الدكتور فيليب حتي : استاذ التاريخ الشرقي في جامعة كولومبيا في نيويورك
لمحة تاريخية
ليس في العالم بقعة من الأرض ، اتحفت العالم بما اتحفته به فلسطين من دين ومدنية باعتبار مساحتها وعدد سكانها. اليونان مع كل فلسفتهم ، والرومان مع شريعتهم ، أقل تأثيراً في المجتمع البشري من الفلسطينيين نصارى ويهود . تأثير اولئك كان وزال ولهؤلاء تأثير ثابت لن يزول. نفوذ باريس السياسي ، وتسيطر لندن المدني ، ليسا بالشيء العظيم تجاه نفوذ اورشليم الروحي وتسيطرها المعنوي على عقول ملايين البشر في كل الأجيال والأمصار. عين المسلم والمسيحي واليهودي – حيثما كان المسلم والمسيحي واليهودي اليوم – أبداً تتّجه نحو أرض المقدس لاستمداد الوحي ، الإلهام ، ورجلهم تسعى اليها قصد التبرك والحج.
ما جرى في هذه البلاد من الحوادث التاريخية أكبر من ان تسعه بلاد اخرى بحجمها وعدد أهلها . تاريخها القديم أشبه بنافذة تطلّ على مدنيات العالم الاولى بأسرها من مصرية وبابلية آشورية وحثية وفارسية ويونانية ورومانية . ان تدرس تاريخ فلسطين عبارة عن درسك تاريخ العالم القديم . سهولها معرض عُرضت فيه معظم جيوش الممالك القديمة ، وميادين قتالها مسرح شخصت عليه أهم وقائع لأعظم الغزاة وأكبر الفاتحين من طثميس وسرجون ونبوخذنصر وكمبيس الى الاسكندر فبمباي فيوليوس فاغسطس فتيطس ، ومن عمر ابن العاص وصلاح الدين فهولاغو الى نابليون فابراهيم باشا فالجنرال اللنبي . كل من حلم بإخضاع العالم تأسيس مملكة تشمل ممالكه سواء كان ابن مكدونيا اليوناني او ابن كورسيكا الفرنساوي او ابن هوهنزلرن الالماني اعمل جيوشه في سوريا – ومن أجزائها فلسطين – لعلمه أنها من القديم بمثابة الرقبة تصل الشمال بالجنوب والشرق بالغرب . ميدان للقتال او جسر تجتازه جيوش اوربا وآسيا وافريقيا في أثناء الحروب ، وسوق للاتجار ، او طريق تسلكه القوافل بين المشرق والمغرب في ابان السلم – تلك هي سوريا وفلسطين.
مركز البلاد هذا الجغرافي ، لم يساعدها قط على إنشـاء قومية مستقلة ، او امة موحدة . موقعها هو بين حجري رحى – على ما شبهه كتبتها الأقدمون – دول البابليين والآشوريين والحثيين من الشمال ودول المصريين من الجنوب . وفي النوب القصيرة التي لم تكن تحت نير أجنبي كانت تقتسمها ممالك وطنية جمّة – منها الفلسطينية والاسرائيلية والموابية والادومية والامونية التي كانت تتنافس وتتطاحن وقل منها من استأثر بالبلاد كلها او طالت سلطته فيها.
في بادئ الأمر اكتسحت بابل فلسطين ( حوالي سنة 3200 قبل المسيح ) وتناوبت حكمها مع مصر تكراراً ، ثم استولى عليها الآشوريين فالكلدان ثم الفرس ( نحو 550 قبل المسيح ) فالرومان ( 63 قبل المسيح ) ثم العرب المسلمون ( 634 بعد المسيح ) ثم السلجوقيون التركمان ( 1072 بعد الميلاد ) ثم الفرنج الصليبيون الذين دامت مملكتهم من 1098 الى 1187 ثم المماليك المصريون وأخيراً الأتراك العثمانيون الذين بسطوا سلطتهم على سوريا بأسرها من سنة 1516 الى سنة 1918.
برغم كل تلك الانقلابات ظلت الشعوب السامية في سوريا وفلسطين محافظة على آدابها وعاداتها ولغاتها من آرامية وعبرانية وعربية . بابل حكمت البلاد مئات السنين ولم تترك فيها أثراً سوى كلمات معدودة ” كهيكل ” و ” نبي ” و ” قربان ” وأسماء أماكن قليلة كاورشليم ( اور – سلم ) وجبل سيناء حيث ازدهرت عبادة القمر ( سين ) . كذلك آثار مصر ونينوى والاستانة تكاد تكون في سوريا وفلسطين أمراً معدوماً . الصليبيون ترددوا الى البلاد مئتي سنة ولم يبقوا فيها تذكاراً سوى قلاع خربة ، وأعين زرقاء وشعور حمراء في بقاياهم . على ما نشاهده اليوم في سكان بيت لحم مثلاً . دول أتت ودول زالت اما الفلسطيني فهو ثابت لا يتزعزع.
في الفترات التي لم تكن فيها فلسطين تحت سلطة اجنبية كانت البلاد بيد شعوب وطنية تختلف باختلاف الزمان وباختلاف الاقليم ، أول هذه الشعوب الشعب الفلسطيني الذي توطن الشقة البحرية من يافا فما دون لجوار غزة . هذه الشقة كان يقال لها ” فلسطيا ” أما بقية البلاد فاتخذت أسماء القبائل التي فيها . فتسمية البلاد كلها اذن بفلسطين هي من باب تسمية الكل باسم البعض . على ان هذا الاسم لم يطلق على البلاد الا في العصر البيزنطي اي بعد القرن الخامس للمسيح . ولم تعرف فلسطين بهذ الاسم قبل ذلك . ولم يكن للبلاد حد معروف الا في ذلك العهد.
سكان فلسطيا هذه – وهم الفلسطينيون المذكورون في التوراة – لم يكونوا من الجنس السامي بل من الفصيلة الهندية الايرانية ( الاوربية ) بدليل احمرار شعورهم وازرقاق عيونهم . وربما كانت يومئذ فلسطين كلها مأهولة من هذه الفصيلة قبل ان احتلها المهاجرون الساميون.
انما الشعوب التي زهت في فلسطين ولازمتها من قبل المسيح بثلاثة آلاف عام ليومنا هذا هي شعوب سامية ، كانت هذه الشعوب تتسرب الى البلاد وحدانا ثم تقتحمها زرافات فتقيم في جزء منها تتخذه وطناً وتجعل دأبها توسيع تخمها على نفقة جيرانها وبواسطة الغزو والقتال . واول هذه الموجات السامية التي طغت فغطت بعض اجزاء البلاد هي الموجة الكنعانية الفينيقية التي احتلت شواطئ سوريا وفلسطين قبل المسيح بنحو الف وخمسمائة سنة واينعت تجارتها عقب ذلك في صور وصيدا ، على ماهو مشهور في التاريخ.
الموجة الثانية هي الآرامية السريانية التي تفاقم أمرها حوالي سنة 1500 قبل المسيح واستوطنت داخلية البلاد ورافقتها القبائل العبرانية التي هي بعض هذه الموجة.
اما الموجة الثالثة ، فهي التي بلغت اوجها ابان الفتح الاسلامي بعد المسيحية بستة قرون والتي اسفرت عن ادخال اللغة العربية للبلاد بعد ان كانت اللغة الآرامية لغتها.
ومن مقابلة تواريخ هذه الموجات نجد بين الواحدة والثانية منها الف سنة على التقريب .
قيام هذه الممالك الكنعانية والآرامية والعبرانية جنباً الى جنب على أثر الممالك الفلسطينية الاصلية وفي خلال المدّات التي كان فيها الضعف والاضطراب مستحوذ على مصر وبابل – وتنافس كل منها مع الاخرى امر ممكن استقصاؤه من كتابات العهد القديم وهي بالرغم عن غموض بعضها لم تزل أهم مصدر يستقى منه . ويؤخذ من أقاصيص العهد القديم ومن الكتابات المسمارية ان المملكة العبرانية – وهي أشهر تلك الممالك – توحدت للمرة الاولى تحت قيادة الملك شاول عام 1095 قبل المسيح وما لبثت ان انشطرت عام 975 قبل الميلاد الى شطرين متعاديين ، مملكة اسرائيل في الشمال التي قضى عليها سرجون الآشوري سنة 722 قبل الميلاد وسبى عشرة أسباطها للفرات ، ومملكة يهوذا في الجنوب التي طال أمدها لسنة 586 قبل الميلاد وهي السنة التي استولى فيها نبوخذنصر على القدس وأسر ونهب ما فيها . هاذان السبيان أجهزا على الحياة القومية اليهودية ، ولم يظهر لها أثر بعد ذلك الا لبرهة قصيرة في القرن الثاني قبل المسيح على عهد المكابين.
سكان فلسطين الحديثون ترجع اصولهم اذن الى الكنعانيين والآراميين والعبرانيين والعرب . المسيحيون منهم هم بقايا الكنعانيين الفينيقيين يخالط دمهم ولا شك قليل من الدم العربي ومرجعه الى الغساسنة النصـارى وقليل من دم الأرمن واليونان والافرنج الصليبيين.
أنساب مسلمي سوريا وفلسطين ترجع بالأكثر الى العرب الذين ما زالوا الى عهدنا الحاضر يزحفون الى البلاد زحفاً تدريجياً بهيئة البدو ولا يلبثون أن يستعيضوا عن بيوت الشعر ببيوت الطين والحجر ، وعن رعاية المواشي باستثمار الأراضي ، ويخالط دمهم بعض دم الامم الاسلامية التي كان لها صلة بالبلاد كالترك والجركس والاكراد وغيرهم ممن اعتنق الاسلام من مسيحيي فلسطين ويهودها . ولم تزل بعض العائلات الفلسطينية محتفظة بأنسابها العربية لليوم ومنها بيت الخالدي وبيت الحسيني.
وعدا عن هذه الفرق الرئيسية فبين سكان فلسطين متاولة يرجع أصلهم الى الفرس وبعض العشائر التركمانية التترية في الجولان ، والسمرة في نابلس . وهؤلاء هم بقايا القبائل التي نقلها سرجون الآشوري لتشغل مكان الأسباط التي سباها في أواخر القرن الثامن قبل المسيح.
للفلسطيني ماض مجيد بفضل آبائه وأجداده وحاضر سعيد ، ومستفبل متوقف على اعتماده على نفسه ومواظبته في العمل وتملصه من قوة الاستمرار وقيود التقاليد . على ان المباهاة بأعمال السلف لا تجوز للمرء ما لم يقتف بنفسه آثار السلف ويسير على سننها.
ماضيه لأسلافه وحاضره لغيره ، أما الآتي فله ، وما الآتي سوى صحيفة بيضاء يدوّن فيه كل ما يشاء وكيف يشاء ان كان لشجبه او لمجده.
المقدمة الفريدة التي وضعها الدكتور فيليب حتي لكتاب “ فلسطين وتجديد حياتها “