصوام عند الحرّانيين ويبتدئ في الثامن من هذا الشهر. ومن ناحية أخرى يصف الهاشمي هذا الصوم بأنّه ثانوي ويبتدئ في التاسع من الشهر، ويكسر في 16 منه. وأبو سعيد وهب أيضاً يذكر هذا الصوم ويصرّح بأنّ أوّل يوم منه هو في التاسع من شباط. ويقول أيضاً إنّ هذا الصوم هو من أجل الشمس “الربّ العظيم” ربّ الرفاه. لا يأكلون اللحم في أثنائه، ولا حتّى الدهن, أو أيّ شيء آخر من أطعمة الأعياد. ويبدي أبو سعيد وهب ملاحظة بأنّهم لا يشربون الخمر أيضاً.
لدى الحرّانيين صومان في آذار، أحدهما يذكره الهاشمي فقط، وهو صوم (اي ay). يبدأ في اليوم الأوّل من هذا الشهر ويكسر في الرابع منه، ويدوم ثلاثة أيّام. والآخر هو صوم ثلاثين يوماً تذكره جميع مصادرنا عن الحرّانيين. وهذا هو أوّل ثلاثة من أهمّ الأصوام في قائمة السرخسي ويدعوه الهاشمي بـ “الصيام الكبير”. وبموجب رواية أبي سعيد وهب إنّهم يقومون بهذا الصوم تبجيلاً للقمر. وهذا يبتدئ في الثامن من آذار. وكسر هذا الصوم يقع في معظم الحالات في الثامن من نيسان.
وعلاوة على هذا يذكر السرخسي بعض الأصوام الإضافية للحرّانيين لستّة عشر وسبعة وعشرين يوماً. ولكنّ هذه الأصوام لا تظهر في قائمة الهاشمي. وفي ما عدا هذه الأصوام هناك صوم في أيّام معيّنة في كلّ شهر من أشهر السنة، وهي إلزامية للكهنة فقط. والهاشمي الذي يخبرنا بهذا ليس متأكّداً من مدى هذا الصوم وتاريخ بدئه ويصرّح قائلاً: “أظنّ أنّه يدوم أربعة عشر يوماً كلّ شهر، أو أنّه يقع في الرابع عشر منه، لا أعرف الصحيح”.
(3)
تقديم الأضاحي والقرابين
ربّماكان أهمّ طقس عند الحرّانيين هو تقديم الأضاحي والقرابين للكائنات المقدّسة وممثّليها، أي الأصنام. وكميزة هامّة فإنّ هذه الطقوس تمارس تبجيلاً للوسطاء وأصنامهم وهياكلهم عوضاً عن تقديمها للخالق المقدّس مباشرة. والوسطاء هم، كما ذكرنا سابقاً، الآلهة التي تتعلّق بالأجرام السماوية، أي الكواكب وعلامات دائرة البروج.
ويصرّح السرخسي:
“بعضهم يقول إنّه فأل نحس للتضحية أن تقدّم باسم الخالق، لأنّه، في اعتقادهم، اتّخذ على عاتقه الواجب الرئيسي فقط، وترك الأمور الصغيرة للوسطاء الذين عيّنهم هو نفسه ليشرفوا على تدبير العالم”.
ومارس الحرّانيون تقدمات مختلفة لأسلافهم (الأموات) الذين اعتقدوا أنّهم وسطاء الآلهة.
إنّ غرضهم الرئيسي من ممارسة تقديم الأضاحي والقرابين هو كي يكونوا قريبين من الآلهة. وبهذه الوسيلة يظنّون أيضاً أنّهم يستنبطون المعرفة بمستقبل الإنسان الذي يقدّم القرابين والجواب عن تساؤلاته. وعلاوة على هذا فإنّهم يعتقدون أنّ المعلومات تُعطى لهم عن المعرفة السرّية الخفية التي يريدون معرفتها في حين تكون الضحية لا تزال تتحرّك. إنّهم يتفحّصون أعضاء الضحية المذبوحة ويحاولون حزر أحداث السنة التالية منها.
بموجب رواية السرخسي هناك أربع مرّات للتقدمة في غضون الشهر: وقت اقتران البروج, والوجهة المعاكسة، واليوم السابع عشر، واليوم الثامن والعشرون. لكنّ هذا التصريح لا يتواءم مع ممارسات الحرّانيين لأنّهم كانوا يقدّمون التقدمات لآلهتهم في أيّ وقت من الشهر كما نسمع من مصادر أخرى.
مارس الحرّانيون عموماً تقدمة التضحيات، وخصوصاً التضحيات البشرية وذبح الحيوانات والمحرقات في الهياكل التي كانت غالباً تتّصل بالكواكب السبعة. وعزّوز الذي يذكره بابا الحرّاني كان معبداً هامّاً يذبح الحرّانيون فيه التضحيات ويأتون بالتقدمات. وكان الكهنة مَن يقومون بالتضحيات. وبعد طقوس التضحية كان موظّف محلّي أو رئيس الكهنة (الرئيس) يقوم بجمع النقود، عادة قطعتين فضّيتين (درهم) من الشعب الذي انضمّ إلى الاحتفال.
بالإمكان تصنيف تقدماتهم وأضاحيهم إلى ثلاث مجموعات:
1) التضحية البشرية.
2) تضحيات حيوانية.
3) تقدمات أخرى.
(1) بموجب مصادرنا القروسطية كانت الأضاحي البشرية الكوكبية شائعة بين الحرّانيين. فأبو سعيد وهب، وابن سنقيلا، وعبد المسيح ابن إسحاق الكندي, والمجريطي, والدمشقي, وديونيسيوس التلمحري (السرياني) يخبروننا عن تضحيات بشرية مختلفة بين الحرّانيين. وسنناقش هذا الطقس في ما بعد.
(2) كان أمراً شائعاً وعادياً بين الحرّانيين أن يضحّوا مختلف الحيوانات لآلهتهم، وهذا الطقس كان يمارس في كلّ شهر من السنة تقريباً. وبموجب تنظيماتهم كان الكاهن الذي سينجز التضحية يمنع من دخول المعابد في أثناء النهار. وكان الحرّانيون يضحّون بالحيوانات التالية:
أ- حملان و أغنام: كانت الحملان أكثر شيوعاً كتقدمة حيوانية. وكان يضحّى عادة سبعة أو ثمانية أو تسعة حملان معاً. وكانت الآلهة التي يضحّى من أجلها الكواكب الإلهية السبعة، وشامال وربّ الساعات وهامان. وكانوا يضحّون بالأغنام لربّ العميان (المريخ) والشياطين أيضاً.
ب – الماشية: كان الحرّانيون يضحّون بالذكور فقط لإعاشة آلهتهم. ويخبرنا أبو سعيد وهب عن طقوسهم المختلفة حيث يضحّون الثيران لآلهتهم سين الإله القمر, وزحل والمريخ وهرميس. ويشير المسعودي أيضاً إلى أنّهم كانوا يضحّون بثور أسود بضرب جبهته بكتلة من الملح، ويخرجون عينيه بهذه الطريقة أيضاً. ويسرد علينا المجريطي رواية عن تضحية ثور للكوكب زحل.
ج – الماعز: والماعز أيضاً كانت من بين الحيوانات التي يضحّى بها، ويشير ابن النديم إلى ماعزهم المقدّس التي لا يسمح ببيع أيّ منها بل يقدّمونها أضاحي. ولم يكن مسموحاً للنساء الحوامل بالاقتراب منها.
د- حيوانات أخرى ذوات الأرجل الأربع: إنّ جميع الحيوانات ذوات الأرجل الأربع، التي لا يكون لها أسنان في فكّيها, العلوي والسفلي ما عدا الجمال كانت تضحّى. وبموجب ما يقوله كتاب الفهرست كانت هذه الحيوانات تقدّم للزهرة وشامال.
هـ- كانت الديكة والفراريج من بين الأضاحي الأكثر شيوعاً بين الحرّانيين. ويذكر أبو سعيد وهب المريخ بنوع خاصّ و”ربّ الحظّ الجيّد” (جاد Gad) الإلهين اللذين تقدّم لهما أضاحي الديكة والفراريج. ويصرّح ابن النديم بأنّهم كانوا يحتفظون بالجناح الأيسر للفروج ويستعملونه في السرّ المقدّس في معبد الإلهة. كان الرجال يكشطون اللحم عن العظم بعناية كبيرة ويعلّقون عظم الجناح في عنق الأولاد وقلائد النساء وعلى خواصر النساء الحوامل. ويعتقدون أنّهم بهذا يحصلون على حماية عظيمة.
وكان الحرّانيون يقدّمون أيضاً أضاحي طيور أخرى لا مخالب لها، ما عدا الحمام, فكانوا يقدّمونها أضحية لشامال والزهرة.
بموجب الفهرست، إضافة إلى هذه الحيوانات كانت إحدى الشيع الحرّانية، وتدعى بالرفوسيين تضحّي الخنازير لآلهتها مرّة في السنة. وكذلك يقول مايمونيدس إنّ الحرّانيين كانوا يضحّون بفئران الحقل.
وبموجب الفهرست أيضاً كان الحرّانيون يعملون حجباً من أعضاء الحيوانات كالحمار والخنزير والغراب وأصناف حيوانية أخرى, ومن بقايا الحيوانات التي تمّ حرقها لقرابين.
واعتماداً على مصادرنا اعتقد الحرّانيون أيضاً أنّ بعض الحيوانات مقدّسة: الكلاب والغربان والنمل. وكما نفهم من “كتاب الأسرار المقدّسة الخمسة” تذكر هذه الحيوانات في أثناء طقوس التكريس وتوصف كـ “إخوة”.
مارس الحرّانيون تضحية الحيوانات لآلهتهم بطريقتين: إحداهما بذبح الحيوان بقطع الأوردة الوداجية وأنبوب الهواء وهم يتلون اسم الآلهة في وقت الذبح. وبعد الذبح كانوا يراقبون بعناية حركات عينيه وفمه وانتفاضاته، ثمّ يستمدّون دلالة منها باستعمال السحر, سعياً وراء التكهّن عمّا سيحدث. ويقول أبو سعيد وهب:
“إذا كانوا يرغبون في تقديم أضحية كبيرة “كزبروخ” الذي هو ثور أو خروف سكبوا الخمر عليه وهو حيّ, فإذا ارتعش يقولون هذه التقدمة قد قبلت، ولكن إذا لم يرتعش يقولون “الإله غاضب ولن يقبل (الأضحية)”. أمّا في ما يخصّ أكل لحم الضحية، فابن النديم وابن العبري يصرّحان بأنّهم لا يأكلونها بل يحرقونها. ويقول المقدسي إنّهم يأكلون اللحم ولكنّهم يحرقون العظام والشحم. ومايمونيدس أيضاً يقول إنّهم يأكلون لحم الضحية. ولهذا فإنّ التصريحات بأنّهم لا يأكلون لحم الأضاحي مبالغ فيها”.
والطريقة الأخرى في التضحية هي حرق الحيوان وهو حيّ, ويقول أبو سعيد وهب:
“إذا كانوا يرغبون في حرق حيوان كبير, كبقرة أو خروف أو ديك وهو حيّ, يعلّقونه بملزمة وسلاسل ثمّ يعرض جماعة منهم الحيوان من جميع جوانبه للنار حتّى يحترق، هذه هي تقدمتهم الكبرى لجميع الآلهة والآلهات كلّها”.
3) وإلى جانب الأضاحي البشرية والحيوانية كان الحرّانيون معتادين أن يقدّموا تقدمات غير دموية لآلهتهم بين حين وآخر. فمثلاً في أثناء العيد الذي يحتفلون به لشامال و “الإله الذي يجعل السهام تطير” في 27 من حزيران ينصبون مائدة ويضعون عليها سبع حصص لسبعة آلهة كوكبية وشامال، ويقدّمون ثماراً مختلفة ووروداً ونباتات أخرى أيضاً لآلهتهم. وبموجب رواية لأبي سعيد وهب كانوا ينصبون في الرابع من كانون الأوّل قبّة يسمّونها “مخدع بلثا أي الزهرة”، ويعلّقون على رخام المعبد الداخلي أصنافاً متعدّدة من الثمار العطرة مع ورود جافّة والأترج والليمون الصغير.. وأثماراً مشابهة أخرى، سواء كانت جافّة أم طازجة. ومن الواضح أنّ هذه التقدمات كانت للزهرة إلهة الخصاب. وعلاوة على هذا فقد كانوا يقدّمون لهذه الآلهة نباتات مائية أخرى.
وقدّم الحرّانيون أيضاً قرابين محروقة من الأطعمة المختلفة وحلويات وخمراً لآلهتهم. وفي منتصف تشرين الأوّل يطبخون أنواعاً من الأطعمة والحلويات ويحرقونها كلّها في أثناء الليل إكراماً لأسلافهم. وقد يطبخون عظم جمل أيضاً مع هذا الطعام, ثمّ يعطونه للكلاب كي لا تنبح وترعب أرواح أسلافهم. ومع هذه التقدمة قد يقدّمون لها الخمر ويسكبونه على النار. وكانوا يقدّمون الخمر الجديدة للإلهة في أثناء الحصاد في شهر آب.
ونوع آخر من تقدمات الطعام كان الخبز والملح يقدّمونه للإله الكوكبي المريخ, ومن الممكن للزهرة.
وأخيراً فإنّهم كانوا يحرقون البخور تبجيلاً لآلهتهم. ويصرّح أبو سعيد وهب أنّه في يوم ميلاد الإله القمر في 24 كانون الثاني كانوا يأكلون ويشربون ويحرقون الدادي التي هي قضبان من شجر السرو.
(4)
طقوس التكريس
إنّ مصدرنا الرئيسي عن هذه الطقوس هو “كتاب الأسرار المقدّسة الخمسة” الذي استخلصه ابن النديم.
أمّا الهياكل التي كانوا ينجزون فيها التكريس فلدينا منها ثلاثة أسماء في “كتاب الأسرار المقدّسة الخمسة”. يذكر “بيت البغداريين” سبع مرّات ومن الواضح أنّه هيكل لهذه الطقوس. ويذكر المسعودي “مغليطية” الذي من الممكن أن يكون شبيهاً ببيت البغداريين, لأنّ له أروقة تحت الأرض تستعمل كقاعات للتكريس. ويذكر المجريطي “بيت سرّهم” ويصرّح بأنّهم كانوا يأخذون أولادهم الذين ولدوا خارج حرّان إلى هذا المعبد. وقد يكون الهيكل الذي تقام فيه طقوس التكريس.
كانت طقوس التكريس تنجز دوماً في الهيكل تحت إشراف الكهنة. وكما نفهم من مصادرنا, فهذه الطقوس كانت تقام للأولاد فقط. وهذا لم يكن تكريساً ليصبح الولد كاهناً. بل قبول الولد في الإيمان. ولا نعلم ما إذا كان لديهم تكريس لدرجة الكهنوت.
بموجب كتاب الأسرار المقدّسة الخمسة إنّ طقوس التكريس تدوم سبعة أيّام. وفي هذه الأثناء يقصّ الكهنة على المرشّحين اثنتين وعشرين قصّة رمزية أو حكاية في غناء وترتيل. والأولاد يأكلون ويشربون في الهيكل، ولكن، في غضون هذه الأيّام السبعة لا تراهم امرأة. ثمّ يأخذون جرعة من سبع كؤوس وضعت في صفّ, وتدعى الجرعة “يُسُر” وهم يمسحون أعينهم بهذا الشراب. وقبل أن يتكلّموا يطعمهم الكهنة خبزاً وملحاً من هذه الكؤوس، ويأكلون أرغفة وفراريج أيضاً. وفي اليوم السابع يأكلون آخر ما تبقّى منه, ويمارس سرّ مقدّس من الخمر أيضاً في الهيكل.
وبموجب كتاب الأسرار المقدّسة الخمسة هناك خمس مراحل من التكريس كلّ منها له سرّ مقدّس, وفي أثناء الطقس كان المرشّحون يدعون “أبناء البغداريين” والميزات التي لها صفات بارزة لهذه الأسرار المقدّسة والتي يعلّمها الكهنة للأولاد في أثناء تكريسهم هي:
1) توصف دوماً كالتالي: “كالحملان بين الخراف والعجول بين البقرات هكذا هم الشباب فزعين وفارّين”.
2) إلههم يوصف “بالمنتصر”.
3) وتوصف الكلاب والغربان والنمل بـ” الإخوة”.
هناك تشابه بين طقوس الحرّانيين وبين تلك الخاصّة بمذهب ميثرا إذ يقال عن ميثرا “المنتصر” و”الذي لا يقهر”. وكذلك أيضاً الكلاب والغربان هي أسماء مرحلتين في مذهب التكريس لميثرا.
(5)
الأعياد الدينية
عدد من المصادر القروسطية يخبرنا عن أعياد الحرّانيين. وبالإضافة إلى أيّام المهرجانات عندما تأتي فترات الصيام إلى نهايتها، هناك عدد من الأصوام يقع في أيّام ثابتة في السنة. وكثيراً ماكانوا يحتفلون بالأعياد خارج حرّان. وكانت الاحتفالات عموماً تتضمّن تضحيات وتقدمات إلى الآلهة.
بموجب ما يقوله الهاشمي إنّ أوّل عيد في كانون الأوّل هو “عيد مخاطبة تْسَانْ، صنم الزهرة” في اليوم السابع من الشهر ويدوم سبعة أيّام. وفي أثناء هذا العيد كانوا يقومون بالكثير من الأضاحي المذبوحة والمحرقات أمام قبّة تُدعى “مخدع بلثا أي الزهرة”. وكانوا يعلّقون عدداً من الأثمار والنباتات.
ويذكر الهاشمي أيضاً “عيد أصنام المريخ” ويحتفل به في اليوم العاشر من هذا الشهر “عيد العفاريت” في العشرين منه. و”عيد استحضار العفاريت” في الثامن والعشرين منه. “وعيد الفَتا للعفاريت” في التاسع والعشرين منه. والهاشمي يذكر أيضاً “عيد الاستشارة” في الثلاثين من الشهر. وأبو سعيد وهب يصرّح بأنّ الثلاثين من هذا الشهر بداية شهر (رئيس الحمد) ويقول:
“يجلس الكاهن في هذا اليوم على قمّة منصّة عالية بتسع درجات ويأخذ قضيباً من الطرفاء في يده, ثمّ عندما يمرّ موكب الاحتفال بقربه يضرب كلّ واحد منهم بالقضيب ثلاث أو خمس أو تسع مرّات، ثمّ يلقي عليهم موعظة”.
وبعد الموعظة يأكل المتعبّدون والكهنة الأضاحي المذبوحة ويشربون. ومن الواضح أنّ هذا كان عيد التشجيع على اتّحاد الطائفة لأنّ الكاهن في موعظته، يصلّي للشعب كي يعيش ويزداد عدد نسله في المتعة والتفوّق على جميع الأمم وترجع إليهم أيّام سلطانهم وحكمهم. وأن يتدمّر جامع حرّان وكنيسة اليونان.
ويصرّح أبو الفرج الزنجاتي بأنّ الوثنيين الحرّانيين كانوا يحتفلون بعيد الميلاد في الرابع والعشرين من هذا الشهر (كانون الأول) وبموجب رواية الهاشمي كان الحرّانيون يحتفلون بعيد بوم رأس السنة في الأوّل من كانون الثاني, وذلك بموجب التقويم اليوناني
. ويذكر أيضاً عيدين آخرين “عيد دير الجبل” و “عيد الزهرة” في اليوم الرابع من هذا الشهر.
ويذكر الهاشمي عيدين آخرين للحرّانيين: “عيد صنم ترعاثا (اتارغاتس –الزهرة)” الذي يحتفل به في الخامس والعشرين من الشهر, و “عيد قران السنة” في السادس عشر من الشهر. ويشير الهاشمي أيضاً أنّه بموجب اعتقاداتهم إنّ جميع الابتهالات والصيام وأيّام الأعياد في الشهر هي مقدّسة للعفاريت من ناحية أخرى في ما تخصّ شهر العفاريت المقدّس، يذكر أبو سعيد وهب شباط ويصرّح بأنّهم في أثناء هذا الشهر يصلّون لشامال والجنّ والشياطين فقط.
هناك أربعة أعياد في قائمة الهاشمي في شهر شباط: “عيد بيت العريس للشمس” في العاشر منه, و”عيد منطس munts ” للشمس في الثاني والعشرين منه، و”عيد الشـيخ الوقور أي زحل” في الرابع والعشرين منه، و”عيد زواج أيمانا أو (أيمانا)” في الخامس والعشرين منه.
إنّ العيد الذي يقع في نيسان قد يكون عيد الربيع السنوي ومن أصل سامي، لأنّ حرق الحيوانات الحيّة التي يحتفل بها في أثناء فترة المهرجان يجيب عن الاحتفالات التي تقام في هيرابولس في العيد الكبير للإلهة السورية الذي يقام في مستهل الربيع, عندما كانت تعلّق المعزى والخراف وحيوانات أخرى حيّة على المحرقة، فتأتي النيران على الكلّ. وكان في بابل أيضاً في مهرجان رأس السنة (اكيتو) كان يحتفل به كلّ سنة في بداية هذا الشهر في أثناء الاثني عشر يوماً الأولى في الشهر الأوّل، نيسان، على شرف الإله الأعلى. وفي غضون هذا الاحتفال كان تمثال الإله يتقدّمه أوّلاً مركبة ثمّ قارب كبير على النهر. من معبد العاصمة إلى معبد في إحدى الضواحي، هيكل اكيتو. فهذا الخروج أو الرحيل exodus يرمز إلى نزول الإله إلى العالم السفلي، وقطع “نهر الأموات” مثّل بموكب يتكوّن من قارب كبير على أقرب نهر أو جدول ماء.
الظاهر أنّ عيد الخمسة أيّام هذا للحرّانيين لم يكن مهرجاناً لاكيتو، بل كان مهرجاناً للربيع يحتفل به لإلهة الخصاب عشتاروت – الزهرة. أمّا اكيتو فقد كان يحتفل به كإله حامٍ للمدينة، ولكن الزهرة لم تكن أبداً الإلهة الحامية. في الثامن من نيسان كان عموماً يوم كسر أهمّ صوم لديهم, وكان يبدأ في الثامن من آذار. ففي هذا اليوم كانوا يعيّدون للآلهة السبعة, والشياطين والجنّ والأرواح، ويدعو الهاشمي هذا العيد “عيد ميلاد الأرواح” فكانوا يحتفلون به بالأضاحي المحروقة لهذه الإلهة.
بموجب رواية الهاشمي، كان الحرّانيون يحتفلون في الخامس عشر من نيسان “بعيد الأسرار المقدّسة للسماك” ويخبرنا أبو سعيد وهب عن العيد نفسه، ولكنّه يذكره كـ “سرّ شامال المقدّس”. وكانوا يحتفلون بهذا العيد بعبادة الشمس، وذبح الأضاحي، وتقدمة المحروقات، والأكل والشرب.
وتذكر مصادرنا مهرجاناً يحتفل به في العشرين من هذا الشهر في “دير الكادي” وهو معبد قريب لإحدى بوابات حرّان يُعرف “بباب فندق الزيت” حيث كانوا يضحّون الثيران لزحل والمريخ والقمر سين وأضاحي أخرى لشامال إله الشياطين، ولربّ الساعات، والآلهة السبعة.
وبموجب رواية أخرى في الفهرست كان يحتفل بهذا العيد “لصنم الماء” الذي كانوا ينتظرونه في “دير الكادي” فهذا المهرجان كان شبيهاً بعيد اكيتو البابلي الذي يبدو أنّ اسم كادي قد استمدّ منه, ولو أنّ الشعب المحلّي ظنّ أنّ الاسم ورد من كاذا Kadhaكلمة سريانية تعني “إلى هنا”. والعيد مبني على أسطورة قديمة توضح اختفاء القمر بعد اقترانه بالثريا
في أثناء الأسبوع الثالث من آذار. ومع أنّ الشعب تضرّع إلى الإله القمر سين كي يرجع إلى حرّان فإنّه رفض الرجوع وقال “سآتي إلى هنا” وأراد بذلك دير الكادي. وبعد اختفاء القمر بشهر, ذهب المتعبّدون إلى معبده ليرحّبوا برجوع سين ثانية. ويبدو أكيداً أنّ رجوع الإله القمر سين قد أُحيي بطريقة مسرحية بجلب الصنم في مركب كبير على طول القنال، ومن الممكن جدّاً أنّ الصنم أخذ ثانية على طول الشاطئ إلى المعبد بالتراتيل والرقص وطقوس مهيبة مؤثّرة تبعتها الأفراح والقصف الصاخب.
آخر عيد في نيسان كان عيداً في معبد القمر, دير سيني. في الثامن والعشرين من الشهر. أبو سعيد وهب لا يذكر هذا الاسم, ولكنّه يصرّح بأنّه كان معبداً في قرية تدعى سَبتا، ولكنّه يبدي ملاحظة أيضاً أنّهم كانوا يحتفلون به بتقدمات مختلفة من الأضاحي لهرميس. والآلهة السبعة، وشامال، وربّ الساعات.
بموجب رواية الهاشمي كان الحرّانيون يحتفلون في اليوم الثاني من أيّار بعيد سالوغا, أمير الشياطين. وسالوغا كما ذكرنا سابقاً، هو شامال نفسه تخميناً. وشامال هو زعيم وإله الجنّ والشياطين في رواية أبو سعيد وهب. ويذكر أبو سعيد وهب أيضاً عيد الإله ابن السلم في اليوم نفسه.
ويصرّح الهاشمي أنّه في اليوم العشرين من أيّار كانوا يحتفلون بعيد تراعوز. وربّما يشير تراعوز إلى الإله البابلي الشهير تمّوز. ويقول الهاشمي إنّ ذكراه مع المراثي والنواح كان في اليوم السابع من حزيران، ولكن بموجب رواية أبي سعيد وهب كانت تقام في منتصف تمّوز تحت اسم “عيد النكبات”. ومايمونيدس أيضاً يذكر هذه الذكرى لتمّوز ويقول إنّها كانت تقام في الأوّل من شهر تمّوز.
ويصرّح أبو سعيد وهب أنّ النسوة ينحنَ في هذا اليوم على هذا الإله لأنّ سيّده قتله وطحن عظامه تحت حجر الرحى وذراها في الريح, ولذلك لا تأكل النساء شيئاً مطحوناً بحجر الرحى، بل يفضّلنَ القمح المنقوع، والحمّص، والتمر والزبيب وأشياء مشابهة. ومايمونيدس أيضاً يخبرنا بقصّة مشابهة قائلاً: “يحكى أنّ شخصاً من بين أنبياء الأصنام, اسمه تمّوز، طلب من الملك أن يعبد الكواكب السبعة وعلامات البروج الاثني عشر ولذلك قتله الملك بشكل بغيض”.
ويسجّل الهاشمي أيضاً أعيادهم في حزيران “عيد القرموز ( القرفصاء)، ثني الركب” في الرابع والعشرين منه, و”عيد البيت القصاب” في السابع والعشرين منه. ويذكر أبو سعيد وهب أيضاً عيداً نحتفل به باحتفال سحري للآلهة السبعة وشامال في السابع والعشرين منه. وبموجب هذه الرواية كانوا ينصبون مائدة في هذا اليوم ويضعون عليها سبع حصص لهذه الآلهة، ثمّ يأتي الكاهن بقوس ويشدّه ويثبّت عليه سهماً على رأسه جمرة نار فتكون على رأسه لهيب يشتعل من خشب ينبت في منطقة حرّان, وعليه قطعة قماش يشتعل فيها اللهيب كشمعة ثمّ يطلق الكاهن اثني عشر سهماً، ثمّ يمشي الكاهن على أربع، كالكلب, أي على يديه ورجليه حتّى يأتي بالسهام. إنّه يقوم بهذا العمل خمس عشرة مرّة, ثمّ يتكهّن، أي إنّه إذا كانت الجمرة مطفأة, يكون العيد في رأيه غير مقبول، أمّا إذا لم تكن مطفأة، فعندئذٍ يكون العيد مقبولاً.
يسجّل الهاشمي أعيادهم الأربعة في شهر تمّوز “عيد الشباب” في الخامس عشر، و”عيد زواج العناصر” في السابع عشر، “عيد العناصر” في الثامن عشر, و”عيد العناصر” في التاسع عشر. هذه الأعياد الثلاثة الأخيرة هي من الواضح المهرجان نفسه الذي كان يحتفل به للعناصر، التي قد تكون العناصر الأوّلية للحرّانيين، أي العقل الأوّل والروح، ونظام الكون، والشكل والضرورة. أبو سعيد وهب أيضاً يذكر مهرجاناً للجنّ والشياطين والآلهة في اليوم السابع عشر من هذا الشهر. وكانوا يحتفلون به بتقدمات متنوّعة لهامان، زعيم ووالد الآلهة ولنمريا. بموجب رواية وهب كان الحرّانيون يحتفلون في أثناء أيّام ثمانية من شهر آب بعيد قطف الأثمار وعصر الخمر الجديد بأرجلهم للآلهة ويضحّون بطفل وليد جديد.
واضح أنّ هذا كان عيد الحصاد الزراعي السامي. وكان البابليون يحتفلون بمهرجان عظيم لإلهة الخصب عشتاروت – الزهرة. وكان يكرّم في الشهر التالي. والإسرائيليون أيضاً احتفلوا بـ “عيد الحصاد” أو “عيد الأسابيع” في الشهر الثالث. وفي غضون سفرة الحجّ هذه كانت تقدّم أولى أثمار القطاف.
ويذكر الهاشمي أيضاً “عيد الاستحمام في حمّامات سروج” التي كانت تبتدئ في الرابع والعشرين من آب وتنتهي في الثلاثين. وعلاوة على هذا فقد كانوا يحتفلون بـ “عيد كيفار ميسا”.
بموجب أبي سعيد وهب كان الحرّانيون يقيمون عيداً ويحتفلون باحتفال سحري في ثلاثة أيّام من أيلول والتي ربّما كانت الأيّام الثلاثة الأولى منه, وكانوا في هذا الوقت يسخّنون الماء ويلقون فيه موادّ كالطرفاء والشمع، والصنوبر والزيتون، وقصب السكر، يضعون كلّ هذه الموادّ في الماء حتّى يغلي، وقبل شروق الشمس كانوا يستحمّون فيه كالسحرة، وكانوا يقدّمون الأضاحي الحيوانية أيضاً لآلهتهم السبعة ولشامال.
بموجب رواية الهاشمي كانوا يحتفلون في الخامس والعشرين “بعيد الشمعة على تلّ حرّان”. وأبو سعيد وهب أيضاً يذكر هذا العيد ولكنّه يعطيه تاريخ السادس والعشرين منه. ويصرّح أنّهم في ذلك اليوم كانوا يذهبون إلى الجبل ويراقبون الوجهة المعاكسة للشمس وزحل والزهرة وفي هذا اليوم أيضاً كانوا يحرقون الفراريج لربّ الحظّ الحسن. وفي رواية أبي سعيد وهب كانوا يحتفلون بمهرجان لشامال والشياطين والجنّ بتقدمات مختلفة من المحرقات والذبائح في السابع والعشرين والثامن والعشرين من الشهر.
ويصرّح البيروني: إضافة إلى هذه الأعياد كانوا في السابع عشر من كلّ شهر يحتفلون بعيد. وسببه بداية الطوفان في السابع عشر من الشهر. علاوة على أنّ أيّام الاعتدال والانقلاب الشمسي هي أيّام مهرجانات. ويبدي أبو سعيد وهب ملاحظة ويقول: في السابع والعشرين من كلّ شهر قمري يخرجون إلى معبدهم المعروف بدير الكادي ويذبحون ويحرقون مختلف التقدمات لسين الإله القمر.
نستطيع أن نلخّص المميزات البارزة في طقوس الحرّانيين تحت ثلاث نقاط:
- نلاحظ في طقوسهم ثلاثة أنواع من التأثيرات، أهمّها التأثير الآشوري البابلي الذي يظهر في عدد من الأعياد والأضاحي. وكمثال على ذلك الاحتفالات والأعياد السحرية كالاحتفال الشبيه باكيتو, وإحياء ذكرى تمّوز تظهر التأثير بوضوح. وكذلك فإنّ التأثير اليهودي هامّ أيضاً لأنّ هناك تشابهاً بين العديد من أضاحي الحرّانيين وأضاحي اليهود وعلاوة على هذا، إنّنا نجد تأثيراً إيرانياً لوجود شبه بين بعض الطقوس كالتكريس وشبيهه في مذهب ميثرا.
- الاحتفالات السحرية هي إحدى أهمّ المميّزات في طقوسهم، ويبدو أنّ للسحرصلة بالشياطين والجنّ وزعيمهم شامال بنوع خاصّ. وكان الكهنة، في أثناء الأعياد يحاولون أن يجعلوا الأعياد مقبولة بقيامهم بأعمال سحرية. ولكنّهم لم يكونوا يمارسونه لأنّ له صلة بالعيد فقط, بل كانوا يمارسونه في كلّ مناسبة أيضاً. وعندما كانوا يذبحون أويحرقون حيواناً كانوا يراقبون حركات عينيه وأعضائه وبهذه الطريقة كانوا يخمّنون ما قد يحدث في السنة القادمة.
- وأخيراً كانت عبادة الأصنام أهمّ ميزة في احتفالاتهم، لأنّ جميع طقوسهم كانت تمارس للأصنام التي ترمز لآلهتهم – وأغلبها كالأضاحي والتقدمات كانت تنجز أمام الأصنام.
(6)
أنظمة الحرّانيين الدينية
كان للحرّانيين في القرون الوسطى أنظمة كثيرة عن الأكل والشرب والتلوّث والنجاسة والزواج.
(أ)
الأكل والشرب
كان ذبح بعض الحيوانات وأكلها أمراً غير شرعي. وكان من بين أهمّها الجمل. وكذلك فقد منعوا أكل جميع الحيوانات التي لها أسنان في فكّيها، العلوي والسفلي، كالخنازير والكلاب والحمير.
هناك تشابه ظاهر بين هذه المحظورات (التابو) والتحذيرات المذكورة في سفر اللاويين (في التوراة) لليهود. لأنّ اليهود أيضاً كانوا ممنوعين من أكل لحم الجمل والخنـزير. بموجب رواية البيروني إنّ بعضهم لم يأكل السمك والفروج أيضاً. وعلاوة على هذا فإنّهم من بين الطيور كانوا ممنوعين من أكل الحمام وطيور أخرى مشابهة لها براثن.
وكذلك فإنّهم لم يأكلوا أيّة ذبيحة لم تذبح ذبحاً، أي أكل أيّ حيوان مات من مرض أو بطريق الصدفة بحادث ولم يذبح. علاوة على هذا فقد كانوا ممنوعين بصورة عامّة من أكل الدم (ولو أنّ بعضهم كانوا يأكلونه)، إذ كانوا يعتبرون ذلك طعام الشياطين. ولهذا فإنّ كلّ من كان يأكله كان يعتبر أخاً للجنّ. فكانوا يأتون إليه ليكشف أحداث المستقبل.
وكان أكل بعض الخضراوات أيضاً غير مشروع. فمنعوا من أكل الثوم لأنّه في رأيهم يسبّب وجع الرأس ويحرق الدم المنوي الذي يتوقّف عليه وجود العالم. وكذلك البازلاء كانت ممنوعة لأنّهم ظنّوا أنّها تخبل وتعرّض الذهن للخطر، وهي في الأصل تنبت في جمجمة إنسان. وعلاوة على هذا فإنّ بعضهم منعوا من أكل بعض الخضار الأخرى, كالفول والفاصولياء الخضراء والقرنبيط والملفوف والبصل والعدس.
(ب)
التلوّث والنجاسة
اعتبر الحرّانيون بعض المناسبات مسبّبة التلوث والنجاسة ومن ضمنها لمس جثّة ميت والجماع الجنسي، ولمس امرأة وهي طامث، فكانت تورط الفاعل بنجاسة خطيرة. والطمث في حدّ ذاته كان يعتبر أيضاً سبب النجاسة للمرأة.
من الواضح أنّ معظم هذه الأنظمة بخصوص النجاسة لها صلة وثيقة بالتقليد العبري. فالنجاسة التي تسبّبها ملامسة جثّة ميت معروفة بين العبرانيين، وحسب ما يقولون إنّ ملامسة جثّة حيوان تسبّب النجاسة حتّى المساء. وكانت الجثّة البشرية تعتبر لديهم نجسة للغاية. وكذلك عدم الطهارة التي يسبّبها كلّ من الحيض وملامسة المرأة وهي حائض معروفة بين العبرانيين.
بموجب أنظمة الحرّانيين هناك طريقتان لإزالة النجاسة: إحداهما أن تستحمّ، وكانوا ينجزون هذا بعد الجماع الجنسي، وملامسة الميت والحيض. وكلّ مَن يلامس امرأة حائض عليه أن يستعمل النطرون وقت الغسل. ويبدو أنّه يجب غسل الجسم كلّه. وبموجب المعلومات التي يعطينا إيّاها كتاب الفهرست تغسل النجاسة بتغيير الثياب أيضاً لأنّ كلّ مَن يلامس امرأة طامثاً يتطلّب منه تغيير الثياب. فكانت هاتان الطريقتان لإزالة النجاسة – من المحتمل – تنجزان معاً: أي إنّهم كانوا يغتسلون أوّلاً ثمّ يستبدلون ثيابهم.
كانت النسوة، في حقيقة الأمر، يُعتبرنَ لدى الحرّانيين غير طاهرات، وغير مؤهّلات ليأخذنَ دَوراً في أهمّ أسرارهم المقدّسة في مذهبهم, هكذا أيضاً في الأيّام السبعة الخاصّة باحتفال التكريس كان على النسوة ألاّ يرينَ الأولاد بتاتاً، وإذا رأينَهم فيعتبر هذا نجاسة للأولاد.
وكانوا يعتبرون أنّ كلّ ما يفصل من الجسم كالشعر والأظافر والدم غير طاهر أيضاً, لذا كان كلّ حلاّق في رأيهم نجساً لأنّه لامس الدم والشعر.
وكانوا يتجنّبون كلّ امرئ له بياض في البشرة ومرض الجذام وأيّ مرض معد, لأنّ جميع هذه الأمراض كانت تعتبر نجسة. وفي رأيهم كان مرض الجذام بنوع خاصّ أكثرها نجاسة ومثالاً على ذلك إبراهيم الذي ترك طائفتهم لمرض الجذام الذي ظهر على غرلته. وكلّ من عانى من هذا المرض كان يعتبر غير طاهر ويعزل عن المجتمع كلّه.
هذا النظام أيضاً كانت له صلة وثيقة بالتقليد العبري لأنهّ بموجب هذا التقليد كان المريض بالجذام يعزل عن الطائفة وكان ينظر إليه لا على أنّه نجس وحسب, بل مصدركلّ نجاسة لجيرانه. وأخيراً فإنّهم كانوا يتجنّبون الختان، ولا يفعلون شيئاً ليغيّروا ما فعلته الطبيعة.
(ج)
الزواج
يتزوّج الحرّانيون أمام شهود، وكان التزوّج من قريب ممنوعاً, ولا يستطيع الرجل طلاق زوجته إلاّ إذا كان هناك دليل واضح على الزنى. ولا يستطيع التزوّج من مطلّقته. ولا يسمحون بتعدّد الزوجات. وبموجب ما يعتقدون يتّصل الزوج بزوجته جنسياً للإنجاب فقط, لكي يحصل على طفل. والنساء متساويات مع الرجال باتّباع قوانين دينهم. أمّا في الميراث فيرثنَ حصّة كالذكور تماماً.
مقارنة بين الماندية
والدين الحرّاني
-1-
بعض الميّزات البارزة في الدين الحرّاني لا تظهر في الدين الماندي
مذهب سين الحرّاني
كان مذهب سين، الإله القمر, المذهب المركزي في الدين الحرّاني منذ أقدم الأوقات وحتّى هدم آخر هيكل وثني في حرّان. وفي قديم الزمان كانت مدينة حرّان هامّة، ربّما بسبب هذا المذهب أكثر من موقعها الاستراتيجي وبكونها محطّة هامّة على الطريق التجاري بين الشرق والغرب.
بموجب ما يقوله العالم ليوي H.Lewy لم يكن المتعبّدون للقمر المزارعين الذين حرثوا الأرض, بل كانوا الآراميين والآراميين البدائيين الرحل الذين كانوا يتجوّلون في الصحراء السورية العربية وكان الإله القمر يعتبر في ما بين النهرين القديم أقدم الكواكب, يتقدّم الشمس كما يتقدّم الليل والنهار، وكان القمر والد الشمس الإله ووالد عشتاروت، وهكذا استحقّ الأولوية لعمره ومركزه العائلي.
إنّ الاسم سين, الإله القمر, هو تخميناً، مستعار من اللغة السومرية. وكان يُدعى في السومرية انزو “ربّ المعرفة” الذي قد يكون الاسم سين مستمدّاً منه. أمّا الشكل السامي لاسمه فهو “نانار المضيء المنير” وفي رأي جاسترو Jasterwo أنّ هذا دليل واضح، علماً بأنّه له علاقة مميّزة بمذهب حرّان. وكان الإله القمر يعبد في الغرب أيضاً. أي في أوغاريت باسم يَرْحْ.
قبل أن نتفحّص مذهب سين في حرّان سنلقي نظرة خاطفة على مذهب القمر في ما بين النهرين القديم. في أثناء الحكم السومري كان سين يبجّل غالباً مع زوجته نينغال، السيّدة العظيمة، في أور، المركز الشهير للسلالة السومرية. وفي التراتيل القديمة في أور, حيث كان يعبد في الأصل كأعلى الآلهة، كان الإله القمر يُدعى “ملك” و”والد الآلهة” مثل آنو، ويُدعى أيضاً “الابن البكر لإنليل” الذي هو كونياً إله السماء والأرض. وعلاوة على هذا فإنّ الإله ممثّل على المسلّة الشهيرة المعروفة – اورنمو, مؤسّس السلالة الثالثة في أور (2112-2095 ق.م) وهو جالس على العرش والعصا والصولجان في يده اليمنى، ونينغال جالسة إلى يمينه والملك أمامهما، فالعصا والصولجان هما شارة السُلطة التي يمنحها الإله الملك. وفي الميثولوجيا السومرية أيضاً يجوب سين الإله القمر، السماوات ويأتي بالنُور إليها.
كانت هناك في العصر الآشوري البابلي مدينتان، أور وحرّان وهما مركزان هامّان كمذهب القمر بصورة خاصّة. وفي الأزمان القديمة كانت أور أكثر أهميّة من الأخرى. كما نراه في التسمية الشائعة لهذا المركز “مدينة نانار” من ناحية أخرى، كان الإله القمر يعتبر الربّ السامي والمالك، ليس بلاد حرّان وأور وحسب، بل المقاطعات الشاسعة الموصوفة بالاصطلاح الجغرافي بأمورو.
في زمن السلالة الأمورية البابلية الأولى كان الإله شهيراً عالمياً. وكانت سلالة لارسا مخلصة بنوع خاصّ لسين في أور. وكانت شقيقة أمّ سين قد خدمت ككاهنة للإلهة نينغال. وكان الحاكم الذي عيّنه آشوربانبيال على الأراضي والبحر قد أعاد بناء هيكل في إي – عيش- شير – غال, هيكل سين العظيم في أور, وهكذا أيضاً في زمن نابونائيد (555-539 ق.م) كان الإله القمر يبجّل عالياً في كلّ أرجاء بابل، وكما نعلم من الكتابات المنقوشة على أسطوانة نابونائيد أنّه أعاد بناء إيغيبار وهو كرسي قديم للكهانة وكان يتّصل بـ إي-غيش-شير- غال.
كانت هناك روابط وثيقة بين سين الإله القمر الذي يوصف بأنّه “الإله ذو الجلال الذي كلمته ثابتة” في أحد الأوصاف التي يصفه بها نابونائيد، وبين الرتبة الملكية في ما بين النهرين القديم. فالظهر الطبيعي للهلال يشبه تاجاً للملكة ولذلك يُدعى سين “ربّ التاج” في ملحمة الخليقة البابلية اينوماإليش. وتنصّ شريعة حمورابي بأنّ سين سيجرّد المعتدي على قوانين حمورابي من “تاج العرش الملكي”، وحمورابي نفسه يُدعى “بذرة الملكية التي خلقها الإله سين”, وفي أنشودة لحمو رابي, نقرأ بداية: “عيّن سين الأولوية لك”. وكذلك فإنّ عدداً من الأسماء الشخصية من أشور مثل سينشاراديف، “سين خلق الملك” وسيناشارايشكون، “ثبت سين الملك” وسينشار أوسور, “سين يحمي الملك” تبرهن على أنّه في ذلك العصر كان سين الإله القمر يعتبر إلهاً له سُلطة عظيمة على الملوك في أشور.
كان سين الإله القمر في البانثيون الآشوري البابلي – ويُدعى نانار أيضاً –على قمّة البانثيون, ويعتبر زعيم ووالد الآلهة، وكثيراً ما كان يُدعى في التراتيل “والد الآلهة”. أمّا ألقابه الأكادية فكانت “إله الآلهة” و”ربّ الآلهة”. علاوة على ذلك الأسماء الشخصية الآشورية مثل سين اشاريد “سين هو الأوّل في المكان”، وسين كابتي يلاني “سين هو أقوى الآلهة” وسينشار إيلاني “سين هو ملك الآلهة” تظهر بوضوح أنّه كان أعلى الآلهة في البانثيون.
وما عدا هذه الميزات كما نرى من الأسماء الشخصية والكتابات المنقوشة كان الإله القمر يعتبر الطبيب والخالق وحارس البشرية.
كان الإله القمر في أور يمثّل في شكلين: يصوّر على الأختام الأسطوانية كرجل مسنّ بلحية منسابة توصف في التآليف الشعرية. بأنّها من اللازورد – السماوية الزرقاء – ولباس رأسه يتكوّن من قبعة عليها قرنا الهلال يبدوان واضحين بصورة عامّة
. ثانياً، كان يمثّل بثور، ويستشهد بصلاة إلى الإله القمر في أور يتضرّع إليه (المصلّي) بصفته حامي المدينة وهيكلها الرئيسي، ويثني عليه كـ “ثور يافع مشاكس بقرنين ثخينين, وأطراف وصلت حدّ الكمال ولحية من اللازورد”. من ناحية أخرى لدينا اكتشاف قطعة أثرية قديمة من الظاهر أنّها تقرن بهذا الوصف من مظهر سين: شكل ثور يافع رأسه مصنوع من صفيحة رقيقة من الذهب مطروقة على كتلة خشبية، في حين تتكوّن اللحية من قطعة صغيرة من اللازورد المنقوش. وهذه القطعة الأثرية أخذت من “القبر الملكي” وهو أحد أقدم القبور الخاصّة بما يُدعى بالمقبرة الملكية. وكذلك أيضاً في جنوب شبه الجزيرة العربية كان الإله يمثّل كثور.
ما عدا مذهبه في أور فقد كان مركز عبادة الإله القمر في الشمال الغربي في حرّان، واقترح جاسترو فيما يخصّ أصل مذهب القمر في حرّان، أنّه نقل من أور إلى حرّان, ولكنّ سميث صرّح أنّ المذهب في حرّان كان قديماً. وربما أقدم من كل مذهب آخر في بابل و أشور لأنّه منذ القرون الأولى من الألف الثالث ق.م. وربّما من أقدم الأزمان، كانت مدينة حرّان مركز عبادة القمر, ففي زمن زمريليم في ماري (القرن الثامن عشر ق.م.) كان هناك للمدينة معبد سين.
وكما في أور كان سين أكثر الآلهة شيوعاً في حرّان أثناء العصر الآشوري البابلي. وكما نرى من الأسماء الشخصية من منطقة حرّان في ذلك الوقت كان العديد من سكّان المنطقة يلحقون بأسمائهم (سين) أو (سي).
لدينا أسماء كثيرة كسي يا بابا وسي إحدى أو سي اكابا وسي ديكير. فسمّي هنا هي بالتأكيد سين الذي كانت عبادته بارزة في حرّان.
فمنذ الألف الثاني ق. م. كان سين حرّان يؤتى على ذكره في المعاهدات في منطقة واسعة, ففي رسالة منذ زمن امريليم ملك ماري (1777-1746 ق.م) يأتي ذكره في معاهدة انجزتها قبيلة بنو ايامينا مع ملوك صغار لولايات مجاورة في هيكل سين الحرّاني. هناك بيّنة لاحقة أيضاً على أنّ سين حرّان كان يعتبر ضامنا مناسبا للمعاهدات السياسية. ففي معاهدة بين شوبيلوليو ما ملك هاني (حوالي 1385-1345 ق.م) وشاتيوازا الميثاني كان سين وشاماش الحرّانيان يستذكران. وفي نحو منتصف القرن الثامن يستدعى الإله سين “الإله الذي يسكن في حرّان ” لكي يصادق على معاهدة اشورنيراري السادس مع مَتايل الاريادي.
كان سين يعبد بصورة واسعة كـ “ربّ حرّان” في الألف الاول ق.م. فكتابة منقوشة بالآرامية على بلاطة من زنجرلي في شمال سوريا والتي يمكن أن تؤرخ نحو سنة 730 ق.م تذكر بعل حرّان مشيرة إلى سين الحرّاني. “ربي هو بعل حرّان ” انا بارراكاب بن ينامو
“. وكذلك فإنّ سين أيضاً يوجد في الأسماء الشخصية الآشورية ويذكر بعد هذا في مقاطعة السليمانية. ويذكر أيضاً في النصوص إلهيروغليفية الحثية في الألف الأول ق.م.
إنّ اسم هيكل سين الشهير في حرّان كان إي حُل حُل (ترجمة أكادية: شباط حيداتي ) “بيت الفرح” رغم أنّنا لا نعرف من بنى هذا الهيكل، وليس لدينا أيّ معلومات عنه, فإنّه قد يرجع إلى عهد بابلي قديم.
عن الملوك الآشوريين نعلم أنّ شلمانصر الثالث (859-824 ق.م) أعاد ترميم هيكل الإله القمر المحلي إي حُل حُل، واعترف بسين الحرّاني كأحد الكهنة. وسرجون الثاني أيضاً (721-705 ق.م) واشور بانيبال (668-626 ق.م ) اشتغلا في إي حُل حُل، واخذ اشور بانيبال على عاتقه ترميمات واسعة لهذا الهيكل، كما أنّه نصب شقيقه الأصغر، أشور –أيتل –شامي-ارسيتي- اوباليتسو ككاهن أعلى لخدمة سين في حرّان. وبعد إعادة بناء إي حُل حُل بصورة باكرة والذي تزامن مع سنة امتلائه العرش فإنّه جّمل بيت اكيتي أيضاً، ويصرّح في تقرير آخر أنّه بنى معبداً آخر لسين أسماه (اوزومو), وهيكلاً آخر لنوسكو دعاه (أي ميلامنا). يبدو أنّ كليهما لم يكونا موجودين من قبل إي حُل حُل، الذي قد دمره الجيش السكيثي البابلي عندما احتل حرّان. وكان قد أعاد بناءه نابونائيد الذي كانت أمّه نذيرة وكاهنة للإله القمر طيلة حياتها. كان هذا في السنة الثالثة لملكه (553-552 ق.م) بعد أن حلم حلمه الشهير كما يتضح من أحدى كتاباته المنقوشة الحرّانية :
“في فصل (الصيف) جعلني (سين) أن أشاهد حلماً (قائلا) هكذا: إي حُل حُل وهيكل سين الذي هو في حرّان قم ببنائه (وضع في الحسبان) (seeing that ) إنّ جميع الأراضي,كلّها قد وضعت بين يديك.”
كانت أهمّ ميزة بارزة في أثناء الفترة الآشورية البابلية لسين الحرّاني علاقته الوثيقة بأحكام البشريين. فكلّ من إسارحدون الذي كان عابداً مخلصاً لسين، وخليفته أشور بانيبال، توجه في بداية حكمه إلى حرّان كي يتسلّم العمامة الملكية من “سين الذي يسكن في حرّان ” بموجب الكتابات المنقوشة الحرّانية، فقد دعا سين نابونائيد أيضاً إلى الرتبة الملكية، كما تصرّح به هذه النصوص مرات عديدة
رغم أنّ سين في أوركان يصور إمّا في هيئة رجل بلحية لازوردية وهلال كلباس لرأسه, أو ثور يافع بقرنين, فقد كان شعارسين في حرّان في الأزمان الآشورية البابلية هلالًا, إنّ أحد الشعارات الإلهية الثلاثة على مسلّة حرّان ( H2. Aand H2.B ) من زمن نابونائيد هو دائرة كاملة وهلال تحتها تشير بوضوح إلى الإله القمر. أمّا الأشياء الأخرى فهي قرص في داخله نموذج من أربعة نقاط و”أشعة منتشرة بينها تشير إلى الشمس ونجم من سبع نقاط في دائرة تشير إلى عشتاروت –الزهرة. هناك أيضاً عمود على قمّته هلال وقرص بين قرني الهلال يمثّل إمّا القمر وضياءه الأرضي أو القمر بجميع مراحله، وجد في اساعي ياريمكا على نحو أربعة أميال من حرّان القديمة. هذا الرمز نفسه وجد في بيت كاهنة للإله سين في سلطانتيب, وهذا تل على الطريق بين حرّان والرها القديمة, والذي قد يعود تاريخه إلى النصف الأخير من القرن السابع ق.م. وعلاوة على هذا هناك شعار مشابه مصوّر على النقش البارز على عرش الملك بارريكوب من زنجرلي، الذي من الواضح، يعرف الشعار: الهلال والقرص بأنّهما ربّ حرّان.
وفي أثناء العصر الروماني كان لا يزال سين الإله القمر على رأس البانثيون الحرّاني, وكان مذهبه أهمّ مذهب بين الحرّانيين.
كانت النقود المعدنية الرومانية في حرّان من ماركوس اوريليوس (161-180 م) إلى غورديان الثالث (238-243 م) تنقش عموماً بشعار الإله القمر, وهلال قرناه إلى الأعلى، موضوع على الكرة الأرضية, وكان الهلال يمثل عادة مع نجم واحد, ولكنّنا نرى بين فقرة وأخرى نجمين، لا بد انّهما يشيران إلى الشمس والزهرة، فنحصل بهذا على ثالوث، سين والشمس وعشتاروت، من ناحية أخرى فإنّ النقود المعدنية تظهر بضع مرات النصف الأعلى من تمثال إلهة المدينة التي قد تكون نينغال قرينة الإله القمر سين، لأنّ نصفها الأعلى يظهر على قطعتين معدنيتين (رأساً يلبس تاجاً بأبراج ) (وهلالاً قرنيه إلى الأعلى ) وهما يظهران معاً.
إنّ الكتابات المنقوشة والصور الحجرية النافرة في خربةسوماتار من القرن الثاني الميلادي تبرهن على أنّه في ذلك العصر كان مذهب سين في حرّان منتشراً ليس في مدينة حرّان وحسب بل في جميع المنطقة. فخربة سوماتار هي على جبال التكتك، وهي هضبة وعرة على شرقي سهل حرّان، 40-50 كيلو متراً شمال شرقي حرّان. ففي سوماتار توجد أطلال منتصبة في شبه قوس على رابية إلى شمال وغرب جبل مركزي وحوله مغاور. ونتيجة للدراسات على هذا الموقع وجد عدد من الكتابات المنقوشة وبعض الصور الحجرية النافرة. زار المكان أولاً العالم بوغنون Pognon في بداية القرن وسجل بعض الكتابات والصور النافرة في كهف. وبعد ان صرف ج.ب. سيغال في سنة 1952 بعض الوقت في سوماتار اكتشف سلسلة كاملة من الكتابات السرّيانية المنقوشة على صخرة ملساء على الجبل المركزي. وأخيراً نشر دريجيفرز H.w. Drijvers بعض الكتابات المنقوشة والصور الحجرية النافرة الإضافية من سوماتار في سنة 1973. وقد أعاد دريجيفرز أيضاً ونشر معظم الكتابات المنقوشة في سوماتار التي كان قد نشرها من قبل بوغنون وسيغال ولكن بدون ترجمة في كتابه “كتابات سريانية (رهاوية) منقوشة قديمة”.
تبرهن الكتابات المنقوشة في سوماتار على أنّ هذا الموقع كان مركزاً دينياً هاماً في أثناء القرن الثاني الميلادي لأنّ التاريخ بموجب السنة السلوقية 476 (=4-165م). تظهر عدّة مرات في النصوص علاوة على هذا فقد وجد دريجيفرز كتابة آرامية من ثلاثة أسطر مع كتابة يونانية منقوشة قد يعود تاريخها إلى النصف الثاني من القرن الرابع ق.م ويفترض أنّ في ذلك الوقت كانت سوماتار مأهولة، وأنّها لعدّة قرون كانت مركزاً وثنياً هاماً.
للكتابات المنقوشة في سوماتار مضمون ديني بصورة عامّة. وإنّ الإله الفائق في سوماتار والذي يأتي في النصوص هو سين، الإله القمر في حرّان. فالكتابة المنقوشة على الجانب الأيسر من تمثال رجل على المنحنى الشمالي للجبل المركزي في سوماتار تذكر “سين الإله” وتنص بأنّ التمثال النصفي هو صنم سين وكتابة أخرى على الجانب الأيمن لتمثال كامل لرجل تذكر “الإله” إشارة إلى سين وتعطي التاريخ 476 (4-165م) وكذلك “سين الإله” يذكر في كتابة أخرى في سوماتار على الجانب الأيسر من صدر تمثال في صورة حجرية نافرة على الجانب الشمالي من الجبل المركزي. علاوة على هذا إنّ اصطلاح “الإله” الذي من المحتمل يشير إل أنّهى سين يأتي ذكره في كتابة أخرى في خربة سوماتار.
ويذكر مارإلاها أيضاً عدّة مرات في الكتابات السرّيانية المنقوشة في سوماتار، ويبدو أنّ مارإلاها “ربّ الآلهة” هو من الظاهر لقب إله. فسيغال الذي يفضّل قراءة الاسم “الربّ الإله” يميل إلى تعريفه ببعل شامين في تدمر، ولو ببعض التردّد. ويقترح أيضاً أنّ قمر شباط الجديد، اليوم الذي دشّن فيه التلّ المركزي لا بدّ أنّه كان يوم الاحتفال، وأنّ شعاره ومذهبه كانا عموداً على مقعد بدون ذراعين ولا ظهر.
من ناحية أخرى هناك صلة وثيقة بين مذهب الإله مارالاها في سوماتار ومذهب سين في حرّان القريبة. وكان سين، كما ذكرنا، الإله الذي يعبد في سوماتار وحرّان وفي كتابة نابونائيد المنقوشة في حرّان القديمة و يُدعى سين شارايلأنّي ملك الإلهة وبيل ايلاني ” ربّ الآلهة”. وفي غضون القرون الوسطى كان الحرّانيون الوثنيون يستعملون ألقاب إله الآلهة وربّ الآلهة لسين الإله القمر. لذلك فإنّه واضح كما صرّح دريجفرز, أنّ هذه التسمية ترجمتها في السريانية مار إلاهي “ربّ الإلهة” وهذا اللقب يحمله سين أيضاً على النقود المعدنية من مدينة الحفر. ويبدو أنّه من المعقول أن يعرف سين بمار الاهي ومركزه كراس الإلهة في بانثيون سوماتار، وفي حرّان كان يشدّد هكذا.
ونتيجة لهذا فإنّه بإمكاننا أن نفترض أنّ الكتابات المنقوشة في خربة سوماتار تشير إلى الإله نفسه, أي إلى سين الإله القمر, في حرّان الذي يُدعى “سين الإله” و”ربّ الآلهة” أو ببساطة “الآلهة “.
إضافة إلىهذه الكتابات المنقوشة، توجد في “كهف بوغنون ” في سوماتار أعمدة عليها قرون على جانبي كرة في جدار المغارة الخلفي والتي تبدو واضحة أنّها رمز لسين.
أمّا أطلال العمارات في سوماتار، فقد عرّفها مرّة سيغال مع كهوفها التي تحتها بالهياكل الكوكبية حول التلّة المركزية، وهي مبنية على التقارير عن صابئة حرّان من قبل مؤلّفين إسلاميين في القرون الوسطى. وخاصّة المسعودي الذي يعطي وصفاً عن الهياكل الحرّانية المختلفة، مكرّسة لمختلف الكواكب ولعناصر أولية معينة. ولهذا فقد اقترح سيغال أنّ المذهب في سوماتار هو مذهب كوكبي، كمذهب حرّان بعد سبعة أو ثمّانية قرون. إنَّ اقتراح سيغال ممكن انتقاده من ثلاث نقاط في الرأي. أولاً إنّ جميع هذه العمارات في سوماتار هي كما قال دريجفرز، قبور بصورة واضحة. ثانياً، إنّ الكتابات المنقوشة في سوماتار تشير فقط إلى مذهب سين. أمّا المذهب الكوكبي كذاك الذي في زمن الحرّانيين في القرون الوسطى، فلا يأتي ذكره في هذه الكتابات. وأخيراً إنّ روايات المسعودي وعلماء مسلمين آخرين تهتمّ بالحرّانيين القروسطيين فقط وليس بسوماتار. ولذلك ليس هناك أيّة علاقة بين هذه الروايات وبين العمارات في سوماتار التي تنتمي إلى القرن الثاني الميلادي. إذن المذهب في سوماتار لم يكن مذهباً كوكبياً. بل مبدئياً المذهب المحلّي لسين الإله القمر، لحرّان القريبة وله علاقة بالوظائف المدنية والعسكرية في تلك المنطقة.
ولذلك فإنّ الكتابات المنقوشة والصور الحجرية النافرة في سوماتار تبرهن على أنّه في غضون القرن الثاني للميلاد كان مذهب سين منتشراً انتشاراً واسعاً في منطقة حرّان, وإنّ سين كان رأس البانثيون ليس في حرّان وحسب بل في جميع المنطقة.
وأيضاً في أثناء الزمن قبل الغزو الإسلامي للمنطقة كان لا يزال سين يبجّل عالياً. وبموجب المؤرّخين الرومان في سنة 217م كان الإمبراطور كركلا قد اغتيل أثناء رجوعه إلى القصر من هيكل حرّان الذي كان يبعد قليلاً, والمعبود الذي كان يعبد كان معبوداً قمرياً. ومرّة أخرى فقد كان المعبود القمري نفسه الذي قدّم له الإمبراطور جوليان احتراماته في حرّان أثناء توقّفه في حملته سنة 363م. وتذكر “عقيدة اداي” المؤلّفة حوالي 400 م “القمر أيضاً بين تلك الآلهة التي كان الحرّانيون يعبدونها. في حين يذكر يعقوب السروجي (451-521م) سين بين إلهة حرّان. إنّ الإله القمر في “عقيدة اداي ” وسين في رواية يعقوب السروجي هما, كما ذكرنا سابقاً، الإله نفسه الذي يعبد في حرّان. الاختلاف الوحيد بين هذين المصدرين هو أنّ يعقوب السروجي يعرف اسم الإله القمر الحرّاني.
في غضون القرون الوسطى كان سين المعبود الرئيسي للحرّانيين. وكانت مدينة حرّان لا تزال متّصلة صلة وثيقة بمذهب سين كالسابق، وبموجب النسخة السرّيانية من كتابه يصف “بابا الحرّاني” وهو أحد أنبياء الحرّانيين, حرّان كمدينة سين”. والبيروني أيضاً، هو أحد مصادرنا إلهامة لهذا الموضوع، يذكر سين ويصرّح أنّ مدينة حرّان كانت تُعزى للقمر، وبنيت على شكل القمر (كالطيلسان)، ويبدي ملاحظة أيضاً أنّ هناك مكان آخر قرب حرّان يُدعى سلامسين، واسمه القديم كان ضنمين أو صنم سين. وبموجب ما يقوله ياقوت الحموي الرومي إنّ سلامسين قرية تبعد فرسخاً واحداً عن حرّان وهي مكرّسة للقمر. ويذكر البيروني أيضاً بيل حرّان التي من المحتمل أنّه يشير إلى سين, رأس البانثيون الحرّاني، علاوة على هذا فإنّه يسجل أعياد الحرّانيين تبجيلا للقمر، وأحد هذه الأعياد هو “عيد دير سيني” الذي كان يحتفل به في الثامن والعشرين من نيسان. ويذكر مهرجان آخر هو “عيد الكائن الحيّ القمر”. وأخيراً يذكرالبيروني الدحداق. وهوصنم القمر, ويسجل ثلاثة أيام لمهرجاني الصنم في السابع “والحادي عشر” والثاني عشر من أيار.
ابن النديم أيضاً يذكر مذهب سين لدى الحرّانيين ويعطينا معلومات كثيرة عن احتفالاتهم بالأضاحي : يذبحون فيها الثيران بصورة عامّة ويقدّمون القرابين المحروقة لسين. ويذكر ابن النديم أيضاً لقب ربّ الآلهة لهذا الإله. ومصادر إسلامية أخرى تتكلّم عن القمر الحرّاني ومذهبه بدون إعطاء اسم الإله القمر.
وما عدا المصادر الإسلامية فإنّ مايمونيدس أيضاً يخبرنا عن مذهب القمر لدى الصابئة (الحرّانيين )، ويذكر أنّ القمر كان واحداً من إلهيهما العظيمين –كان الآخر الشمس. ويبدي ملاحظة أيضاً أنّهم كانوا ينصبون تمثالاً فضياً للقمر. وبموجب اعتقادهم كان آدم رسول القمر الذي نادى الشعب ليعبد القمر، ولكنّ ابنه شيث عارض والده آدم في عبادة القمر.
هناك رسالة من مردوخ –شوم –اوسور إلى الملك آشور بانيبال بخصوص حملة إسارحدون على مصر يقول فيها:
“عندما ذهب والد الملك، سيّدي، إلى مصر، لاحظ في مقاطعة حرّان هيكلاً مبنياً من الأرز. كان سين فيه (ممثلاً ). ومدعوماً بعكاز, وتاجين موضوعين على رأسه ووقف الإله نوسكو أمّامه “.
وبموجب هذه الرسالة كان هيكل القمر الذي رآه إسارحدون خارج مدينة حرّان. وإحدى كتابات نابونائيد المنقوشة في حرّان تقول :
“في وسط حرّان في إي حُل حُل مسكن راحة قلوبهم جعلهم يسكنون بمسرة و إقامة الأفراح “.
علاوة على هذا وبموجب الكتابات الآشورية المنقوشة كان هناك هيكل آخر لسين في حرّان اسمه اوزو –مو, وكان يجهز بتماثيل الإله القمر، وإلهة أخرى حرّانية. كان سين الإله القمر, الإله الحامي للحرّانيين، وبعبارة أخرى انهم تمسكوا دائماً بمذهبهم ومعبودهم الإله سين.
من ناحية أخرى إنّنا لانرى هذا المذهب بين المانديين (الصُبّة ). القمر في الأدب الماندي له ميزتان: الأولى (القمر) هو واحد من سبعة مطاهر (جمع مطهر ) كوكبية، وهي أماكن تطهير الروح، أو بما يشبه جهنم. بموجب عقيدة المانديين هذه الكواكب السيارة وحرّاسها هي أساسياً شريرة وشيطانية في طبيعتها، وتثابر بعناد في سد طريق الروح في صعودها، وعملها الأولي هو القبض على الأرواح الخاطئة وإخضاعها لعقاب لعين في مطهرها. الثانية، إنّ القمر مقرون بالموت والتشويه والدمار والظلام. والقمر الشاحب المنسحق هو وقت سيء للزواج والزرع وبذر البذار.
بموجب الكتابات الماندية، سين له اسم آخر –سيرا، الإله القمر الذي يسكن في مركب القمر، وهو روح حاقدة، ويعتبر أنّه له تأثير مشؤوم، ويوصف بالمخرّب والنجس والضارب والمسبب في العاهة. أمّا أرواح الضياء في القمر فتمنعه من القيام بأعمال شريرة ضدّ البشر.
وفي الأدب الماندي يعتبر سين أيضاً كابن روحا (روحادفودشا)، والدة الكواكب والشياطين. ولذلك فهو يعرف مراراً كثيرة بروحا. علاوة على هذا, أحياناً يعرف سين بسورييل وهو ملاك الموت, وأخيراً فإنّ المانديين في كتاباتهم يشتمون القمر وعباده.
التضحية البشرية
التضحية البشرية، بموجب مصادرنا في القرون الوسطى، هي إحدى الميزات البارزة في طقوس الحرّانيين. وتعطينا هذه المصادر معلومات جّمة عن مزج هذه الأضاحي البشرية بالسحر والأسرار المقدّسة الغامضة.
أفاد ديونيسيوس التلمحري في القرن التاسع الميلادي بأنّ الذي يتفحص الحرّانيين تحت اسم “المانيكيين” يخبرنا عن الأضاحي البشرية الحرّانية، ويصرّح أنّ الحرّانيين كانوا معتادين أن يحتفلوا بالأضاحي البشرية مرّة في السنة في هيكل خارج حرّان.
ويقصّ علينا ابن النديم عن رواية لأبي سعيد وهب بن إبراهيم عن التضحية البشرية الحرّانية في شهر آب:
“يمكثون ثمّانية أيام يعصرون في أثنائها الخمر للآلهة، ويدعون هذا الاحتفال بأسماء مختلفة كثيرة. في هذا اليوم يضحّون بطفل ذكر بعد ولادته مباشرة للإلهة التي تسكن الأصنام. يذبحون الطفل ثمّ يغلونه حتّى يذوب.ثمّ يأخذ اللحم ويعجن بدقيق ناعم وزعفران ومرهم الناردين وكبش القرنفل والزيت، ثمّ يقطع إلى قطع صغيرة كحبات التين ويخبزونها في فرن جديد من الصلصال.وهذا يحدث مرّة واحدة في السنة لأولئك الذين يحافظون على أسرار الشمال المقدّسة. ولا يأكل من هذا (الكعك ) عبد رقيق، او امرأة، أو ابن أمة رقيق، أو معتوه، وأن لا يروا عملية قتل الطفل. وهذا الطقس يجب أن يقوم به ثلاثة كهنة والكهنة تحرق ما تبقى من عظامه وأعضائه، وغضاريفه و أوردته كتقدمة للإلهة.”
ويخبرنا المجريطي عن الأضاحي البشرية الحرّانية، ويقصّ علينا روايتين حول هذا الموضوع : أولاً يقول إنّه عندما ترتفع الكرة السماوية ثمّاني درجات وتسقط يذبحون طفلاً، ويقولون إنّ هرميس أمرهم بذلك. ثانياً, إنّه يصف تضحية بشرية أخرى، ويصرّح بأنّه عندما تدخل الشمس (برج ) الأسد يأتون بفتى (أو عبد رقيق) من قبرص، ويلبسونه أولاً ويزيّنونه بالجواهر وفي اليوم الثامن والعشرين من أيار يأخذونه إلى خارج المدينة في الليل ويقطعون رأسه. ويصرّح المجريطي، بعد ذلك يدفنون الجثة ويأخذون الرأس إلى دير كادي، ثمّ يضعون الرأس أمّام الصنم في المعبد. وحالما يفعلون هذا تسمع صرخة عظيمة مخيفة. ومن هذا يحزرون ما إذا كان عددهم سيزداد أم سيقل. ويقول المجريطي إنّ برثيم البراهما الذي مات في الهند أوجد هذه الممارسة.
يقصّ علينا ابن سنكيلا قائلاً إنّ في اعتقاد الحرّانيين إنّ إبراهيم (الخليل) بعد أن كسر الأصنام إلى شظايا وترك طائفته ندم على ما فعل، و أراد أن يضحّي بابنه للكوكب زحل لأنّه كان من عادتهم أن يضحوا بأبنائهم. ومهما يكن فإنّ زحل لّما رأى إبراهيم نادماً حقيقة، تركه يذهب حراً بتضحية كبش.
رغم أنّ طقس التضحية البشرية عند الحرّانيين كان معروفاً لدى علماء القرون الوسطى، فإنّ بعض العلماء العصريين كسيغال وسميث يشكون في هذا لأنّه ليس من الحكمة أن تثق برواية إنسان معاد.
نحن نوافقهم أنّه من الصعب ان نثق برأي معادي، ولكن من ناحية أخرى لا نستطيع أن نتجاهل هذه الحكايات، لأنّ التضحية البشرية بين الأقوام الوثنية في هذه المنطقة كانت شائعة منذ أقدم العصور وبموجب تصريح الكندي منع الحكام المسلمون الحرّانيين أن يمارسوا عملهم هذا علانية. ولذلك فإنّه من الممكن أنّهم مارسوا هذا الطقس قبل الغزو الإسلامي.
من ناحية أخرى. إنّ أحداً منهم لم يتّهم المانديين بممارسة هذا الطقس, بل بالعكس، فإنّ قتل أي حيوان بموجب الماندي يعتبر خطيئة رغم انهم يذبحون حمامة أوخروفاً أثناء وجباتهم الطقسية.
عبادة الأصنام
إنّ عبادة الأصنام في الماندي مرفوضة بالتأكيد، وهم يشمئزون من عبّادها. ويأمر المانديون في أدبهم، أنّ شعب مانداي وناسوراي لا يعبد الأصنام والتماثيل، وتعتبر عبادتها خطيئة ويوصف المانديون كالتالي:
“لقد تركوا التماثيل والصور والأصنام المعمولة من الصلصال والآلهة “المصنوعة ” من كتل خشبية، وطقوس باطلة، وشهدوا على اسم الحياة العظيمة الغريبة ( السامية) لهم بوابة الخطيئة مغلقة، ولهم بوابة الحياة مفتوحة “.
بعض الميزات البارزة عند المانديين التي لا تظهر في الدين الحرّاني
ثنائية غنوسطية (روحية)
هناك في الأدب الماندي بصورة إجمالية نوع من الثنائية. في جانب واحد هناك عالم النور، “عُلما دَنوهرا”،وكائنات النور, وفي الجانب الآخر عالم الظلام “عُلماء دحيشوخا” والكائنات الشريرة وهناك عداء متبادل بين هذين المبدأين:
“شاهد وتعلّم أنّ بين النور والظلام لا يمكن أن يكون اتحاد أو ميثاق، بل على العكس توجد البغضاء والعداء والشقاق، رغم أنّنا واعون أنّ كلّ هذا يجري ويسعى لكي يجري, لأنّ الظلام خصم للنور لأنّهما يمين وشمال، أحدهما روح (ترابية) والآخر روح (خالدة ). لأنّهما شمس وقمر, ونهار وليل، أرض وسماء. (وعلاوة على هذا ) يمكن تسميتهما آدم وحواء “.
بموجب اللاهوت الماندي هذان المبدآن جوهريان ويحتاج الواحد منهما للآخر وبكلمات أخرى هما إتمام لجسد واحد. الخير والشرّ موجودان منذ البداية. فعوالم النور وكائنات النور تنبثق من “المانا الجبارة ” أو “الحياة”. بينما عوالم الظلام والكائنات الشريرة تنبثق من الفوضة و “المياه السود”. أمّا بخصوص عوالم النور. الغنزا
تصرح :
“عندما كانت الثمرّة في الثمرّة، وعندما كان الأثير في الأثير وعندما كانت ألمانا العظيمة المجيدة (هناك ) التي تولد منها جميع أشكال المانا الجبارة العظيمة “.
من ناحية أخرى فيما يخصّ أصل عوالم الظلام:
“في ذلك الوقت لم تكن هناك أرض صلبة, ولا سكان في المياه السود، ومنها، من المياه السود تشكّل الشر وتولد واحد منها تأتي منه آلاف الآلاف من الأمور الغامضة، وربوات الربوات بأسرارها الخاصّة الغامضة.”على قمة عالم النور يوجد كائن رباني، شكل من “إله غير معروف ” يحمل أسماء مختلفة بعضها قديم وبعضها جديد. “
الخاتمة
كانت سنة 32-833 نقطة تحوّل. فقبل هذا التاريخ تماماً كان الوثنيون الحرّانيون الذين لم يكونوا يدعون صابئة ابداً بل “حرّانيين “او ” نبطيين”، (شعب غير عربي يتكلّم السرّيانية ) في المصادر القديمة، والذين كانت ميزتهم الجوهرية مذهبهم عبادة الكواكب التي كانت سائدة في ما بين النهرين القديم، اتخذوا لهم اسم “الصابئة ” لكي يؤمّنوا مركزهم الاجتماعي كشعب خاضع. لقد كان اتخاذ الحرّانيين مصطلح صابئي هو الذي قام بدور هام وبارز في الدوائر الفكرية والبلاط في الإمبراطورية الإسلامية، والذي قاد إلى التغيير المأساوي في استعمال هذا المصطلح. وبدلاً من أن يشير إلى جماعة دينية مغمورة في جنوب العراق أشار إلى الوثنيين الحرّانيين المؤكّدين على أنفسهم. وفي الوقت نفسه بدأ التفكير بالصابئة الذين بدأوا في الظهور في العصور الإسلامية الوسطى، وكذلك في بعض المصادر غير الإسلامية. إنّ العلماء منذ ذلك التاريخ وما تلاه وصفوا الحرّانيين بالصابئة، رغم أنّ اصطلاح “الصابئي ” يمكن استعمإله أيضاً لأيّ وثني من الصين حتّى مصر.
إنهما دينان مختلفان كلياً عن الآخر.
1 Cf.Good,C.J. “كتابات نابونائيد المنقوشة في حرّان “.ff.Pognon A.S. 1958 PP.38,44,54 بوغنون الذي اكتشف بعض اللوحات المسمارية حول حرّان القديمة Eskiharram في سنة 1906 صرح أنَّ هذه اللوحات صنعها عابد ورع لسين. الإله القمر. ثمّ ادّعى بأنّه كان كاهناً أعلى ودعا ابنه ملكاً. وبعد ذلك أبرز دورم E.Dhorme أنَّ الكاتب امرأة وكان اسمها ساموا دامغا Samua-Damga وأنّها كانت والدة نابونائيد. قبل علماء الآشوريات هذه الفكرة عموماً. ولكن ج. ليوي لا يوافق على هذه النظرية ويصرّح أنَّ استنتاجات دوم لا يمكن أن تكون صحيحة ويشير إلى أنَّه من غير المحتمل أن تكون والدة نابونائيد كاهنة, لأنّه يكاد يكون أكيداً أنَّ الكاهنات في بابل وأشي وخصوصاً الكاهنات ذوات الرتب العليا لسين لم يكن يسمح لهنَّ بإنجاب الأطفال. ويدّعي ليوي أيضاً أنّ ساموا دامغا لم تكن والدة نابونائيد بل حاكمة لحرّان. ولكن غاد Gadd قال إنّه يجب ألاّ يكون هناك تردّد في تسمية كاتبة الكاتبة المنقوشة والدة نابونائيد لأنّ الكتابة في معظمها هي إعلان من والدته, وتقول “أنا السيّدة اداغوبي والدة نابوين- نائيدNabiun-naid ملك بابل وكاهنة الإلهة سين ونينغال ونوسكو وسادارنونا , إلهتي”.
2 في رأي روزنتال أنَّ النصّ العربي ترجم عن النسخة الآرامية الأصلية ويرجع تاريخها تخميناً إلى العصر الأموي.
3 يشير ابن النديم أيضاً: “أنَّ مترجم هذه الأسرار المقدّسة الخمسة كان أخرق غير بارع تنقصه المعرفة الجيّدة بالعربية, أو ربّما بترجمته بهذا الأسلوب الفاسد التعبير, أراد أن يظهر الحقيقة عن الصابئة, وهدف أن يذكر عباراتهم هم أنفسهم, فتركها على حالها من دون أن يغيّرها بالرغم من عدم ترابط الكلمات.
• ما يمونيدس هو الكاهن موسى بن ميمون (1135 –1204 ) يهودي إسباني, وطبيب, وفيلسوف.
5 “كتاب شرائع البلدان” لبرديصان. إنَّ اصطلاح “الكلدانيين البابليين” في كتاب برديصان قد يشير الى وثنيي حرّان والوثنيين الآخرين في بابل. واستعمل كتاب التوراة عموماً اصطلاح “الكلدانيين” بمعنى المنجّمين والفلكيين والسحرة. ويظهر هذا بالمعنى نفسه أيضاً لدى الكتّاب الكلاسيكيين اكسترابو وديودرس .وسبب هذا الاستعمال أنّه من الظاهر أنّ موطن الكلدانيين البابليين كان المركز الرئيسي في معرفة التنجيم والسحر منذ أقدم الأزمان. وكانت مدينة حرّان أيضاً مركزاً هامّاً للوثنية والتنجيم والسحر قرب جارتها المسيحية الرها, وكما ألمحنا سابقاً إنّ العلماء القروسطيين أشاروا إلى أنَّ وثنيي حرّان كانوا يعرفون بالكلدانيين قبل أن يعرفوا بالصابئة. راجع تاريخ مختصر الدول لابن العبري.
6 راجع “تعليم أداي” ص 49. إنّ هيرابولس وحرّان يعتبران مركزين للوثنية. ويركّز يعقوب السروجي وهو قديس سرياني اهتمامه بهما ويقول:
“منبج عملها (أي الشيطان) مدينة كاهن الإلهات.
وأسماها باسمه لكي تخطئ إلى الأبد (تسير وراء الأصنام).
أختاً لحرّان التي هي أيضاً مكرّسة للقرابين,
وفي زلّتهما كلتاهما تحبّان الينابيع.
7 راجع ابن النديم ص 322. وهكذا أيضاً في الدين اليزيدي لقب عزازايل, أعظم الملائكة السبعة الذي عيّن الإله في الخليقة وتأسيس العالم, هو الملاك طاووس, والذي يمثّله طاووس, ولقد اقترح بعضهم أنّ اسم طاووس مستمدّ إمّا من تاوس taosاليونانية أو من اسم الإله تمّوز.
8 ديوسكوراي Dioscuri في الميثولوجيا اليونانية هما التوأم ولدا ليديا وزيوس, وديوسكوراي هو لقب كاستور ويوليديوسيس, اللذين بعد موتهما أصبحا كوكبة التوأم – الجوزاء, وعبدهما اليونان كإلهين للتجارة.
• إنّ هذا القول غير صحيح إطلاقاً, لأنّ العيدين المذكورين والتاريخين هما عيدان مسيحيان حتّى الآن. إنّ هذين العالمين يقولان قولاً من دون تمحيص. ويقول المثل: ليس من الحكمة أن تأخذ برأي شخص معاد.
10 Pleiades الثريا: بنات أطلس السبع اللواتي حوّلن وفقاً للأسطورة الإغريقية إلى مجموعة نجوم. وهنّ ألمع سبعة نجوم بين المجموعة الكوكبية, أمّا أسماؤهنّ فهي: السيون, سيلينو, الكترا, مايا, ميرويه, استرويه, تيجبينه Taugete.
• الماندية, الماندي: أي الصٌبَّة.
12 يصرّح العالم جاسترو أنّ القرنين أصبحا رمزاً عامّاً للألوهية. وقد وضعهما نارام سين على رأسه على النصب التذكاري حيث صوّر نفسه كحاكم له صفات الألوهية.
13 يصرّح العالم إنغهولت Ingholt أنّ بعل حرّان كان الإله الذي بواسطته استطاع بارريكوب أن يشغل عرش أسلافه، ولو أنّه كان بمساعدّة الآشوريين. ونعلم من نقوش آرامية كتابية اخرى وٌجدت في زنجرلي أنّ بعل حرّان لم يكن يمت بصلة لإلهة اجداد بارريكوب. وفي حقيقة الامر، فإنّ النعت الإلهي مار-ربّ كان يستعمل في زنجرلي في حالة صلة ببعل الحرّاني فقط. ولهذا فهو غريب حتى الآن عن بانثيون زنجرلي الملك.
ويستمر الدكتور فيليب حتي في كتابه تاريخ سوريا صفحة 186 قائلاً: ويظهر شكل ابن بنامو الثاني واسمه بارركاب منحوتاً بشكل بارز على عرش محفور حفراً فخماً في الأبنوس والعاج والذهب ولا يقل ابهة عن عرش سيده ملك آشور. ويرتكز العرش على مخروطيات الارز وفي زوايا المقعدالأربعة رؤوس ثيران. وتحت قدميه يوجد كرسي بمثل هذه الزخارف الفنيّة. وثوبه الطويل ذو الحواشي وقبعته تامروسة من النوع الحتي. أمّا لحيته وتجاعيد شعره فإنها تتبع الاسلوب الآشوري.
14 بموجب الكتابة الحرّانية المنقوشة يصرّح نابونائيد ان “إي حُل حُل هيكل سين بنيته من جديد ,. و أنهت العمل فيه ان أيادي سين ونينغال ونوسكو وسادارنونا من شوانا مدينتي الملكية صافحتها , وبفرح ومسرة جعلتهم يدخلون ويسكنون في معبدهم الابدي، وسكبت أمامهم الشراب (الكحولي) على جسد الأضاحي بسخاء وضاعفت العطايا”.
15 الكتابة المنقوشة لوالدة الملك , الكاهنة المنذورة لسين في حرّان أن توجز كالتالي:”سين ملك الإلهة عطف عليّ وعلى نابونائيد ابني الوحيد وثمرّة بطني , وناداه الى الرتبة الملكية , الى مملكة سومر وأكاد من تخوم مصر على البحر الأعلى وحتّى البحر السفلي وجميع الأراضي أودعها بين يديه”.
• العنزا تعني الكنز. وكتابهم يُدعى : “غنزارابا” ويعني الكنز الكبير. وهو عند المانديين كالإنجيل عند المسيحيين والقرآن لدى المسلمين.
(المترجم)